جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

بلاغة الوصل

وبلاغة الوصل : لا تتحقق إلا بالواو العاطفة فقط دون بقية حروف العطف ، لأن الواو هي الأداة التي تخفى الحاجة اليها ، ويحتاج العطف بها إلى لُطف في الفهم ، ودِقة في الإدراك ، إذ لا تفيد إلاَّ مُجردَ الربط ، وتَشريكَ ما بعدها لما قبلها في الحكم نحو : مضى وقت الكسل وجاء زمن العمل ، وقُم واسعَ في الخير.

بخلاف العطف بغير الواو فيفيد مع التشريك معاني أخرى ، كالترتيب مع التعقيب في الفاء وكالترتيب مع التراخي في ثُمَّ وهكذا باقي حروف العطف التي إذا عطف بواحد منها ظهرت الفائدة ، ولا يقع اشتباه في استعماله.

وشرط العطف بالواو أن يكون بين الجملتين جامع كالموافقة : في نحو : يقرا ويكتبُ ، وكالمُضادّة في نحو : يضحك ويبكي وإنما كانت المضادّة في حكم المُوافقة ، لأنَّ الذّهن يتصورّ أحد الضدين عند تصور الآخر ، فالعلم يخطر على الباب عند ذكر الجهل كما تخطر الكتابة عند ذكر القراءة.

والجامع يجب أن يكون باعتبار المسند إليه والمسند جميعاً فلا يقال : خليل قادم ، والبعير ذاهب ، لعدم الجامع بين المسند اليهما كما لا يقال : سعيد عالم ، وخليل قصير ، لعدم الجامع بين المسندين وفي هذا الباب مبحثان.

المبحث الأول في إجمال مواضع الوصل

الوصلُ : عطف جملة على أخرى بالواو ، ويقع في ثلاثة مواضع (١) :

الأول : إذا إتحدت الجملتان في الخبرية والإنشائية لفظاً ومعنى أو معنى فقط (٢) ولم يكن هناك سببٌ يقتضي الفصل بينهما وكانت بينهما مناسبة تامة في المعنى.

__________________

(١) البوصل يقع وجوبا بين جملتين متناسبتين لا متحدتين ولا مختلفتين كما سيأتي تفصيل ذلك.

(٢) المعول عليه اتحادهما في المعنى لأن العبرة به ولا قيمة لاختلاف الصورة اللفظية.

١٦١

فمثال الخبريتين قوله تعالى (إنَّ الأبرار لفي نعيم (١) وإن الفجار لفي جحيم) ومثال الانشائيتين قوله تعالى (فادعُ واستقم كما أمرت) وقوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) ، وصل جملة «ولا تشركوا» بجملة «واعبدوا» لاتحادهما في الانشاء ، ولأن المطلوب بهما مما يجبُ على الانسان أن يؤدِّيه لخالقه ، ويختصَّه به ومن هذا النوع قول المرحوم شوقي بك :

عالجوا الحِكمة واستشفوا بها وانشدوا ما حلّ منها في السِّير

فقد وصل بين ثلاث جمل ، تتناسب في أنها مما يتعلق بأمر الحكمة وبواجب الشباب في طلبها ، والانتفاع بها.

ومثال المختلفين ، قوله تعالى (إني أشهدُ اللهَ ، واشهدوا أنى برىءٌ ممّا تشركون) أي : إني اشهدُ اللهَ وأشهدُكُم (٢) ، فتكون الجملة الثانية في هذه الآية : إنشائية لفظاً ، ولكنّها خبرية في المعنى (٣) ونحو : إذهب إلى فلان ، وتقول له كذا ، فتكون الجملة الثانية من هذا المثال خبرية لفظاً ، ولكنها إنشائية معنى «أي : وقل له». فالاختلاف في اللفظ ، لا في المعنى المعُول عليه ، ولهذا وجب الوصل وعطف الجملة الثانية على الأولى لوجود الجامع بينهما ، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما ، وكل من الجملتين لا موضع له من الإعراب.

__________________

(١) في هذا الكلام جملتان خبريتان وصلت الثانية بالأولى لأن بين الجملتين تناسباً في الفكر ، فاذا جرى في الذهن حال أحد الفريقين تصور حال الفريق الآخر.

(٢) والداعي لذكر الجملة الثانية إنشائية ن ولم نذكر كالأولى خبرية ، لأجل التحاشي عن مساواة شهادتهم بشهادته عز وجل ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

(٣) اعلم أن صور الجملتين ثمانية ، لأنهما (إما خبريتان) لفظا ومعنى ، أو معنى لا لفظاً أو الأولى جملة خبرية معنى لا لفظاً أو بالعكس.

(وإما انشائيتان) لفظاً ومعنى ، أو معنى لا لفظا ، أو الأولى جملة خبرية صورة والثانية إنشائية ، أو بالعكس كما مثلنا.

