بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

فيما بين الدفتين لوضوح انّه عند نزول القرآن لم تكن في البين دفة أو دفّتان. فالكتاب هو الكلام المؤلف السابق على النقش والتعبير مما بين الدفتين بالكتاب إنّما هو مصداق ومن المعلوم ان كتاب الله كتاب حتى قبل وجود العالم انتقش أو لا قرء أم لا.

وبالجملة فلا كلام في ان الكتاب من جملة المصادر إلّا ان أكثر أهل العربية ذهبوا الى انّها بمعنى المفعول فهذا كتابنا أي مكتوبنا كما انّه قد ورد اللفظ والخلق بمعنى الملفوظ والمخلوق والنطق بمعنى المنطوق والصنع بمعنى المصنوع.

ولا يخفى انّ هذا لا يتم على اطلاقه بل فيما لم يكن وجود المفعول خارجا مع وجود الحدث أمرين اذ من المعلوم انّه قبل اللفظ لا ملفوظ حتى يقع اللفظ عليه وكذا الخلق والصنع مثلا فوجود المفعول في الخارج متحد مع وجود المصدر فهذا خلق الله أي ايجاد الله فلم يكن قبله شيء حتى يقع الايجاد عليه.

وأما اذا كان للمفعول خارجا وجود مستقل والفعل وقع عليه فلا علاقة حتى يستعمل الحدث فيه كالضرب والمضروب والحب والمحبوب والطلب والمطلوب فالمفعول في أمثال هذه الموارد مقدم وجوده على وجود الفعل فلا اتحاد اللهم إلّا ان تكون هناك جهة خاصة خارجية كزيد عدل.

وكيف ما كان ـ فلنرجع الى المقصود. فنقول ـ ان للكتاب محكما ومجملا ومتشابها ـ والمجمل هو ما لا سبيل الى الكشف عنه إلّا بالسؤال عن المعصومين سلام الله عليهم أجمعين. كفواتح السور التي هي رموز وحروف مقطعة ومن المعلوم عدم امكان الرجوع الى لغة بالنسبة اليها وأما المتشابه فهو ما كان ذات احتمالات كالألفاظ المشتركة التي لا يمكن تعيين المراد بها بسبب الظن والحدس والسرّ في اشتمال الكتاب على المجمل والمتشابه مع ان الغرض منه هو الارشاد والهداية ولا هداية في المجمل والمتشابه بل قد تكون منشأ للاضلال وهذا ينافي حكمة الباري سبحانه ـ هو ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه وآله من ان الله تعالى قسّم كتابه على

١٦١

المحكم والمجمل والمتشابه لتميز الحق عن الباطل وتشخيص القشر من اللباب فان كل عاقل اذا راجع القرآن ورأى هذه الأقسام فيه يعلم انّ الله لا يصدر اللغو عنه فلا بد من أن يكون هنا مترجم رباني مقرون بالكتاب لئلا ينافي حكمته ومن المعلوم ان أوّل مترجم للقرآن والمبين له هو خاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى أوصيائه ثم من يحذو حذوه ويكون خليفته بعده ثم من اقتبست علومهم من علومهم فإذا احتاج الناس الى شيء من القرآن وراجعوا الخلفاء ورأوا ان هناك من لا يفهم حتى معنى الأبّ (بالتشديد) وشاهدوا من أحاط بكل سرّ في القرآن الكريم فلا بد من أن يعرف المحق عن المبطل والصادق عن الكاذب كما ورد في قضايا عديدة من مراجعة علماء اليهود والنصارى الى الشيخين واضطرارهما الى ارجاعهم الى أمير المؤمنين ووصيّ رسول رب العالمين ومن جملة الموارد ما سئل بعضهم أبا بكر من انّه أي شيء لا يعلمه الله فجهله أبو بكر وعمر فالتجئوا الى مولى الكونين فأجاب بأنّ الله لا يعلم لنفسه شريكا ومنه قوله سبحانه : (بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).

