بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

يرجع الأمر الى ما نزل منزلة الفقه وهو العمل بالظنون فيطلق الفقيه على العامل بها تنزيلا. وبعبارة أخرى إنّ التعريف لأصل الفقه وهو محفوظ باق على حاله وإن كنا نحن غير واصلين اليه في زمان الانسداد على حسب ما يذهب اليه قائله وعدم التوصل اليه حقيقة لا يوجب زوال معناه وذهابه حتى يورد على تعريفه بما ذكرناه مع الجواب عنه.

وقد أجيب عن أصل الاشكال بوجوه.

أحدها. ان العلم أعم من الاعتقاد الجازم المانع من النقيض والراجح غير المانع منه والمراد منه في التعريف هو الثاني فيكون مجازيا من باب استعمال الخاص في العام.

وفيه. ان العلائق المرسلة على ما ذكرنا في محله لا يكون شيء منها مصححا للتجوز وقد ابتدع أهل المعاني هذه العلائق وليس إلّا اشتباها منهم مع انهم أنفسهم قد اعترفوا بعدم اطرادها في جميع الموارد وقد تنبهوا الى أنها لو كانت منشأ لصحة الاستعمال للزم ان تكون مطردة فلذا ذكر بعضهم انه ليست هذه العلائق مما يلزم ان تكون دائرتها وسيعة شاملة مطردة بل اللازم هو صنف منها وان لم نعلمه بعينه وأنت ترى ان هذا العلة أشنع فانّه إحالة الى المجهول والصحيح ما أوضحناه ان في بعض موارد العلائق المرسلة لا يكون في البين إلّا الحقيقة وبعضها من باب الاستعارة المقيدة وبعضها من التجوز في الاسناد وسيأتي توضيح ذلك في مبحث الحقيقة والمجاز إن شاء الله تعالى.

ثانيها. ما عن العلامة قدس‌سره من أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم (١). وقد حمل بعضهم كلامه قدس‌سره على الحكم الظاهري فالظنية هي الحكم الظاهري والقطعية

__________________

(١) معالم الأصول : ص ٢٤.

٢١

هي الواقعي ولكن ذلك خلاف ظاهر عبارة العلامة نعم يمكن حمل كلامه على الحكم الواقعي ولكن ببيان لا يترتب عليه ايراد وذلك ببيان مراتب الحكم التي أوضحناها تفصيلا وبنينا عليها في كثير من المباحث وهي انّ الحكم التكليفي له ثلث مراحل التحقق والتعلق والتنجز.

وبناء على ذلك فمن الممكن ان يكون الحكم الواقعي معلوما في مرحلة مجهولا في أخرى كما اذا ثبت حكم ثم شك في نسخه فالأصل عدم النسخ أو ثبت التكليف وتردد أمره بين طرفين فيعلم اجمالا بثبوته فيجب الاحتياط ان أمكن الجمع وإلّا فالتخيير وكذا في مورد الاستصحاب وحتى نقول : ان قوله ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم يقصد به ان الحكم في مرحلة التنجز ثابت معلوم وليس ذلك حكما آخر بل التنجز انّما هو وظيفة المكلف بالنسبة الى الحكم الواقعي فهو في مرحلة التنجز معلوم وفي مرحلة التحقق مجهول أو بالعكس فالتنجز قسمان واقعي وظاهري ومورد الأول هو العلم بثبوت الحكم إلّا أنه لو شك في زواله فالوظيفة هو الاستصحاب والعمل بالتنجز فالعذر والتنجز انّما هما صفتان بالنسبة الى الحكم الواقعي والحاصل ان ظنية الطريق انّما هي في مرحلة التحقق أو التعلق وأما في مرحلة التنجز والعذر فالعلم حاصل ثابت.

ثالثها. ان الأحكام قسمان واقعية وظاهرية فلو لم يحصل العلم القطعي بالحكم الواقعي ولكن لا شك انّه يتعلق بالحكم الظاهري.

وفيه انه لا مجال للتفكيك بين الحكم بالواقعية والظاهرية. بيان ذلك. انّه لا ريب في وجود أحكام واقعية ثانوية كالجلوس في الصلاة بدلا عن القيام والتيمم بدلا عن الغسل والوضوء. وأما مجرد الأصول العقلية وكذا الامارات فهل هي أحكام واقعية ثانوية فتكون بدلا عن الواقعية الأولية أو أنّها أحكام ظاهرية؟ أقول : ان من الواضح المعلوم ان قوام البدلية وملاكها ليس هو الشك وغيره من الظن أو الجهل بل

٢٢

اعتبارها انّما هو بالعجز مع انّ في هذه الموارد المعبر عنها بالأحكام الظاهرية يكون الشك أو الظن مأخوذا في الموضوع سواء في ذلك الأصول أو الامارات من البيّنة وخبر الواحد واليد بناء على كون الأخير امارة فلا بد حينئذ من النظر في ان الأصول والامارات هل هي من أحكام الشك ونحوه أو أنّها من أحكام العلم اذ الموجود في مواردها علم وشك فمورد الاستصحاب هو العلم بالسابق والشك في اللاحق ومورد البراءة هو العلم بالعدم الأزلي والشك في حدوث التكليف والاحتياط هو العلم الاجمالي بالحكم والشك في ان المأمور به أو المنهى عنه هذا أو ذاك وهكذا في باقي الموارد.