١٦٢

الثاني : دفع توهم غير المراد ، وذلك إذا اختلفت الجملتان في الخبرية والإنشائية ، وكان الفصل يُوهم خلاف المقصود (١) كما تقول مجيباً لشخص بالنفي «لا شفاء الله» (٢) لمن يسألك : هل برىء عليٌّ من المرض؟؟ «فترك الواو يُوهم السَّامع الدُّعاء عليه ، وهو خلاف المقصود ، لأن الغرض الدعاء له» (٣) ولهذا وجب أيضاً الوصلُ. وعطف الجملة الثانية الدُعائية الإنشائية على الجملة الأولى الخبرية المصوَّرة بلفظ «لا» لدفع الإيهام ، وكل من الجملتين لا محل له من الاعراب.

الثالث : إذا كان (للجملة الأولى) محلٌ من الاعراب ، وقصد تشريك الجملة الثانية لها في الاعراب حيث لا مانعَ ، نحو : عليّ يقول ، ويفعل (٤).

__________________

(١) أما إذا لم يحصل إيهام خلاف المقصود فيجب الفصل نحو سافر فلان سلمه الله.

(٢) فجملة شفاه الله خبرية لفظاً انشائية معنى : والعبرة بالمعنى واعلم أن الجملة الأولى المدلول عليها بكلمة «لا» جملة خبرية إذ التقدير «لا يره حاصل له» وهكذا يقدر المحذوف بحسب كل مثال يليق به.

(٣) كما حكى : أن أبا بكر مر برجل : في يده ثوب ، فقال له : أتبيع هذا : فقال الرجل «لا يرحمك الله» فقال أبو بكر «لا تقل هكذا» قل «لا ويرحمك الله ، وهكذا إذا سئلت عن مريض : هل أبل؟؟ فقل «لا وشفاء الله» حتى لا يتوهم السامع أنك تدعو عليه ، وأنت تريد الدعاء له ، فالجملة الأولى المدلول عليها بكلمة «لا» خبرية ، والثانية إنشائية في المعنى ، لأنها لطلب الرحمة الشفاء ، وكان الواجب الفصل بينهما ، لولا ما يسببه الفصل من الوهم.

(٤) فجملة يقول في محل رفع خبر المبتدأ ، وكذلك جملة : ويفعل معطوفة على جملة يقول : وتشاركها بأنها في محل رفع خبر ثان للمبتدأ ، فاشتراك الجملتين في الحكم الاعرابي يوجب الوصل وحكم هذه الجملة حكم المفرد المقتضى مشاركة الثاني للأول في إعرابه.

والأحسن أن تتفق الجملتان في الاسمية والفعلية ، والفعليتان في الماضوية والمضارعية.

١٦٣

تمرين

وضّح أسباب الوصل في الجمل الآتية :

(١) قال الله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً).

(٢) وقال تعالى (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً).

(٤) وقال تعالى (قل يأيها الناس إنما أنا لكم نذير مُبين ، فالذين آمنوا وعملُوا الصالحات لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ ، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم).

(٥) قال ابو العتاهية :

تأتي المكاره حين تأتي جُملةً

وأرَى السرور يجىء في الفلتات

تمرين آخر

بين أسباب الفصل في الأمثلة الآتية :

(١) قال الله تعالى (وضرب لنا مثلا ونسي خلقهُ ، قال من يُحيي العظام وهي رميم ، قل يُحييها الذي أنشاها أول مرةٍ).

(٢) وقال تعالى (فإن مع العُسر يُسراً ، إن مع العُسر يُسرا).

(٣) وقال تعالى (إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يُذبحُ أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين).

(٤) وقال تعالى (إنَّ الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهُم ام لم تنذرهم لا يؤمنون ، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة).

(٥) وقال سبحانه (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنية وقراً).

١٦٤

المبحث الثاني

في مجمل مواضع الفصل (١)

أحياناً : تتقاربُ الجُملُ في معناها تقارباً تاما ، حتى تكون الجملة الثانية كانها الجملة الأولى ، وقد تنقطع الصَّلة بينهما. إمَّا : لاختلافهما في الصورة ، كأن تكون إحدى الجملتين إنشائية والأخرى خبرية. وإمّا لتباعد معناهما ، بحيث لا يكون بين المعنيين مُناسبة ، وفي هذه الأحوال يجب الفصلُ في كل موضع من المواضع الخمسة الآتية وهي :

الموضع الأول : كمال الاتصال وهو اتحادُ الجملتين اتحاداً تاماً : وامتزاجاً معنوياً بحيث تُنزَّل الثانية من الأولى منزلةَ نفسها.

أ ـ بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة البدل من الجملة الأولى ، نحو : (واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين) (٢).

ب ـ أو : بأن تكون الجملة الثانية بيانا لإبهام في الجملة الأولى كقوله تعالى : (فَوَسوسَ إليه الشيطانُ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد) فجملة قال يا آدم : بيان لما وسوس به الشيطان اليه.

__________________

(١) الفصل : ترك الربط بين الجملتين : إما لأنهما متحدتان صورة ومعنى ، أو بمنزلة المتحدتين : وإما لأنه لا صلة بينهما في الصورة ، أو في المعنى.