والحاصل فوجود المجمل والمتشابه عين الكمال وهذا هو أحد وجوه الهداية والحفظ عن الضلال والاضلال.

ثم انه ـ قد نسب الشيخ قدس‌سره الى جماعة من الاخباريين المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين وان أقوى ما يتمسك لهم وجهان.

أحدهما ـ الأخبار المتواترة المدعى ظهورها في المنع عن ذلك (١) كالنبويات الثلث في أحدها من قال في القرآن بغير علم وفي أخرييها من فسر القرآن برأيه الخ

__________________

(١) تجد عمدة هذه الروايات في موسوعة وسائل الشيعة (الطبعة الاسلامية) المجلد ١٨ ـ ب ١٣ وب ٦ من أبواب صفات القاضي.

١٦٢

والرواية المروية عن أبي عبد الله عليه‌السلام والنبوي العامي والرواية المروية عن مولانا الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله سبحانه في الحديث القدسي والرواية المروية في تفسير العياشي (١) عن أبي عبد الله ومقالة صاحب مجمع البيان (٢) وكمرسلة شعيب (شبيب) بن أنس ورواية زيد الشحام الى غير ذلك مما ادعى في الوسائل في كتاب القضاء تجاوزها عن حد التواتر (٣) وحاصل هذا الوجه يرجع الى ان منع الشارع عن ذلك يكشف عن ان مقصود المتكلم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام فليس من قبيل المحاورات العرفية.

وأجاب (٤). عن هذه الأخبار انّها لا تدل على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وارادة خلاف ظاهرها في الاخبار ومن المعلوم ان هذا لا يسمى تفسيرا بالرأي أو القول والحكم بغير علم بل هو إعمال النظر من تلقاء نفسه.

وتنقيح هذا الجواب هو ان الرجوع الى الظواهر ليس تفسيرا فإنّ التفسير هو كشف القناع أو كشف المغطى وقد قال بعضهم ان (فسر) مقلوب (سفر) ومنه أسفر الصبح والرجوع الى الظواهر ليس من كشف القناع أو المغطى وعلى هذا فلا بد وان لا يصدق التفسير إلّا في مورد التأويل ويختص به وعلى فرض تسليم ان يكون ذلك تفسيرا لكن ليس تفسيرا بالرأي فإنّ الرجوع الى الظواهر ليس من الرجوع الى الرأي بل المراد بالتفسير بالرأي هو متابعة ظنونهم وشهوات أنفسهم وعدم المراجعة الى أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين حيث ان بنائهم كان على العمل بالظن والقياس

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ص ١٨ ح ٦.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٣.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٨ ـ ب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٨٠.

(٤) فرائد الأصول : ج ١ ص ١٤٢.

١٦٣

والاستحسانات.

ولا يخفى ان كلا من الايرادين في معرض المناقشة ـ أما الأول ـ فلأنه وإن كانت أصالة الحقيقة والعموم والاطلاق من الظواهر في حد أنفسها إلّا انّه قد يكون بعض التراكيب موجبا للغموض والخفاء كما في تركيب المتون والمختصرات فإنّها وإن كانت للافادة والاستفادة إلّا ان من أراد بيان شيء بصورة الاجمال والاختصار فلا يكون بيانه حينئذ كالمفصل المشروح واضحا مبينا بل يعرضه بسبب الاختصار قناع وغطاء فلذا ترى انّه قد تتحير الافهام احيانا في فهم المراد منها بحيث تجول يمينا وشمالا فكشف القناع والمغطى لا ينحصر بالتأويل فيشمل قوله عليه‌السلام من فسر القرآن برأيه الخ للمقام فإنّ التفسير هو الكشف ـ وأما الثاني ـ فلأن القياس والاستحسان إنّما هو في مورد جعل الحكم وأما في مورد التفسير فلا يعملون بهذه القواعد المقبولة لديهم بل إنّما يرجعون الى ظواهر الألفاظ والقواعد العربية بل ولا محل للقياس في مورد التفسير ـ أما توجيه هذه الأخبار المذكورة اليهم والطعن والاعتراض عليهم فإنّه من جهة ان العامة لم يراجعوا مصادر الوحي وأوصياء النبي صلى الله عليهم أجمعين في مورد تفسير كتاب الله المجيد والفرقان الحميد بل اقتنعوا بزعمهم بالقواعد الأدبية والاشتقاقات والتركيبات مع ان القرآن بمكان عظيم من الغموض والخفاء وقد عيّن الله له تراجمة عليهم من الله السلام والثناء فالعامّة من تلك الجهة في الخطاء والضلال فإن أصابوا لم يؤجروا وان أخطئوا سقطوا أبعد ما بين السماء والأرض (كما في الحديث الشريف) (١) ـ فقد أطبق عليهم الخطاء وعلى سمعهم وبصرهم الغشاء لكن العمل بالقياس ليس تفسيرا بل هو جعل الحكم كما عرفت ويؤيد ما ذكرنا كله مكالمة الامام مع أبي حنيفة وقتادة فراجع.