أما الاحتياط والتخيير والاستصحاب فهي آثار العلم دون الشك أما البراءة فهي كما ذكرنا علم سابق وشك لا حق فمرجع الأصول الأربعة انّما هو الى العلم والمعلوم ان أثر العلم ليس تكليفا جديدا وأما الامارات. فمرجعها الى تنزيل الدليل غير العلمي منزلة العلمي والدليل العلمي أثره اعطاء العلم وأثر العلم هو التنجيز فالامارات التي تقوم مقام الدليل العلمي أثرها أيضا أثره ولكن تنزيلا فخبر الواحد مثلا يكون أثره تنجز مؤداه وثبوته وهكذا غيرها فالمرجع فيها أيضا هو التنجيز.

فالمتحصل ان مرجع الأصول والامارات هو العلم والتنجز والعذر فلا حكم في مقابل الحكم الواقعي فلا مجال للتفكيك بين الحكم الواقعي والظاهري وما أجاب (١) صاحب المعالم عن الجواب الذي تقدم من العلامة. انما يتفرع على التفكيك المذكور وليس كذلك. نعم. ما ذكرنا سابقا هو الحق في توجيه كلام العلامة من أن الأحكام الواقعية في مرحلة الثبوت والتنجز معلومة وإن كانت في مرحلة أخرى مظنونه.

__________________

(١) معالم الأصول : ص ٢٤.

٢٣

«تتميم»

إنّ تنجز الحكم يتوقف على أمور أربعة : العلم والقدرة والالتفات وعدم الابتلاء بالأهم. فإذا اختل أحد هذه وانقلب يثبت العذر إلّا أن آثار العذر مختلفة في هذه الموارد فانّ أثر العذر في مورد الحكم التكليفي الحاصل عن جهل أو غفلة لا يكون منشأ لصحة العمل فلو فات عنه جهلا أو غفلة لم يكن هنا مقتض للحكم بالصحة وهكذا في مورد العجز فإنّه عذر إلّا أنه لا يوجب الحكم بصحة العمل المأتي به في حاله إلّا ما خرج وأما في المورد الرابع فلو ابتلى بالأهم صار معذورا عن اتيان المهم لكن لو عصى الأهم وفعل المهم كان صحيحا اذ المهم في مرحلة التعلق باق بحاله ولم يتغير والمزاحمة الواقعة بينه وبين الأهم انّما هي في مرحلة التنجز لا التعلق واشتراط التنجز لا يكون منشأ لفساد العمل اذ الوجه في تقديم الأهم ليس منشؤه إلّا وجود كمال فيه لا لوجود نقص في المهم وعلى هذا فلا احتياج الى مسئلة الترتب مثل ما اذا كان مديونا قادرا على الأداء وطالبه الدائن لكن عصى واشتغل بالصلاة في سعة الوقت وغير ذلك من المصاديق. فلا حاجة الى تجشم تطبيقها على القواعد من أنه لو كان الأمر بشيء مقتضيا للنهي عن ضده الخاص للزم أن يكون الأهم منهيا وإلّا أوجب سقوط الأمر بالمهم لا أقل فإذا سقط المهم لم يكن مجال للحكم بصحته لو أتى به فتمسكوا بالترتب. اذ إنّا نقول لو كان المستند هو البقاء في مرحلة التعلق فلا مانع وإن لم يكن في هذه المرحلة بل في التنجز فنحن نوافق في النتيجة وهي الحكم بصحة اتيان المهم حين عصيان الأهم لكن لا من حيث أن المنجز هو الأهم وقد ارتفع تنجزه بعصيانه.

٢٤

وقولهم انّ سقوط الأمر بالمهم انّما هو بسبب الأمر بالأهم فإذا عصى الأهم كان المهم باقيا. يرد عليه أن العصيان لم يوجب سقوط الأمر بالمهم فالأمر به باق حتى في مورد العصيان فتنجز الأهم هو المانع من الأمر بالمهم فالمزاحمة انّما هي في مرحلة التنجز وأما في مرحلة التعلق فلا مزاحمة فهو أي المهم باق في تلك المرحلة فالحكم بصحته حتى عصيان الأهم مستند الى بقاء المهم في مرحلة التعلق ولا احتياج الى التنجز إلّا أن يكون في البين خلل من ناحية أخرى وإلّا فمن ناحية تقديم الأهم على المهم ليس إلّا العذر عن المهم لا لنقص فيه.

ولكن هنا اشكال قد تعرض له بعضهم وهو انّ بقاء التكليف في مرحلة التعلق مع العذر عن اتيانه أمر غير متصوّر فانّه لو كان ثابتا في هذه المرحلة فقد توجه الحكم اليه كذلك مع أنه لا يجوز الاتيان به عند اشتغال الذمة بتنجز الأهم وكيف يجوز انشاء الحكم والأمر به تعلقا مع عدم القدرة عليه شرعا فمع المنع والنهي كيف يبقى تعلق؟