(٢) هذا في بدل البعض ـ وأما في بدل الكل : نحو قوله تعالى : (بل قالوا مثل ما قال الأولون ، قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) فجملة (قالوا آئذا متنا وكنا تراباً) كالبدل المطابق ، وأما بدل الاشتمال فنحو قوله :

أقول له أرحل لا تقيمن عندنا

وإلا : فكن في السر والجهر مسلماً

فجملة لا تقيمن بمنزلة البدل في جملة (ارحل) بدل اشتمال لأن بينهما مناسبة بغير الكلية والجزئية.

١٦٥

«ج» أو : بأن تكون الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى بما يشبه أن يكون توكيدا لفظياً أو معنوياً كقوله تعالى : (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) وكقوله تعالى : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا) فالمانع من العطف في هذا الموضع اتحادالجملتين اتحاداً تاماً يمنع عطف الشيء على نفسه ويوجب الفصل.

الموضع الثاني : كمال الانقطاع وهو اختلاف الجملتيت اختلافاً تاماً :

أ ـ بأن يختلفا خبراً وإنشاء : لفظاً ومعناً ، أو معنى فقط ، نحو : حضر الأمير حفظه الله ، ونحو : تكلم إني مصغ اليك وكقول الشاعر :

وقال رائدهم أرسوا نزاولها

فحتفُ كل امرىء يجري بمقدار (١)

ب ـ أو : بألا تكون بين الجملتين مناسبة في المعنى ولا ارتباط ، بل كل منهما مستقل بنفسه كقولك : عليّ كاتب الحمام طائر ، فاُنه لا مناسبة بين كتابة عليّ وطيران الحمام. وكقوله :

إنّما المرء بأصغريهِ

كل امرىء رهنٌ بما لديه

فالمانع من العطف في هذا الموضع «أمر ذاتي» لا يمكن دفعه أصلا وهو التباين بين الجملتين ، ولهذا وجب الفصل ، وترك العطف. لأنَّ العطف يكون للربط ، ولا ربط بين جملتين في شدَّة التباعد وكمال الانقطاع.

الموضع الثالث : شبه كمال الاتصال وهو كون الجملة الثانية قوية الارتباط بالأولى ، لوقوعها جواباً عن سؤال يفهم من الجملة الأولى فتُفصلُ عنها ، كما يفصل الجواب عن السؤال ، كقوله تعالى : (وما أبرىءُ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) (٢).

__________________

(١) أي أوقفوا السفينة كي نباشر الحرب ، ولا تخاافوا من الموت ، فان لكل أجل كتابا ، أي فالمانع من العطف في هذا الموضع أمر ذاتي لا يمكن دفعه أصلا ، وهو كون إحداهما جملة خيرية ، والأخرى إنشائية ، ولا جامع بينهما.

(٢) الجملة الثانية شديدة الارتباط بالجملة الأولى لأنها جواب عن سؤال نشأ من الأولى ، لم لا تبرىء نفسك؟ فقال : (إن النفس لأمارة بالسوء) فهذه الرابطة القوية بين الجملتين مانعة من العطف ، فأشبهت حالة اتحاد الجملتين وبذلك ظهر الفرق بين كمال الاتصال ، وشبه كمال الاتصال.

١٦٦

ونحو : قول الشاعر :

زعم العوازل أنني في غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي

كأنه سئل : أصدقوا في زعمهم أم كذبوا؟ فاجاب : صدقوا (١).

__________________

(١) وبيان ذلك بعبارة أخرى أنه إذا اجتمعت جملتان : فذلك على خمسة أحوال :

أولا : أن تكون الثانية بمعنى الأولى ، أو جزءاً منها ، فيجب ترك العطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه ، وكذا الجزء لا يعطف على كله. فيقال حينئذ : إن بين الجملتين كمال الاتصال ، ومواضعه :

«أ» أن تكون الثانية توكيداً للاولى ، مثل قوله تعالى (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم).

«ب» أن تكون الثانية بدلا من الأولى ، مثل أطعت الله ، أديت الصلاة.

«ج» ان تكون الثانية بياناً للأولى ، مثل بثني شكواه ، قال إني لا أجد قوت يومي.

ثانياً : أن تكون الثانية مباينة للاولى تمام المباينة ، فيجب ترك العطف لأن العطف يكون للربط ، ولا ربط بين المتباينين ، فيقال بين الجملتين كمال الانقطاع ، ومواضع ذلك :

«أ» أن تختلفا خبراً وإنشاء مثل ، مات فلان ، رحمه الله. إلا إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود فيجب العطف نحو لا وشفاك الله.

«ب» أن تنحدا خبرا وإنشاء ، ولكن لا يوجد بينهما رابط ، مثل القمر طالع أكلت كثيرا.

ثالثاً : أن تكون الجملتان متناسبتين وبينهما رابطة ، ويسمى ذلك التوسط بين الكمالين ، وذلك على نوعين :

«أ» ألا يمنع من العطف مانع فيعطف ، مثل اجتهدوا وتأدبوا.

«ب» أن يمنع من العطف مانع وهو عدم قصد التشريك في الحكم ، فيمتنع العطف مثل قوله تعالى : (وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مشتهزئون الله يستهزىء بهم).

رابعا : أن تكون الثانية قوية الرابطة بالاولى ، لانها جواب عن سؤال يفهم من الاولى ، فهذه الرابطة القوية تمنع العطف ، لأنها أشبهت حالة اتحاد الجملتين ويسمى ذلك شبه كمال الاتصال مثل رأيته مبتسما ، أظنه نجح.

