بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

الظن في أصول الدين

العلم قد يحصل من النظر والاستدلال وقد يحصل من التقليد والقسم الثاني هو علم يحصل لا من جهة المدرك والدليل فلهذا يقبل الشك والزوال اذا أفاد جمع خلاف ذلك وأما القسم الأول فلا يزول إلّا أن يخدش في دليله.

ثم انّ الأقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء في مسئلة اعتبار الظن في أصول الدين وعدمه (حسب ما ذكره الشيخ الأعظم قدس‌سره ـ في رسالة الظن (١) ـ ستة :

١ ـ اعتبار العلم في أصول الدين عن النظر والاستدلال وهو المعروف عن الأكثر وادعى عليه العلّامة في الباب الحادي عشر اجماع العلماء كافة وربّما يحكى دعوى الاجماع عن العضدي أيضا لكن مدعاه انّما هو في مورد المعرفة. على ان المعرفة أعم.

٢ ـ اعتبار العلم ولو من التقليد وهو المصرح به في كلام بعض والمحكى عن آخرين.

٣ ـ كفاية الظن مطلقا وهو المحكى عن جماعة منهم المحقق الطوسي ، وكذا عن المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك والوحيد والمجلسي والكاشاني.

٤ ـ كفاية الظن المستفاد من النظر دون التقليد. حكى عن الشيخ البهائي في بعض تعليقاته نسبته الى بعض.

٥ ـ كفاية الظن المستفاد من أخبار الآحاد وهو الظاهر مما حكاه العلّامة في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ٥٥٣.

٢٠١

النهاية عن الاخباريين.

٦ ـ كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجبا مستقلا لكنه معفو عنه كما يظهر من عدة الأصول للشيخ في مبحث أخبار الآحاد.

ثم قال الشيخ الأعظم قدس‌سره ان محل الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام غير منقح فالأولى ذكر الجهات التي يمكن التكلم فيها ثم ذكر ما يقتضيه النظر (١).

أقول : قال صاحب القوانين قدس‌سره : العلم الذي يتعلق بالعمل بلا واسطة فهو الفروع وما لا يتعلق كذلك فهو الأصول (٢) وان اشتبه الأمر على كثير منهم (كصاحب الفصول) فيما يتعلق بالعمل أي ما يعرض ويحمل على العمل بلا واسطة.

ولذلك قد استشكلوا بأنّ المراد من العمل هل هو عمل الجوارح أو الأعم من عمل القلب فإن كان مطلقا فالتعريف ليس مانعا من الأغيار فإنّ أصول هذه عمل قلبي وأما إن كان المراد من العمل عمل الجوارح فبعض الأعمال القلبية لا يكون خارجا بل يبقى في التعريف كالحسد والكبر والعجب والرياء فالتعريف لا يكون جامعا.

أقول : ان المقصود بالعمل هنا ما يطابق الاعتقاد فإن ما يتعلق بالعمل أي بالاعتقاد والمراد من المتعلق ليس هو المعروض بل ما كان من قبيل المغيّى بالغاية فالغرض من ايجاب المعرفة بأصول الدين هو حصول الاعتقاد بالنبوة والامامة والعدل وساير الجهات الأصولية والمراد من الاعتقاد ليس هو نفس العلم فإنّ القرآن الكريم يقول : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً ...)(٣) فإنّهم كانوا على اليقين ومع ذلك كانوا منكرين فالمراد من الاعتقاد هو عقد القلب على عمل والتدين بذلك العمل.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ٥٥٥.

(٢) قوانين الأصول : ج ١ ص ٥ الطبعة القديمة مع تغيير موجز في اللفظ المنقول غير مخلّ بالمعنى.

(٣) سورة النمل : آية ١٤.

٢٠٢

فنقول مستعينا بالله تعالى :

البحث يقع في مقامين :

أحدهما. ما يجب الاعتقاد به والتدين غير مشروط بحصول العلم كالمعارف فيكون تحصيل العلم من مقدمات الواجب المطلق.

والثاني. ما يجب الاعتقاد والتدين اذا اتفق حصول العلم وذلك كما في بعض المعارف سواء كان واجبا مطلقا أو مشروطا كتفصيلات البرزخ.