والجواب. انّ هذا يصح فيما لو كان الحكم الشرعي التكليفي من مقولة الانشاء والمنشئات وحينئذ فلا مجال للانشاء والخطاب والتعلق ولكن لا نقول بذلك والطريق الى التوصل بأنّ الحكم هل هو من مقولة المنشئات أم لا؟ يحصل من قبل آثار الحكم التكليفي فانّ ما كان من هذه المقولة لا أثر له إلّا اذا كان هنا انشاء كالبيع والنكاح والطلاق والعتق وأما ما كان أثره استحقاق الثواب والعقاب فلا يستند الى الانشاء بل الى الارادة النفسانية الموجودة في نفس الآمر الحاكم ومن البديهي انّه لو علم العبد بأنّ ارادة المولى في نفسه حتمية ولكنه لم ينشئ لمصلحة أو لالتفاته الى علم العبد بذلك ثم ترك العبد ولم يأت بمراد مولاه لما قبل ذلك عنه ولم يسمع منه عذر بل انه قد يكون في بعض الأوقات انّ الارادة الشأنية النفسية كافية ولو لم تكن فعلية كما اذا كمن العدو للمولى والتفت العبد ولم يدافع عن مولاه بل ادعى ان المولى لم يأمره

٢٥

بالدفاع لما كان هذا العذر منه مقبولا عند العقلاء. والمتحصل انه قد علم بهذا البيان انّ الحكم التكليفي ليس من مقولة المنشئات بل ان الانشاء متأخر عن الحكم ولا مانع من الأمر النفسي الموجود في مرحلة التعلق فالتعلق باق وهو منشأ لصحة العمل ولا خلل في ناحية الامتثال نعم لو كان خلل كذلك لم يكن العمل صحيحا مثل صوم المريض والمسافر.

وإن شئت تفصيل هذا فنقول : إنّ المفاهيم على ثلاثة أقسام : قسم يتمخض في القضية الخبرية فلا يحصل المؤدى فيه إلّا بالإخبار وقسم لا يحصل مؤداه إلّا بالانشاء كالعقود والايقاعات وقسم يحصل بكل من الأخبار والانشاء كما يقول الطبيب للمريض الدواء الفلاني نافع والطعام الفلاني ضار وقد يقول له اشرب ذلك الدواء ولا تأكل ذاك الطعام فمؤدى الأمرين واحد ولا يخفى أن الانشاء في القسم الأخير طريق ولا موضوعية له.

وأما الأوامر والنواهي فهل هي من قبيل القسم الثاني أو من الثالث؟ من البديهي ان الموضوعية والطريقية تستكشف من ترتب الآثار فالأوامر الصادرة من الطبيب انّما هو لبيان الضرر والنفع ليس إلّا فهو لا ولاية له على المريض حتى يجعل حكما عليه اذ الحكم المولوي يتبع الولاية من الحاكم وهذا هو معنى العلو والاستعلاء في الأمر فإنّ الآمر قد يأمر بأمر بما أنّه له الولاية وقد يأمر لا بهذا العنوان كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريرة : ارجعي الى زوجك. وهي فهمت ذلك حيث قالت أتأمرني؟ قال : لا بل أنا شافع فانشاء الطبيب طريق لا موضوع وأما العقود والايقاعات فلا تتحقق إلّا بالانشاء فلا بد للمنشئ من سلطنة وإلّا فلا بد وان ينتهي الى من له ذلك كالفضولي حيث أنه لا بد من انتهاء بيعه الى الأصيل ـ وأما الطلب المولوي فلا يكون فرع البعث أو الزجر الخارجي فيثبت حتى بالخبر بل قد يتحقق بدون الطلب النفسي كما مرّ من المثال.

٢٦

ولكن حيث تخيلوا أن الحكم التكليفي من مقولة المنشا أو الانشاء وقالوا في الانشاء بالموضوعية فقد وقعوا في الاشكال والحيرة بالنسبة الى بعض الفروع الفقهية ومن ذلك ، اذا توسط الأرض المغصوبة فهنا خطابان أحدهما بلا تغصب والثاني بالخروج فذهب بعضهم الى أنه لا مجال للخطاب الأول مع أن استحقاق العقاب ثابت بقى فيها أم خرج ولذا قام بعضهم بدفع الاشكال وذكر أن العقاب انّما هو بسبب النهي الحاصل قبل الدخول مع أنه يرد عليه أن النهي المفروض قد انقطع حين الدخول فإذا دخل لزم أن لا يبقى عقاب والحاصل انّه مع عدم تصور الخطاب والانشاء كيف تتحقق حرمة الغصب وثبوت العقاب فلذا اضطر بعض منهم الى القول بنفي العقاب. والحق في الجواب أن الحكم موجود في كل من مرحلتي التعلق والتنجز من دون لزوم التعبير عنه بخطاب حيث عرفت أن الحكم يتحقق حتى بالطلب النفسي ولا يتفرع على البعث والزجر الخارجي. وهكذا بالنسبة الى فرع آخر أعني الصوم في حق المريض والمسافر مثلا. والمتحصل ان هذه الموارد يسهل حلّها بما ذكرناه في حال الحكم التكليفي.

المبحث الثامن : ذكروا أن حرف التعريف في الأحكام إن كان للاستغراق لزوم خروج جلّ الفقهاء لو لا كلهم عن التعريف فلا يكون منعكسا وإن كان للجنس دخل المتجزى فيه فلا يكون مانعا.