خامساً : أن تكون الأخيرة مناسبة للاولى ، ولا مانع من عطفها عليها ، ولكن يعرض حائل بينهما ، وهو جملة أخرى ثالثة متوسطة ، فلو عطفت الثالثة على الأولى لمناسبة لها ، لتوهم أنها معطوفة على المتوسطة ، فامتنع العطف بتاتا ، وأصبحت الجملتان كأنهما منقطعتان بهذا الحائل ، ويسمى ذلك (شبه كمال الانقطاع).

١٦٧

ونحو :

السيف اصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعبِ

فكأنه استفَهم ، وقال : لمَ كان السيف أصدق؟؟ فأجاب بقوله : في حده : الخ فالمانع من العطف في هذا الموضع وجود الرابطة القوية بين الجملتين فأشبهت حالة اتحاد الجملتين ولهذا وجب أيضاً الفصل.

الموضع الرابع : شبه كمال الانقطاع وهو أن تُسبق جملة بجملتين يصحُ عطفها على الأولى لوجود المناسبة ، ولكن في عطفها على الثانية فساد في المعنى ، فيُترك العطف بالمرَّة : دفعاً لتوهّم أنه معطوف على الثانية نحو :

وتظُن سلمى أنَّني أبغى بها

بدلاً أراها في الضلال تَهيمُ

فجملة أُراها يصحّ عطفها على جملة «تظنُ» لكن يمنع من هذا توهّم العطف على جملة أبغي بها فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى مع أنه غير المقصود ولهذا امتنع العطف بتاتاً ووجب أيضاً الفصل. والمانع من العطف في هذا الموضع أمر خارجي احتمالي يمكن دفعه بمعونة قرينة ومن هذا : وممّا سبق ، يُفهم الفرق بين كل من كمال الانقطاع ، وشبه كمال الانقطاع.

__________________

نحو : قول الشاعر

وتظن سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها فيِ الضلال تهيم

واعلم أن التركيب الذي تجاذبت فيه أسباب الوصل وتعاضدت دواعيه قد يفصل إما لمانع من تشريك الجملة الثانية مع الأولى ويسمى قطعا كما سبق ، وإما لجعله جواب سؤال مقدر لأغناء السامع عنه ، أو لكراهة سماعه له لو سأل ، أو لكراهة انقطاع كلامه بكلام السائل ، أو للاختصار ، ويسمى الفصل لذلك استئنافا ، كقوله :

في المهد ينطق عن سعادة جده

أثر النجابة ساطع البرهان

على تقدير أنه جواب كيف ينطق؟؟ وهو رضيع لم يبلغ أوان النطق»!

١٦٨

الموضع الخامس : التَّوسط بين الكمالين مع قيام المانع» وهو كون الجملتين مُتناسبتين : وبينهما رابطة قوية لكن يمنع من العطف مانع ، وهو عدم قصد التشريك في الحُكم كقوله تعالى : (وَاذا خَلَوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معَكم إنّما نحنُ مُستهزئون الله يستهزىء بهم). فجملة «الله يستهزىء بهم» لا يصح عطفها على جملة إنّا معكم» لاقتضائه أنه من مقول المنافقين : والحال أنه من مقولة تعالى «دعاء عليهم» ولا على جملة «قالوا» لئلا يُتوهم مشاركته له في التقييد بالظرف وأن استهزاء الله بهم مقيد بحال خُلوّهم إلى شياطينهم «والواقع أن استهزاء الله بالمنافقين غيرُ مقيد بحال من الأحوال ولهذا وجب أيضاً الفصل.

تنبيهان

الأول : لمّا كانت الحال تجىء جملة ، وقد تقترن بالواو ، وقد لا تقترن فأشبهت الوصل والفصل ، ولهذا يجب وصل الجملة الحالية بما قبلها بالواو إذا خلت من ضمير صاحبتها نحو جاء فؤاد والشمس طالعة (١).

__________________

(١) بيان ذلك أن الحال :

إما مؤكدة فلا واو : للاتحاد بين الجملتين لأنها مقررة لمضمونها نحو سعد أبوك كريم.

وإما متنقلة ـ لحصول معنى حال النسبة (أي نسبة العامل إلى صاحب الحال) فلزم فيها أمران ، الحصول والمقارنة : فالحال المفردة صفة في المعنى ، فلا تحتاج لواو للاتحاد وأما الحال الجملة فالمضارع المثبت لا يؤتى له بواو للارتباط معنى ، لوجود الحصول والمقارنة معا ، فلا حاجة للربط بها نحو وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، ونحو ، قدم الأمير تتسابق الفرسان أمامه ، ولا يجوز وجاؤا أباهم عشاء ويبكون ، ولا قدم الامير وتتساب.

وهذه إحدى المسائل السبع المذكورة في النحو التي تمتنع فيها الواو.

الثانية : الحال الواقعة بعد عاطف نحو (فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون).

الثالثة : المؤكدة لمضمون الجملة نحو (هو الحق لا شك فيه ، (ذلك الكتاب لا ريب فيه).

