بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

شخص معين فالاستعمال آلى وهذا هو الغالب في الاستعمالات وقد يكون بعمومه من دون لحاظ آلى لاراءة مصداق خاص كما في إرادة التثنية والجمع في اللفظ فهذا استقلالي لكنه قليل بالنسبة الى الصورة الأولى. وهذا كله قد مرّ في أوائل الكتاب. كما وانه قد سبق أن نظير ذلك الدلالة التصديقية فإن تكلم العارف بكلام كاشف بدوا عما في ضميره فهو معلول لما في النفس ويدل عليه الكلام دلالة المعلول على علته ثم دلالة هذا الكلام على ما في الخارج يحتاج الى ثبوت ملازمه بين ما في الضمير وما في الخارج فإن كان معصوما ثبت ما في الخارج في كل من النظري والضروري لعدم تطرق السهو والنسيان وإلّا فلا وإن كان كلامه نظريا ناشئا من الحدس لامكان عروض الخطاء في النظريات والعدالة مانعة عن صدور الكذب لا عن صدور الخطاء واما في غير النظريات فالتصديق انّما هو باعتبار التقوى والعدالة. والحاصل انّ الكلام قد ينظر الى ما في الخارج حقيقة فما في النفس واسطة له كما هو الغالب في المحاورات وقد يكون الأصيل اظهار ما في الضمير لا اثبات الخارج به كدلالة الشهادة والفتوى على ابراز ما في نفس الشاهد والمفتى ـ ومن هنا ذكرنا سابقا ان صدق الكلام وكذبه ينوط مناط الأصيل في النظر فإن كانت الاصالة الى ما في الخارج كان الصدق والكذب تابعين لمطابقة الكلام مع ما في الخارج وعدمها وإن كانت ناظرة الى ما في الضمير فكذلك وهكذا في الكنايات كزيد كثير الرماد فهو مستعمل في مفهومه لكن قد يكون المقصود الأصيل اطعامه الضيوف المستلزم لكثرة الرماد وقد يكون المقصود بيان وساخة مسكنه وقذارته مثلا فلا تعدد بل أحد المعنيين تابع للآخر ملازم له فهذا خارج عن مسئلة المجاز وكذا آية المنافقين. فقد تحصل أمور :

١ ـ عدم كون العلائق المرسلة مصححة للتجوز بدليل عدم الاطراد وغيره من النقوض السابقة.

٨١

٢ ـ عدم أساس للقول بالتجوز في الكلمة وما يوهم ذلك اما حقيقة أو مجاز في الاسناد أو استعارة مقيدة.

٣ ـ الإنباء عن المسمى إنّما هو في عنوان المسمى ابتداء وأما ذات المسمى فالانباء عنه إنّما هو باعتبار انطباق العنوان المذكور عليها لكن محل الانطباق إمّا تحقيقي أو تنزيلي والأول هو ذات المسمى التي وقعت التسمية بينها وبين اللفظ حقيقة والتجوز في الانطباق الحقيقي إنّما هو في الاسناد لا في الكلمة لعدم تجاوز الكلمة عن محلها الأصلي والمراد بالتجوز في الاسناد هو حلول الكلمة محلها الأصلي وإنّما التطبيق باعتبار التنزيل فالمقصود من المحل التنزيلي هو استعمال اللفظ في عنوان المسمى أوّلا ثم انطباق العنوان على المحل الحقيقي مع القرينة أو بدونها. نعم. لو استعمل الأسد في زيد أسد تارة في ذات المسمى بالأسد وأخرى في الرجل الشجاع كان ذلك مجازا في الكلمة لوقوعها مرّة في محلها الحقيقي وأخرى في غيره ولكن قد عرفت من مطاوي أبحاثنا ان الأمر ليس كذلك بل ليس المعقول إلّا ما حققناه.

٤ ـ إنّ انطباق عنوان المسمى على ذات المسمى بدلي لا شمولي كما عرفت في ما سبق.

تكملة

ذكر أهل البيان أن (انبت الربيع البقل) حقيقة على حد قول الطبيعي القائل بأن الربيع هو المنبت ومجاز عند الموحد وهذا مجاز في الاسناد كما في نهاره صائم وليله قائم وفيهما يكون باعتبار التعلّق بمحل. أقول : هذا لا يتم فإنّ النسبة إما اتصافي أو سببي والأول ليست لها مراتب اذ نسبة علم زيد الى غير زيد ليس صحيحا فإنّ اتصاف شخص بالعلم وتلبسه به انّما هو باعتبار الاتصاف والقيام وذلك لا يكون

٨٢

بأكثر من محل واحد فلا يصح أن يقال بدل (علم زيد يوم الجمعة) علم يوم الجمعة. أو تقول بدل علم زيد : علم ابنه وأما النسبة السببية فلها مراتب باعتبار السبب فإذا قتلت أحدا في الجهاد صح ان تقول قطعت رأسه وان تقول قطع سيفي رأسه وكذا في قوله سبحانه وتعالى : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً)(١).

ففي المثال (انبت الربيع البقل) إنّ الله جعل الربيع سبب الانبات لا مطلقا إلّا أنّ هذه السببية مما يصحح إسناد السببية الى الربيع فلا يكون مجازا بل حقيقة حتى على مبنى الموحد لكنها ليست سببية ذاتيه.