__________________

(١) تفسير العياشي ـ المجلد الأوّل ـ المقدمة.

١٦٤

ثم انه قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : هذا كله مع معارضة الاخبار المذكورة بأكثر منها مما يدلّ على جواز التمسك بظاهر القرآن مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين وغيرها مما دلّ على الأمر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه ... (١).

ولكن ما ذكره غير تام.

أما خبر الثقلين فقد استنصر به قدس‌سره على مقالته من حيث انّه جعل مورد التمسك كلا من العترة والكتاب فلا بد وان يكون كل منهما معرضا للتمسك استقلالا اذ لو كان المقصود ضم الكتاب الى العترة لم يكن كل منهما في معرض تمسك الأمّة بل كان المستمسك به حينئذ في الحقيقة هو العترة. وهذا مما لا يمكن الذهاب اليه بل الخبر الشريف صريح في خلاف ما أراده قدس‌سره حيث انه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيه : إنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض. أما وجه عدم افتراق العترة الطاهرة من الكتاب فواضح حيث انهم عليهم‌السلام عالمون بالكتاب وعاملون به ولا يعرضهم سهو ولا نسيان ولا خلاف. فهم عاملون بالكتاب كله وإلّا لزم افتراقهم عنه في مورد عدم العمل (والعياذ بالله) كما انّهم عالمون به كله وإلّا لزم مفارقتهم عنه في مورد عدم العلم (حاشاهم عن ذلك).

وأما وجه عدم افتراق الكتاب عن العترة الطاهرة فهو انّ العلم بالكتاب منحصر فيهم ومخصوص بهم فلا يفرض مفارقة أحدهما عن الآخر ولهذا قال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : لن يفترقا ... فافهم واغتنم. والحاصل ان هذه الرواية الشريفة لا تعارض الروايات السابقة.

__________________

(١) فرائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٤٥.

١٦٥

تنبيه استطرادي

إنّ هذه الرواية الساطعة تستفاد منها فوائد جمة وعوائد ثمينة أوردنا شطرا منها في كتابنا مصباح الهداية في اثبات الولاية (١).

منها. انّها دالة على إمامة الامام وعصمته وذلك من جهة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا. ولو لا ذلك لم يكن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لن تضلوا) معنى.

ومنها انّ جميع الأمّة يلزمهم التمسك بالعترة ـ كما في الرواية ـ فالعترة هم المتمسك بهم ولو كانت الامامة لها سبيل بالنسبة الى غير العترة لزم ان يكون هذا الغير أيضا متمسك به والحال ان جميع الأمة متمسكون وليس فيهم من يتمسك به سوى العترة الطاهرة.

ومنها ـ انه يستفاد من تلك الفقرة أيضا استغناء العترة عن الأمّة كلهم واحتياجهم بأجمعهم الى العترة فإنّ مورد التمسك هو العترة والكتاب ولا تمسك للعترة في شيء الى أحد وإلّا لزم ان يكونوا متمسكين لا متمسك بهم.