الرابعة : الماضي التالي إلا ، نحو ما تكلم زيد الا قال خيراً وقيل يجوز اقترانه بالواو كما ورد في قوله :

نعم امرؤ هرم لم تعر نائبة

إلا وكان لمرتاع وزرا

١٦٩

ويجب فصلها في ثلاثة مواضع :

(١) إذا كان فعلها ماضياً تالياً «إلا» ، أو وقع ذلك الماضي قبل «أو» التي للتسوية ، نحو :

__________________

الخامسة : الماضي المتلو باو ، نحو : لأضربنه ذهب أو مكث ومنه قول الشاعر :

كن للخليل نصيراً جار أو عدلا

ولا تشح عليه جاد أو بخلا

السادسة : المضارع المنفي بلا ، نحو وما لنا لا نؤمن بالله ، ما لي لا أرى الهدهد ، وقوله :

لو أن قوما لارتفاع قبيلة

دخلوا السماء دخلتها لا أحجب

السابعة : المضارع المنفي بما. كقوله :

عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة

فما لك بعد الشيب صبا متيماً

وأبعد الجمل في الصلاح للحالية الجملة الأسمية لدلاتها على الثبوت ـ لا على الحصول والمقارنة ، فيجب فيها الواو نحو (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) وقد يكتفى فيها بالضمير ندورا نحو كلمته فوه إلى في أي مشافهة ثم الماضي مثبتا لعدم المقارنة فيحسن معها الواو ، لان الماضي يدل على الحصول المتقدم لا الحصول حال النسبة. وتجب «قد» تحقيقا أو تقديراً ، لتقربه من الحال ، أي لتجعل (قد) الفعل الماضي الدال على حصول متقدم لا حصول حال النسبة قريبا من حال النسبة ، لا من حال التكلم ، إذ اللازم في الحال مقارنتها لزمان النسبة لا لزمان التكلم ، وإنما اكتفى بهذا التقريب في صحة الحال وان كان اللازم الاقتران إما لانه ينزل قرب الحال إلى زمان النسبة منزلة المقارنة مجازاً ، وإما لانه يعتبر قربها في الفعل هيئة للفعل فاذا قلت جاءني زيد وقد ركب فكأنك نزلت قرب ركوبه من مجيه منزلة مقارنته له أو جعلت كون مجيئه بحيث يقرب منه ركوبه هيئة لمجيئه ، وحالا له ، قالوا : وتمتنع (قد) مع الماضي الممتنع ربطه بالواو ، وهو التالي إلا والمتلو بأو ، لكن في (شرح الرضي) أنهما قد يجتمعان بعد إلا نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني ، ويلي الماضي المثبت ، الماضي المنفي ، لأنه هيئة للفعل بالتأويل ، لان قولك جاء زيد ليس راكبا في قوة جاء زيد ماشيا ، فيتحقق الحصول ويستمر غالباً ، فيقارن كذلك فيحسن ترك الواو نظراً إلى تحقق الحصول والمقارنة ويجوز ذكرها أيضا نظراً إلى كونه ما كان هيئة للفعل الا بعد تأويل ونظراً إلى كون استمراره أغلبياً لا دائمياً.

والأحسن في الظرف اُذا وقع حالا ترك الواو نظراً للتقدير بمفرد ، تقول نظرت الهلال بين السحاب ، ومثله الجار والمجرور ن نحو فخرج على قومه في زينته ، ونحو أبصرت البدر في السماء ، وان جوزوا الواو بتقدير فعل ماض.

وما يخشى فيه التباس الحال بالصفة أتى فيه بالواو وجوباً ، ليتميز الحال ، فيقال جاء رجل ويسعى ، إذا لو قيل : يسعى لالتبس الحال بالصفة في مثله.

١٧٠

ما تكلّم فؤاد إلا قال خيراً وكقول الشاعر :

كُن للخليل نَصيراً جارَ أو عدلا

ولا تَشحّ عليه جاد أو بخلا

(٢) إذا كان فعلها مضارعا مُثباً أو منفياً بما ، أو لا نحو : (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) ونحو : (وَما لنا لا نؤمن بالله) ونحو :

عهدتُ : ما تصبو وفيك شبيةٌ

فما لكَ بعد الشيب صبَّا مُتيَّما

(٣) إذا كانت جملة اسمية واقعة بعد حرف عطف ـ أو كانت اسمية مؤكدة لمضمون ما قبلها ـ كقوله تعالى : (فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون) وكقوله تعالى : (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (١).

الثاني : علم مما تقدّم أن من مواضع الوصل اتفاق الجملتين في الخبرية والانشائية ولابد مع اتفاقهما من (جهة) بها يتجاذبان ، وأمر جامع به يتآخذان ، وذلك الجامع : إما عقلي (٢)

__________________

(١) لما كان قوله (ذلك الكتاب) فيه مظنة مجازفة بسبب ايراد المسند إليه اسم إشارة والمسند معرفا بال أكده بقوله (لا ريب فيه) تأكيداً معنويا.

ولما كانت الدعوى المذكورة مع إدعاء عدم المجازفة مظنة استبعاد أكده بقوله (هدى للمتقين) تأكيداً لفظياً حتى كأنه نفس الهداية.

