جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

(٣) ومنها : طلب الاختصار نحو : (يغفرُ لمن يشاءُ) أي يغفر الذنوب.

(٤) ومنها : استهجان التصريح به نحو : (ما رأيتُ منه ولا رأى منِّي) أي العورة.

(٥) ومنها : البيانُ بعد الابهام كما في حذف مفعول فعل المشيئة (١) ، ونحوها (٢) إذا وقع ذلك الفعل شرطاً فإنّ الجواب يدل عليه ، ويبينُه بعد إبهامه ، فيكون أوقع في النفس ، ويقدر المفعول مصدرا من فعل الجواب ، نحو : (فمن شاء فليؤمن) أي فمن شاء الإيمان.

(٦) ومنها : المحافظة على سجع ، أو وزن.

فالأول : كقوله تعالى (سيذكَّرُ من يخشى). إذ لو قيل : يخشى الله ، لم يكن على سنن رؤوس الآي السابقة.

والثاني كقول المتنبي :

بناها فأعلى والقنا يقرع القَنا

ومَوجُ المناياَ حولها مُتلاطمُ

أي : فأعلاها.

(٧) ومنها تعيُّن المفعول نحو رعت الماشية أي نباتاً.

(٨) ومنها : تنزيل المتعدِّي منزلة اللازم لعدم تعلق الغرض بالمعمول ، بل يجعل المفعول منسياً ، بحيث لا يكون ملحوظاً مقدّرا. كما لا يلاحظ تعلق الفعل به أصلا ، كقوله تعالى : (هَلْ يستوي الذينَ يعلمون والذينَ لا يعلمون) (٣).

الثاني : الأصل في العامل أن يًُقدَّم على المعمول وقد يُعكس : فيقدّم المعمول على العامل لأغراض شتَّى.

__________________

(١) هذا التعميم وإن أمكن بذكر المفعول على صيغة العام ، لكن يفوت الاختصار المطلوب.

(٢) أي ما يرادفها في المعنى كالارادة والمحبة.

(٣) أي فالغرض مجرد إثبات العلم ونفيه ، بدون ملاحظة تعلقه بمعلوم عام أو خاص ـ والمعنى : لا يستوي من ثبتت له حقيقة العلم ، ومن لم تثبت له ، فلو قدر له مفعول ، وقيل : هل يستوي الذين يعلمون الدين ، والذين لا يعلمونه ، لفات هذا الغرض.

١٤١

(١) ومنها : التخصيص نحو : (إياك نعبدُ ، واُيّاك نستعين) (١).

(٢) ومنها : ردُّ المخاطب إلى الصّواب عند خطئه في تعيين المفعول نحو : نصراً رأيت ، رداً لمن اعتقد أنك رأيت غيره.

(٣) ومنها : كون المتقدم (٢) محطّ الأنكار مع التَّعجب نحو : أبعدَ طول التجربة تنخدع بهذه الزَّخارف.

(٤) ومنها : رعاية مُوازاة رؤوس الآي نحو : (خُذُوهُ فغُلوهُ ، ثمّ الجحيم صلُوهُ) ، وهلمّ جرا من بقية الأغراض التي سبقت.

تطبيق عام على الاطلاق والتقييد

إذا كنت في نعمة فارعها

فان المعاصي تزيل النعم

جملة فارعها : انشائية أمرية ، والأمر مستعمل في أصل معناه ، المسند إليه أنت وهي مقيدة بالمفعول به لبيان ما وقع عليه الفعل ، ومقيدة بالشرط للتعليق ، وكانت أداة الشرط (إذا) لتحقق الحصول «فان المعاصي تزيل النعم» جملة خبرية اسمية من الضرب الثالث ،

__________________

(١) وذلك لان المناسب لقمام عرض العبادة له تعالى تخصيصها به ، لا مجرد الإخبار بأن العبادة له ، فاستفادة التخصيص من التقديم إنما هي بحسب المقام ، لا بأصل الوضع.

(٢) أي فيكون التقديم : للتبرك والتلذد وموافقة كلام السامع والاهتمام وضرورة الشعر وغير ذلك.

واعلم أن اختلاف الترتيب بين المعمولات.

إما لأمر معنوي : نحو (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) فلو أخر المجرور لتوهم أنه من صلة الفاعل ، والمراد كونه من صلة فعله.

وإما لأمر لفظي : نحو (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) فلو قدم الفاعل لاختلفت الفواصل لأنها مبنية على الألف ، وقد يتقدم بعض المفاعيل على بعض ، إما لاصالة في التقدم لفظا : نحو حسبت زيداً كريما ، فإن زيداً وإن كان مفعولا في الحال لكنه مبتدأ في الأصل أو معنى : نحو أعطى زيد عمراً درهماً ، وإن كان مفعولاً بالنسبة إلى زيد لكنه لا يخلو من معنى الفاعلية بالنسبة إلى الدرهم ، والدرهم مأخوذ.

١٤٢

والمراد بالخبر التحذير من المعاصي. المسند إليه (المعاصي) والمسند جملة : تزيل ، وأتى به جملة لتقوية الحكم بتكرار الاسناد ، وقيد بالمفعول به «النعم» لبيان ما وقع عليه الفعل ، والحكم مقيد بأن للتوكيد.