علائم الحقيقة والمجاز

قد عرفت من بياناتنا انّ الحق هو الاعتراف بالتجوز في الاسناد وانكار التجوز في الكلمة. ولكن الاسناد قد يكون الى ما هو له وأخرى الى غير ما هو له. فلا بد من وجود علامات في البين وقد انحصرت هذه العلائم في أغلب كلماتهم بأربع. التنصيص. التبادر. الاطراد. عدم صحة السلب وان ما يقابل هذه فهي علائم المجاز.

١ ـ التنصيص

وينبغي تمهيد مقدمة. وهي انّ الأصوليين عنونوا هذا المبحث بتنصيص أهل اللسان دون تنصيص الواضع وذلك لوجود الاختلاف بينهم في انّه هل للألفاظ وضع أو لا؟ فبعضهم ذهب في دلالة الألفاظ الى المناسبة الذاتية بينها وبين المعاني. وأما القائلون بالوضع فأوردوا على المناسبة الذاتية انّها لو كانت صحيحة لزم الانتقال في

__________________

(١) سورة غافر : آية ٤٠.

٨٣

اللفظ الى معناه بمجرد سماعه حتى ولو لم يطلع على ذلك أهل اللسان مع انّ من الواضح عدم حصول هذا الانتقال لغير العارف باللغة. فلا مناص من ان تكون دلالة الألفاظ بوضع من الواضع فكما في وضع الاعلام كذلك بحيث لو لم يصرح الوالد بأن اسم ولده زيد لما أمكن فهم هذا والعلم باسمه فكذلك في اللغات الأصلية فبما انّها ليست بينها وبين معانيها مناسبة ذاتيه لما ذكر فلا بد وان يكون ذلك مستندا الى الوضع لعدم وجود أمر ثالث في البين. ثم هؤلاء بعد ذهابهم الى لزوم الوضع قد اختلفوا انّه من الواضع هل هو الله سبحانه وتعالى أو غير ذلك. فحيث انّه لم يتعين الواضع ولم يعلم به حتى يعلم بتنصيصه وتصريحه وعلى فرض العلم به فليس في البين من تنصيصه خبر وأثر فلهذا كله لم يمكننا إلّا أن نقول تنصيص أهل اللسان دون الواضع وحينئذ فلو نص أهل اللسان باستعمال (افعل) مثلا في الوجوب أو في الندب أو في الاباحة أو القدر الجامع ونصوا أيضا بأنها حقيقة في الأول فقط أو في الجامع أو في غير ذلك وان في سوى هذا مجاز فهل تنصيص أهل اللسان حجة أو ليست كذلك؟

الظاهر هو الثاني اذ لو كان حجة لما كان وجه للاختلاف بين أهل اللسان أنفسهم فضلا عن غيرهم حيث قال بعض بالوجوب وآخرون بالندب وثالث بالاباحة وما الى ذلك وانّ في أي منها حقيقة وفي غيرها مجاز؟ واستدلال كل منهم على ما ذهب اليه يعطى بالبداهة انّ هذه الجهات نظرية والنظريات لا تكون على غير ناظرها حجة وهذا هو الوجه في عدم حجية التنصيص. إن قلت : إنّه ليس المراد بتنصيص واحد أو اثنين بل انّ المبحوث عنه هو تنصيصهم بالاتفاق وبعبارة أخرى. انّ التنصيص المتفق عليه هو الحجة دون المختلف فيه وهذا هو جهة المقام. قلت : هذا احالة الى المجهول اذ انّى لنا باثبات موارد اجماعهم في المقام ولو فرض فما هو الوجه في حجية هذا النحو من الاجماع؟ لوضوح انّ حجيته انّما هي باعتبار قول المعصوم على اختلاف المباني وفي الأحكام الفرعية دون الموضوعات العرفية واللغوية التي

٨٤

ليست هي من وظيفته عليه‌السلام والمتحصل ان العلامة الأولى لم يعلم له وجه الحجية.

٢ ـ التبادر

والمراد به سبق المعنى الى الذهن فكل معنى سبق الى الذهن من اللفظ عند سماعه كان هو الحقيقي الموضوع له اللفظ وما لم يسبق كان مجازا غير موضوع له. فالسبق والتبادر علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز.

أقول. إنّ التبادر على ثلاثة أقسام. حاقي واطلاقي وانصرافي. أما الأول فهو سبق المعنى من حاق اللفظ ووضعه من دون دخل أمر آخر فيه. والثاني. هو سبق المعنى الى الذهن عند اطلاق اللفظ من دون قيد وقرينة فالتبادر مستند هنا الى الاطلاق لا الى حاق اللفظ كإطلاق لفظ الماء الذي يسبق منه الى الذهن جسم مائع سيال بارد بالطبع ولكنه قد ينجمد عرضا ويصير ثلجا إلّا انه مع ذلك ماء ولم يقع فيه استحالة. والثالث. هو انصراف الذهن الى معنى مخصوص عند سماع اللفظ بواسطة القرائن كاللحم فإنّه وضع في مقابل العظم ولكن اذا قلت لعبدك اشتر اللحم فينصرف ذهنه بحسب القرائن الى لحم الغنم فيشتريه وإن كان فيه بعض العظم.

