بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

على فرد معين باعتبار الاقتران بحرف التعريف أو الاشارة أو الموصول والضمير.

وبعبارة أخرى. انّه فرق بين ما اذا أريد المعنى الخاص ابتداء مع كون الاستعمال في ذلك المعنى وبين ما اذا أخذ مفهوم عام إلّا انّه بسبب الاقتران بأحد المذكورات انطبق ذلك المفهوم العام على فرد معين. فلا احتياج الى قسم ثالث بل لا محل له ولا مجال ولا يتأتى محذور المجازات بلا حقايق فإنّ الاستعمال انّما هو في المفهوم العام وهو الموضوع له وقد حصل الانطباق على الفرد المعين من ناحية الاستعمال.

وأسماء الأجناس قد وضعت للجنس ولكن لا بقيد انّه عام بل لا بشرط ويمكن تقيّده بفرد معين كما انّه يمكن أن يكون بشرط لا بأن لا يكون النظر الى فرد معين كاسم الجنس المعرّف بلام الجنس والحاصل انه لا منافاة بين كون كل من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عاما وبين كون الخصوصية من جهة الاستعمال بتعيينه في فرد معين بواسطة المعنى الحرفي وقد صرّحوا بأنّ أسماء الاشارة والضمائر والموصولات أسماء مبهمة تضمنت معاني حرفية وهذا المعنى الحرفي هو السبب لتعين المستعمل فيه في فرد معين ـ وبالأخرة فانّ اللفظ قد استعمل في معناه العام من دون تناف بين ذلك وبين عموم الموضوع له اذ العموم بقيد انّه عموم ليس جزءا للموضوع له فانّه معنى اسمي فلا مانع من أن يكون التعين من قبل المعنى الحرفي أو ضميمة أخرى.

اكمال. الأعلام قسمان شخصية وجنسيه وقد خفى الفرق بينهما على بعضهم حتى إنّ الشارح الرضي قال بأن التعريف للعلم الجنسي لفظي أي ليس معرفة واقعا كتقسيم المؤنث الى معنوي ولفظي فكما ان حكم التأنيث أعطى للدار والشمس والأرض مثلا من دون أن يكون حقيقة تأنيث فكذا التعريف في العلم الجنسي. ولكن بعض النحاة قد تنبه للتحقيق وحاصله ان علم الجنس من قبيل اسم الجنس المعرف بلام الجنس والفرق بين اسم الجنس وبين اسم الجنس المعرف انّ الثاني

٤١

يعرّف الجنس في مورده من حيث انّها جنس وأما الأول وهو اسم الجنس فهو ما فيه الصلاحية لكل فرد من الأفراد.

ولذا لا يكون المنظور في (الرجل خير المرأة) فردا معينا ولا يصح ارادة ذلك منه وانّما التفضيل بين الجنس من حيث هو جنس على الجنس الآخر كذلك. وعلم الجنس عبارة عن جنس يتعين من حيث انّه جنس ولذا فلا تعدد فيه اذ التعدد انما هو باعتبار الأفراد فإذا لم يكن فيه تعدد كان معرفة فحاله في التعريف حال العلم الشخصي.

وحاصل الكلام. انّ كون المستعمل فيه عاما كما في أسماء الأجناس لا ينافي تعينه من ناحية الاستعمال في فرد معين وذلك باعتبار ان اسم الجنس وضع للجنس لا بشرط. ويظهر وجه ذلك من موارد استعماله ولم يتوهم أحد التجوز في هذه الموارد. فإنّ اليوم في (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(١) قد استعمل في معناه العام ولكن التعين جاء من قبل حرف التعريف وهو معنى حرفي ولا يجامع العموم فالتنافي انّما يكون لو كان الوضع في اسم الجنس بشرط العموم. وهذا الكلام جار بعينه في الاشارة والموصول والضمير. فلا مجال لتوهم الخلاف.

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٣.

٤٢

المعنى الاسمي والمعنى الحرفيّ

إنّ الوصف المأخوذ في موضوع القضية اللفظية على ثلاثة أقسام. فانّه قد يكون عنوانا يدور الحكم مداره وقد يكون لتعريف الحكم فقط وقد يكون للتنبيه على عموم الحكم وأقوى هذه الأقسام وأكملها هو الأول اذ في هذا القسم يكون مفهوم الوصف المأخوذ موضوعا في الحكم موضوعا للقضية النفس الأمرية بعينه وليس كذلك القسمان الآخران أما الأول منهما فإنّ الوصف فيه وإن كان معرّفا للحكم إلّا انّه ساكت عن خصوصيات الموضوع وأما الأخير فانّه وإن كان ينبّه على عموم الحكم إلّا أنه لا يعيّن الملاك في التعميم فأكمل القضايا هي القضية المنطبقة على النفس الأمرية انطباقا يشمل جميع الخصوصيات (١).

وبهذا البيان تعرف انّ الحق الصراح في تعريف الاسم ليس إلّا ما ورد في الكلام العلوي الشريف على ما في حديث أبي الأسود الدئلي انّ الاسم ما أنبأ عن المسمى فإنّ المسمى هو العنوان وأما الواسطة في الانباء فهي علقة التسمية كما سيوافيك تفصيله في ذيل البحث عن الحقيقة والمجاز وهذا التعريف للاسم على اختصاره أجمع وأكمل من ساير ما ذكره النحاة في تعريفه وذلك لعدم سلامتها عن عدة ايرادات سيّما ما اشتهر بينهم من أنّه ما دلّ على معنى مستقل غير مقترن بأحد الأزمنة. وهكذا في الفعل والحرف حيث قالوا ان الفعل ما دلّ على معنى مستقل

__________________

(١) راجع للعثور على التفصيل كتاب (كشف الاستار) في شرح حديث أبي الأسود الدئلي. بقلم الأستاذ المحقق البهبهاني قدس‌سره.