ومنها. ما ذكرناه أعني عدم الافتراق بين العترة والكتاب بالتقرير المذكور آنفا بأنهم عاملون به وعاملون به وإلّا لصدق الافتراق فيما لو فرض عدم العلم أو عدم العمل فهم عليهم‌السلام دائما مع الكتاب وهو معهم كذلك وإلّا لم يصح التعبير بالافتراق بل لزم ان يقول : لن يفارقوه أو لن يفارقهم. الى غير ذلك من الفوائد القيمة الراقية.

__________________

(١) وقد طبع هذا الكتاب القيّم عدة مرّات وترجم الى الفارسية مرتين احداهما بقلم والد هذا الحقير المؤلف المقرر ، العلامة المرحوم السيد محمد رضا الشفيعي قدس‌سره سماها (شاهراه هدايت) والثانية بقلم العالم الجليل والكاتب القدير الشيخ علي الدواني حفظه الله سماها (فروغ هدايت) وقد طبع كلاهما.

١٦٦

فلنرجع الى المقصود ونقول :

أما حديث المسح على بعض الرأس. فهو أيضا لا يعارض الأخبار السابقة الواردة في كلام الشيخ قدس‌سره فان في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)(١) قد أتى بحرف الجر مع انّ الفعل متعد وقد وقع الخلاف بين أهل العربية في ورود حرف الباء للتبعيض فانكره سيبويه وجماعة فهل ان قوله عليه‌السلام : لمكان الباء. يفيد انّ الباء ورد لعدة معان لكن أريد منه معنى التبعيض في المقام؟ لو كان كذلك كان اللازم نصب القرينة.

وقد أفاد بعض المحققين ان وضع الباء ليس للتبعيض ولهذا قال عليه‌السلام : لمكان الباء ولم يقل : للباء فيكون المعنى انّه قد أتى بحرف الجر ـ في الآية الشريفة ـ في مكان ليس بلازم وهذا يدل على انّ في المقام نوع ارتباط فإنّ الباء للالصاق واذا تعلق الفعل بما بعده ظهر منه الاستيعاب ، كأن يقال : امسحوا رءوسكم فيكون المسح على تمام الرأس لكن اذا ورد الباء الذي هو للالصاق والربط فيكفي فيه أدنى ملابسة وربط وهو المسح ببعض الرأس ولهذا قال سبحانه : (امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وحينئذ يتم المعنى في الآية الشريفة حتى لو لم نقل بأن الباء للتبعيض. والحال كذلك في اللغة الفارسية أيضا فإذا قال القائل (سرت را مسح كن) يظهر منه لزوم مسح تمام الرأس واذا قال (بر سرت مسح كن) يظهر منه كفاية المسح على بعض الرأس.

فهذا هو الذي يتحصل من الآية الشريفة ولا يدل ذلك على حجية الظواهر كما يزعمه الشيخ الأعظم قدس‌سره وتمسك بأن الامام عليه‌السلام أرجع زرارة الى ظاهر الآية.

بل يمكن ان يقال بأنّ الرواية تدل على العكس من ذلك فإنّ هذا المطلب المنطوى في الآية الشريفة كان عليه غطاء وقناع وقد كشفه الامام عليه‌السلام لزرارة وبه تتم الحجة على العامة فإنّه مع انّ الميزان في كشف المراد من الآية هو قواعد العربية إلّا

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٦.

١٦٧

انّه لم يفهم ذلك منها من دون مراجعة الامام عليه‌السلام فدلالة هذا الحديث الشريف على كفاية الرجوع الى ظواهر القرآن من دون المسألة عن الامام غير معلوم فان تعريفه عليه‌السلام لهذا المطلب كاشف عن برهان لم يكن زرارة يعلمه قبل بيان الامام عليه‌السلام.