أما القسم الأول فهو علامة الحقيقة. دون القسم الثاني فإنّ استناد السبق انّما هو الى الاطلاق وإلّا فالثلج ماء أيضا وكذا الذهب فإنّه جسم جامد وذائبه ذهب أيضا ولكن الذهن ينصرف عند اطلاقه الى خصوص الجامد. وأما الثالث فحاله أسوأ من الثاني لانصراف الذهن الى المعنى بواسطة القرائن والضمائم.

فحينئذ لا بد من النظر في أن أي قسم من هذه الأقسام يكون عندهم علامة الحقيقة. فإن أرادوا القدر الجامع من بين الأقسام وانّ تبادر الجامع هو علامة الحقيقة فهذا أعم والأعم لا يدل على الأخص لوضوح عدم دلالة في الحيوانية على الإنسانية.

٨٥

وإن أرادوا المعنى الأول وهو المستند الى حاق اللفظ ففيه انّه مفض الى الدور لتوقفه على المعرفة بالحقايق المستندة الى الوضع والى حاق اللفظ فكون معنى منوطا بحاق اللفظ هو عين المعرفة بوضع اللفظ فلو كان معرفة المعنى الحقيقي متوقفا على التبادر الحاقي كان ذلك دورا.

والتخلص عن الدور بأن المعتبر في معرفة الحقيقة هو التبادر عند أهل اللسان في حق الجاهل بالوضع لا التبادر عند العالم به غير مفيد اذ نقول هذا التبادر عند أهل اللسان هل هو التبادر العام؟ فيعود الاشكال المتقدم أو الحاقّي فيرجع معناه الى العلم بأن أهل اللسان يتبادر الحقيقة الى أذهانهم وهذا فرع التنصيص فرجع الى التنصيص الذي عرفت حاله سابقا للزوم تصريحه حينئذ بحصول هذا التبادر عنده.

وما أجيب به أيضا بالاجمال والتفصيل فيرد عليه أيضا بأنّ المجمل لا يحصّل العلم بالمفصل ولو قلت : انّ المراد هو ان بعد الرجوع الى الاجمال ينتقل الى التفصيل قلنا هذا أيضا يرجع الى الدور. والحاصل ان التبادر أيضا لا يمكن الركون اليه في تشخيص الحقيقة.

ولا بأس ببيان فائدة في المقام تكميلا لمحل الكلام. وهي. ان تشخيص كل من التبادر الحاقي والاطلاقي أصعب من تشخيص الانصرافي فإنّه يحصل العلم به من موارد الاستعمالات دونهما فإنّهما لا يستندان الى أمر زائد ولذا فينبغي الدقة والتأمل بين الأقسام. مثلا. انّ البيع له آثار اطلاقا وله آثار ذاتا فاللزوم فيه من آثاره عند الاطلاق فإذا أطلقه من غير قيد لزم ولكنه يرجع بالشرط الى الجواز وهذا لا ينافي ذات العقد بل ينافي اطلاقه وأما حصول الملكية فهو من آثار ذات العقد فإنّه مقتضاها. والحاقّ في محل الكلام كذلك فمخالفة الاطلاق ليست مجازا بخلاف مخالفة الحاقّ فإنّه موجب للتجوز. مثلا. انّ العموم الحكمي وكذا الاطلاق لا يستندان الى عموم اللفظ المفرد. اذ البديهي ان الجمع المحلّى باللام مفيد للعموم بالنسبة الى أفراده

٨٦

وكذا الرقبة فإنّها مطلق مع قطع النظر عن القيد فيشمل المؤمنة والكافرة على سبيل البدل. ولا فرق بين وجود حكم في الكلام وعدمه ولكن بعد تعلق الحكم يتحلّى العموم الموضوعي بالعموم الحكمي وكذا في الرقبة ولكن قد يلتبس الأمر في أنّ العموم الحكمي هل يستند الى وضع اللفظ أو الى الهيئة التركيبية؟ فلذا ذهب جمع الى التجوز في مورد العام المخصص. ولكن يرد عليه ان عموم الحكم غير مستند الى عموم اللفظ المفرد فالتخصيص لا يوجب تجوزا. نعم يصح استناده الى الهيئة التركيبية وهذه الهيئة التي سببها إمّا الاسناد الوقوعي وإمّا النسبة الحملية فهل يكون وضعها على نحو تكون تلك النسبة فيها على وجه العموم أو انّ عموم الحكم انّما هو باعتبار المورد؟ والحق ان سريانها على وجه الاقتضاء.

ولكن الالتباس يزول بالتأمل اذ كما تجري أصالة الحقيقة عند الشك في مراد المتكلم من حيث نصب القرينة واختفائها فكذلك في المقام يجري اصالة العموم والاطلاق بالنسبة الى عموم الحكم واطلاقه. فكل من التبادر الحاقي والاطلاقي يوجب حمل اللفظ على معناه المتبادر والاختلاف بينهما في الثمرة من حيث التجوز فإنّ في مورد الحاقي يلزم قيام القرينة على عدم العلاقة ولكن الاطلاقي لا يحتاج الى قرينة لعدم ارادة خلاف المعنى الموضوع له بل انّما أريد خلاف اللفظ فلذا لا فرق بين التخصيص الكثير أو القليل وانّما قلنا هذا لدفع توهم بعض ومصيرهم الى أن تخصيص أغلب الأفراد موجب للمجاز.