وتوضيح ذلك وتفصيله :

إنّ الاعتقاد المطلوب في الأصول والفروع ليس المقصود منه التصديق أي الاعتقاد الجازم المطابق للواقع فإنّ مع الاعتقاد التصديقي والتفصيلي يمكن الجحود أيضا ـ كما في الآية السابقة ـ فهذا النحو من الاعتقاد ليس كافيا بل الاعتقاد المطلوب هو الالتزام والأخذ بترتيب آثاره لكن هذا الالتزام لو كان مع التصديق كان هو الاسلام اذ هذا الالتزام المتحقق به الاسلام يجب أن يكون التصديق القلبي ورائه حتى يترتب عليه آثار الايمان لكن آثار الاسلام هو الالتزام الأول وهذه الآثار في الدنيا عبارة عن طهارة البدن. والارث. وحقن الدم والنكاح والانكاح وما الى ذلك.

فلو التزم بأمر وطابق الواقع لكن ظهر منه نفاق ولم يتمكن من المعرفة والتصديق عن دليل ، يلزم ان يكون ناجيا في الآخرة اذ لم يقصّر في التصديق لعدم حصول المعرفة أو لضعفها ففي صورة تطابق الالتزام مع الواقع وعدم التقصير فهو من المستضعفين بل حتى ولو كان في حالة الكفر. فهذا بطريق أولى.

والمحصل. انّ المقصود من الاعتقاد اللازم هو الالتزام أولا والتصديق عن دليل وبرهان ثانيا حتى ولو كان ذلك عن تقليد فهو كاف كمن ليس له قوة الاستدلال بل أن تكليفه بالاستدلال حينئذ غير صحيح. وأما بالنسبة الى من له قوة الاستدلال ففي صورة عدم التصديق عن دليل يكون مقصّرا نعم يكفي الدليل سواء كان اجماليا

٢٠٣

أو تفصيليا.

وخلاصة الكلام. انّ الاعتقاد اللازم في باب أصول الدين هو الالتزام ولا يكفى مجرد التصديق فإنّ التصديق يجتمع مع الجحود وانّ الالتزام يجتمع مع الشك والترديد لكنه محقق للاسلام وأما المحقّق للايمان فهو الالتزام المجامع مع التصديق.

وأما المنافقون الذين ليس لهم التزام فهم خارجون عن الاسلام وإن كان آثار الاسلام يترتب في الظاهر عليهم وذلك من جهة انّ الله تعالى قدّم الظاهر فما داموا يراعون الظاهر ويعملون بالظواهر يترتب عليهم أحكام الاسلام في الدنيا.

تتمة مهمّة

ثم انّه ينبغي الكلام فيما لم يتعرض له الشيخ قدس‌سره في الرسائل ولا ربط له بالمقام لكنه تعرض الحاجة اليه في أمثال الارث وهو انّه هل الكفر والاسلام نقيضان أو ضدان (هل لهما ثالث أم لا؟)

فنقول : من البديهي انّهما ضدان وذلك لثبوت الواسطة في مثل الصبي قبل البلوغ حيث انّ فيه الاسلام أو الكفر تبعا لكن ليس له ذلك حقيقة وان ترتب عليه آثار الكفر أو الاسلام باعتبار تبعيته للأبوين أو أحدهما فلو كان الكفر والاسلام نقيضين يلزم ثبوت احداهما في هذا الصبي.

مضافا الى انّ الكفر هو الادبار عن الله والاسلام هو التسليم وكلاهما أمران وجوديان ومتفرعان على التوجه والتنبه فلو لم يلتفت الى انّ العالم له إله أو ليس له فليس له تصديق ولا تكذيب فهو لا مسلم ولا كافر وعلى هذا فلو كان له أب مسلم فهل يرث منه أم لا؟ (فإنّ الاسلام التبعي كان منه قبل البلوغ).

٢٠٤

إنّ الأصحاب جعلوا الكفر أحد موانع الارث (لا ان الاسلام شرط في الارث) اذ بناء على الاشتراط لا يرثه حتى يحرز الشرط. مع انّه يرثه.

لكن الفقهاء قدّس الله أسرارهم قد استنبطوا من الروايات ان من موجبات الارث هو النسب والسبب ومعناه ان النسبة بين الكفر والاسلام هو نسبة التضاد الذي فيه الوجود الثالث فعلى هذا فهو يرثه ـ في محل البحث ـ والأخبار أيضا تدل على أن الكفر مانع.

والأمر كذلك عقلا بحسب التأييد فإنّه اذا ثبت النسب أو السبب فهو وإن كان غافلا وغير ملتفت إلّا ان ما يخرجه عن استحقاق الارث هو الكفر وهذا ليس كافرا.

والروايات واضحة بهذا الأمر ولذا يمكن أن يكون بعض الأخبار التي تخالف الأصل راجعة (بالبيان المذكور) الى موافقة الأصل.