وقول الشيخ قدس‌سره (فعرّفه عليه‌السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب) مخدوش بأن مورد استفادة الحكم انما ظهر بعد بيان الامام عليه‌السلام ولم يكن معلوما لزرارة قبل ذلك.

تنبيه

ورد في الرواية انه قال زرارة للامام عليه‌السلام : من أين علمت ان المسح ببعض الرأس (١) وهذا النحو من الخطاب لعلّه بعيد عن أدب زرارة مع الامام مع ما كان هو عليه من كمال المعرفة وعلوّ المقام ورفيع المنزلة. ولهذا فقد حمله بعضهم على ان زرارة حيث كان يناظر أهل السنة والجماعة في ذلك وأمثاله فأراد فهم هذا المطلب من الامام عليه‌السلام فقد شبّه نفسه بهم ونزل نفسه منزلتهم كأنّه أحدهم فلذا عبّر بتعبير من لم يبعد صدور هذا النحو من الخطاب عنه.

تتميم نفعه عميم

لا بأس بالتعرض لجهة أخرى من آية الوضوء تكميلا للفائدة ولوجود المناسبة بينها وبين ما بحثنا عنه فنقول وبالله التوفيق :

إنّ العامّة كما هو المعلوم منهم ولديهم انهم يغسلون أيديهم في الوضوء من الأسفل الى الأعلى بعكس ما يفعله الشيعة ويتمسكون في ذلك بقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ١٤٥ سطر ٧.

١٦٨

وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) وانّ الى وضع لانتهاء الغاية.

والجواب منّا إنّا في غنى من هذا الوجه بعد ورود النص في المقام من أئمتنا الأطهار عليهم‌السلام.

لكن الجواب الالزامي هو ان يقال لهم : إنّ الآية الشريفة لا تدل على مطلوبكم. وبيان ذلك يحتاج الى مقدمة وهي :

انّهم قد تمسكوا باتفاق أهل العربية في معنى (الى) ومفاده فلا بد أولا من النظر في أن اتفاق أهل اللسان في مورد هل هو حجة أو لا؟ وثانيا. هل ان هذا الاتفاق موافق للقاعدة أم لا؟ فنقول :

إنّ اتفاق أهل اللسان قد يكون مستندا الى الإخبار عن حس. فهذا حجة لا محاله بعد بلوغه الى حد التواتر ليصح الوثوق به. واما ما لا يستند الى الحسّ فليس كذلك والاتفاق فيه لا يفيد شيئا.

مثال ذلك. قولهم : الفاعل مرفوع. فلو كان هذا نظريا ولم يكن محسوسا بديهيا كيف يكون قولهم فيه حجة سواء اختلفوا فيه أم اتفقوا عليه فإنّ الاستنباط اذا كان نظريا احتاج الى الدليل ـ نعم لو قال به المعصوم وأخبر به كان حجة قطعا ولكن ذلك خارج عن محل الكلام وأما بالنسبة الى غير المعصوم فلو كانت القواعد الاستنباطية حجة يلزم ان لا يكون فيها اختلاف مع ان أهل اللسان كم اختلفوا في كثير من الموارد كما في مفاد صيغة افعل وانّه هو الوجوب أو الندب أو الاباحة أو القدر المشترك والاشتراك اللفظي أو المعنوي وهكذا فهذه المستنبطات ليست حجة للغير بل كل واحد يرى لنفسه ما استنبطه وفهمه سواء وافق الآخرين أو خالفهم.

فمن ذلك قولهم : ان من للابتداء والى للانتهاء. حيث ان بحسب موارد

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٦.

١٦٩

الاستعمال نرى ان المستعمل لها فيه حالات ثلاث. احداها ما يكون النظر والقصد فيه الى التحديد وقد لا يكون التحديد مرادا وقد يكون المراد بالعكس.

أما الصورة الأولى كما في تعريف الدار لاشترائها أو بيعها فإذا قلت ان حدها من ذلك الى ذلك الموضع كنت في مقام تحديد الدار من حيث تعريف أطرافها وجهاتها وحدودها.