٤٣

مقترن بأحدها والحرف ما دل على معنى في غيره. وكل هذه التعاريف مخدوشة ونذكر بعض ما فيها مع مراعاة الاختصار والتحرز عن الاكثار. فنقول :

الأول. الاسم. ويرد على التعريف المذكور له أمور :

منها. سكوت التعريف عن بيان ملاك الاسمية أعنى به القضية النفس الأمرية فإنّ الدلالة المشار اليها أمر جامع عندهم لكل من الاسم والفعل والحرف مشتركة بين الثلاثة وأما الاستقلال فمخصوص بالأولين على ما سيجيء تفصيله بعد ذلك.

ومنها. جعل فصل الاسم هو عدم الاقتران بالزمان وجعل فصل الفعل اقترانه به وهذا فاسد لورود النقض على كل منهما فلا الاقتران يكون ملاكا للفعلية ولا عدمه للاسمية واليك بعض الموارد :

١ ـ هيئة الفاعل. كالضارب فانّه وضع للذات المتلبس بالمبدإ في الحال مع انّه لا يخرج بذلك عن الاسمية.

٢ ـ أسماء الزمان والمكان.

٣ ـ الأفعال المنسلخة عن الزمان على ما اعترفوا بها والاعتذار بأنها موضوعة بالوضع الأولي للمقترن بالزمان وانّما انسلخت عنه بالوضع الثانوي غير مسموع فانّه لو سلم ذلك ولكن هي بعد باقية على الفعلية وانّما الانسلاخ عن الاقتران بالزمان فقط والحال انّ الاقتران عندهم فصل للفعل مثاله (يحيى. يزيد. يعمر) حيث كانت أفعالا فصارت أسماء بالعلمية فالاقتران بالزمان في الوضع الأول غير نافع حتى يدعى انسلاخه عنها في الوضع الثاني فإنّ الفصل لا بد وان يكون موجودا بالوضع الثاني ولفظ (شمّر) كان فعلا ثم صار علما لفرس وهكذا الجملة الاسمية مثل (زيد منطلق) فإذا صارت هذه أعلاما كانت أسماء وإن كان الاعراب السابق باقيا فيها. فالاعتذار المذكور غريب وعكس ذلك في أسماء الأفعال حيث قالوا انّها أسماء مع اقترانها بالزمان إلّا انّهم يدّعون عدم اقترانها به في الوضع الأول بل اقترنت

٤٤

به في الثاني وأنت ترى أن لازم ذلك ان تصير هذه الأسماء أفعالا كما قالوا في (شمّر) انّها فعل ثم صارت علما فانسلخت عن الزمان.

إن قلت. ان ما ذكر في (شمر) وأمثاله انّما هو باعتبار خروجها عن المعنى الفعلي حدوثا وزمانا وصيرورتها اعلاما.

قلت. لو سلمنا ذلك ولكن نقول فرق بين خروجها عن الجنس والفصل بالكليّة وبين خروجها عن الفصل فقط فهو مستقل إلّا انّه ليس له معنى حدثي. فالانسان مثلا فصله الناطق ولو صار انسان حجرا لم يبق على انسانيته أصلا وكذا لو مسخ قردة إلّا ان يقال بتغير الصورة مع انّ حقيقة الانسانية باقية.

والحاصل انّه لا فرق بين الانسلاخ عن الزمان ابتداء وبين اقترانه به ثم انسلاخه عنه والعجب في عدولهم عن هذا التعريف الجامع الكامل (الاسم ما أنباء عن المسمى) ولم يعلم لهذا العدول وجه سوى عدم التأمل في أطراف هذه الرواية المأثورة الشريفة.

وأما الفعل. فقد ورد تعريفه في الرواية بأنّه ما أنبأ عن حركة المسمى) وتحقيق ذلك أنّ الفعل مشتمل على مادة دالة على المعنى الاسمي الاستقلالي وهو الحدث وعلى هيئة دالة على نسبة.

والنسبة اللفظية وإن كانت قسمين تامة وناقصة فقولك زيد قائم تام وزيد القائم ناقص إلّا أن هذا التمامية والنقص ليس في القضية النفس الأمرية بأن يكون نسبة القيام الى زيد نوعين تامة وناقصة. بل ان منشأ التمام والنقص في القضية اللفظية هو لحاظ المتكلم وليس المنشأ لهما ما في الخارج من النسبة. بل انه لو لم يكن في اعتقاد المخاطب علم بالقضية قلت زيد قائم على وجه التمام وأما لو علمت انّه عالم بذلك فلا تكون بعده في مقام الأخبار بل تقيدها على وجه التوصيف وتجعلها مقدمة لحكم آخر فتقول زيد القائم جاءني وزارني. فالدخيل هو لحاظ المتكلم وإلّا فحقيقة

٤٥

الخبر والوصف واحدة وانّما تختلف باعتبار اعتقاد المتكلم بحال المخاطب ولذلك قال أهل المعاني انّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف معناه ان مقام الخبرية قبل مقام الوصفية. هذا هو الحال في النسبة الخبرية.

وأما النسبة فهي بحسب التتبع والاستقراء على ثلاثة أقسام. حدوثية ـ حملية ـ اضافيه. أما الثالث فهي ما كانت بواسطة احدى الحروف الجارّة وتختلف باختلاف مفاد هذه الحروف فزيد في الدار. الدار ظرف لزيد لا انّها متحدة معه أو حادثة عنه. أو تقول المال لزيد فيفيد اللام اختصاصه به فالإضافية قد تكون ظرفية أو اختصاصية أو ابتدائية نحو سر من البصرة أو بيانية أو غير ذلك.