إن اجتهد خليل أكرمته ـ الجملة «اكرمته» وهي جملة خبرية فعلية من الضرب الابتدائي ، المسند أكرم ، والمسند إليه التاء ، وهي مقيدة بالمفعول به لبيان ما وقع عليه الفعل ، وبالشرط للتعليق ، وكانت أداة الشرط «إن» لعدم الجزم بوقوع الفعل.

وأصابت تلك الربى عين شمس

أورثتها من لونها اصفرارا

كلما جال طرفها تركت النا

س سكارى وما هم بسكارى

«وأصابت تلك الربى» جملة خبرية فعلية من الضرب الابتدائي ، والمراد بالخبر اصل الفائدة ، المسند أصاب ، ذكر لأن الأصل فيه ذلك ، وقدم لافادة الحدوث في الزمن الماضي مع الاختصار ، والمسند إليه عين شمس ، وذكر : لأن الأصل فيه ذلك وأخر : لاقتضاء المقام تقديم المسند وخصص بالاضافة لتعينها طريقا لاحضار معناه في ذهن السامع ، والمضاف إليه (شمس) قيد بالصفة «أورنتها من لونها» لأنها في محل جر صفة شمس للتخصيص ، وقيد الحكم بالمفعول به «تلك» لبيان ما وقع عليه الفعل ، وعرف المفعول به بالاشارة لبيان حاله في البعد ، وقيد المفعول بالبدل «الربي» لتقرير حاله في نفس السامع «تركت الناس سكارى» هي الجملة الرئيسية ، لأن الشرطية لا تعتبر إلا بجوابها ، وهي جملة خبرية اسمية من الضرب الابتدائي ، والمراد بالخبر التفخيم ، المسند إليه الناس ، ذكر وقدم لأن الأصل فيه ذلك ، وعرف بآل للعهد الذهني ، لان المراد بالناس الدين نظروا اليها ، والمسند سكارى ، ذكر وآخر لان الاصل فيه ذلك ، ونكر للتهويل ، والحكم مقيد (بترك) لافادة التحويل ، وبالشرط للتعليق وكانت أداة الشرط (كلما) لافادة التكرار «وما هم بسكارى» جملة خبرية اسمية من الضرب الثالث ، والمراد بالخبر أصل الفائدة ، والمسند إليه هم ، والمسند سكارى والحكم مقيد بما لنفي الحال.

١٤٣

لا تيأسن وكن بالصبر معتصما

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

«لا تيأسن» جملة انشائية نهييه ، والمراد بالنهي الارشاد ، المسند لا تيأس والمسند إليه انت ، و «كن بالصبر معتصما» أصلها : أنت معتصم بالصبر ، وهي جملة انشائية أمرية ، والمراد بالأمر الارشاد ايضاً ، المسند إليه الضمير المستتر في كن والمسند معتصما ، والحكم مقيد «بالصبر» لبيان ما وقع عليه الفعل ، وبالأمر «كن» لافادة التوقيت بالاستقبال.

«لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا» أصلها لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر ، وهي جملة خبرية فعلية من الضرب الابتدائي ، والمراد بالخبر الحث على الصبر ، المسند تبلغ ، والمسند إليه أنت ، والحكم مقيد بلن للنفي في المستقبل ، وبالجار والمجرور لبيان غاية الفعل.

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

في البيت جملة إنشائية ، غير طلبية ، وهي إسمية من الضرب الثالث ، لما فيها من تقوية الحكم بتكرار الاسناد ، المسند إليه «الكرب» ذكر وقدم لأن الاصل فيه ذلك وعرف بال للعهد الذهني ، وقيد بالنعت «الذي أمسيت فيه» لتوضيحه ، والمسند يكون الخ ، والحكم مقيد بعسى لافادة الرجاء وأما جملة النعت «الذي أمسيت فيه» فهي جملة خبرية اسمية من الضرب الابتدائي : المسند إليه فيها التاء والمسند الجار والمجرور والحكم مقيد بأمسى لافادة المساء ، وجملة الخبر (يكون وراءه فرج قريب) جملة خبرية إسمية من الضرب الابتدائي ، المسند إليه فيها (فرج) ذكر لأن الأصل فيه ذلك ، وآخر لضرورة النظم ، وقيد بالنعت (قريب) لافادة القرب ، والمسند وراءه ذكر لأن الاصل فيه ذلك ، وقدم للضرورة ، والحكم مقيد بالناسخ (يكون) لافادة الاستقبال.

١٤٤

الباب السادس

في أحوال متعلقات الفعل

متعلقات الفعل كثيرة منها : المفعول ، والحال ، والظرف ، والجار والمجرور ، وهذه المتعلقات أقل في الأهمية من ركني الجملة ومع ذلك فقد تتقدم عليها أو على أحدهما :

ويتقدّم كل من الحال ، والظرف ، والجار والمجرور ، لأغراض كثيرة.

(١) منها : تخصيصها بالفعل.

(٢) ومنها : كونها موضع الانكار.

(٣) ومنها : مراعاة الفاصلة : أو الوزن.