وأما الانصرافي وهو فيما اذا شك في انّه هل أريد المعنى المتبادر أو غيره فينصرف الى المتبادر ما لم تقم قرينة على الخلاف فعدم التبادر وإن كان غير دال على التجوز كما انّ التبادر ليس علامة الحقيقة إلّا أنّ الأثر الذي هو بمعنى الأخذ بالمتبادر موجود ثابت فالأمر في الانصرافي واضح وأما في الاطلاقي فترتفع الشبهة بالرجوع الى موارد الاستعمالات والعجب من صاحب المعالم حيث قال بوجود اللفظ الموضوع

٨٧

للعام ومثل له بالنكرة في سياق النفي.

٣ ـ صحة السلب وعدمها

فالأول جعل علامة للمجاز والثاني للحقيقة.

والتحقيق. انّ السلب على ثلاثة أقسام. فتارة يصح السلب باعتبار عدم كون المعنى حقيقة هو الموضوع له اللفظ فتقول في الرجل الشجاع انّه ليس بأسد وهذا حقيقة الجهة التي ذكرت وأخرى يكون صحة السلب باعتبار ضعف في المصداق بالنسبة الى جهة خاصه كما تقول للبليد انّه ليس بانسان اذ الانسان لا بد وان يكون له ادراك ولو عاديا وهذا سلب ادعائي باعتبار ضعف ادراك البليد وثالثة تكون صحة السلب باعتبار كمال في المعنى فوق طبيعته النوعية كما في الآية الشريفة حكاية عن نساء مصر (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(١).

اذا عرفت ذلك فنقول. هل انّ صحة السلب علامة للمجاز مطلقا وأعم من الأقسام الثلاثة؟ أو هو سلب مخصوص فإن كان الأول ففيه انّ العام لا يدل على الخاص كما سبق في التبادر واما إن كان المراد به هو السلب الحقيقي باعتبار الوضع فيرد عليه ان قولك : (الرجل الشجاع ليس بأسد) متوقف على معرفة المعنى الموضوع له من غيره حتى يصح لك السلب والاثبات وهذا يستلزم الدور كما هو واضح فإنّ المدعى هو توقف المعنى المجازي على صحة السلب والحال ان صحة السلب كما عرفت متوقف على معرفة المعنى المجازي حتى يصح سلبه عنه. فإن قلت : انّ المراد هو السلب عند أهل اللسان. قلت. فرجع الاشكال المتقدم في التبادر. لتوقف ذلك على الاستظهار من أهل اللسان وانّه سلب ادعايي أو تحقيقي فعاد الأمر

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٣١.

٨٨

الى التنصيص الذي عرفت عدم اعتباره. وان أرجعته الى الاجمال والتفصيل بأن نعلم اجمالا أنّ الصحة السلب موجودة ولكن لا ندري من أي قسم من الأقسام الثلاثة فهذا أيضا كما ترى اذ المفصل لا يحصل من المجمل. فالمتحصل انّ صحة السلب ليس علامة التجوز ان كان مطلقا وامّا إن كان مع القيد فهو مستلزم للدور.

وأما عدم صحة السلب. فهو أيضا يتوقف على معرفة المعنى الموضوع له من غيره حتى يصح اثبات الاسناد وعدم صحة السلب وهذا أيضا مرجعه الى ما سبق من الاشكال ولا يفيد هذه العلامة ما دمت مترددا في انّ الاثبات مستند الى الوضع أو الى العلاقة.

٤ ـ الاطراد

وقد جعلوه علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز.

ويرد عليه. أولا. إنّا قد ذكرنا سابقا ان عدم الاطراد هو دليل البطلان لا التجوز فانّ المجاز لو كان انّما هو فرع العلاقة ووجود العلاقة دليل على اطراد الاستعمال كالشباهة التامة في أظهر الخواص حيث انّها كلما وجدت كان الاطراد حاصلا.

ودعوى انّ الشباهة التامة هي علة تامة للاطراد دون العلائق المرسلة التي ليست إلّا مقتضيات فقد ظهر الجواب عن هذه الدعوى مما تقدم سابقا من انّه كما يكون الوضع علة تامة للصحة فكذلك لا بد وان تكون العلائق أيضا كذلك فلا بد وان تكون هي أيضا مطردة ومع ذلك لا يبقى مجال للمقتضي والاقتران بالمانع وتوضيح ذلك. انّ الاستعمال المجازي مرجعه الى وجود اتحاد بين المعنيين حتى يصح الاتيان بغير ما وضع له باعتبار الموضوع له. فلو ثبت الاتحاد المذكور فلا بد وان يثبت

٨٩

الاطلاق والحمل بطريق أولى بالبيان الذي تقدم في أول مبحث الحقيقة والمجاز.