(٢) فالجامع العقلي : أمر بسببه يقتضي العقل إجتماع الجملتين في القوة المفكرة كالاتحاد في المسند : أو المسند إليه أو في قيد من قيودهما نحو زيد يصلي ويصوم ويصلي زيد وعمرو .. وزيد الكاتب شاعر ، وعمرو الكاتب منجم ، وزيد كاتب ماهر ، وعمرو طبيب ماهر وكالتماثل والاشتراك فيهما أو في قيد من قيودهما أيضا يحيث يكون لاتماثل له نوع اختصاص بهما أو بالقيد لا مطلق تماثل فنحو زيد شاعر وعمر وكاتب لا يحسن إلا إذا كان بينهما مناسبة ، لها نوع اختصاص بهما كصداقة أو أخوة أو شركة أو نحو ذلك وكالتضايف بينهما ، بحيث لا يتعقل أحدهما الا بالقياس إلى الآخر ، كالأبوة مع البنوة والعلة مع المعلول والعلو والسفل والأقل والأكثر إلى غير ذلك.

١٧١

أو : وهمي (١) أو : خيالي (٢).

وللقرآن الكريم اليد البيضاء في هذا الباب ، كقوله تعالى : (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الارض كيف سطحت) فالمناسبة بين الابل والسماء وبينهما وبين الجبال والأرض غير موجودة بحسب الظاهر ولكنه (أسلوب حكيم) في غاية ، البلاغة ، لانه لما كان لخطاب مع العرب ، وليس في تخيلاتهم إلا الابل ، لأنها راس المنافع عندهم ، والأرض لرعيها والسماء لسقيها ، وهي التي توصلهم إلى الجبال التي هي حصنهم عند ماتفاجئهم حادثة أورد الكلام على طبق ما في مخيلاتهم.

__________________

(١) والجامع الوهمي ، أمر بسببه يقتضى الوهم اجتماع الجملتين في المفكرة.

كشبه التماثل الذي بين نحو لوني البياض والصفرة ، فان الوهم يبرزهما في معرض المثلين من جهة أنه يسبق إليه أنهما نوع واحد ، زائد في أحدهما عارض في الآخر ، بخلاف العقل فانه يدرك أنهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس واحد ، هو اللون.

وكالتضاد بالذات وهو التقابل بين أمرين وجوديين بينهما غاية الخلاف يتعاقبان على محل واحد كالسواد والبياض.

أو التضاد بالعرض كالاسود والأبيض لأنهما ليسا ضدين لذاتهما لعدم تعاقبهما على محل واحد بل بواسطة ما يشتملان عليه من سواد وبياض.

وكشبه التضاد كالسماء والأرض فان بينهما غاية الخلاف ارتفاعاً وانخفاضاً ، لكن لا يتعاقبان على محل واحد ، كالتضاد بالذات ، ولا على ما يشمله كالتضاد بالعرض.

(٢) والجامع الخيالي أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماع الجملتين في المفكرة ، بأن يكون بينهما تقارن في الخيال سابق على العطف لتلازمهما في صناعة خاصة ، أو عرف عام ـ كالقدوم ، والمنشار ، والمنقاب في خيال النجار. والقلم والدواة ، والقرطاس في خيال المكاتب. وكالسيف والرمح ، والدرع في خيال المحارب وهلم جرا.

١٧٢

تمرين

عين أسباب الوصل والفصل في الأمثلة الآتية :

١ ـ قال الله تعالى : (ما اتخذ الله من ولدٍ ، وَمَا كان معه من إله ، إذا لذهب كل آلة بما خلقَ ، ولعلا بعضهم على بعضٍ ، سبحان الله عما يصفون).

٢ ـ وقال الله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبيرٌ بما يصنعون).

٣ ـ وقال تعالى (له مقاليد السموات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدرُ ، إنه بكل شيء عليم).

٤ ـ (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم).

٥ ـ (يدبر الأمر يفصّلُ الآيات لقوم يعقلون).

٦ ـ (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمهُ شديد القوى).

٧ ـ (قالوا سلاماً ، قال سلام).

٨ ـ قال أبو العتاهية :

وإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا

فابذله للمتكرِّم المفضال

ما أعتاض باذل وَجهِهِ بسؤاله

عوضا ولو نال الغنى بسؤالِ

٩ ـ وقال :

من عرف الناسَ في تصرَفهم

لم يتتبع من صاحب زللا

إن أنت كافأتَ من أساء فقد

صرتَ إلى مثل سوء ما فعلا

١٠ ـ أخطُ مع الدهر إذ اما خطا

واجر معَ الدهر كما يجري

١٧٣

(٧) حكم المنية في البرية جاري

هو في الحقيقة نائمٌ لا نائب

(٨) قال لي كيف أنت قلتُ عليل

سهر دائم وحزن طويل

(٩) يرى البخيل سبيل المال واحدة

إن الكريم يرى في ماله سبلا

١٧٤

تطبيق عام على الوصل والفصل

جربت دهري وأهليه فما تركت

لي التجارب في ود امرىء غرضاً

فصلت الثانية ، لشبه كما الاتصال ، فانها جواب سؤال

(يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله). فصلت الثانية لشبه كمال الاتصال ، فانها جواب سؤال ناشىء مما قبلها.

(فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) : عطف الجملة الثانية على الأولى لاتفاقهما في الانشاء ، مع المناسبة التامة بين المفردات ، فان المسند إليه فيهما متحد ، والمسند وقيدهما متقابلان.

(إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) : عطف الجملة الثانية على الأولى لاتفاقهما خبراً ، لفظاً ومعنى ، مع المناسبة التامة بين مفرداتها فان المسندين المقدرين فيهما متحدان ، والمسندان اليهما متقابلان ، وقيدهما الأول متحد ، والثاني متقابل.

أشكر الله على السراء بنجيك من الضراء : لم تعطف الثانية على الأولى لكمال الانقطاع ، فان الأولى انشائية لفظا ومعنى ، والثانية عكسها.

اصبر على كيد الحسود لا تضجر من مكائده : لم تعطف الثانية على الأولى لكمال الاتصال ، فانها مؤكدة لها.

أنت حميد الخصال تصنع المعروف وتغيث الملهوف : فصلت الثانية من الأولى لكمال الاتصال ، فانها بيان لها ، ووصلت الثالثة بالثانية للتوسط بين الكمالين ، مع وجود مانع من الوصل.

١٧٥
١٧٦

البابُ التاسع

في الايجاز والاطناب والمساواة

كلُّ ما يجُول في الصدر من المعاني ، ويَخطُر ببالك معنى منها لا يعدُو التعبير (١) عنه طريقاً من طرق ثلاث :

أولاً : إذا جاء التعبير على قدر المعنى ، بحيث يكون اللفظ مساوياً لأصل ذلك المعنى ـ فهذا هو «المساواة». وهي الأصل الذي يكون أكثر الكلام على صورته ، والدستور الذي يقاس عليه.

ثانياً : إذا اراد التعبير على قدر المعنى لفائدة ، فذاك هو «الإطناب» فإن لم تكن الزيادة لفائدة فهي حشو : أو تطويل.

ثالثا : إذا نقص التعبير على قدر المعنى الكثير ، فذلك هو «الايجاز» (٢).

فكلِّ ما يخطر ببال المتكلم من المعاني فله في التعبير عنه بإحدى هذه الطرق الثلاث ، فتارةً (يوجزُ) وتارة (يُسهبُ) ، وتارة يأتي بالعبارة (بين بين) ولا يُعدّ الكلام في صورة من هذه

__________________

(١) أي : إذا أردت أن تتحدث إلى الناس في معنى من المعاني ، فأنت تعبر عنه تعبيراً صحيحاً مقبولا في إحدى صور ثلاث وهي المساواة ، والايجاز ، والاطناب.

(٢) قال الامام علي : ما رأيت بليغا قط إلا وله في القول إيجاز ، وفي المعاني إطالة

وقالت بنت الخطيئة لأبيها ما بال قصارك أكثر من طوالك ، قال : لانها بالآذان أولج ، وبالافواه أغلق.

وقيل لشاعر لم لا تطيل شعرك؟؟ فقال : حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

١٧٧

الصور بليغاً : إلا إذا كان مطابقاً لمُقتضى حال المخاطب.

فاذا كان المقام للأطناب مثلا ، وعدلت عنه إلى : الايجاز ، أو المساواة لم يكن كلامك بليغاً وفي هذا الباب ثلاثة مباحث.

المبحث الأول

في الإيجاز وأقسامه

الايجاز : هو وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل (١) منها ، وافية بالغرض المقصود ، مع الإبانة والإفصاح ، كقوله تعالى : (خذ العفو وأمرُ بالعرف وأعرض عن الجاهلين). فهذه الآية القصيرة جمعت مكارم الأخلاق بأسرها ـ وكقوله تعالى (ألا لهُ الخلقُ والأمر) وكقوله عليه الصلاة والسلام «إنّما الأعمال بالنِّيات» فاذا لم تف العبارة بالغرض سمى «إخلالا وحذفاً رديئا» كقول اليشكري :

والعيش خيرٌ في ظلا

ل النوك ممّن عاش كدا

مرادهُ : أنّ العيشَ الناعم الرغد في حال الحُمق والجهل ، خيرٌ من العيش الشاق في حال العقل» لكن كلامه لا يُعدّ صحيحاً مقبولا.

__________________

(١) بأن يكون اللفظ أقل من المعهود عادة ، مع وفائه بالمراد ، فان لم يف كان الايجاز إخلالا وحذفا رديئا فلا يعد الكلام صحيحاً مقبولا ـ كقول عروة بن الورد : [الطويل]

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذارا

يريد : إذ يقتلون نفوسهم في السلم ، لكن صوغ كلامه لا يدل عليه ، ومثله قول بعضهم نثرا فان المعروف إذا زجا كان أفضل منه إذا وفر وأبطأ ولأجل تمام ما يريد : كان عليه أن يقول ـ إذا قل وزجا ، ولا يعد مثل هذا الكلام صحيحاً مقبولا.