وأما النسبة الحملية ويعبر عنها بالاتحادية فهي ما كان أحد الطرفين فيها قائما مقام الآخر فتقول زيد قائم. وبعد ذلك تقول رأيت زيدا أو تقول رأيت القائم. كل ذلك صحيح. فالنسبة اتحاديه وأما الحدوثية. فهي ما كان أحد الطرفين فيها حادثا عن الطرف الآخر كما في (ضرب) ويضرب فانّهما يفيدان حدوث الضرب من ضارب ولا بد في هذا القسم ان يكون أحد الطرفين قابلا لحدوثه من الآخر ولذا كان المبدا في الأفعال من الاحداث فلا يكون الحجر مبدأ لفعل ولو ورد مثله كان تنزيليا لا حقيقيّا نحو بال وحاضت ونحو ذلك.

اذا تبين ذلك فنقول. ان النسبة في الفعل انّما هي من قسم الحدوثية منها فتقع الحركة بالنسبة الى المسمى باعتبار هذه النسبة الحدوثية فإذا قلت ضرب زيد فهذا حركة من زيد ولكنّها ليست حسية بل نسبتها اليه باعتبار ظهورها وحدوثها منه ولذا كان مثل سكن وعدم وسكت أفعالا باعتبار ظهورها وحدوثها عنه ونتيجة ذلك ان هذا التعريف أي (الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى) جامع لجميع موارد الأفعال من دون احتياج الى الزمان لوجود هذه الحركة في كل مورد ولكن لما لم تكن هذه موجودة في مثل (شمّر) صار اسما وعلى هذا فلا تعريف أجمع وأكمل من هذا الذي

٤٦

ورد في الرواية ولم يقتبس أحد من النحاة من هذا النور الباهر سوى شارح الصمدية حيث انّه في مبحث حصر الكلمات في الاسم والفعل والحرف قال ما حاصله (انّه قيل : المعاني ثلثه ولذا كانت الكلمات ثلاثة. ذات وحدث عن ذات وواسطة بينهما).

وهذا كله مضافا الى انّ الزمان الذي ادعوا اقترانه بالفعل معنى اسمي حسب تصريحهم وليس من قبيل النسب فكيف يجامع الفعل ولذا قد تنبه عصام الدين لذلك فانّه بعد بيان ان نسبة الفعل لها ثلث مداليل الحدث والنسبة الى فاعل ، والزمان. قال بأمر رابع وهو النسبة الى الزمان ولو لا ذلك كان الزمان الخاص في النسبة غلطا. ويرد عليه. انه لا مانع من النسبة الى الزمان وأما الاقتران بالزمان فهو ممنوع فانّ دلالة الفعل عليه ليس بالتضمن بل بالالتزام.

وقد نقل السيد المحدث الجزائري في حاشيته على شرح الجامي ان كلمات القدماء من النحاة في هذا المجال مختلفة مضطربة. وانّ بعضها يوافق ما عليه المتأخرون وبعضها يخالفه. فيظهر من ذلك ان من القدماء من تفطن لذلك.

ثم انه. قد عرفت انّ الاستقلال عندهم جامع بين الفعل والاسم فهو كالجنس وأما الفصل في الأول فهو الاقتران بالزمان وفي الثاني عدمه. والمراد بالاستقلال هو انّ المعنى لو لوحظ من دون أن يكون مرآة لغيره كان مستقلا وأما لو كان مرآة لغيره فهو غير مستقل وقد مثل لذلك بالنظر في المرآة فتارة يكون النظر ملحوظا بالاصالة من دون توطئة لرؤية الصورة فيها وقد يكون آلة لرؤية الصورة. وهكذا المعنى في محل البحث فقد يلاحظ استقلالا بحيث يصلح أن يحكم عليه وبه وقد يلاحظ مرآة. وقد تنبه ابن الحاجب من الماضين وصاحب الكفاية من المتأخرين (١) بأنّه لو كان الاستقلال هنا كذلك لزم دوران الاستقلال مدار لحاظ اللاحظ فيترتب

__________________

(١) كفاية الأصول ، ص ١١ ، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧

عليه انّ المعنى المستقل الذي يدل عليه الاسم يلزم ان يكون موجودا من قبل ولازم ذلك دلالة لفظ الابتداء على الابتداء الملحوظ أصالة بحيث يكون جزء المستعمل فيه ومن البديهي انّه لا يكون جزءا كذلك. بل لا بد وان يكون كل من الاستقلالية والآلية في مرحلة الاستعمال فلذا ذكر صاحب الكفاية ان المعنى الاسمي والحرفي في (من) وفي (الابتداء) واحد والفرق ليس من قبل الموضوع له بل في جهة الاستعمال ثم أورد هو على ذلك بأن لازمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر. وأجاب عنه. بأنّ الوجه في عدم الصحة هو اشتراط الواضع باستعمال لفظ الابتداء في اللحاظ الاستقلالي ولفظ (من) في الآلي منه (١).

ويرد عليه. هل هذا الشرط من قبيل الشروط في ضمن العقد حتى يلزم الوفاء به وهل للواضع حق لأصل هذا الاشتراط. وما المانع من مخالفة الواضع؟ فهذا غفلة عن حقيقة الحال وعن ما أفاده مولانا عليه‌السلام في تعريف الفعل. وقد اضطربوا في مسئلة المعنى الحرفي والسبب فيه هو ما قالوا انّ الحروف ما أوجد معنى في غيره فلفظ من لا يوجد الربط ابتداء بل اذا كان داخلا على البصرة مثلا في قولك سرت من البصرة مع انّه لو كان المبدئية للسير واقعا وصحيحا كان ذلك ثابتا في قولك سرت سواء قلت من البصرة أو لم تقل وان لم يصح فقولك من البصرة لا يوجب انقلاب الواقع عما هو عليه.

وحيث انجر الكلام الى هذا المقام فلنشرع بالبحث في تحقيق المعنى الحرفي وبيان ما هو الحق عندنا.