وأما الصورة الثانية فكما تقول للخادم : اكنس الدار من أولها الى آخرها فلا نظر حينئذ الى التحديد ولا يسأل الخادم عن ذلك ولا فرق عندك في كنس الدار من أولها الى آخرها أو بالعكس.

والصورة الثالثة كما اذا تقول : اغسل الحائط من أدناه الى أعلاه ـ حيث انّ المراد غالبا غسله من فوق الى تحت وإن كان المستعمل فيه بالعكس.

ثم ان بين هذه الصور جامعا وقدرا مشتركا ـ دون الاشتراك اللفظي ـ فيجتمع التحديد مع الابتداء والانتهاء من دون لزوم تجوّز وهذا شايع في الاستعمالات وهذا القدر الجامع هو ان (من) لعدم المسبوقية و (الى) لعدم التجاوز.

والحاصل ان المراد قد يتعلق بالتحديد الصرف وقد يتعلق بالتحديد مع قبول البدو والختم وقد يتعلق به مع عكس الصورة الثانية كل ذلك بشهادة المورد والمقام وهذا هو المعنى الجامع وإن كان منصرف اطلاقه قد يكون الابتداء أو الانتهاء أو لا هذا ولا ذاك.

وحينئذ ننظر لنرى هل ان قوله تعالى : الى المرافق هو التحديد الابتدائي والانتهائي أو غير ذلك؟

المثال الواضح. اذا قال الطبيب اغسلوا رجلي المريض الى الركبة فالقرائن تشهد بأن المراد هو التحديد الصرف وطبع العمل أيضا يقتضى ذلك فلا فرق في غسلهما بين الشروع من الركبة الى القدم أو بالعكس. ففي المقام لو لم تكن سنة من

١٧٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنّا قلنا بجواز غسل اليدين من الأعلى أو من الأسفل ولكن لما ثبت منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ابتدائه بالأعلى الى الأسفل سنة منه فنحن نقتفى أثره ونتبع سنته صلى‌الله‌عليه‌وآله والمورد مما تنطبق عليه الآية الشريفة بتمامها وليس خارجا منها (١).

فلنرجع الى المبحوث عنه وهو النظر في ما تمسك به الشيخ الأعظم قدس‌سره :

أما قول الصادق عليه‌السلام في مقام نهي الدوانقي عن قبول خبر النّمام بأنّه فاسق وقال الله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢). فالانصاف ان تمسك الشيخ قدس‌سره حق متين فإنّه أمر ظاهر جدا ومن المعلوم لزوم التبين في مورد إخبار الفاسق (٣).

وأما قوله عليه‌السلام لابنه اسماعيل : إنّ الله يقول : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين. فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم (٤).

وقوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء الخ (٥) وقوله عليه‌السلام في تحليل العبد للمطلقة ثلاثا انه زوج الخ (٦) وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع انه تعالى

__________________

(١) أقول : وهنا وجوه أخرى صالحة لتأييد ما عليه الامامية أعلى الله كلمتهم.

منها. ان الكفين والزندين أقرب الى الأوساخ والقذارات لكثرة تداولهما في موارد حاجات الانسان فالابتداء يغسلهما ثم الى المرفقين يوجب انتقال الماء المغسول به الأوساخ الى أعلى اليدين دون العكس الذي تلتزم به الإماميّة.

ومنها. ان طبيعة الماء (ولا سيما في الوسائل الحديثة) هو جريانه من الأعلى الى الأسفل كما في غير الانسان أيضا من الجدران والأشجار وما الى ذلك ففي الأمور العادية الطبيعية نرى ذلك بوضوح بين العقلاء من ابتداء الغسل واجراء الماء من الأعلى حتى أن بعض المعاصرين مال واحتاط بلزوم اجراء الماء في الاغسال أيضا من طرف الأعلى.