وبعد وضوح تحقق الضدين بين الاسلام والكفر فلا بد من مراجعة الفروع الفقهية المرتبطة بالمقام كمسائل ارث الأولاد ونحو ذلك ليكمل المبحث وتتضح المسألة ويتم المطلب والمطلوب.

هذا آخر ما استفدنا وحرّرنا من افادات سيدنا الأستاذ العلامة المحقق البهبهاني قدس‌سره وأبحاثه الراقية في أصول الفقه في حوزته العلمية الدينية ببلدة (أهواز).

وقد وقع الفراغ من إعادة النظر فيها وتدوينها وتنقيحها والاشارة بمصادرها ومنابعها في الساعة الحادية عشرة من ليلة السبت ، ثالث شهر شعبان المعظم سنة ١٤٢٢ هجرية قمرية (يوم ميلاد الامام السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه وعلى أولاده وأصحابه) وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين المعصومين والحمد لله رب العالمين.

أقل طلبة العلم : السيد علي الشفيعي

٢٨ / ٧ / ١٣٨٠ ه‍. ش

٢٠٥
٢٠٦

الملاحق

تشتمل على عدّة مباحث فقهية وكلامية وفلسفية ومنطقية

من تقريرات سماحة الأستاذ المحقق العلّامة

الحاج السيد علي الموسوي البهبهاني

تغمّده الله برحمته الواسعة

المقرر ـ السيد علي الشفيعي

٢٠٧
٢٠٨

(١)

كتاب الصوم *

بسم الله الرّحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

مقدمة في فضيلة الصوم

قد ورد في الحديث القدسي: الصوم لي وأنا أجازي به (أو أجازي عليه. خ د) (١) وهيهنا سؤالان :

الأول. إنه ما الوجه في اختصاص الصوم بالله ته مع ان جميع العبادات له تعالى شأنه من حيث التقرب بها إليه وحصول التقون بها ولولا تلك الجهة فلاتعود إليه عبادة أصلا فإنه سبحانه لا ينفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه (٢).

__________________

(*) هذا المبحث بده به سيدنا الأستاذ المحقق البهبهاني في شهر رمضان سنة ١٣٨٤ ه. ق وألقاه علينا في مجلس الدرس إلى أوائل البحث عن مفطرات الصوم فقررناه وكتبناه في حينه ولكنه لم ينمه وذلك لكارثة وفاة والده (وقد أشرنا إلى ذلك في خاتمة المبحث).

(١) وسائل الشيعة ـ ج ص ـ كتاب الصوم الحديث لا من الباب الأول من أبواب الصوم المندوب (عن أبيعبدالله ال قال : إن الله تعالى يقول : الصوم لي وأنا أجزي عليه.

() نهج البلاغة. خطبة المتقين

٢٠٩

الثاني. إنه ما المراد من قوله سبحانه (وأنا أجازي به أو عليه) إذ لو كان المقصود إنه هو الذي يجازي على الأعمال فكل عبادة كذلك ولو كان في الصوم اختصاص فما هو؟

أما السؤال الأول. فقد أجاب عنه الطريحي في مجمع البحرين فقال : وأحسن ما قيل فيه هو أن جميع العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى من صلوة وغيرها قد عبد المشركون بها ما كانوا يتخذون من دون الله أندادة ولم يسمع أن طائفة من طوائف المشركين وأرباب النحل في الأزمنة المتقدمة عبدت إلها بالصوم ولا تقربت إليه به ولا عرف الصوم في العبادات إلا من الشرايع فلذلك قال تعالى : «الصوم لي ومن مخصوصاتي وأنا أجزي عليه بنفسي لا إكله إلى أحد غيري من ملك مقرب ولا غيره ...». (١)

هذا وقد ذكر المحدث البحراني في الحدائق وجوها ثلثة واعترض على كل واحد منها:

الأول. إن الصوم لما كان فيه من ترك الشهوات واللذات المراجعة إلى البطن والفرج (وهذه هي عمدة اللذات الجسمانيه أو ليس كذلك في سير العبادات ولو كان في بعضها فلا يصل إلى مرتبة الصوم ، کالا حرام مثلا. فإنه فيه ترك لذة الجامعة ومايتعلق بها ولكن لا منع فيه عن الطعام والأكل. فالصوم أدق العبادات وأرقاها فلذا خصه الله تعالى لنفسه.

الثاني. إن الصوم أمر خفي لا صورة له ولا مظهر فلذا هو بعيد عن الرياء وأمثال ذلك.