الحرف. انّهم قد ذكروا في تعريف الحرف انّه ما دلّ على معنى في غيره. ولكن لما التفتوا الى ان هذه الدلالة لو كانت على معنى كائن في الغير واقعا لزم كون جميع

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ١١ و ١٢.

٤٨

المقولات التسع معاني حرفية لعدم وجود مستقل لها. فلذا قاموا بالتفصى عن ذلك وقالوا ان المراد بقولنا في غيره هو اللحاظ في غيره بأن يكون مرآة للغير. ولا يخفى انّ هذه المحاذير والتكلفات ليست إلّا من جهة العدول عن التعريف الوارد في الحديث. نعم. ان شارح الرضي ممن أدرك هذه الحقيقة العالية لالتفاته الى ما أفاضه أمير المؤمنين عليه‌السلام في بيان الحرف والعجب من السيد الشريف الجرجاني حيث قام بردّ ما ذكره الشارح المذكور. ولا بد لنا من بسط كلام في المقام حتى يتّضح بذلك كنه المقصد والمرام فنقول وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

انّ القضية على ثلاثة أقسام. النفس الأمرية. والمعقولة. واللفظية. وكل منها مشتملة على ثلاثة أجزاء مسند ومسند اليه واسناد. أما القضية النفس الأمرية فكل من أجزائها الثلاثة من قبل نفس الأمر أي زيد في الخارج وقيام في الخارج وارتباط الثاني بالأول. فهذا ثابت في الواقع سواء تعقله أحد أو لم يتعقله. وأما القضية المعقولة فالمراد بها تصور هذه الأجزاء الثلاثة في الذهن سواء كانت واقعة أو لم تكن حصل التلفظ بها أو لم يحصل. وأما القضية اللفظية فهي التلفظ بزيد قائم ولا بد ان يكون اسنادها أيضا لفظيا كطرفيها الآخرين فاللازم ان يكون الاسناد والربط والتأليف والتركيب واقعا في اللفظ وهذا الاسناد إما يكون بالتركيب الحملي مثل زيد قائم. أو بتوسط حروف مثل زيد في الدار أو عمرو كالأسد ونحو ذلك مثل علىّ على السطح والمال لزيد. اذا عرفت هذه المقدمة :

فاعلم. ان المراد بقولنا (الحروف أدوات للايجاد) هو ايجادها الربط في القضية اللفظية فلا تتم هذه القضية إلّا بالحروف التي توجد الربط فيها فهي توجدها فيها بحسب اختلاف الموارد فما به الامتياز بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي هو انّ الأول حاك ومنبئ والثاني آلة للايجاد.

ثم ان الاستقلال الذي صرح به في المعنى الاسمي معناه انّه لا يكون آلة لوجود

٤٩

الغير وذلك بخلاف الحرف فانّه غير مستقل فيحتاج الى محل حتى يوجد الربط فيما هنالك فلا بد أولا من لحاظ طرفي الربط حتى يكون الحرف موجودا للربط بينهما مثل (زيد ودار) فيحصل الربط بينهما بأداة الظرفيّة. وأما الاستقلال في الاسم فهو عبارة عن الحكاية عن المفهوم فلا يحتاج الى محل ابتداء فالتعريف الصحيح للحرف هو ما في الرواية الشريفة من انّه ما أوجد معنى في غيره.

ومما يرد على تعريف القوم للحرف بأنّه ما دلّ على معنى في غيره (مضافا الى ما ذكر) هو انّهم ذكروا ان المراد بدلالته على معنى في غيره هو انّ المعنى الحرفي لم يلحظ أصالة بل توطئة. لكن يرد عليه. أوّلا ـ انّ المقصود الأصلي في القضية هو الإخبار بثبوت القيام لزيد أو سلبه عنه وهذا واضح فهذا الثبوت مثلا الذي هو وجه الارتباط يكون محل النظر استقلالا فصار المعنى الحرفي ملحوظا بالاصالة إذ المراد في سرت من البصرة ليس هو مجرد السير بل النظر الأصلي انّما هو الى المبدا والمنتهى وعليه فلا يكون الملحوظ في غيره توطئة. وثانيا ـ سلمنا ذلك لكن نقول انّه ما المراد بتوطئة حال الغير؟ وهل انّ الحال في البصرة والكوفة أمر سوى المبدا والمنتهى فما هو المراد بتوطئة حالهما؟

تفصيل المبحث بعبارة أخرى

إنّ كلا من القضايا الثلث المذكورة متوقف على اسناد ومسند ومسند اليه والاسناد في كل منها انّما هو من سنخ تلك القضية وكيفية التركيب ثلاثة أقسام الاسناد الاتحادي والحدوثي والاضافي. أما الأول فهو ما يحصل بين لفظين عند حصول الهيئة التركيبة والثاني هو حدوث أحد الطرفين عن الآخر فهذا لا يحصل باقتران اللفظين كيف ما كان وبضم كلمة الى أخرى بل يحتاج الى الهيئة الاشتقاقية