والأصل في المفعول : أن يُؤخر عن الفعل ، ولا يُقدّمُ عليه إلاَّ لاغراضٍ كثيرة.

(١) منها : لتخصيصنحو : (إيَّاك نعبد) رداً على من قال : أعتقد غير ذلك.

(٢) ومنها : رعاية الفاصلة : نحو : (ثم الجحيم صلُّوّهُ).

(٣) ومنها : التّبرك نحو : قُرآنا كريماً تلوتُ.

(٤) ومنها : التلذذ نحو : الحبيب قابلتُ.

١٤٥

والأصل في العامل : أن يقدَّم على المعمول ، كما أن الأصل في المعمول أن تُقدَّم عمدته على فضلته ، فيحفظ هذا الأصل بين الفعل والفاعل.

أمّا بين الفعل والمفعول ونحوه : كالظرف ، والجار والمجرور ، فيختلف الترتيب للأسباب الآتية :

أ ـ إمَّا لأمر معنوي نحو : (وجَاءَ مِنْ أقصى المدينةِ رجلٌ يسعى). (فلو أخِّر المجرور لتوُهمِّ أنه من صلة الفاعل ، وهو خلاف الواقع لأنه صلةٌ لفعله).

ب ـ وإمّا لأمر لفظي نحو : (ولقد جاءهُمُ من ربهم الهُدى). فلو قُدم الفاعل لاختلفت الفواصلُ ، لأنها مبنية على الألف.

ج ـ وإما للأهمية نحو : قُتل الخارجيُّ فلانٌ.

وأما تقديم الفضلات على بعض : فقد يكون.

(١) للأصالة في التقدم لفظاً نحو : حسبت الهلال طالعاً ، فانّ الهلال وإن كان مفعولاً في الحال ، لكنه مبتدأ في الأصل أو للأصالة في التقدُّم معنى ، وذلك كالمفعول الأول في نحو : أعطى الأمير الوزير جائزة ، فإن الوزير : وإن كان مفعولا بالنسبة إلى الأمير ، لكنه فاعل في المعنى بالنسبة إلى الجائزة (١).

(٢) أو لإخلال في تأخيره نحو : مررت راكباً بفلان ، فلو أخرت الحال لتُوهّم أنها حال من المجرور ، وهو خلاف الواقع ، فانها حال من الفاعل والأصل في المفعول ذكره ، ولا يحذف إلا لأغراض تقدم ذكرها.

__________________

(١) لأن الجائزة مأخوذة ، والآخذ لها الوزير الذي فيه معنى الفاعلية التي تستدعي حق التقدم.

١٤٦

تطبيق

لبيان المتقدّم من ركني الجملة ، ومتعلقات الفعل ، وسبب تقدمه

١ ـ قال الله تعالى : (فلله الآخرة والأولى).

٢ ـ وكتب ابن المعتز لأحد خُلاَّنه : قلبي نجىُّ ذكرك ، ولساني خادمُ شُكرك.

٣ ـ وقال الله تعالى : (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).

٤ ـ كل حيّ وإن أقام كنوحٍ

في أمانٍ من الرَّدى سوف يَفنَى

٥ ـ أنشا يمزق أثوابي يؤدّبني

أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا

٦ ـ منهومان لا يشبعان : طالب علم ، وطالبُ مال.

٧ ـ عباس مولاي أهداني مظلته

يظلّل الله عبَّاساً ويَرعاه

٨ ـ ما كل ما يتمنَّى المرءُ يدركه

تأتي الرياح بما لا تشتهي السّفنَ

الجملة

نوع المتقدم

سبب تقدمه

١ ـ فلله الآخرة والأولى

خبر

تخصيص الخبر بالمبتدأ

٢ ـ قلبي. ولساني

مبتدأ

أنه الأصل

٣ ـ الله يبسط الرزق

مبتدأ

تخصيصه الخبر

٤ ـ كل حي وان أقام

مبتدأ

إفادة التعميم

٥ ـ أبعد شيبي يبغى

مبتدأ

موضع الانكار

٦ ـ منهومان لا يشبعان

مبتدأ

التشويق إلى المبتدأ

٧ ـ عباس مولاي

مبتدأ

التعظيم

٨ ـ ما كل ما يتمنى المرء يدركه

مبتدأ

نفي العموم

١٤٧

تدريب

العبارات الآتية تقدم فيها بعض أجزاء الكلام على بعض أذكر المتقدم ، وبين نوعه في كل عبارة :

١ ـ قال تعالى : (فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون).

٢ ـ وقال تعالى (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون).

٣ ـ إثنان لا يستغنى عنهما إنسان : العلم والمال.

٤ ـ قال صلى الله عليه وسلم : إخوانكم خولُكم ، جعلهم الله تحت أيديكم.

٥ ـ قبيح أن يحتاج الحارسُ إلى من يحرُسه.

٧ ـ إلى الله كل الأمر في الخلق كلهم

وليس إلى المخلوق شيء من الأمر

تمرين

عيّن المتقدم من ركني الجملة أو من متعلقات الفعل ، واذكر سبب تقدمه

١ ـ قال الله تعالى : (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

٢ ـ وقال الله تعالى : (وله من في السموات والأرض ، كلُّ له قانتون).