ومنها غير ذلك مما يجده المتتبع. المقرر

(٢) الحجرات : آية ٦.

(٣) وسائل الشيعة ٨ / ٦١٩ ب ١٦٤ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ١٣ / ٢٣٠ ب ٦ ح ١.

(٥) نفس المصدر ٢ / ٩٥٧ ب ١٨ ح ١.

(٦) وسائل الشيعة ١٥ / ٣٧٠ ب ١٢ ح ١.

١٧١

قال : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما)(١).

فيمكن ان يقال بالنسبة الى هذه الموارد : ان الامام عليه‌السلام قد قرّر هذه الظهورات في هذه الآيات فلا تدل هذه الاخبار على ردّ الاخباريين القائلين بأن ليس للقرآن ظهور أو ليس ظهوره حجة من دون مراجعة المعصوم اذ الامام عليه‌السلام أرجع الأمر الى هذه الظواهر وهذا الارجاع منه تقرير منه لظاهر الكتاب فهذا أدلّ على معتقد الاخباري الذي يرى لزوم مراجعة المعصوم في ظواهر الكتاب وانّها ليست كظواهر ساير المحاورات فإنّه قد يكون المراد ما يخالف ظواهر الآيات فيوضحه الامام أو يقرّر ظواهره فيقول مثلا : انّه أريد من الفاسق في الآية الكريمة مطلق الفاسق ولو انّها نزلت في شأن فاسق خاص وهو الوليد فأوضح الامام عليه‌السلام ان المورد ليس مخصصا فصار بيانه عليه‌السلام بالاخرة محلا للحاجة فلا يكون هذا ردا على مذهب الاخباري فان هذا الايضاح والبيان نوع من كشف القناع والمغطّى.

والحاصل. انّه لا يتم معارضة هذه الاخبار مع الروايات السابقة فان الاخباريين يرون لزوم الرجوع الى المعصوم ولو في الظواهر وهنا قد تمسك الامام بظاهر الكتاب ووجه تمسكه به ان هذا من جملة الظواهر وليس فيه تأويل. وأما استظهار السائل هذا الأمر مع قطع النظر عن مراجعة المعصوم فلا تعطيه هذه الروايات.

وأما قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)(٢) وانه نسخ بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)(٣) فقد استدل الشيخ الأعظم بهذا على انّ الامام قد قرّر التمسك بالظاهر بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ) الخ وهذا قد علم جوابه ممّا تقدم فانه اذا

__________________

(١) نفس المصدر ١٥ / ٣٦٩ ب ٩ ح ٤.

(٢) سورة المائدة : آية ٥.

(٣) سورة البقرة : آية ٢٢١.

١٧٢

قرّر الامام عموما أو اطلاقا أو حقيقة أو عكس هذه بسبب وجود قرينة صارفة فلا مناص عن اتباعه بعد مراجعة المعصوم سواء كان تقريرا للظاهر أو الصرف عنه والمقام هنا من القسم الأول حيث انه عليه‌السلام قرّر التمسك بظاهر الآية ولكن قال عليه‌السلام انّه نسخ بآية أخرى لا انّه أرجع الى الظاهر وأوكله اليه.

وأمّا مسئلة المسح على المرارة. وهي قوله عليه‌السلام في رواية عبد الأعلى في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة : ان هذا وشبهه يعرف من كتاب الله : ما جعل عليكم في الدين من حرج ثم قال عليه‌السلام : امسح عليه (١).

قال الشيخ قدس‌سره فأحال معرفة حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة الى الكتاب موميا الى ان هذا لا يحتاج الى السؤال لوجوده في ظاهر القرآن (٢).

ولا يخفى انه قدس‌سره قد تفطن بدوا الى عدم دلالة هذه الرواية على المسح على ظاهر المرارة بل إنّما تدل على نفي الحرج وهو سقوط المسح على البشرة ولا يدل حديث لا حرج على لزوم المسح على ظاهر المرارة وذلك لدوران الأمر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد المباشرة للماسح على الممسوح ثم أجاب قدس‌سره ان سقوط المباشرة أخف من سقوط أصل المسح فيسقط القيد دون أصل المسح.