وأما الاطراد. فليس دليل الحقيقة ولا دليل المجاز. بل الدليل هو كون الشيء جامعا لأمر ما واستناد هذا الأمر الى ذلك الجامع سواء كان حقيقة أم مجازا فكما انّ استعمال الأسد مطرد في الحيوان المفترس فكذلك يصح ويطرد فيما وجدت فيه الشباهة في أظهر الخواص سواء كان هو الرجل الشجاع أو الحيوان كذلك فالاطراد أيضا ثابت في طرف المجاز كما يثبت في طرف الحقيقة. فالاطراد دليل الجامعيّة واستناد الشيء الى ذلك المعنى الجامع فيشمل مصاديقه سواء كان بالنسبة الى ذلك الجامع على وجه الحقيقة أو المجاز. والحاصل. انّ الاطراد ليس مشخّصا للحقيقة عن المجاز بل هو يفيد الجامع أي اللفظ وباعتبار الجامع يشمل الحيوان المفترس وغيره ـ وأما كون الجامع هو ما وضع له أولا ـ فلا بد وان يحصل العلم به من جهة غير هذه الجهة.

تقسيم اللفظ

اذا كان كل من لفظين معناهما واحدا فهما مترادفان وإلّا فمتباينان سواء اتصلا أم انفصلا والأول كالصفة والموصوف واما إن اتحد اللفظ وتكثر المعنى فهو مشترك ثم ان كل واحد من الألفاظ امّا ان يبقى استعماله فيما وضع له وإمّا ان يكون مهجورا عنه بل يستعمل في غيره استعمالا غالبا فهو منقول.

والتحقيق ان هجر الاستعمال لا يوجب نقل اللفظ عن ما وضع له الى غيره لوضوح ان الهجر ليس سببا لبطلان الوضع كما ان غلبة الاستعمال ليست سببا للوضع (المعبر عنه بالوضع التعيني في كلماتهم) فإنّ التعيّن غير الوضع اذ معنى التعين هو ان الاستعمال الثاني يكون معهودا في الذهن بواسطة الشيوع وإلّا فلا معنى للقول بأنّ

٩٠

التعين وضع نعم له أثر الوضع وتبدل الواقع منوط برفعه والوضع لا يرتفع بسبب الهجر ولذا كان الثاني خلاف المتبادر وإن كان الأول محتاجا الى القرينة.

ثم ان المنقول منقسم الى الشرعي والحقيقي والعرف العام والعرف الخاص. ولكن لا يخفى انّ الوضع الجديد لا يوجب بطلان الوضع الأول نعم يكون مهجورا وكثرة الاستعمال في الثاني لا يوجب وضعا ولو فرض وضع جديد فإنّما يكون من المشترك ومن باب وحدة اللفظ وتعدد المعنى.

٩١

الترادف

أما البحث عنه في مرحلة الامكان فهو أمر لا ينكر وأما الوقوع الخارجي فغير معلوم وذلك بحسب التتبع في موارد الاستعمالات فان ما ادعى كونه مترادفا هي ألفاظ متقاربة المعاني يفترق كل منها عن الآخر بخصوصية في مورده فهنا ألفاظ مختلفه باعتبارات متعدد كالرقبة والجيد والعنق. فإنّ اللفظ الأول مورده العتق والثاني مورده الزينة والثالث مورده المد والضرب وهكذا البشر والانسان فالأول باعتبار البشرة والظاهر الذي هو من قوام معاشهم والثاني باعتبار انسه وتعلقه بأفراد نوعه وكذلك الادراك والعلم والفقه والفهم. الى غير ذلك.

فإن قلت. إنّ هذه الدقائق الواقعة في بعض الألفاظ مما لم يلتفت اليها أهل اللسان ولو كانت من وضع الواضع لزم التوجه اليها والاتيان بها في المحاورات والمكالمات مع ان العرف يرى الترادف في أمثال ذلك ولو اختلفت هذه الألفاظ لزم النظر اليها حين الاستعمال مع عدم تفطنهم الى هذه الخصوصيات. وهذا دليل وقوع الترادف.

قلت. لا يلزم الالتفات الى هذه الخصوصيات في مورد الاستعمال بالتفصيل والاحاطة بتمام جهات المستعمل فيه بل العلم الاجمالي كاف في المقام كما ان أهل الفصاحة كانوا متوجهين الى بلاغة القرآن وفصاحته مع انّه لم يكن ذلك توجها تفصيليا فلم يقدروا على الاتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا والحاصل انّ اللغات الأصلية التي هذه الخصوصيات محفوظة فيها مما لا يمكن القول بعدم تفطن الواضع لها. وذلك لعدم ثبوت الوضع أوّلا وان دلالة الألفاظ على معانيها هل هي بالمناسبة الذاتية أو بالوضع وقد عرفت فيما سبق انّ منكري المناسبة الذاتية تمسكوا

٩٢

بالضرورة وإلّا لزم حصول المعنى من اللفظ بمجرد استعماله من غير احتياج الى أمر آخر. ولكنك لا يذهب عليك انّ القائل بالمناسبة الذاتية لا يريد ذلك بل معناها عنده انّ هذه المعاني والخصوصيات من خواص اللفظ ولوازمه الذاتية وإن لم يحصل العلم بها إلّا بالتجربة والممارسة. كما في الأدوية مثلا حيث لها خواص ومنافع ولكن الالتفات اليها متوقفة على التجربة والتدريب فالخاصية لم توجد بسبب التجربة والذي يحصل بها هي التفطن والالتفات الى ذلك فالقائل بالمناسبة الذاتية لا يقول بأنّه يلزم بمجرد سماع الألفاظ الانتقال الى معانيها بل يدعى انّها لها ارتباط بالمعاني ولكنها تحتاج الى إفادة علم بها من قبل العارف المطلع عليها. فلا يدعى الضرورة حتى يناقش بالضرورة.