٣ ـ وقال الله تعالى : (قالوا الآن جئت بالحق).

٤ ـ الدُّنيا دارُ عناء ليس لأحد فيها البقاء ، وغدا تسرّ أو تُساء.

٥ ـ ألقت مقاليدها الدنيا إلى رجل

ما زال وقفاً عليه الجودُ والكرم

٦ ـ بأيّ لفظٍ تقول الشعر زعنفةٌ

بحوزُ عندك لاعُربٌ ولا عجم

١٤٨

الباب السابع

في القصر

القصر : لغة الحبس قال الله تعالى (حور مقصورات في الخيام) واصطلاحاً : هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص.

والشيء الأول : هو المقصور ، والشيء الثاني : هو المقصور عليه. والطريق المخصوص لذلك التخصيص يكون بالطرق والأدوات الآتية : نحو : ما شوقي إلا شاعر ، فمعناه تخصيص شوقي بالشعر وقصره عليه ، ونفى صفة الكتابة عنه ردَّا على من ظن أنَّه شاعر : وكاتب والذي دلَّ على هذا التخصيص هو النفي بكلمة ما المتقدمة ، والاستثناء بكلمة إلا التي قبل الخبر. فما قبل «إلا» وهو «شوقي» يُسمى مقصوراً عليه ، وما بعدها وهو شاعر يسمى مقصوراً وما وإلاّ طريق القصر وادواته. ولو قلت شوقي شاعرٌ بدون نفي واستثناء ما فُهم هذا التخصيص.

ولهذا : يكون لكل قصر طرفان «مقصور ، ومقصور عليه» ويُعرف المقصور بأنّه هو الذي يُؤلف مع المقصور عليه الجملة الأصلية في الكلام.

ومن هذا تعلم أن القصر : هو تخصيص الحكم بالمذكور في الكلام ونفيه عن سواه بطريق من الطرق الآتية :

وفي هذا الباب أربعة مباحث.

١٤٩

المبحث الأول في طرق القصر

للقصر طُرُق كثيرة ، وأشهرها في الاستعمال أربعة (١) ، وهي :

__________________

(١) ومن طرق القصر التي ليست مشهورة الاستعمال لفظ : وحده ، أو : فقط. أو : لا غير ، أو : ليس غير ، أو : مادة الاختصاص ، أو : مادة القصر ، أو : توسط ضمير الفصل ، أو : تعريف المسند إليه أو : تقديم المسند إليه على خبره الفعلي أحياناً ، وغير ذلك وهذه الطرق خالية من اللطائف البلاغية وقد أوصلها (جلال الدين السيوطي) في كتابه (الاتقان في علوم القرآن) إلى أربعة عشر طريقا. أهمها الطرق الأربعة المشهورة الاستعمال ـ وهي تختلف مع بعضها من أوجه كثيرة.

منها : أن لا العاطفة لا تجتمع مع النفي والاستثناء : لأن شرط المنفي بها لا يكون منفيا صريحاً قبلها بغيرها فلا تقول : ما عليّ إلا مجتهد لا متكاسل ، ولذا عيب على الحريري قوله.

لعمرك ما الانسان إلا ابن يومه

على ما تحلى يومه لا ابن أمسه

وتجتمع «لا» مع (انما) أو «التقديم» نحو إنما أنا مصري لا سوري ، ونحو المجتهد أكرمت لا المتكاسل ، لان النفي فيهما غير مصرح به.

ومنها : أن الاصل في الحكم مع النفي والاستثناء : أن يكون مجهولا منكرا للمخاطب (أي شأنه أن يجهله المخاطب وينكره) بخلاف (انما) لأن النفي مع الاستثناء لصراحته أقوى في التأكيد من (انما) فينبغي أن يكون لشديد الانكار ، ونحو : قولك (وقد رأيت شبحاً من بعد) ما هو إلا زيد : لمن اعتقد أنه غيره ، ونحو : (إن أنتم إلا بشر مثلنا) لما كانوا مصرين على دعوى الرسالة مع زعم المكذبين امتناع الرسالة في البشر ، رد المكذبون اصرارهم عليها بقولهم ذلك.

وقد ينزل المعلوم منزلة المجهول لغرض بلاغي ، فيستعمل فيه النفي والاستثناء ، نحو (وما محمد إلا رسول) فقد قصر الله محمدا على صفة الرسالة ونفي عنه أن يظن في أمره الخلود ، فلا يموت أو يقتل. وهذا معلوم للصحابة ، لكن لاستعظامهم موته ، لشدة حرصهم على بقائه صلى الله عليه وسلم نزلوا منزلة من لا يعلمه.

وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم ، نحو (انما نحن مصلحون) لادعائهم أن كونهم مصلحين أمر ظاهر ، ولهذا رد عليهم بقوله (ألا إنهم هم المفسدون) مؤكد بما ترى بالجملة فالاستثناء لفوته يكون لرد شديد الانكار حقيقة أو ادعاء ، و «إنما» لضعفها تكون لرد الانكار في الجملة ، حقيقة أو ادعاء ، ويكون للقصر (بإنما) مزية

١٥٠

أولاً : يكون القصر بالنفي والاستثناء (١) ، نحو : ما شوقي إلا شاعر أو : ما شاعر إلاَّ شوقي.