٥٠

الفعلية لا بهيئة الاتحاد ولا بهيئة الإضافة. وأما الثالث وهو الاضافي فهو كل ما كان غير اتحادي ولا حدوثي وهو إمّا بصورة الاختصاص كالمال لزيد أو الاستعلاء كزيد على السطح أو الابتداء مثل سرت من البصرة أو غير ذلك فهذا القسم يحتاج في تحققه الى حرف أو ما بمنزلته وإلّا لم يتحقق فالحروف هي المتكفلة لهذا القسم الأخير فيقال الحرف ما أوجد معنى في غيره. أما الفعل الذي هو ما أنبأ عن حركة المسمى فهو مشتمل على جزءين مبدأ وهيئة. والأول ما يدل على الحدث وهذا المبدا لا بد ان يكون مما يقبل الاسناد الحدوثي مثل علم وضرب وأكل فلا يصح ذلك في الاعيان فلا يقال (حجر) نعم قد يستعمل الفعل في بعض الأعيان وذلك تنزيلا مثل (بال) فانّ البول وان كان عينا خارجيا إلّا انّه حيث كان له مبدأ الاشتقاق لتنزيله منزلة الحدث بلحاظ تجدده وانصرامه. وكذلك (حاضت المرأة) بناء على تفسير الحيض بالدم لا بالحدث. أو (استحجر الطين) فهذا الاسناد الحدوثي الحاصل بسبب الفعل له طرفان مبدأ وذات. سواء كانت الذات معينة نحو (اسكن) أو مبهمة مثل (ضرب) غائبا لا انّ الغيبة قيد فيه لكنه يدل على ذات نسبت اليها الغيبة حيث انّها ليست مخاطبة بخطاب ولا تكلم. لا الغائب في مقابل الحاضر. وقد عبروا عن الذات بالمسمى لقبولها التسمية وعن الطرف الآخر بالحركة فيقال انّ الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى اذ الاسناد الحدوثي بعد انضمامه بالمبدإ يعنون بالحركة والمسمى هو طرف الحركة فالفعل مشتمل على حدث واسناد وهذا هو مقوّم الفعل اقترن بالزمان أو لم يقترن ولذا كانت الأفعال المنسلخة عن الزمان أفعالا حقيقة والحاصل ان عنوان الحركة هو طرف الحدث واذا قلت علم زيد. فحيث يبيّن اتصافه بالعلم فهذا هو عنوان الحركة وكذا نحو سكن. وأمّا هيئة الفعل. فالحروف المرتبة بهذا الترتيب الخاص كعلم وضرب وغيرهما دالة على الحدث سواء كانت بهذه الهيئة المذكورة أو بهيئة المضارع أو الأمر والجامع وهو الضرب والعلم مشترك موجود بين الجميع

٥١

فالحدث مستند الى الحروف المترتبة بأي هيئة كانت وانّما الماضي والمضارع والأمر نسب مختلفه وهيئة فعل دالة على الاسناد التحققي وهيئة يفعل على الاتصافي وهكذا فالمتحصل ان المبدا دال على الحدث والهيئة دالة على الاسناد إلّا أنّ هذا الاسناد مختلف والاختلاف بين الماضي والمضارع ليس بالزمان ولذا كان (لم يضرب) ماضيا و (إن ضرب) مستقبلا. توضيح ذلك انّ النسبة تحتاج الى طرفين وقد يقدّم مبدأ على الاسناد وتارة تقدم الذات على الاسناد فإن كان المبدا هو المتقدم فقد تحقق المبدا في الذات لا العكس. وهذا في الماضي حيث أن مبدأه متقدم وعلامة الماضوية متأخرة وهذا بخلاف المضارع فإنّ حروف (اتين) التي هي للمضارعة متقدمة على المضارع (وهكذا الحال في اللسان الفارسي مثلا مى زند أي يضرب) سواء كان التحقق ماضيا أو حالا أو استقبالا. وهكذا الاتصاف ولذا لم يخل المضارع من الاتصاف لتقوم المضارع به كما انّ التحقق مقوّم للماضي ولذا كانت بلاغة الكلام تختلف باختلاف الخصوصيات كما في العقود والايقاعات فإنّ ايجابها لا بد وان يكون بلفظ الماضي مع انّ المضارع الذي يشتمل على الحال والاستقبال أقرب الى الانشاء المعتبر في العقود والايقاعات والسرّ في ذلك انّ العاقد في مقام العقد ناظر الى التحقق لا الاتصاف وذلك بخلاف مقام الحمد والثناء مثلا فالمضارع هنا أي (أحمد وأثني) مقدم على الماضي (حمدت) حيث انّ النظر هنا الى الاتصاف بالحمد لله تعالى.

وأما الوجه في (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فهو ناظر الى الأزل والأبد لا الماضي وحده ولا في ما بعد الحال كذلك. ولا يخفى انّ الاحاطة بهذه الخصوصيات دقيقة جدا اذ بهذه وصلت مدارج الفصاحة والبلاغة الى مرحلة عجز عن ادراكها العرب مع ما هم عليه من النبوغ في ذلك ولم يقدروا على انشاء مثل ما في القرآن إذ الفصاحة والبلاغة تقبلان الادراك الى حدّ ما وأما الاحاطة التامة بهما فغير متيسّر والملاحة مما يدرك ولا يوصف.

٥٢

أحكام الدلالة

وأقسامها

ومن المباحث التي يتعرض لها بعد البحث عن الوضع هو تعريف الدلالة وبيان أقسامها والدلالة هي كون الشيء بحيث يحصل من العلم به العلم بشيء آخر وقد قسمت عندهم بالوضعية والطبعية والعقلية وكل واحد الى اللفظية وغير اللفظية فالدلالة الوضعية اللفظية كما في الألفاظ الموضوعة الدالة على المفاهيم الموضوعة لها والوضعية الغير اللفظية موردها ما كانت دلالته على شيء وضعا ولكن بدون للفظ مثل رفع الاعلام للدلالة على ثبوت العيد كما انّ في الألفاظ الموضوعة لا يفهم من اللفظ شيء مع قطع النظر عن الوضع كلفظة ديز المهملة. وأما الطبعية اللفظية كدلالة (أح أح) على وجع الصدر فهذا لفظ يدل طبعا على هذا المطلب وغير اللفظية كدلالة سرعة النبض على الحمّى والعقلية اللفظية كدلالة ديز على وجود لافظ وغير اللفظية كدلالة الدخان على النار ودلالة التغير على حدوث العالم. هذا.