وعلى كل حال. فإن قلنا بالوضع فلم يعلم انّ الواضع هو الله سبحانه وتعالى أو من الهم منه أو غير ذلك والحاصل ان الخصوصيات المشار اليها لم يلزم أن يكون واضعها واضعا متعارفا ساذجا حتى يقال بأنّه قد جعل ألفاظا وأسماء من دون ارتباط له بالخصوصيات والدقائق. فنحن حتى فيما اذا قلنا بالوضع فنقول بأنّه لا منافاة في ان يكون الواضع من له التوجه التام بالخصوصيات وان لم يلتفت اليها أهل اللسان وأرباب المحاورات سيّما مع اختلاف مراتب أهل اللسان فانّ بعض الكلمات قد يلحق بكلام الله سبحانه وتعالى بسبب كمال حذاقة المتكلم كما في مورد الأنبياء والائمة سيما سيد الفصحاء وامام البلغاء أمير المؤمنين سلام الله عليه وآله الطاهرين. وتارة يكون المتكلم في أدنى مدارج السفاهة والحماقة فيصدر منه كلام مثله كما في مورد أبي مسيلمة الكذاب التي حفظ التاريخ والأثر كلماته القبيحة المضحكة. وبين المرحلتين متوسطات.

٩٣

الاشتراك

عمدة ما استدل به على ثبوت الاشتراك اللفظي هو وجود أضداد مع انه لا جامع بينها فلا بد امّا أن يكون أحد الضدين حقيقيا والآخر مجازيا اذ فرض اللفظين سيان يوجب القول بالاشتراك مع انّ فرض الجامع غير متصوّر بين الضدين.

أقول. يلزم ان يكون بين كل متقابلين ضدين كانا أو نقيضين قدر جامع وإلّا لم يبق معنى للتقابل فإنّ العلم والجهل متقابلان وهما حالتان بالنسبة الى الذهن والجود والبخل حالتان تعرضان النفس والحيض والطهر وغير ذلك فالتقابل فرع اجتماع المتقابلين في جهة واحدة وإنّما التمايز بينهما في خصوصيات فما لم يجتمعا لم يتقابلا. غاية الأمر انّه قد يكون لجامع المتقابلين اسم كاللون وقد لا يكون له اسم كما في النحو حيث يقال انه علم بأحوال أواخر الكلم اعرابا وبناء. مثلا ان الجامع بين الخبر والانشاء هو الكلام اذ هو ان كان اذعانا للنسبة فتصديق وإلّا فتصور. أو تقول الكلام إما يحتمل الصدق أو الكذب.

فلا بد في الاضداد من جامع فإذا استعمل كان تعين أحدهما بسبب القرينة ومن هنا ظهر انّه لا مجال لانكار الاشتراك وأما اثباته فهو أيضا في غاية الاشكال فإنّه قد لا يمكن تصور جامع مثل (ما الموصولة. وما النافية. وما الاستفهامية وما المصدرية). وأما المولى فقد عدّه الفخر الرازي من المشترك وهو خطاء محض وجهل صرف أو تجاهل منه فإنّ المولى (مفعل) فهو اسم مكان أي محل الولاء فهذا كما يشمل السّيد الذي هو محل للولاء فكذا يشمل العبد فانّه أيضا محل لولاء المولى فالولاية له طرفان الوالي والمولى عليه وهما يكونان محلا لولاء الغير فلذا يستعمل في الدعاء (عبدك ومولاك) في حق كل من السيد والعبد فلا يكون مشتركا لفظيا وكذا في حق ساير معانيه فلذا يطلق على المعتق بالكسر والمعتق بالفتح وعلى الناصر والمنصور وعلى كل من الحليفين.

٩٤

الحقيقة الشرعيّة

اللفظان ان اتحدا معنى فمترادفان وان اختلفا فمتباينان انفصل أحدهما عن الآخر أو اتّصلا وكل من المترادفات والمتباينات ان اتحدت معنى فهي متحدات وإلّا فمشتركات فالاشتراك يجمع مع الترادف والتباين. ثم ان انتقل اللفظ الى معنى آخر فاللفظ منقول والأول منقول منه والثاني منقول اليه وقد يكون من باب العرف العام أو الخاص.

وقد سبق منا انّ النقل لا أصل له فإن هجر الاستعمال في المعنى الأول لا يكون سببا لبطلان الوضع واشتهاره في المعنى الثاني ليس وضعا جديدا فالتعين بحسب كثرة الاستعمال وإلّا فهو ليس وضعا إلّا مسامحة ثم ان هنا مبحثا وهو ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه. بمعنى انه هل اشتهار الاستعمال في المعاني الشرعية قد بلغ الى التعين في زمان الشارع أو لم يبلغ؟

أما صاحب المعالم فقد قرر النزاع فقال لا شبهة في ان الشارع استعمل ألفاظا في غير المعاني اللغوية وهذا الاستعمال مردّد بين المجازي وبين الوضع الجديد فإن كان الثاني فهو الحقيقة الشرعية وإلّا فلا والثمرة بينهما واضحة. وقال غيره غير ذلك.