والجواب. أنّ الأحكام عبارة عن القواعد الكلية واللازم معرفة الفقيه بها وهذا لا ينافي التوقف والتأمل في الجزئيات والمسائل فإذا كان عارفا بها فلا مانع من أن يتوقف احيانا في تطبيق الكبريات على بعض الفروع الجزئية وهذا لا يستلزم عدم كونه فقيها بل ولا ينافي اطلاق اسم الفقيه عليه وكذا في اختلافهم في مرحلة التطبيق بعد اعمال أصل القاعدة فانّ الحكم الشرعي مع ذلك محفوظ. فالاشكال مرتفع من أصله.

٢٧

المبحث التاسع : حول الأصل وأصول الفقه.

الأصول هو جمع الأصل واذا قلنا أصول الفقه فهنا معنيان لغوي واصطلاحي. أما الأصل فقد فسره أكثرهم بما يبتني عليه شيء غيره إلّا أن الجامع له بحسب الاطراد في الموارد هو ما يقابل الفرع فيقال أصل النبات وأصل الشجر في مقابل الفروع وهي الأغصان والأوراق فهذا المعنى في خصوص النبات حقيقي وأما في غير ذلك فهو تنزيلي كما في القاعدة حيث يعبر عنها بالأصل فإنّها وضعت لاستخراج الحكم الجزئي عنها التي هي بمنزلة الفروع بالنسبة اليها وهكذا في مقابل ساير الموارد التي قد يكون الأصل فيها مطابقا للقاعدة وقد يكون مخالفا لها كالاستصحاب فيعبر بقاعدة الاستصحاب أو أصل الاستصحاب فهنا أيضا تكون الجهة المتقدمة ملحوظة وهي استخراج جزئيات منها وغير ذلك من القواعد الشرعية أو غير الشرعية مستقرئة كانت أو عقلية وهكذا اطلاق الأصل على الدليل وعلى أساس الجدار فكل هذه الموارد تنزيلي لوضوح أنه لو ابتنى شيء ولم توجد فيه الحيثية المذكورة لم يكن أصلا في الحقيقة فانّه ليس عبارة عن مجرد وضع لبنة على لبنة أو غير ذلك.

والمراد بأصول الفقه قواعده ووجه اضافتها اليه ارتباطها به وهذا في مقابل قواعد الفقه التي هي عين الفقه وهكذا الحال في أصول الدين فالتعبير عن الأصول بالقاعدة والدليل انّما هو للتنزيل منزلة أصل النبات كما ظهر. ومن جملة الموارد الاستيصال أي القطع من أصله وأساسه. والغدوّ والآصال والأصيل هو طرف العصر في مقابل البدوّ وقد ذكر بعضهم في وجه التنزيل هو ان قطع الشيء انّما يكون بقطع أصله والأخذ والشروع في القطع انّما هو من الطرف الأعلى الى أن يصل الى منتهاه وأصله.

٢٨

موضوع الأصول

إنّ أصول الفقه قد جعله أرباب الفنون مستقلا بالبحث عنه فهو بهذا الاعتبار وإن كان علما برأسه في قبال ساير العلوم إلّا ان ذلك ليس من جهة أنّه فن مستقل في حد نفسه في مقابل غيره من الفنون وذلك لعدم صلاحيته لأن يكون فنا واحدا ذا استقلال بل هو عبارة عن عدة مسائل متشتته جمعها ارتباطها بالفقه وتحقيق ذلك يتوقف على بيان الضابطة والميزان في كل فن حتى يتّضح الحال في هذا المجال فنقول وعلى الله الاتكال في جميع الأقوال والأفعال :

لا كلام في اشتمال كل فن على عدة مسائل لا تصير تلك المسائل فنا واحدا إلّا بعد رجوعها الى عنوان واحد وإلّا لكان كل مسئلة علما برأسه فجعل الفنون انّما هو باعتبار تصور الجامع بين المسائل المتفرقة حتى يمتاز كل فن عن غيره وتفترق مسائله عن مسائله. وقد ذكروا أن هذا الجامع عبارة عن رجوع المسائل الى موضوع واحد حيث قالوا ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وهذا أمر معقول لوضوح انه وإن كان البحث والسؤال عن أحوال زيد مثلا وانه من أي بلد ومن أبوه وأين مسكنه وما هو حرفته جهات مختلفه إلّا أنّها ترتبط بشخص واحد وترجع الى موضوع فارد.

ثم انهم قد تفطنوا الى جهة أخرى وهي ان الموضوع أما ابتدائي وأما أعم منه ومن الثانوي وغيره فإن كان الملاك في التمايز هو الأول لزم استقلال كل مسئلة وصيرورتها علما واحدا فانّ الموضوع في رفع الفاعل غير الموضوع في نصب المفعول وإن كان الملاك هو الثاني لزم اختلاط الصرف والنحو والمعاني والبيان لرجوع جميعها

٢٩

الى الكلمة والكلام فلذا قد ارتكبوا في الموضوع تخصيصا فرارا عن المحذور فقالوا موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية اذ هي قسمان ذاتيه وغريبه وعرفوا الأولى بما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو والأول كعروض الاسمية والفعلية والحرفية للكلمة فإنّها تعرضها من دون واسطة والثاني كالتعجب اللاحق للانسان وفسروا الثانية بما يعرض بواسطة أمر أعم أو أخص والأول كعروض الحركة بالارادة للانسان باعتبار كونه حيوانا والثاني كعروض الرفع للكلمة باعتبار وقوعها فاعلا مثلا ولم يذكروا العارض بواسطة المباين لعدم وقوعه واسطة نعم ذكره صاحب القسطاس وهذا سهو منه. ولكن لما لم يحصل التمايز بالموضوعات أيضا لا مكان انطباق موضوعات متعددة على أمر واحد كالكلمة فانّها موضوع في التصريف للصحة والاعلال وفي النحو من حيث الاعراب والبناء وفي البيان من حيث الفصاحة والبلاغة فلذا فقد جاءوا بتقييد في الموضوعات وقالوا تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات.