وقد استشكل بعضهم انّ هذا التقسيم هل هو باعتبار سبب الدلالة أو باعتبار المدرك أو باعتبار غير ذلك؟ فإن كان بالأول فالتقسيم يصح في قسمين دون الآخر حيث انّ سبب الدلالة اللفظية هو الوضع وسبب الطبعية هو الطبع وأما العقل فلا يكون سببا لوضوح ان دلالة التغير على الحدوث غير مستند الى العقل بل انّما العقل يدرك ذلك فالتقسيم اذا لا يشمل العقلية. واما لو كان بالاعتبار الثاني أي المدرك فيرد على التقسيم انّ الوضع لا يكون مدركا. فالتقسيم على كلا الأمرين غير صحيح ولا ثالث فلا مقسم للأقسام فلهذا قد جعل بعض المحققين التقسيم ثنائيا ثم قسم

٥٣

أحدهما الى قسمين فهذا في الحقيقة جمع بين تصحيح التقسيم ووجود الأقسام. وبيان ذلك. ان الدلالة أما ذاتية أو مجعولة فإنّ الشيء إما يدل على شيء ذاتا أو بالجعل والدلالة الوضعية بالجعل وأما الطبعية والعقلية فبالذات فإنّ كل علة سبب بالذات لمعلوله وكذا كل معلول مسبب عن علته فالدلالة فيهما بالذات.

ثم ان الدلالة الذاتية تنقسم الى ذاتية نظرية وذاتية ضروريه والأول كدلالة التغير على الحدوث بناء على كونه نظريا وكذا سرعة النبض على الحمى فإنّها ليست بديهيه بل انه أمر يعرفها الطبيب. ثم ان النظرية قد عبر عنها بالعقلية لتصرف العقل في النظريات وأما الطبعية فهي في خصوص البديهية ولا اشكال في هذا البيان والتقسيم إلّا أن الأمثلة لا بد وان تعكس اذ لفظ ديز على وجود اللافظ لا يدل نظريا وكذا يلزم ان يكون سرعة النبض عقلية.

وانّما المهم في المقام. هو انّ الدلالة الطبعية والعقلية لا تحتاجان الى قيد زائد فإنّهما ذاتيتان كما عرفت. وأما الدلالة الوضعية فقد أفاد المحققون من عظماء الفن كالشيخ الرئيس والمحقق الطوسي والشيخ عبد القاهر الجرجاني انّ الدلالة الوضعية تابعة لإرادة المتكلم ولكن التفتازاني ومن شايعه أنكروا ذلك فإنّ اللفظ الموضوع يوجب حضور المعنى في الذهن أراده المتكلم أو لم يرده حتى ان اللفظ لو صدر من غير انسان ولافظ كان المعنى مع ذلك معلوما كالببغاء.

ولكن الحق. ان هؤلاء لم يفهموا معنى الدلالة ولم يصلوا الى كنه ما أفاده المحققون الأعلام فلا بد من تحقيق الدلالة التي عرّفت بكون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر وان ذلك هل ينطبق على التصور أو لا؟

أما التفتازاني فكأنّه تخيل انّ العلم في مفروض البحث هو ما عرف في المنطق بأنّه الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل وجعل هذا أعم من الظن والشك والوهم بل وحتى الجهل ولذا قد أخذ الظن والشك والوهم في مبحث التصورات جزءا

٥٤

للتصور حيث قال (العلم إن كان اذعانا للنسبة فتصديق وإلّا فتصور) (١).

أقول : انّ التصور الذي هو بمعنى الخطور هل هو جزء من العلم لغة أو اصطلاحا؟ فلا بد أن ننظر في انّ العلم في اللغة هل يمكن تقسيمه بالتصديق وبالتصور بمعنى الخطور؟ فنقول :

العلم مقابل الجهل فلو تصورت شيئا لم يصح ان تقول علمت. فإنّ العلم في اللغة إمّا اليقين أو العرفان أما الثاني فعبارة عن معروفية شيء عند العارف به.

فالتصور في اللغة ليس بمعنى خطور العلم بل هو جهل بل حال آخر يجامع كلا منهما فلو كان التصور بمعنى الخطور جزء من العلم فلا بد أن يقال بأنّ هذا اصطلاح من المنطقيين اذ نقلوا العلم من معناه اللغوي الى معنى جامع عبروا عنه بالصورة الحاصلة وهذا الاصطلاح يوجب أن يكون موضوع البحث أعم من المعنى اللغوي أو أخص وإلّا فلو كان منطبقا على المفهوم اللغوي لم يبق مجال للنقل وأما موضوع البحث عندهم فهل هو المعرف والحجة أو صورة الظن والشك والوهم؟

أما التصور فمنشؤه ما يرجع الى الجنس والفصل والخاصة وأما التصديق فمنشؤه القياس والعلة والمعلول ومن جهة أخرى انّهم قد قسموا التصور الى النظري والضروري ومثلوا للأول بالجن والملك وللثاني بالحرارة والبرودة. وهذا مما لا يمكن قبوله. اذا الخطور لا يجامع النظرية فالمراد بتصور الجن والملك حيثما يطلق هو المعرفة بهما التي هي أمر نظري وأما الحرارة والبرودة فهما وجدانيان لا بديهيان.

وأما تقسيمهم التصديق الى النظري والضروري. فالدلالة ليست باعتبار التصور بل باعتبار العلة والمعلول وواضح انّ دلالة أح أح على وجع الصدر في الطبعية اللفظية وكذا سرعة النبض في غير اللفظية منها ليست باعتبار الخطور.

__________________

(١) تهذيب المنطق للتفتازاني.