ثانياً : يكون القصر بإنَّما نحو : (إنّما يخشى الله من عباده العلماء).

وكقوله :

إنما يشتري المحامدَ حُرٌّ

طاب نفساً لهُنّ بالأثمانِ

ثالثاً : يكون القصر بالعطف بلا وبل ولكن نحو : الأرض متحركة لا ثابتة ، وكقول الشاعر :

عُمرُ الفتى ذكرُه لا طولُ مدته

وموتُهُ خزيه لا يومُهُ الدَّاني

وكقوله :

ما نال في دُنياهُ وان بُغيةً

لكن أخو حزم يَجدّ ويَعمَل

رابعاً : يكون القصر بتقديم ما حقّه التأخير نحو : (إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين) ، أي : نخصك بالعبادة والاستعانة.

فالمقصور عليه «في النفي والاستثناء» هو المذكور بعد أداة الاستثناء ـ نحو : وما توفيقي إلا بالله.

١ ـ والمقصور عليه : مع (إنَّما) هو المذكور بعدها ، ويكون مؤخرا في الجملة وجوباً ، نحو : وما توفيق إلا بالله.

٢ ـ والمقصور عليه مع إنما : هو الذكور بعدها ، ويكون مؤخراً في الجملة وجوياً ، نحو :

__________________

العطف لأنه يفهم منه أولا الاثبات ثم النفي ، أو عكسه ، نحو انما خليل فاهم ـ خليل فاهم لا حافظ ـ وأحسن مواقعها التعريض نحو (انما يتذكر أولوا الألباب).

واعلم أن «غير» كإلا : في إفادة القصرين ، وفي امتناع اجتماعه مع لا العاطفة ، فلا يقال : ما على غير شاعر لا منجم ، وما شاعر غير على لا نصر.

(١) يكون النفي بغير (ما) كقوله تعالى (إن هذا إلا ملك كريم) كما يكون الاستثناء بغير (إلا) نحو :

لم يبق سواك نلوذ به

مما نخشاه من المحن

١٥١

إنما الدنيا غُرور.

٣ ـ والمقصور عليه : مع (لا) العاطفة : هو المذكور قبلها والمُقابَل لما بعدها ، نحو : الفخر بالعلم لا بالمال.

٤ ـ والمقصور عليه مع (بَلْ) أو (لكنْ) العاطفتين : هو المذكور ما بعدهما ، نحو : ما الفخر بالمال بل بالعلم ونحو : ما الفخر بالنسَّب لكن بالتقوى.

٥ ـ والمقصور عليه : في (تقديم ماحقُّه التأخير) هو المذكور المتقدّم نحو : على الله توكلنا وكقول المُتنبِّي :

ومن البليَّة عذل من لا يرعوي

عن غَيِّه وخطاب من لا يفهم

ملاحظات

أوّلا : يشترط في كلٍّ من «بل ولكن» أن تُسبق بنفي ، أو : نهي وأن يكون المعطوف بهما مفرداً ، وألاَّ تقترن (لكن) بالواو.

ثانياً : يشترط في «لا» إفراد معطوفها ، وان تُسبق بإثبات ، وألاّ يكون ما بعدها داخلا في عموم ما قبلها.

ثالثاً : يكون للقصر (بإنما) مزيَّة على العطف ، لأنها تفيد الاثبات للشيء ، والنفي عن غيره دفعة واحدة ، بخلاف العطف ، فانه يفهم منه الاثبات أوّلا ، ثم النفي ثانياً أو عكسه.

رابعاً : التقديم : يَدُلّ على القصر بطريق الذَّوق السليم ، والفكر الصائب ، بخلاف الثلاثة الباقية فتدل على القصر بالوضع اللغوي (الأدوات).

خامساً : الأصلُ أن يتأخر المعمول عن عامله إلا لضرورة ومَن يتتبع أساليب البلغاء في تقديم ما حقُّه التأخير : يجد أنهم يريدون بذلك : التخصيص.

١٥٢

المبحث الثاني

في تقسيم القصر باعتبار الحقيقة والواقع إلى قسمين

الف ـ قصر حقيقي (١) : وهو أن يختصَّ المقصورُ بالمقصور عليه بحسب الحقيقة والواقع ، بألا يتعدَّاه إلى غيره أصلا : نحو لا إآه إلاَّ اللهُ.

ب ـ وقصر إضافي : وهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحسب الإضافة والنسبة إلى شيء آخر معين ، لا لجميع ما عداه ، نحو : ما خليل إلا مسافر : فانك تقصد قصر السفر عليه بالنسبة لشخص غيره ، كمحمود مثلا وليس قصدك أنه لا يوجد مُسافر سواه ، إذ الواقع يشهد ببطلانه.

تنبيهات

الأول : الاصل في العطف أن ينص فيه على المثبت له الحكم ، والمنفي عنه الا إذا خيف التطويل ، وفي الثلاثة الباقية ينص على المثبت فقط.