وقد اعترض على ذلك بعضهم منهم صاحب الفصول قدس‌سره غفلة منه عن حقيقة الحال فانّه قال ما حاصله : انّ الحيثية ان أخذت تقييديه لم يكن لها ربط بالمقام لعدم امكان اجتماع حيثيتين في محل واحد كاعتبار الايمان في الرقبة بالنسبة الى العتق فلا مورد للكفر بعد ذلك وإن أخذت تعليلية لم تكن منشأ حتى للتمايز اذ لا مانع من اجتماع حيثيات متعددة في موضوع واحد كالكلمة فقد عرفت انّها من حيث الصحة والاعلال موضوع للصرف ومن حيث الاعراب والبناء للنحو ومن حيث الفصاحة للبيان وهكذا فاجتماع عدة حيثيات كذلك في محل واحد لا يستلزم تعدد المحل حتى يحصل التمايز.

والجواب عنه. انّه ليس المراد بتمايز الموضوعات بالحيثيات ان لواحق هذه الحيثيات متمايزة بل المراد انّ المتحيّث بحيثية خاصة يكون موضوعا فموضوع الصرف

٣٠

هو الصحيح والمعتل وفي النحو هو المعرب والمبني وهكذا فهذه هي الموضوعات المتمايزة وكل واحد منها عنوان مستقل ولو كان المعروض أمرا واحدا. وبعبارة أخرى انّ الكلمة وإن كانت معروضة لهذه العوارض ولكن لا يلزم ان يكون المعروض أيضا متمايزا بل التمايز انّما هو في العنوان الكلي فعنوان المعرب والمبنى موضوع للنحو وعنوان الفصيح والبليغ موضوع للمعاني وإن كانت هذه الموضوعات تعرض معروضا واحدا. وبهذا المعنى يتم ما ذكره القوم لا ان يكون المعروض متعددا وتوضيح ذلك ان قولك زيد يجوز تقليده لأنّه فقيه ويستحق الخمس لأنّه هاشمي. فليس معناه ان زيدا هو الموضوع بل الموضوع هو الفقيه الهاشمي وانّما انطبق العنوانان عليه فهو موضوع تبعى ثانوي والحاصل انّه لا مانع من رجوع الموضوعات المتعددة الى معروض واحد.

هذا محصل كلام القوم. فلا بد حينئذ من النظر في ان مسائل الأصول هل ترجع الى موضوع ينطبق على المورد أو لا؟ فقد ذهب بعضهم الى ان موضوعه الأدلة الأربعة بوصف انّها أدلة (١) وبعضهم الى انّه هي بذواتها (٢).

أما المذهب الأول. فيرد عليه. ان لازم ذلك خروج بعض الأدلة العقلية والأصول العملية كالاحتياط والتخيير والبراءة والاستصحاب لوضوح ان البحث منها انّما هو عن تحقق الموضوع لا العوارض فقولنا البراءة أصل أي دليل وهكذا يلزم منه خروج عدة من مباحث الألفاظ كالأمر والنهي والعام والخاص فانّها متقدمة على الدليل اذ البحث عن حقيقة صيغة أفعل سابق على الدليل وليس من عوارضه اذ الدليلية أمر يعرض الحكم الشرعي بعد صدوره في مقام البيان فيستفاد

__________________

(١) وهذا هو المشهور بين الأصوليين على ما ادعي.

(٢) وهو المختار لصاحب الفصول ، ص ٤.

٣١

منه الوجوب أو الندب أو القدر الجامع وهكذا النهي والعام والخاص وغير ذلك.

لا يقال. انّ البحث عن مباحث الألفاظ انّما هو من حيث وقوعها في كلام الشارع وهذا هو عنوان الدليلية.

فانّه يقال. كون المقصود بالبحث استفادة الحكم الشرعي شيء وكون المقصود به وقوعها في كلام الشارع شيء آخر وكم فرق بينهما لوضوح ان وقوعه في كلامه لا يكون قيدا للبحث عنه أبدا فانّ البحث لا يكون إلّا عما وضع للفظ الأمر والنهي وصيغتهما لغة فإذا ثبت وضعه كذلك لأحد المعاني حصل المقصود سواء كان في كلام الشارع أو كلام غيره إلّا ان غرض الأصولي هو استفادة الحكم الشرعي من كلام الشارع لا ان وقوعها في كلامه الشريف قيد للبحث. والحاصل ان هذه المباحث لا ترجع الى عوارض الأدلة إلّا مبحث واحد وهو التعادل والترجيح اذ مرجعه الى تعارض الدليلين وقد جعلوه خاتمة لمسائل الأصول.