٥٥

فتحصل انّ المراد بقولهم الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر هو كونه بحيث يلزم من التصديق به التصديق بشيء آخر فإنّ الدلالة مقابل العرفان لا عينه وأما كون الشيء بحيث يلزم من العلم به الخ فهو عبارة عن التصديق حيث ينتقل من أحدهما الى الآخر. فالدلالة المصطلحة عليها عبارة عن التصديق والتصديق فرع وجود العلية والمعلولية. وهذا غير محتاج اليه في الطبعية والعقلية فانّ العلية فيهما ثابتة. وأما في الوضعية فلفظ زيد ليس علة لوجود زيد ولا معلولا عنه ولكن لما حصلت من المتكلم ارادة التكلم فتحصل العلية والمعلولية بين الكلام والارادة بمعنى انّه لما كان المتكلم العارف المريد في مقام الإفادة وقال زيد قائم فهذا اللفظ منبعث عن الارادة لوضوح انّه لو لم يكن مفاهيم الألفاظ مرادة لم يحصل التكلم فهذه الألفاظ منبعثة عن الارادة لوضوح انّه لو لم يكن مفاهيم الألفاظ مرادة لم يحصل التكلم فهذه الألفاظ معاليل والارادة علتها فهذا من الدلالة الإنيّة لدلالة المعلول على علته ـ ثم لو عرضت ملازمة بين الارادة والتكلم فهو دال على الخارج أيضا دلالة ثانويه فلو كان المتكلم معصوما حائزا لمقام العصمة فالدلالة حينئذ على الخارج ثابتة نظرية أو ضروريه بدون فرق بينهما وأما لو كان صادقا غير معصوم وكان ما في الخارج بديهيا فالدلالة أيضا على الخارج ثابتة واما إن لم يكن ما في الخارج بديهيا فلا يكون حجة على غير من حصل له الدلالة ولو كان المتكلم كامل العدالة فهو دال على نظر المستدل ولا يدل على ثبوت ما في الخارج. ومن هنا ظهر أنّ الردود والنقود بين العلماء وأرباب الفنون الموجودة في المحاورات والكتب العلميه لا يراد بها التكذيب والتوهين.

والنتيجة الحاصلة الى حد الآن ان ما ذهب اليه المحققون من ان الدلالة الوضعية تابعة للارادة أمر متين لا غبار عليه ولكن التفتازاني فهو قد اشتبه عليه مرادهم ومقصدهم من أول الأمر حيث عرف الدلالة بما ذكرناه ونقلناه عنه من أخذه العلم

٥٦

بمعنى التصور والخطور وهذا لا يصح فإن كان هذا الكلام منه فهو غفلة منه وإن كان من غيره فكذلك. نعم يحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعبير اللفظي والأخذ بالأعم.

وبما ذكرناه علم أمور :

منها. ان ما حاول بعضهم من المحاكمة بين الأعلام وبين التفتازاني. حيث قاموا بتقسيم الدلالة الى تصورية ولفظية وقالوا بأنّ النزاع لفظي حيث عبر التفتازاني بالتصوّريّة والاعلام بالتصديقيّة. فهذا أيضا مما لا مجال له. إذ الدلالة ليست قسمين فإنّ مجرد التصور والخطور ليس بدلالة لا في اللغة ولا في الاصطلاح فإنّ الدليل لغة ما يكشف عن المدلول لا اخطار المدلول وإلّا لزم حصول القدم والحدوث في النظر بمجرد تصور التغير ولزم دلالة كل شيء على الضدين اذ كل ما تصورت ضدا فقد حصل في نظرك الضد الآخر فلا يمكن تصحيح كلام التفتازاني بذلك.

ومنها. ان كلا من أقسام الدلالة (الثلاثة) متفاوتة بمعنى انّ الوضع في الدلالة الوضعية انّما هو من جملة مقدمات الدلالة وأما في الآخرين فالدلالة ذاتية لوجود العلية والمعلولية فيهما التي هما منشأ الدلالة والمعلوم انّ الوضع ليس منشأ لذلك بل هو منشأ التصور بالمعنى الذي مرّ سابقا بأنّه لو صدر اللفظ الموضوع من متكلم عارف بالوضع قائم في مقام التفهيم فتحصل العلية فالوضع لا يكون هو وحده بل هو مع صدور اللفظ من المتكلم العارف حتى انّه لو لم يكن عارفا وصدر منه كلام فلا يكون لكلامه دلالة والكلام مع شرائطه معلول لما في الضمير فهذه الدلالة تابعة للارادة بمعنى انّه ما لم تكن ارادة لم تحصل علية ومعلولية بين الكلام وبين مدلوله. وهذه الدلالة الدالة عما في الضمير مدلول اوليّ للكلام وأما مدلوله الثانوي فهو ما ذكرنا من أنّ المتكلم اما يكون معصوما فكلامه دال على ما في الخارج نظريا وضروريا واما ان يكون صادق القول فيدل كلامه على ما في الخارج البديهي خاصة

٥٧

فما في الضمير لو كان ملازما للخارج فيدل عليه وإلّا فلا إلّا في المتكلم المعصوم.