واعلم أن متعارف أوساط البلغاء هم الذين لم يرتقوا إلى درجة البلغاء ، ولم ينخرط إلى درجة البسطاء ، فالمساواة : هي الدستور الذي يقاس عليه كل من الإيجاز والاطناب.

١٧٨

وينقسم الإيجاز إلى قسمين ، إيجاز قصرٍ (١) وإيجاز حذف.

فإيجاز القصر ويسمى إيجاز البلاغة يكون بتضمين المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة من غير حذف ، كقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) ، فان معناه كثير ، ولفظه يسير ، إذ المراد بأن الانسان إذا علم أنه متى قتل قُتل : امتنع عن القتل ، وفي ذلك حياته وحياة غيره ، لأن القتل أنفى للقتل (٢) وبذلك تطول الأعمار ، وتكثر الذرية ، ويقبل كل واحد.

__________________

(١) وايجاز القصر ، هو ما تزيد فيه المعاني على الالفاظ ، ولا يقدر فيه محذوف ويسمى (إيجاز البلاغة) لأن الأقدار تتفاوت فيه.

وللقرآن الكريم فيه المنزلة التي لا تسامى والغاية التي لا تدرك. فمن ذلك قوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فهذه الآية قد جمعت مكارم الأخلاق ، وانطوى تحتها كل دقيق وجليل ، إذ في العفو الصفح عمن أساء ، وفي الأمر بالمعروف صلة الارحام ، ومنع اللسان عن الكذب وغض الطرف عن كل المحارم .. وقوله عز اسمه (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) استوعبت تلك الآية الكريمة أنواع المتاجر ، وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد وقوله (ألا له الخلق والأمر) هاتان كلمتان أحاطتا بجميع الأشياء على غاية الاستقصاء ، وقوله عليه الصلاة والسلام المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء ، وعودوا كل جسم ما اعتاد فقد تضمن ذلك من المعاني الطبية شيئاً كثيرا.

وقول الامام علي كرم الله وجهه «من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ وقول بعض الأعراب اللهم هب لي حقك وارض عني خلقك. فسمعه الامام علي كرم الله وجهه فقال : هذا هو البلاغة ، ومنه قول السموءل :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل

فقد اشتمل على حميد الصفات من سماحة وشجاعة وتواضع وحلم وصبر واحتمال مكاره في سبيل طلب الحمد إذ كل هذه مما تضيم النفس لما يحصل في تحملها من المشقة والعناء والسبب فيما له من الحسن والروعة دلالة قليل الالفاظ على كثير المعاني إلى ما فيه من الدلالة على التمكن في الفصاحة والبراعة. ولذا قال محمد الأمين «عليكم بالايجاز : فان له إفهاما ، وللاطالة استبهاماً» وقال آخر «القليل الكافي خير من كثير غير شاف».

(٢) لقد أثر ونقل عن العرب قولهم «القتل أنفى للقتل» وأين هذا المثل من بلاغة

١٧٩

على ما يعود عليه بالنفع ، ويتم النظام ، ويكثر العمران فالقصاص : هو سبب ابتعاد الناس عن القتل ، فهو الحافظ للحياة.

وهذا القسم مطمح نظر البلغاء ، وبه تتفاوت أقدارهم ، حتى أن بعضهم سُئل عن (البلاغة) فقال : هي «إيجاز القصر» وقال أكثم بن صيفي خطيب العرب «البلاغة الإيجاز».

وايجاز الحذف يكون بحذف شيء من العبارة لا يخلّ بالفهم ، عند وجود ما يدل على المحذوف ، من قرينة لفظية أو معنوية وذلك المحذوف إما أن يكون :

(١) حرفاً : كقوله تعالى (ولم أكُ بغياً) أصله : ولم اكن (١).

(٢) أو إسماً مضافاً نحو : (وجاهدوا في الله حق جهاده) أي : في سبيل الله.

(٣) أو إسما مضافاً إليه نحو : (وَوَاعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)أي : بعشر ليال.

(٤) أو إسما موصوفاً كقوله تعالى : (ومن تاب وعمل صالحاً) أي : عملا صالحاً.

(٥) أو إسما صفةً نحو : (فزادتهم رجساً إلى رجسهم) أي : مضافا إلى رجسهم.

__________________

حد الاعجاز وتمتاز بوجوه ، منها أنها كلمتان ، وما نقل عنهم أربع ، ومنها أنه لا تكرار ، فيها وفيما قالوه تكرار ومنها أنه ليس كل قتل يكون نافيا للقتل ، وإنما يكون كذلك إذا كان على جهة القصاص ومنها حسن التأليف وشدة التلاؤم المدركان بالحس في الآية الكريمة التي أعجزتهم أن يأتوا بمثلها ، لا فيما قالوه في مثلهم البسيط الذي لا يزيد عن متعارف الاوساط

(١) وكحذف لا في قول عاصم المنفري

رأيت الخمر جامدة وفيها

خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله اشربها حياتي

ولا أسقى بها أبدا نديما

يريد : لا أشربها.

ويقع إيجاز الحذف كثيراً في أساليب البلغاءُ بشرط أن يوجد ما يدل على المحذوف ، وإلا كان الحذف رديئاً ، والكلام غير مقبول.

١٨٠