الثاني : النفي بلا العاطفة : لا يجتمع مع (النفي والاستثناء) فلا تقول ما محمد الا ذكي لاغبي ، لان شرط جواز النفي (بلا) أن يكون ما قبلها منفيا بغيرها.

ويجتمع النفي بلا العاطفة مع كل من (انما والتقديم) ، فتقول : انما محمد ذكي لا غبي وبالذكاء يتقدم محمد لا بالغباوة.

والأصل في العطف (بلا) أن يتقدم عليه مثبت ، ويتأخر منفي بعده ، وقد يترك ايضاحه اختصاراً ، مثل : علي يجيد السباحة لا غير ، أي لا المصارعة ، ولا الملاكمة ولا غير ذلك من الصفات.

الثالث : الأصل في (النفي والاستثناء) أن يجيء لأمر ينكره المخاطب أو يشك فيه أو لما هو منزل

__________________

(١) ومنه نوع يسمى بالقصر الحقيقي (الادعائي) ويكون على سبيل المبالغة بفرض أن ما عدا المقصور عليه لا يعتد به.

١٥٣

هذه المنزلة : ومن الاخير قوله تعالى : (وما أنت بمسمع من في القبور ، إن أنت إلا نذير).

الرابع : ألإصل في إنما أن تجيء لأمر من شأنه ألا يجهله الخاطب ينكره ، وإنما يراد تنبيه فقط ، أو لما هو منزل هذه المنزلة ، فمن الأول قوله تعالى : (إنما يستجيب الذين يسمعون).

وقوله تعالى (إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) ومن الثاني قوله تعالى حكاية عن اليهود (إنما نحن مصلحون) فهم قد ادعوا أن إصلاحهم أمر جلي لا شك فيه ـ وقال الشاعر :

أنا الزائد الحامي الذمار وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

أسباب ونتائج

الغاية من القصر : تمكين الكلام وتقريره في الذهن كقول الشاعر :

وما المرء إلا كالهلال وضوئه

يوافي تمام الشهر ثم يغيب

وقد يراد بالقصر بالمبالغة في المعنى ـ كقول الشاعر :

وما المرء إلا الأصغر ان لسانه

ومعقوله والجسم خلق مصور

وكقوله :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا على

وذو الفقار لقب سيف الامام علي.

كرم الله وجهه ، وسيف العاص بن منبه والقصر : قد ينحو فيه الأديب مناحي شيء ، كان يتجه إلى القصر الاضافي ، رغبة في المبالغة كقوله :

وما الدنيا سوى حلم لذيذ

تنبهه تباشير الصباح

وقد يكون من مرامي القصر التعريض كقوله تعالى (إنما يتذكر أولوا الألباب) إذ ليس الغرض من الآية الكريمة أن يعلم السامعون ظاهر معناها ، ولكنها تعريض بالمشركين الذين في حكم من لا عقل له.

١٥٤

المبحث الثالث

في تقسيم القصر باعتبار طرفيه

ينقسم القصر باعتبار طرفيه المقصُور والمقصور عليه سواء أكان القصر حقيقياً أم إضافياً إلى نوعين :

أ ـ قصر صفة على موصوف : هو أن تحبس الصفة على موصوفها وتختص به ، فلا يتَّصف بها غيره ، وقد يتَّصف هذا الموصوف بغيرها من الصفات.

مثاله من الحقيقي لا رازق إلا الله ومثاله من الإضافي ، نحو : لا زعيم إلا سعد.

ب ـ قصر موصوف على صفة ، هو أن يحبس الموصوف على الصفة ويختصّ بها ، دون غيرها ، وقد يشاركه غيره فيها.

مثاله من الحقيقي ، نحو : ما الله إلا خالق كلّ شيءٍ (١) ومثاله من الإضافي ، قوله تعالى (وما محمدٌ إلا رسولٌ (٢) قد خلت من قبله الرسل ، أَفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يُضرَّ الله شيئا).

واعلم أن المراد بالصفة هنا الصفة المعنوية التي تدل على معنى قائم بشيء ، سواء أكان اللفظ الدال عليه جامداً أو مشتقاً ، فعلا أو غير فعل ، فالمراد بالصفة ما يحتاج إلى غيره ليقوم به كالفعل ونحوه وليس المراد بها (الصفة النحوية المسماة بالنعت).

__________________

(١) قصر الموصوف على الصفة في القصر الحقيقي ، لا يكاد يوجد لتعذر الاحاطة بصفات الشيء ، حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها ، ويكثر القصر الحقيقي في قصر الصفة على الموصوف ، بخلاف القصر الاضافي الذي يأتي كثيرا في كل من قصر الصفة على الموصوف ، وقصر الموصوف على الصفة.

(٢) فقد قصر الله محمداً على صفة للرسالة ، نفى عنه أن يظن في أمره الخلود ، فلا يموت أو يقتل.

١٥٥

المبحث الرابع

في تقسيم القصر الإضافي

ينقسم القصر الإضافي بنوعيه السابقين (١) على حسب حال المخاطب إلى :

أ ـ قصر إفراد : إذا اعتقد المخاطب الشركة ، نحو : إنَّما الله إله واحدٌ رداً على من اعتقد أنَّ الله ثالث ثلاثةٍ

ب ـ قصر قَلب : إذا اعتقد المخاطب عكس الحكم الذي تثبته نحو : ما سافر إلا عليّ «رداً على من اعتقد ان المسافر خليل لا علىٌ» فقد قلبتَ وعكست عليه اعتقاده.