والحق تبعا لبعض المحققين. ان استعمال الشارع الألفاظ المخصوصة في غير المفاهيم اللغوية محل تأمل بل منع فإنّ الشارع لم يوجد تغييرا في مفهوم المعنى اللغوي بل إنّما أوجد مصاديق لذلك المفهوم فالمفهوم اللغوي باق ولكن الشارع قد جعل مصاديق لها لم يعرفها العرب قبل ذلك وهذا كالتعظيم الذي له أفراد ومصاديق ثم يقول رئيس الجيش انّ التعظيم عندنا هو الضرب بالرجل على الأرض أو رفع البندقية أو رفع الكف بحذاء الأذن وهكذا وكذلك الحال في المقام فالشارع قد اخترع في عرفه مصاديق لذلك المفهوم اللغوي المعروف عند أهل اللسان مع ابقائه المفهوم

٩٥

بحاله كما في الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك.

ولا يخفى انّ هذا الكلام غير ما هو منسوب الى الباقلاني فانّه يقول ببقاء المفهوم اللغوي وإنّما الشارع وضع شرائط وحدود لتلك المفهوم فلم يتصرف في مفهوم اللغة لا وضعا ولا مصداقا ولكنا نقول انه جعل مصاديق لمفهوم اللغة والحاصل ان جعل المصداق أمر وتغيير وضع اللفظ الى معنى آخر أمر آخر.

وعلى ما ذكرنا فثمرة النزاع موجودة أيضا وهي انّه لو ورد هذا المصداق في كلام الشارع ولم نعلم انّه هل أراد عين ذلك المفهوم اللغوي أو أراد هذا المصداق الجديد الذي جعله لذلك المفهوم فإن كانت قرينة على أحد الطرفين فهو المراد وإلّا فلو شك كان الشك في المأمور به وتقريره ان هذا اللفظ بمفهومه اللغوي ثابت عموما ولا ندري هل هو منطبق على المصداق المعهود من الشارع أو لا؟ ففي بعض الموارد كانت القرينة موجودة كقوله تعالى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(١) واما في مثل صلاة الميت فإن جعلناها دعاء كانت باقية على مفهومها اللغوي وإلّا فعلى المصداق الشرعي المعنون بعنوان الصلاة فاللازم حينئذ الرجوع الى الموارد وإلّا فالتوقف.

الصحيح والأعم

هل هذا النزاع متوقف على الحقيقة الشرعية أو ليس كذلك؟ امّا على القول بعدم الحقيقة الشرعية وعدم وضع جديد فلا مجال للقول بالصحيح أو الأعم الشرعيين لعدم وجود وضع من قبل الشارع فلذا اذا كنا غير قائلين بالحقيقة الشرعية فلا بد من الأخذ بالصحيح والأعم العرفيين فالنزاع يتطرق في كل من

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٠٣.

٩٦

المبنيين أعني الحقيقة الشرعية والعرفية.

ثم انه على القول بالصحة الشرعية فهل الصحة تشمل الصحيح الجامع للاجزاء والشرائط أيضا أو الجامع للاجزاء فقط أي الصحة هل هي بالنسبة الى الأجزاء أو الى الشرائط والأجزاء. فإنّ الصحيح قد يؤخذ في قبال الفاسد فإذا جمع الأجزاء كان صحيحا وإلّا فاسدا وقد يؤخذ في مقابل الباطل فإذا استكمل الشرائط فصحيح وإلّا فباطل. أما على القول بأنّ الصحة ما كان بالنسبة الى الأجزاء والشرائط فلا بد من النظر في ان مدخلية الشرائط بالنسبة الى أي مرحلة؟ حيث ان من الشرائط ما هي وجودية كنصب السلم وبعضها شرائط للامتثال كشرائط العبادات لتوقف الصحة والإجزاء عليها وإنّما الأمر بعد وجود الموضوع فما لم يكن موضوع لم يكن أمر اذ لا يعقل دخل جهات معتبرة في مرحلة الامتثال في موضوع الأمر فلا يمكن أخذ الشرائط في مرحلة الامتثال قيدا ولو في موضوع الأمر للزوم تحقق موضوع الأمر قبل الأمر فإذا لحق الأمر كان للبحث عن الصحة والامتثال مجال فيستحيل تقيد الموضوع بصحة الشرائط وأما في مورد الصحة في الاجزاء فهل الصحة تتوقف على تحقق الاجزاء كاملا أو هو أعم من الناقص والكامل؟

فنقول. إنّ الصحة والفساد أمران متقابلان والمتقابلان فرع وجود الجامع بينهما فلو كانت الصلاة متقيدة بالصحة فغير المقيدة منها ليست بصلاة أصلا لا ان يكون فاسدا والمعلوم ان الأثر أثر الصحيح لا الفاسد واللازم وجود جامع بين الصحيح والفاسد حتى يقبل وصف الصحة والفساد ولو فرضنا ان المقوّم هو الصحة بالنسبة الى الاجزاء فالناقص لا يتصف بذلك.

والحاصل انّه لو فرض الجامع فهو المطلوب وإلّا فوضع الاسم للمركب المخصوص غير مفيد فإنّه لو انتفى التركيب لزم ان لا يكون فاسد في البين.