ومنها. انّ النزاع بين النظام وغيره في ملاك صدق الكلام وكذبه وانّه هل هو مطابقته للواقع أو الاعتقاد نزاع في غير محله بل الملاك في الصدق والكذب تابع لما هو الأصل في نظر المتكلم. ولا بأس بتوضيح ذلك موجزا فنقول : ذهب بعضهم الى أن صدق الكلام باعتبار مطابقته للخارج وبعضهم على مطابقته لما في الضمير وبعضهم على كليهما معا ورابع على أحدهما لا على التعيين. ولكن كل هذه الوجوه والأقوال باطله. بل الحق أن صدقه تابع لما هو الأصيل في نظر المتكلم. فلو كان الأصيل في النظر بالنسبة الى ما في الخارج فملاك صدقه وكذبه راجع الى ما في الخارج وإن كان بالنسبة الى الضمير فهو الملاك فلا هو ما في الخارج مطلقا ولا ما في الضمير كذلك ولا الوجهان الثالث والرابع. ونظير ذلك الكنايات فزيد كثير الرماد ليس صدقه منوط بوجود الرماد على بابه بل صدقه متوقف على كونه سخيا مضيافا فهذا المعنى الكنائي هنا أيضا تابع للأصيل في النظر ومن أحسن الأمثلة بل أحسن الحديث كتاب الله سبحانه وتعالى حيث يقول : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ثم قال الله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١). فتدبره ومن هذه البيانات ظهر أن ما ذهب اليه بعضهم في مبحث الحقيقة والمجاز من كون الاستعارة حقيقة كالسكاكي حيث قال بالفرد الادعائي وما رد عليه التفتازاني بأنّ الفرد الادعايي ليس تحقيقيا ففيه مجاز وكذا قولهم بالتجوز في موارد العلائق المرسلة واختلافهم في الاستعارة. فهذه كلها بمعزل عن الحقيقة على ما يأتي تفاصيلها في مسئلة الحقيقة والمجاز أما في مورد العلائق المرسلة فلعدم الاطراد كما اعترفوا به فلا تكون هي مصححة للاستعمال بل هو في بعضها حقيقي وفي بعضها استعارة مقيدة و

__________________

(١) سورة المنافقون : آية ١.

٥٨

في بعضها مجاز في الاسناد. أما مسئلة الاستعارة فاتضح مما ذكرناه ان الاسم دائما ينبئ عن عنوان المسمى ابتداء فانّ علقة التسمية واسطة وكل ما كان المبدا واسطة لثبوت الحكم فالموضوع الابتدائي هو العنوان المأخوذ من الوصف فالفقر علة لاستحقاق الزكاة وموضوع الفقير هو عنوان الزكاة فمحل الانطباق تابع لعنوان الموضوع لا أنّه موضوع ثانوي فإذا تبدّل بالغنى زال الحكم. ففي مسئلة إنباء الاسم عن المسمى لو لم تكن علقة التسمية لا يكون إنباء فدائما يكون الإنباء ابتداء عن عنوان المسمى وأما ذات المسمى فاعتبارها من جهة الانطباق عليها ولكن محل الانطباق قسمان تحقيقي وتنزيلي والأول هو ذات المسمى التي يكون التسمية بينها وبين اللفظ حقيقة فمحل الانطباق تحقيقي وأما لو شبّه أحد زيدا بالأسد باعتبار أظهر الخواص وقال زيد أسد فمحل الانطباق تنزيلي حيث نزل زيدا منزلة الأسد فالمجاز في الاسناد أي في الانطباق لعدم تجاوز العنوان عن محل الى محل آخر حتى يكون من المجاز في الكلمة بل كما عرفت إنّ المحل الأصلي هو عنوان المسمى وأما المعنون بعنوان المسمى قد يكون تحقيقا أو تنزيلا أما الأول فليس فيه تجوز وأما الثاني فلو كان فيه كان في الاسناد كما في زيد عدل فالملكة الحاصلة هو العدل تحقيقا وزيد هو تنزيلا. والحاصل انّه لا نرى نحن للمجاز في الكلمة اعتبارا من أساسه.

ومنها. عدم مجال ومحل للنزاع في أنّ وضع الألفاظ هل هو للموجود في الذهن أو لما في الخارج أو للمفاهيم مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي.

٥٩

وجود الوضع للمركبات وعدمه

إنّ الوضع ثابت في طرفي التركيب ولكن سابقا عليهما وعليه فلا معنى للحوق وضع آخر للمركبات ولذا قد أرجع بعضهم النزاع في أنّ الهيئة التركيبة هل لها وضع أو لا وإلّا فبعد ثبوت الوضع الافرادي في الطرفين لا يبقى مجال لتوهم وضع آخر. وكيف ما كان فقد قيل بوضع في الهيئة التركيبة وقال بعضهم بالدلالة العقلية فيها وآخرون ذهبوا الى المناسبة الذاتية وقد قلنا مرارا انّ كلما يطلق الحكم الشرعي فليس معناه أن العقل يحكم بشيء اذ ليس له حكومة وولاية وانّما الوجه في ذلك هو أن الحكم الثابت الذاتي للشيء يدركه العقل والمراد بالدلالة العقلية أنّ العقل مستقل في الادراك فيرجع النزاع في أن الهيئة التركيبية هل دلالتها بالوضع أو بالمناسبة الذاتية. وقد عبر جماعة من المحققين في علم العربية عن المناسبة الذاتية بالدلالة العقلية. فالنزاع ثنائي لا ثلاثي واستدلوا عليه بأنّ العالم بوضع المفردات لو الغيت عنده الهيئة التركيبية فمع ذلك يفهم الاسناد لا محاله. فيفهم الخبر في زيد عالم والوصف من زيد العالم والاضافة من غلام زيد. وهذا ضروري. والظاهر أنّ الأمر كذلك اذ دلالة الهيئات التركيبية على مفاهيمها ذاتية لا وضعية.

وأما. ثمرة النزاع. فهي أن المركبات هل تتصف بالحقيقة والمجاز بحيث يستعمل مركب حقيقة أو مجازا؟ أو أنه لا يصح ذلك. الحق هو الثاني. اذ المجاز وإن كان هو الاستعمال في غير ما وضع له إلّا أنه لا بد من قابلية اللفظ للوضع حتى يتم ذلك والتركيب انّما مورده الاستعمال لا الوضع ومع ذلك فقد توهم بعض امكان تطرقهما فيها ومثلوا للمركب المجازي بقولهم أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى حيث استعمل تقدم الرجل وتأخرها مجازا في الترديد والحيرة مع انّ هذا المعنى لا يفهم من

٦٠