الثالث. إنه لاشتماله على الجوع واجتناب الأكل والمأكولات موجب للصفاء

__________________

(١) مجمع البحرين : مادة (جزی) ص من الطبعة القديمة.

٢١٠

في العقل والجلاء في القوى العاقله ... (١).

أقول : يلزم أو تحقيق الصوم وانه هل ينطبق معناه الاصطلاحي الشرعي على مفهومه اللغوي أم لا؟ وهل له حقيقة شرعية أو انه مجاز بالنسبة إلى الموضوع اللغوي وان الشارع قد استعمله في المعنى الشرعي مجازا أو غير ذلك فاللازم أولا تنقيح هذا المبحث.

قال صاحب المعالم : لا شبهة في أن الشارع قد استعمل ألفاظا في غير معانيها اللغوية كالصوم والصلوة والزكوة والحج فاستعملها في غير معنی مطلق الإمساك والدعاء والنماء والقصد وإنما الكلام في ان هذه المفاهيم المخالفة للمعنى اللغوي منها هل وضعها الشارع أو انه استعملها مجاز باعتبار العلاقة بين المعنيين وبناء على القول بعدم الوضع الابتدائي فهل وصلت إلى حد الحقيقة في زمان الشارع بسبية غلبة الاستعمال أم لا بل بقيت على حالة المجاز فيلزم حملها على معانيها اللغويه (٢)

أقول : التصرف يتصور على ضربين.

أحدهما : سلب لفظ عن مفهومه الأولى واستعماله في مفهوم آخر. وللبحث عن الحقيقة والمجاز في هذا الفرض محال. فيقال أن أستعمال اللفظ في هذا المفهوم الثاني مجاز أم لا وعلى الأول فهل وصل إلى حد الحقيقة أم لم يصل؟

وثانيهما : أن لا يكون تصرف وتغيير في المفهوم اللغوي وانما يجعل مصادیق له غير معروفة ولا متعارفة بمعنى أنه لم يكن يعرفها أهل اللغة قبل ذلك. وهذا كما

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ج ص و.

() معالم الأصول : مبحث الحقيقة الشرعية (ص ٢٦) من الطبعة القديمة الحجرية وقد نقلها الأستاذ المحقق وبالمعني ونحن قررناها كما تقلها ، فراجع

٢١١

هو الحال في مورد اظهار التعظيم الذي عرف في اللغة والعرف بالقيام للمعظم له والسلام عليه وعدم التقدم عليه في المشي ونحو ذلك. لكن رئيس الجمند وقائد القوات يفرض على الجند أن يكون تعظيمهم له برفع قلانسهم عن رؤسهم. أو الضرب بأرجلهم على الأرض وأمثال ذلك ورفع أسلحتهم وغيره فهذا التعظيم المجعول والمفروض من قبل أمير الجيش إنما هو مصداق مجعول لمفهوم التعظيم في اللغة لم يكن معروفا قبل هذا الجعل. وهكذا حال الشارع الأقدس بعينه فإن العبادات الشرعية قسمان ، قسم تكون عباديته ذاتية بالنسبة اليه سبحانه کالركوع والسجود والطواف وهذا خارج عن البحث وقسم ليس له عنوان العبادة بالذات وإنما الشارع جعلها عبادات کالسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات وأمثال ذلك.

والحاصل أن الموضوعات الشرعية كالصلوة والصوم والحج والزکوة ليست من باب استعمال الشارع لها في غير معانيها اللغوية بل أنما هي مصادیق مجعولة من قبل الشارع للمفهوم اللغوي فإن الصلوة مثلا عبارة عن العطف والتوجه لكنها من الله تعالى الرحمة والعناية ومن العبد بالنسبة إلى الله سبحانه هي التذلل والمسكنة وبالنسبة إلى النبي وهي طلب الرحمة من الله له ومعهذا فان المفهوم في الجميع واحد وهو الاقبال والعطف.

فإذا كانت العبادات مصادیق مجعولة للمفهوم اللغوي فلا ارتکاب للتجوز بل هو من باب استعمال الرجل في معناه المعهود ثم تطبيقه على زيد نعم لو كان التطبيق في غير محله كما في زید عدل لكان التجوز في النسبة وأما في مورد جعل المصداق فلا مجاز في البين بوجه.