والمتحصل ان الصحة والبطلان والصحة والفساد فرع وجود الجامع وإلّا لم يكن

٩٧

تقابل وورود أحد المتقابلين فرع قبول المحل لمتقابل آخر فالعلم يثبت لمن من حقه الجهل. فالصلاة ان فرض لها جامع وفرض وضع الجامع للصحيح مع قيد استكمال الاجزاء فلا مجال مع ذلك لفرض الفاسد.

ودعوى التبادر بالنسبة الى الصحيح. غير مسموعة. اذ التبادر انّما هو حجة حيث لم يكن دليل قاطع على خلافه. على انّه سبق منا ان مجرد التبادر ليس دليلا. وثانيا فلو أغمضنا النظر وجعلناه منشأ وحجة لكن الدليل هنا موجود على خلافه فلم يبق مجال لهذا المستمسك بل وكذا لسائر ما تمسكوا به التي منها صحة السلب عن الفاسدة. وذلك لا مكان كون النفي لنفي الكمال ومجرد صحة السلب مطلقا ليس دليل المجاز كما ان التبادر ليس علامة الحقيقة مطلقا. وظهر بهذا انّه لا مجال لهذا النزاع وعليه فلا محل للتعدي الى المعاملات بالبيان السابق اذ الأمر دائر بين الوجود والعدم فانّه لم يقع معاملة (فيما كان مقومها الصيغة) لا انّه وقعت فاسدة اذ محل هذا الكلام إنّما هو فيما اذا كان جامع بين الصحة والفساد. كما عرفت.

٩٨

مبحث الأوامر

تعريف الأمر

إنّ البحث في مادة الأمر ليس من جهة ان الأمر وضع لأي شيء ـ كما تخيله بعضهم ـ بل من جهة التعريف له في علم الأصول. لئلا يخلو هذا العلم من تعريف للأمر الذي هو من مهمات مباحثه.

فاعلم انّه قد يكون الأمر في مقابل الخلق كقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)(١) وحينئذ يكون المقصود هو مطلق تشريع الشرع الأعم من الايجاب والتحريم أو الندب أو الكراهة أو الاباحة فلا اختصاص له بالأمر المقابل للنهي ومنه أمير الجيش وأمير البلد وأمير المؤمنين عليه‌السلام حيث ان لهؤلاء أوامر متنوعة مختلفة من الأحكام التكليفية الخمسة بحسب حالهم وامارتهم.

فالأمر قد يشمل الخلق ومطلق الشرع وقد يكون سؤالا من قبل العالى فيكون أمرا وقد يصدر من المساوى فيكون التماسا ومن الداني فيكون دعاء وسؤالا فليس المقصود من هذه ما يقابل النهي فإنّ السؤال أعم من طلب الفعل وطلب الترك كما انّ الأمر المقابل للسؤال أيضا أعم.

وقد يكون الأمر مقابلا للنهي. وهذا هو المبحوث عنه في المقام أعني طلب الفعل من العالي على سبيل الاستعلاء وهذا الأمر المبحوث عنه في علم الأصول

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ٥٤.

٩٩

عبارة عن الحكم التكليفي الأعم من الوجوب والندب فباعتبار منقسم الى قسمين وباعتبار آخر على ثلاثة أقسام وباعتبار ثالث على خمسة أقسام ـ كما تقدم ـ

فالبحث الأصولي إنّما هو في مورد الأمر والنهي التكليفيين المولويّين الواقعين مقدمة للفقه.

فتعريف الأمر بطلب الفعل هو المبحوث عنه في علم الأصول.

وبتعبير آخر ـ ظاهر طلب الفعل والترك انهما من سنخ واحد والتقابل بينهما إنّما هو باعتبار تقابل متعلقيهما وانّه فعل أو ترك مع انّ الأمر والنهي بالضرورة متعلقان بالطلب. فالأمر والنهي في حد أنفسهما متقابلان وذلك للتقابل الواقع بين البعث والأمر وبين الردع والزجر ـ وانّما الاختلاف في الاقتضاء فامتثال الأمر انبعاث والنهي انزجار ـ فهما متقابلان ذاتا ومتحدان متعلقا ومختلفان اقتضاء.

فالتعريف الموجود لكل من الأمر والنهي فاسد. وتصحيحه :

ان نجعل هذا التعريف تعريفا للازم الأمر والنهي لا لأصلهما حيث انّ المطلوبية للفعل لازم البعث كما ان لازم الزجر والنهي مطلوبية ترك الفعل وحينئذ فالتعريفان صحيحان بهذا اللحاظ وباعتبار اللازم.

ولمزيد التوضيح نقول :

إنّ تعريف الأمر بطلب الفعل. والنهي بطلب الترك إنّما هو تعريف باللازم ولو كان تعريفا حقيقيا للزم منه اختلاف متعلق الأمر والنهي ولزوم التقابل بين المتعلقين دون أصل الأمر والنهي بل يكونان حينئذ من سنخ واحد مع ان من البديهي كون الأمر بعثا والنهي زجرا وهما متقابلان بل لا مجال لان نعتبر الأمر والنهي متقابلين باعتبار المعنى والتركيب فانّ البعث والزجر يمكن تعلق كل منهما بالفعل أو بالترك ، فالتقابل بين نفس الأمر والنهي انّما هو مع قطع النظر عن المتعلق ، بل من البديهي انّ المتعلق في (اضرب) و (لا تضرب) متحد مع ان المقتضى في البعث والزجر في

١٠٠