وأما المذهب الثاني. فمردود أولا بأن أدلة الفقه ليست إلّا أربعا فلا يتم كون موضوع الأصول هي بذواتها وثانيا بأنه يلزم من ذلك دخول علم التفسير في أصول الفقه لوضوح رجوعه الى الكتاب ولكن قد سبق ان الغرض من البحث ليس هو وقوع المبحوث عنه في الكتاب أو السنة فلا يكون وقوعه فيهما قيدا للبحث عنه قطعا.

ثم. انه قد ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره الى ان البحث عن حجية خبر الواحد بحث عن السنة وانّه هل تثبت به أو لا (١) ـ فهذا بحث عن عوارض الدليل واعترض عليه صاحب الكفاية في تعليقته على الفرائد بأن ثبوت السنة بخبر الواحد ليس من عوارض السنة بل بحث عن وجود السنة الذي هو مفاد كان التامة لا الناقصة فثبوت

__________________

(١) فرائد الأصول للشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره في أوائل بحثه عن حجية خبر الواحد.

٣٢

السنة بخبر الواحد وعدمه عبارة عن وجودها به وعدمه. ولكنه قدس‌سره عدل في الكفاية الى جواب آخر وهو ان ثبوت الحجية للخبر هو الثبوت التعبدي لا الواقعي فهو وصف في الخبر لا في السنة (١).

أقول. أما الشيخ فيرد عليه ان ما ذكره خلط منه لمحل البحث في المقام فان مورده هنا هو انه هل للخبر وصف الحجية أم لا ـ لا ان السنة تثبت بالخبر أم لا ـ؟ والفرق بينهما واضح فانّه تارة يقال هل هذا الدواء نافع للمريض ويقول آخر انّه ليس البحث عن الدواء بل عن ان المريض هل يحصل له البرء بهذا الدواء أم لا؟ والارتباط وإن كان واضحا بين الأمرين الى حد إلّا انّ ذلك غير ذاك على أنه لا بد من التحفظ على محل البحث وإلّا فبعد ثبوت الحجية للخبر لم يكن ريب في ثبوت السنة به ولكن البحث راجع الى الخبر لا الى السنة.

وأما كلام المحقق الخراساني في التعليقة ففيه انه ليس المراد في المقام هو الوجود الخارجي بل المراد هو الثبوت الذهني بمعنى الانكشاف والعلم بمعنى انّه هل تنكشف السنة ويحصل العلم بها بالخبر الواحد أم لا؟ ومن المعلوم انّ الانكشاف انّما هو من العوارض.

وأما كلامه في الكفاية ففي غير محله. فانّ الثبوت التعبدي اذا كان من حالات الخبر فلا بد وان يكون الثبوت الواقعي أيضا كذلك اذ الثبوت التعبدي انّما هو باعتبار تنزيل الدليل الغير العلمي منزلة العلمي واذا لم يكن الثبوت الواقعي من أحواله بل كان من أحوال السنة فالتعبدي أيضا هكذا. فلا وجه للتفصيل.

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٨ و ٩.

٣٣

بحث حول

كلام بعض المتأخرين في موضوع العلم

ذهب صاحب الكفاية الى أن تمايز العلوم بتمايز الأغراض وهذا القول ينشأ من القول بأن الموضوع في كل علم هو عين موضوع مسائل ذلك العلم فانّه قال في الكفاية (موضوع كل علم وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي بلا واسطة في العروض هو نفس موضوعات مسائله عينا وما يتحد معها خارجا وإن كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي ومصاديقه والطبيعي وأفراده ...) (١).

ولا يخفى أن هذا الكلام مردود بأمور. منها انّه عدول عما ذهب اليه القوم من تفسير العوارض الذاتية بما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو. ومنها. عدم حصول التمايز لو أخذ الموضوع هو العنوان الجامع. توضيحه ان اللازم من دعوى الاتحاد بين موضوع العلم وموضوع المسائل هو نفي الواسطة في البين فموضوع النحو الذي هو عبارة عن المعرب والمبنى متحد مع موضوع الفاعل والمفعول وغيرهما من المسائل وهكذا ليس موضوع الأصول هو الأدلة الفقهية بل كلي جامع بين موضوعات الاستصحاب والبراءة والاشتغال والأمر والنهي والعام والخاص وهكذا فالجامع هو الموضوع وإن لم يكن له اسم خاص وعنوان مخصوص كما وانه قد اعترف بذلك وصرح به في الكفاية (٢) فالجامع موجود لا محالة وهو بين الأمر والنهي عبارة عن الصيغة وبينهما وبين العام هو اللفظ المستعمل وهكذا فإذا كان العنوان

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٧.

(٢) نفس المصدر : ص ٨.

٣٤

الجامع هو الموضوع فالأمر واضح ولا ترديد في تصور الموضوع ولكن لازم ذلك هو زوال الامتياز بين الفنون وعدم امكان حصول التمايز فإنّ هذا الجامع الكلي يسهل تصوّره في عدة من العلوم كالصرف والنحو والمعاني وغير ذلك ونظيره جنس الأجناس الجامع بين أقسام الأنواع حتى الجوهر فبهذا ينتفي التمايز بسبب الموضوعات.