وإن شئت زيادة توضیح فانظر إلى الطهارة عن الخبث والحدث فان الخبث الذي يعرفه العرف هو المفهوم اللغوي له والذي يعرفه الشارع هو المصداق المجعول من قبله کبدن الكافر ـ فإن العرف يرى الكافر نظيفة ولكن الشارع يرى ذلك قذراً

٢١٢

ونجسا وهكذا في الاحداث.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ الصوم في اللغة ليس هو مطلق الإمساك ولهذا قال الخليل في كتاب العين (١) : انّه ترك الطعام والكلام الجامع بين سدّ الفم عما يدخل فيه ويخرج منه.

وأما قولهم : صامت الشمس فهو باعتبار انّه لما كانت الشمس متحركة على الدوام فهذا الركود الطفيف منها كف عن الحركة المعتادة فيعبر عنها بصوم الشمس وهكذا بالنسبة إلى كل شيء سكنت حركته. فمجرد الإمساك ليس هو الصوم بمعناه اللغوي بل انّ الصوم يصدق فيما إذا حصل الاعتياد فيه بشيء ثم يكف عنه.

فالصوم هو ما عرّفه الخليل في كتابه العين لكن الشارع رأى بعض الأمور موجبا لبطلان الصوم كالجماع والاستمناء وتعمد الإصباح جنبا وغيرها فهذه المفطرات أما جزء في حقيقة الصوم أو أنّ اعتبارها بنحو الشرطية. وتظهر الثمرة فيما إذا صام المكلف وهو لم يفهم من الصوم إلّا ترك الطعام والشراب ولم يأت بأيّ مفطر من المفطرات فعلى القول بأن الصوم هو ترك الطعام والكلام وإنّما المفطرات موانع له أو ان تركها معتبر فيه فقد حصلت منه نية الصوم وترك الطعام (إذ لم يعتبر الشارع ترك الكلام) ولم يأت بمانع من الموانع فالصوم وقع صحيحا. وهذا الوجه هو الظاهر. وأما على القول بأنّ الصوم هو مطلق الإمساك وقد جعله الشارع موضوعا في الشرع فالصوم هنا غير صحيح حيث انّه لم ينو ترك المفطرات وإن لم يرتكبها فهو غير ناو للصوم وإنّما الأعمال بالنيات ولا عمل إلّا بنية (٢).

__________________

(١) العين : ج ٢ ص ١٠٢٠ ـ قال : الصوم ترك الأكل وترك الكلام. وعلى هذا فالجملة التالية (الجامع بين سدّ الفم ...) ليس من الخليل بل هو توضيح من الأستاذ الجليل.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١ ص ٤٦ و ٤٧ ـ الى ص ٥٣ ـ الباب ٥ ح ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٦ و ٩ و ١٠ والباب ٦ ح ١٥.

٢١٣

فالمتحصل انّ الصوم كما أفاد الصاحب بن عباد في المحيط والخليل في العين عبارة عن ترك الطعام والكلام وباقي الأقسام إنّما هي أفراد للمعنى المذكور تنزيلا والمفطرات المقررة في الشريعة بعضها موانع وبعضها شروط ولا دخل لها في النية.

وأما السؤال الثاني : فيظهر الجواب عنه مما ذكرناه بأن يقال : انّ الأعمال على قسمين قسم يجازي الله عليها من دون واسطة بل بذاته المقدّسة وقسم يجازي عليها لا كذلك. والصوم لكونه عبادة شريفة عظيمة فهو من القسم الأوّل كما عرفت من كلام صاحب المجمع. وفيه. أيضا انّ هذا بيان لكثرة الصواب فراجع وقد ورد في مطاوي الروايات الواردة في مواضيع متفرقة ما يؤيد هذا المعنى.

الأمر الثاني

ذهب بعضهم إلى أن الصوم أمر عدمي يعتبر فيه قصد التقرب ولا منافات بين كونه عدميا وكونه عبادة فيمكن الجمع بين الأمرين.

ولكنه ذهب بعض المحققين الى انّه لو كان الصوم أمرا عدميا لكان عبارة عن النهي عن الأكل والشرب وغيرهما لا أن يكون أمرا بالصوم فحيث انّه تعلق الأمر الشرعي به والعدم ليس بشيء ولا يقبل شيئا في حد ذاته فهو أمر وجودي. والمفسدة والمصلحة في الوجود لا في العدم ـ هذا أولا.