ج ـ قصر تعيين : إذا كان المخاطب يتردّد في الحكم : كما إذا كان متردّدا في كون الأرض متحركةً أو ثابتة ، فتقول له : الأرض متحركة لا ثابتة «ردا على من شكّ وتردد في ذلك الحُكم»

وأعلم أنّ القصر بنوعيه يقع بين المبتدأ والخبر ، وبين الفعل والفاعل وبين الفاعل والمفعول ، وبين الحال وصاحبها ، وغير ذلك من المتعلقات ، ولا يقعُ القصرُ مع المفعول معه.

والقصر من ضروب الايجاز الذي هو أعظم ركن من أركان البلاغة ، إذ أن جملة القصر في مقام جملتين ، فقولك ما كامل إلا الله تعادل قولك : الكمال لله ، وليس كاملا غيره.

وأيضاً : القصرُ يحدد المعاني تحديداً كاملاً ، ويكثر ذلك في المسائل العلمية : وما يماثلها.

__________________

(١) بخلاف القصر الحقيقي بنوعيه ، إذ العاقل لا يعتقد اتصاف أمر بجميع الصفات أو اتصافه بجميعها إلا واحدة ، أو يتردد في ذلك ، كيف وفي الصفات ما هي متقابلة فلا يصح أن يقصر الحكم على بعضها وينفى عن الباقي : إفراداً ، أو قلبا ، أو تعيينا ، وعلى هذا المنوال قصر الصفة على الموصوف ، كما في المطول.

١٥٦

تطبيق

وضِّح فيما يلي نوع القصر وطريقه

(١) ما الدهرُ عندك إلا روضةٌ أنُفُ

يا من شمائلُهُ في دهره زهر

(٢) ليس عارٌ بأن يقال فقيرٌ

إنما العار أن يُقال بخيلُ

(٣) وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هموُ اذهبت أخلاقهم ذهبوا

تمرين

عيّن المقصور ، والمقصور عليه ، ونوع القصر وطريقته ، فيما يأتي :

(١) قال الله تعالى : (فذكر إنما أنت مُذكرٌ لست عليهم بمسيطر).

(٢) وقال الله تعالى : (قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحى إلىَّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحدٌ).

(٣) وقال تعالى (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأُولئك هم الكاذبون).

(٤) قال ابن الرومي :

غلطَ الطبيبُ على غلطةُ مورد

عجزت مواردُهُ عن الإصدار

والناسُ يلحون الطبيب وإنما

غلطُ الطبيب إصابةُ الأقدار

__________________

الرقم

الجملة

نوع باعتبار المقصور

نوعه باعتبار الواقع

طريقه

١

ما الدهر ...

موصوف على صفة

إضافي

النفي والاستثناء

٢

انما العار ...

موصوف على صفة

إضافي

إنما

٣

إنما الأمم ...

موصوف على صفة

حقيقي ـ ادعائي

إنما

١٥٧

تطبيق عام على القصر وأنواعه والأبواب السابقة

لا حول ولا قوة إلا بالله : جملتان خبريتان اسميتان من الضرب الثالث لما فيهما من التوكيد بالقصر الذي هو أقوى طرق التوكيد ، المسند إليه (حول وقوة) والمسند الجار والمجرور ، ولا نظر لتقديم الخبر لأن ذلك مراعاة لقاعدة نحوية لا يعتبريها أهل المعاني ولا يعدون حذفه ايجازاً ، والحكمان مقيدان بالنفي والاستثناء لافادة القصر ، ففيهما (قصر صفة) وهو التحول عن المعاصي ، والقوة على الطاعة على (موصوف) وهو الذات الأقدس ، وهو قصر اضافي طريقه النفي والاستثناء ، ثم ان كان للرد على من يعتقد أن التحول عن المعاصي والقوة على الطاعة بغير الله تعالى فهو قصر قلب ، أو على من يعتقد الشركة فهو إفراد ، أو على من يتردد فهو تعيين.

(إياك نعبد وإياك نستعين) : جملتان خبريتان فعليتان من الضرب الثالث ، المسند نعبد ونستعين ، والمسند إليه الضمير المستتر فيهما ، وهما مقيدتان بالمفعولين إياك وقدم المفعولين لافادة القصر ففيهما قصر (صفة) وهو العبادة والاستعانة على (موصوف) وهو الذات الأقدس ، طريقة تقديم ما حقه التاخير وهو إضافي ، ثم إن كان للرد على من يعتقد أن المعبود غير الله تعالى ، فهو قلب : أو على من يعتقد الشركة فهو إفراد او على من يتردد فهو ، تعيين.

إنما شوقي شاعر : فيه قصر موصوف وهو شوقي على صفة وهو الشعر ، وطريقه إنما ، وهو قلب : وإفراد أو تعيين على حسب حال المخاطب.

الله الغفور الرحميم : فيه قصر الصفة وهو المغفرة والرحمة ، على موصوف وهو الله تعالى : طريقه تعريف المسند بأل.