وكأنّه قدس‌سره. تفطن بأن الموضوع بهذا المعنى لا يكون موجبا للتمييز فلذا ذهب الى أن التمايز انّما هو بالأغراض لا بالموضوعات ولا بغيرها. ولكنه يرد عليه. أولا ـ بأن الغرض يستلزم تداخل بعض العلوم في بعض المسائل بل في جميعها احيانا كما وقد التفت هو قدس‌سره الى ذلك واستبعده الى حد المنع العادي وقال انّه على فرض تسليم وقوعه ولكن لا يصح تدوين علمين بل في واحد الفرضين يبحث فيه تارة عن كلا المهمين وأخرى لأحدهما وهذا اقرار منه بوقوع كلامه موقع النقض ومورد الاشكال. وثانيا ـ ان هذا القول ناش من الخلط بين الغرض وبين الفائدة مع انّ بينهما عموما من وجه فانّ الغرض ما كان موردا لنظر ذي الغرض ترتب أو لم يترتب وأما الفائدة فهي الأثر المترتب سواء كان موردا لنظر الفاعل أو لم يكن ومواد الاجتماع والافتراق معلومة ومن الواضح ان فنيّة الفن ليس باعتبار تدوينه بل هذا أمر سابق على التدوين مع ان الغرض لا يتعلق إلّا بعد التدوين والقول بدوران فنية الفن مدار التدوين مخالفة للوجدان لعدم متابعتها له كما عرفت وإلّا لزم التعدد فيما اذا اختلف الغرض من التدوين. وبعبارة أخرى. انه لو كان التدوين مما له دخل في فنية الفن لزم اختلاف الفن الواحد باختلاف كيفية التدوين.

٣٥

اشكال ودفع

أورد بعضهم بأنّ البحث في كل مسئلة انّما هو بواسطة الأمر الأخص فانّ الفاعلية والمفعولية وغيرهما أمور لا حقه فهذه عوارض بواسطة أمر أخص والعارض بهذه الواسطة غريب فمسائل الفنون خارجة عما ذكر من الميزان وهو كون الموضوع في كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.

وقد أجاب عن ذلك بعضهم بأنّ هذه اللواحق وسائط في الثبوت لا في العروض لتكون عوارض غريبه اذ ما به يحصل الاشكال هو كون الواسطة بأمر أخص في العروض.

وهذا الجواب منظور فيه فان فيه خلطا بين الواسطة في العروض والواسطة في الثبوت. بيانه. انّ المراد بالوساطة في العروض هو وقوع الواسطة ابتداء موضوعا لمحمول ومحمولا لموضوع آخر ومثاله انّ الموضوع الأوّلي في استحقاق الزكاة هو الفقير وأما زيد الفقير فهو عنوان انطبق عليه ذلك الموضوع فزيد موضوع ثانوي تبعي وانّما انطبق عنوان الاستحقاق عليه باعتبار صدق عنوان الفقر عليه فليس كل واحد من زيد والفقير معروضين لاستحقاق الزكاة بل أحدهما معروض والآخر تابع له ولذا لو زال عنوان الفقر زال الثاني أيضا وأما الوساطة في الثبوت فمعناه كون شىء واسطة في حدوث شيء آخر فهذا أعم من الواسطة في العروض باعتبار فانّ الفاعلية مثلا منشأ لرفع الكلمة فالموضوع هو عنوان الفاعل بخلاف مثل الوضوء فانّه منشأ للطهارة وأما الطهارة فليس عنوانا عارضا للمتوضّي وإلّا لزم انتفاء التطهر بمجرد الفراغ عن الوضوء بل هو عارض للشخص. وكذا ليست علقة الازدواج معروضة للايجاب والقبول وإلّا لزم زوالها بعد الفراغ عن الانشاء والمثال الأول

٣٦

للواسطة في العروض الآخران للواسطة في الثبوت. والحاصل ان الواسطة في العروض هو ما وقعت موضوعا لمحمول ثم تقع بعد ذلك موضوعا لمحمول آخر وليس في البين عروضان بل باعتبار انّ عارض العارض عارض وأما الواسطة في الثبوت فهي ما كان لها التبعية في الوجود واذا اتّضح لك ذلك علمت ان القول بكون الفاعل والمفعول والحال ونحوها وسائط في الثبوت في غير محله اذ لازم ذلك انه حينئذ لا تبقى واسطة في العروض أصلا وهو كما ترى. فانّ الرفع عارض لعنوان الفاعل وهو عارض للكلمة ولو تبدل هذا العنوان الى عنوان آخر كالمفعولية تبدل الرفع الى النصب والحالات المختلفة متفرعة على وجود التراكيب المختلفة.

وأما ما نقل عن بعض من انّ الموضوع ما يبحث فيه عن العوارض الذاتية أو عوارض العوارض فهو واضح الفساد ويظهر فساده وضعفه مما تقدم فراجع.

فالتحقيق في دفع الاشكال ما أفاده بعض المحققين وهو ابتكار منه في المقام (١).

فعليك بمراجعته والتأمل فيه.

__________________

(١) الظاهر أنّ المراد به هو العلامة المحقق المدقق الشيخ محمد هادي الطهراني النجفي المتوفى ١٣٢١ ه‍. صاحب المباني والآراء الخاصة به قدس‌سره فراجع كتابه الدقيق العميق المسمى محجة العلماء فإنّا قد أغمضنا عن ايراد ما فيه وتفصيله روما للاختصار ولبعض الجهات الأخرى.