وثانيا ـ انه لو كان عدميا لزم انقلاب العدمي إلى الوجودي إذا أكل في أثنائه سهوا ـ لا يقال : ان ذلك معفو عنه ـ فإنّ في الروايات ما يؤيد خلاف ذلك كما في قوله عليه‌السلام : رزق رزقه الله. أو رزق ساقه الله إليه. فالصوم باق بحاله وهذا يدل على انّه ليس عدميّا. بل هو أمر وجودي عبارة عن الحمية والاتقاء وذلك لا ينافيه وجود خلاف فيه في الخارج كما هو الحال في العدالة فإنّها ملكة نفسانية ولا تزول

٢١٤

لصدور عمل من صاحبها سهوا (١) وكذا الصائم الذي له الحمية والاتقاء من الأكل والشرب لا يبطل صومه بارتكاب مفطر سهوا.

الأمر الثالث

هل ان النية في العبادات (سواء الصوم أو غيره) جزء من حقيقة العمل أو شرط له قال المحقق قدس‌سره : إنّه بالشرط أشبه (٢).

والوجه في الأشبهية واضح إذ لو كان جزء لزم كونه عدميا (لو فرض الجزء في الاعدام) ليستمر إلى آخر العمل. ولكن الأجزاء وجودية فلو كانت النية جزء يلزم التعاقب فيه بمعنى ذهاب جزء ومجيء جزء آخر مكانه كما هو الحال في تكبيرة الاحرام والحمد والسورة والركوع والسجود وهكذا ـ لا ان يبقى الجزء الواحد مستمرا فإذا لزم كون الاجزاء وجودية ولازم الجزء زواله وحدوث آخر مكانه ونرى أنّ النية يشترط استمرارها إلى آخر العمل فهذه المقدمات يثبت انّها أشبه بالشرط وهكذا الحال في غير العبادات.

ومما يدل على نفي الجزئية انّها لو كانت جزء لزم ان تكون هذه النية منوية بأن تتعلق بها نية أخرى والمفروض انّ هذه النية أيضا كذلك فيحتاج إلى نية ثالثة فيتسلسل ومن البديهي ان النية ليست منوية فليست جزء للعمل بل خارجة عنه فكانت أشبه بالشرط.

__________________

(١) وأما بناء على كون العدالة عبارة عن الاستقامة العملية في جادة الشرع وعدم الانحراف عنها يمينا وشمالا ـ كما هو الظاهر ـ فتزول العدالة بمجرد ارتكاب ما يوجب الانحراف ولكنها تعود بمجرد التوبة. والتفصيل في محله.

(٢) شرايع الاسلام ـ المجلد الأول ـ ص ١٨٧ مبحث نية الصوم.

٢١٥

وذهب بعض المحققين إلى انّها ليست بشرط ولا جزء بل منزلتها أعظم من منزلتهما فإنّها روح العمل وقوامه فنسبتها إلى العمل نسبة الروح إلى الجسد ولو كانت شرطا للزم أن تكون خارجة عن العمل مع ان صلاتية الصلاة وعنوانها منوطة بها وكذا في باقي العبادات إذ من المعلوم ان لباس المصلي لو كان نجسا فالصلاة قد حصلت صورتها خارجا وإنّما فقدان الصحة باعتبار فقدان الشرط ولكن في المقام لا يتحقق عنوان الصلاة أو غيرها إلّا بها. هذا مضافا إلى أن الشرط تابع للمشروط وإلّا فلا يتعلق به الوجوب أولا بل باعتبار توقف صحة العمل عليه وإنّما النظر إلى المشروط نفسه والحال أن التعبد والنية أمر أصيل في العبادات لا فرع.

ومع ذلك يمكن تصحيح قول المحقق من أنها أشبه بالشرط بلحاظ الشباهة في الأثر فإنّها أمر مستمر في العمل من البدو إلى الختم كما هو الحال في الشرط.

وإذ قد تبيّن ذلك عرفت انّ الاختلاف في كون النية ركنا أم لا ساقط من رأسه لابتنائه على انّها جزء أو شرط فإذا بطل المبنى سقط البناء.

الأمر الرابع

الحقّ ان النية عبارة عن الداعي إلى العمل لا الأخطار بالبال والألزم استمرارها في جميع آنات العمل من أوله إلى آخره ، وهذا مما لا يمكن تحققه ولا معنى للاستمرار الحكمي. وأما على المختار فاستمرارها تحقيقي. توضيح ذلك :

إنّ النية لغة هي القصد وهو من الأمور النفسانية فيكفي فيه الداعي من دون احتياج إلى أمر آخر فإنّه عند الخروج من البيت إلى مقصد آخر لا يخطر في قلبك بأنّي أخرج من بيتي وأقصد بيت فلان من الشارع الفلاني بحيث لو لم تخطر هذا كنت مخلا بالنية. بل يتعلق القصد إلى إيجاد عمل بمجرد حصول الداعي في النفس ولم يعتبر في

٢١٦

الشرع مفهوم آخر زائدا على ذلك بل الملحوظ هو الجهة الذاتية اللغوية فلا داعي إلى لزوم الاخطار بالبال بمعنى انّه لو تجرد عنه لم تكن فيه فائدة.