وهو : قلب أو إفراد أو تعيين على حسب حال المردود عليه إنما الشجاع عليّ فيه قصر صفة وهو الشجاعة على موصوف وهو عليّ وطريقه إنما.

المرء بآدابه لا بثيابه : فيه قصر الموصوف على الصفة ، قصر قلب بين المسند إليه والمسند. طريقه العطف بلا.

إنما الآله واحد : فيه قصر الموصوف على الصفة ، قصراً حقيقياً طريقه إنما ، وهو واقع بين المسند إليه والمسند.

١٥٨

الباب الثامن

في الوصل والفصل

تمهيد

العلمُ بمواقع الجمل ، والوقوف على ما ينبغي أن يُصنع فيها من العطف والاستئناف ، والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة اليها صعب المسلك ، لا يُوفّق للصواب فيه إلاّ من أوتى قسطاً موفوراً من البلاغة ، وطبع على إدراك محاسنها ، ورُزق حظا من المعرفة في ذوق الكلام ، وذلك لغموض هذا الباب ، ودقة مسلكه ، وَعظيم خطره؟ وكثير فائدته : يدل لهذا ، أنهم جعلوه حدَّا للبلاغة فقد سئل عنها بعض البُلغاء ، فقال : هي معرفة الفصل والوصل.

تعريف الوصل والفصل في حدود البلاغة

الوصل عطف جملة على أخرى بالواو ، والفصل ترك هذا العطف (١) بين الجملتين ،

__________________

(١) إذا توالت الجملتان ، لا يخلو الحال من أن يكون ، للأولى محل من الأعراب أولا ، وان كان لها محل من الاعراب فلا بد من أن يقصد تشريك الثانية لها في حكم الاعراب أولا ، فان قصد التشريك عطفت الثانية عليها نحو الله يحيى ويميت ، وإلا فصلت عنها نحو «قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم. لم يعطف قوله الله يستهزىء بهم على ما قبله لئلا يشاركه في حكم المفعولية للقول وهو ليس مما قالوه

١٥٩

والمجىء بها منثورة ، تستأنف واحدة منها بعد الأخرى فالجملة الثانية : تأتي في الاساليب البليغة مفصولة أحياناً ، وموصولة أحياناً.

فمن الفصل ، قوله تعالى (ولا تستوي الحسنة ولا السيئةُ إدفع بالتي هي أحسنُ) فجملة ادفع مفصولة عمّا قبلها ، ولو قيل : وادفع بالتي هي أحسن ، لما كان بليغاً.

ومن الوصل قوله تعالى «يأيُها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» عطف جملة : وكونوا على ما قبلها ولو قلت : اتقوا الله كونوا مع الصادقين ، لما كان بليغاً.

فكلّ من الفصل والوصل يجىء لأسباب بلاغيَّة. ومن هذا يُعلم أنّ الوصل جمع وربط بين جُملتين بالواو خاصة لصلة بينهما في الصورة والمعنى : أو لدفع اللَّبس.

والفصل : ترك الربط بين الجُملتين ، إمَّا لأنهما مُتحدتان صورة ومعنى ، أو بمنزلة المتحدتين ، وإمَّا لأنه لا صلة بينهما في الصورة أو في المعنى.

__________________

كما سياتي ، وإن لم يكن لها محل من الاعراب ، فان كان لها حكم لم يقصد اعطاؤه للثانية وجب الفصل ، دفعا للتشريك بينهما ، نحو (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ، الله يعلم ما تحمل كل أنثى) ، لم يعطف قوله الله يعلم على ما قبله لئلا يشاركه في حكم القصر فيكون تعالى مقصوراً على هذا العلم ، وإن لم يكن لها ذلك الحكم نحو : زيد خطيب وعمرو متشرع أو قصد إعطاء حكمها للثانية نحو إنما زيد كاتب وعمرو شاعر ، وجب الوصل كما رأيت ما لم تكن إحدى الجملتين مطلقا منقطعة عن الأخرى انقطاعا كاملا بحيث لا يصلح ارتباطهما أو متصلة بها اتصالا كاملا بحيث لا تصح المغايرة بينهما ، فيجب الفصل لتعذر ارتباط المنقطعتين بالعطف وعدم افتقار المتصلتين إلى ارتباط به ، ويحمل شبه كل واحد من الكمالين عليه فيعطي حكمه ، وأعلم أنه لا يقبل في العطف إلا عطف المتناسبات مفردة أو جملا بالواو أو غيرها ، فالشرط وجود جهة جامعة بين المتعاطفات ، فنحو الشمس والقمر والسماء والأرض ، محدثة مقبول ونحو الشمس والأرنب والحمار ، محدثة غير مقبول لكن اصطلاحهم اختصاص الوصل والفصل بالجمل وبالواو ، فلا يحسن الوصل الا بين الجمل المتناسبة لا المتحدة ولا المتباينة ، والأفضل.

واعلم أنه إن وجدت الواو بدون معطوف عليه قدر مناسب للمقام نحو (أو كلما عاهدوا عهداً) فتقدر (أكفروا وكلما عاهدوا) لأن الهمزة تستدعي فعلا.

١٦٠