المقرر

٣٧

نتيجة المقال

فقد ظهر مما تقدم الى حد الآن انه لا يلزم التكلف في جعل أصول الفقه فنا مستقلا خاصا واستقلاله في البحث عنه لا يلازم كونه فنا برأسه بل انّما هو عبارة عن عدة مسائل مرتبطة بالفقه لم يبحث عنها في مكان آخر أصلا كالبراءة والاستصحاب والاشتغال والتخيير أو انّها لم يستوف حقها في باقي العلوم كمسائل الأمر والنهي ونحو ذلك حيث انّهم قد تعرضوا لها في الصرف والنحو والمعاني والبيان إلّا أنها قد أعطى حقها من البحث في أصول الفقه.

٣٨

الوضع

الوضع هو تخصيص شيء بشيء أو تخصصه به بحيث اذا أطلق أو أحس الشيء الأول فهم منه الثاني والمراد منه في المقام هو كون اللفظ مرآة لمعنى جعلا ووضعا لا ذاتا لوضوح ان لفظ زيد ليس له في حد ذاته مرآتية بالنسبة الى الشخص المسمى بزيد الّا انّه لما جعل في قباله حصل منه نوع تخصص.

وقد انقسم الوضع عند القدماء الى قسمين الوضع العام مع الموضوع له كذلك والوضع الخاص مع الموضوع له كذلك والأول مثل لفظ (انسان. حيوان. ضرب.

أكل. ونحو ذلك) حيث أنّ الموضوع له فيها عام ذو مصاديق والثاني مثل زيد وعمرو والأعلام الشخصية.

وقد نسب الى العضدى احداث قسم ثالث (ولعله أول من قال بذلك) وهو الوضع العام والموضوع له الخاص. وقال في وجهه بما محصله : إنّا نرى ألفاظا تستعمل في الخاص مع عدم كون ذلك الخاص محدودا بحد كاسم الاشارة حيث وضع للاشارة الى مفرد مذكر (مثلا) وللمفرد المذكر مصاديق الى ما لا نهاية فلو قلنا انّ هذا من القسم الثاني لزم ادّعاء تصور الأمر الغير المتناهي ولو قلنا انه من القسم الأول لزم كون الألفاظ مجازات بلا حقايق لعدم استعمالها حتى في الموضوع له العام أبدا بل في فرد معين. ولكن الأفراد غير المتناهية وإن لم يكن تصورها تفصيلا إلّا انّه يمكن ادراج المفرد المذكر تحت عنوان عام فيقال مثلا بوضع (هذا) لكل فرد فرد من أفراد المفرد المذكر فحينئذ يمكن تصورها باعتبار معنى عام وتقول في الوضع الواحد وضعت هذا لهذا فالوضع عام لكونه عاما بالنسبة الى كل فرد من دون اختصاص بفرد معين وأما الموضوع له فهو خاص فإنّ المعنى العام لا يكون هو الموضوع له بل

٣٩

الموضوع له هو كل فرد فرد.

والعجب من بعض المتأخرين حيث ذكروا انّ عموم الوضع انّما هو باعتبار انّ الوضع آلة لملاحظة العام فالمفرد المذكر هو الملحوظ. ويرد عليه. انّ هذا لا يكون منشأ لعموم الوضع فإنّ الوضع هو التخصيص والتخصص ولا ارتباط للعموم والخصوص به بل ان عموم الوضع انّما هو باعتبار انّه لا ارتباط له بفرد معين ولم يقع هذا الاختصاص بفرد معين فالوضع عام والموضوع له عام فلا بد وان يكون في فرده عاما أيضا.

والتحقيق. امّا دعوى لزوم مجازات بلا حقيقة أو دعوى الوضع للأفراد الغير المتناهية فيرد عليه ان ذلك انّما هو فيما لو قلنا بالاستعمال في الخاص ولكنا لا نقول بذلك بل نقول بأن المستعمل فيه عام أيضا إلّا انّ الخصوصية من ناحية الاستعمال وفرق بين كون المستعمل فيه خاصا وبين كونه عاما مع وجود خصوصية من ناحية الاستعمال. وتوضيح ذلك :

ان معنى الاستعمال في العام هو لحاظ العام على وصف العموم وهذا الوصف مأخوذ في الموضوع له ويكون التعيين من ناحية الاستعمال.

فقولنا ضرب مفهوم عام ولكن اذا دخل عليه حرف العهد وقيل الضرب فيراد منه ضرب زيد لعمرو مثلا فحرف العهد أوجب تعيين الضرب في ضرب مخصوص. فالضرب قد استعمل في معناه العام إلّا انّه لما اقترن بحرف العهد انطبق على المعهود الذكرى فالتطبيق على الخاص انّما هو من ناحية الاستعمال فلم يستعمل اللفظ إلّا في معناه العام وهكذا الحال في أسماء الاشارة والموصولات والضمائر.

فقد علم انّه يمكن أن يكون كل من الموضوع له والمستعمل فيه عاما ولكن كان هناك خصوصية من ناحية الاستعمال باعتبار انطباقه على الفرد المعين إذ الاستعمال لا يكون في فرد معين بل كان بالنسبة الى ذلك المفهوم العام إلّا انّه انطبق

٤٠