والاعتذار بأن المراد عدم قصد الخلاف ـ لا يجدي ـ لوضوح انّه لو أخطر بالبال ثم ذهل عنه يلزم أن لا يكتفي به فالعبرة إنّما هو بالقصد والاخطار لو كان مجامعا لبقاء القصد فلا بأس ولكن العبرة بالقصد. وعليه فلا معنى للاستمرار الحكمي فإنه لو اعتبرنا الاخطار فلا مجال لاستمراره إذ حاله كحال ساير الأجزاء مثل تكبيرة الاحرام أو الركوع والسجود.

وأما لو كانت النية هي الداعي والاخطار استحضارا لها فيلزم استمراره التحقيقي وبعبارة أخرى ـ لو كانت النية هي الاخطار كان هذا فعلا من أفعال النفس فهو غير قابل للاستمرار سواء الحكمي أو غيره لوضوح انّه إذا لم يكن مجال للاستمرار تحقيقا فالحكمي منه كذلك ولو كان الحكمي ممكنا لزم أن يكون التحقيقي كذلك أيضا.

وأما بناء على كونها الداعي فمع انّه موافق لتعريف أهل اللغة له. لا يلزم ولا يرد اشكال أصلا.

الأمر الخامس

هل يعتبر قصد الوجه وكذا التمييز وصفا أو غاية؟ ـ أو أنّه لا دليل على الاعتبار ـ

لا يخفى انّ القدر المتيقن الذي اعتبره العقل والشرع هو اخراج المنوى عن الإبهام أما إذا قصد الجامع فلا إبهام كالإتيان بركعتين حيث صلحتا للوجوب والندب والقضاء والاداء فإذا تشخصت الصلاة فلا بد وان تكون إمّا واجبة أو مندوبة. وإمّا

٢١٧

أداء أو قضاء فانّ المبهم لا يقع على إبهامه خارجا لعدم التشخص ما لم يكن وجود وعدم الوجود ما لم يكن تشخص وهكذا الحال في غير العبادات كما في نكاح إحدى البنتين أو طلاق إحدى الزوجتين. والمناقشة فيه بأن النكاح على احداهما لا على التعيين فالمبهم يقع خارجا على ابهامه ـ غير مسموعة ـ للزوم الترجيح بلا مرجح في صورة لا على التعيين فلذا كان طلاق إحداهما أو النكاح كذلك باطلا بحكم العقل.

والحكم بصحة النكاح أو الطلاق ثم الاستخراج بالقرعة كما عن بعض ـ أو التعيين باختياره كما عن بعض آخر. لا وجه له. أما القرعة فلأنّ موردها ما كان المقصود متعينا ثم اشتبه وفي المقام ليس تعين أصلا (١) وهكذا التخيير فإنّه لا وقوع حتى يختار إحداهما فرجع الأمر إلى الترجيح من غير مرجّح.

والمتحصل. ان الخصوصيات المرتبطة بالوضوء والغسل أو الصلاة أو غيرها إنّما تعتبر فيما يتوقف تعيين العمل عليها ـ كما نبّه الشهيد الثاني على ذلك ـ وإلّا فلا تعتبر. ففي الوضوء لا يعتبر ان يقصد الإباحة ولا غيرها بل تكفي نية الوضوء وهذا كاف. لأن السببية للطهارة ليست بجعل سوى الشارع وهكذا الحال في الصوم فإنّ صوم يوم واحد يصلح في حد نفسه للأداء والقضاء والواجب والندب وعن نفسه أو عن غيره بل لعل هذه الخصوصيات تتنافى مع كمال العبودية كما أفاد ذلك بعض الأعاظم من أرباب البصيرة.

ومن ثمرات هذه المقدمة انّ في يوم الشك وانّه من شعبان أو من رمضان تكفى

__________________

(١) مورد القرعة لا ينحصر فيما لو كان في الواقع تعين واشتبه ذلك المتعين بل لعل هذا لا يتطرق ـ كما قيل ـ إلّا في مورد الغنم الموطوء في قطيعة غنم ـ على ما ورد به النص ـ بل ان القرعة في جلّ مواردها لو لا الكل يكون فيما لا تعين إلّا بسبب القرعة ـ وذلك لرفع التحيّر والترديد ـ ولعل من هذه الجهة صار بناء العقلاء على اجرائها في كافة موارد الترديد والحيرة. والتفصيل في محله من مبحث القواعد الفقهية فراجع. المقرر.

٢١٨

نية الصوم من دون أيّة خصوصية كما وانّه لو نوى صوم شعبان عملا بالاستصحاب أجزأه ولو بان خلافه وانّه كان رمضان فيقع منه وعليه النصّ والاتفاق. إلّا انّ الكلام في انّ اجزائه وانحسابه من رمضان هل هو تعبد محض أو ذلك أمر منطبق على القواعد الأوّليّة؟

يمكن المصير إلى الثاني بتقرير انّه كان ناويا لصوم هذا اليوم لكن لما لم يثبت انّه من رمضان استصحب شعبان فالاستصحاب أمر زائد على أصل نية الصوم ولما انكشف انّه كان من رمضان كان استصحابه لغوا إذ كان حكما ظاهريا وزائدا فلم يتغير الواقع عما هو عليه لثبوت أصل نية الصوم ولا يجعله من شعبان حقيقة وقصده غير مؤثر فهو معذور في قصد الخلاف كما وانّه لو نواه من دون أي قيد ثم بان أنّه من رمضان صحّ وأجزأه وهكذا الحال فيما لو نوى قضاء صوم فات منه سابقا غافلا عن انّ هذا اليوم من رمضان لوقع من رمضان ولغى قصده قضاء فائتة.

والحاصل انّه لما كان أصل النية والقربة حاصلا وثابتا فلا اشكال فإن صوم رمضان متعيّن وضعا فيقع منه سواء قصده أم لا نعم لو أخلّ بأن قصد الخلاف أو قصد صوما آخر عالما فلا يقع من رمضان ولا مما قصده. كما لا يخفى.

تتمّة

لا يضر انضمام الخوف من النار أو الطمع في الجنة أو غير ذلك مع النيّة فلا يعتبر تجريدها عنهما أما المعصومون سلام الله عليهم أجمعين فمن المعلوم صدور العبادة عنهم على أكمل وجه وأتم صورة لا بداعي خوف من النار ولا طمع في الجنة كما نسب إلى أبي الأئمة عليه‌السلام (١).

__________________

(١) نهج البلاغة.

٢١٩

إلّا انّه يظهر من بعض ما ورد عنهم من الأدعية ما لا يلائم ذلك وانّ الخوف والطمع المذكورين كانا من أعظم ما في نصب أعينهم.

ويمكن التوفيق بأن الخوف من النار له عنوانان أحدهما من حيث الاحراق واللظى والأذى والآخر من جهة أنّ النار مظهر غضب الله وسخطه وهكذا الحال بالنسبة إلى الجنّة فما ورد عنهم من حيث الخوف والأمل فيحمل على الوجه الثاني فصدور العبادة عنهم بداعي الخوف من النار أو الطمع في الجنة هو من جهة الحذر عن غضب الله سبحانه وتعالى أو جهة الشوق إلى قربه ورضاه وذكر الجنة والنار بلحاظ وقوعهما طريقا إلى رضاه وسخطه ومع ذلك فلا ينافى أيضا ما في بعض الألفاظ المأثورة عنهم عليهم‌السلام كقوله في دعاء كميل (ورقّة جلدي ودقّة عظمي) وأمثال ذلك بل يظهر رجوعها إلى ما ذكرناه من الجمع بأدنى تأمل في أطراف البحث.

البحث عن مفطرات الصوم

١ ـ الأكل

مسئلة. لا فرق في مفطرية الأكل بين المعتاد وغيره وما نسب إلى المرتضى قدس‌سره من أن أكل غير المعتاد لا يفطر. لعله لا يكون خلافا في المسألة فإنّ تحقق الأكل لا يفرق فيه بين المعتاد وغيره وإنّما الفرق بين المأكول وغيره. والمنسوب إلى السيد يظهر منه الفرق من الجهة الثانية لا الأولى. حيث انّه مثل بأكل الحصى فإنّ الأكل فيه غير متحقق إذ عنوان الأكل إنّما يصدق فيما اذا كان متعلقه مأكولا والمأكول ما تصرف فيه المعدة ومن الواضح انّ الحصى ليس كذلك فتمثيله بالحصى لابداء الفرق بين المأكول وغير المأكول وانّ الأول يضر والثاني لا يضرّ لعدم صدق عنوان الأكل عليه لا لإبداء الفرق بين المعتاد وغيره.

٢٢٠