أقول : إن كان المقصود انّ سقوط قيد المباشرة وبقاء أصل المسح يستفاد من كتاب الله تعالى فلا يخفى ان الآية تدل على حفظ أصل المسح وأما محل بقائه بعد سقوط المباشرة وانّه أين يقع المسح بعد تعذرها فهذا لا يستفاد من الآية بل يحتاج الى دليل آخر والرواية لا نظر لها الى استفادة هذا من الكتاب العزيز فالمسح على المرارة غير مستفادة من الآية بل من حكم جديد وهو قوله عليه‌السلام (امسح على المرارة)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٢٧ ب ٣٩ ح ٥.

(٢) فرائد الأصول طبعة منشورات الشيخ الأعظم ج ١ ص ١٤٧.

١٧٣

ويشعر بل يدل على انّ هذا حكم مستقل نفس لفظ الرواية فإنّ فيها (ثم قال عليه‌السلام امسح عليه) فلاحظ.

وأما مسئلة القصر والتمام

فقال الشيخ قدس‌سره : ومن ذلك ما ورد من ان المصلي أربعا في السفر ان قرئت عليه آية القصر وجب عليه الاعادة وإلّا فلا (١) وفي بعض الروايات : ان قرئت عليه وفسرت له (٢) والظاهر ولو بحكم أصالة الاطلاق في باقي الروايات انّ المراد من تفسيرها له بيان ان المراد من قوله تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)(٣) بيان للترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيا على التخفيف فلا ينافى تعيين القصر على المسافر وعدم صحة الاتمام منه ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج الى التفسير بلا شبهة.

وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للامام انّ الله تعالى يقول : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا فأجاب عليه‌السلام بأنه من قبيل قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(٤).

وهذا أيضا يدل على تقرير الامام لهما في التعرض لاستفادة الأحكام من الكتاب والدخل والتصرف في ظواهره (٥).

ومحصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره انّ هذا أيضا مما ورد على خلاف الروايات السابقة فإذا كانت قراءة آية عليه كافية في وجوب الاعادة قصرا كان معناه هو الأخذ بالظاهر اذ لو لم يكن هذا الظاهر معتبرا لما أوجب الزامه بإعادة الصلاة قصرا

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٦ / ٥٣٩ ب ١٢ من أبواب صلاة المسافر ـ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٥٦١ ب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ـ ح ٤.

(٣) سورة النساء : آية ١٠١.

(٤) سورة البقرة : آية ١٥٨.

(٥) نقلنا العبارة من فرائد الأصول ج ١ ص ١٤٧ و ١٤٨.

١٧٤

فإنّ الحكم حينئذ يكون مجملا.

وقوله قدس‌سره : والظاهر ولو بحكم أصالة الاطلاق الخ. يعني أن المراد من تفسيرها له وقراءتها عليه بيان انّ المراد بقوله لا جناح عليكم (حيث ان ظاهره يفيد الرخصة وهو ينافي العزيمه) المقصود بيان عدم المنافاة بين الآية وبين العزيمه وان الآية في مقام أصل التشريع كما في آية الحج والعمرة (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فتدل على أن الامام عليه‌السلام قد قرّر لزرارة ومحمد بن مسلم انّه قال الله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ولم يقل طوفوا بهما ـ كما انّه عليه‌السلام لم يقل لهما اسكتوا ولا تبحثوا بل أجاب انّ قوله تعالى (فَلا جُناحَ ...) لو كان مقيدا للرخصة فما هو جوابكم عن آية الحج والعمرة مع انّها للوجوب. فحاصل كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره ان طريقة الائمة عليهم‌السلام كان مع السائرين أيضا كذلك بحيث انّه اذا تمسك أحدهم بالظاهر لم ينكروا عليهم‌السلام عليهم بل يجيب ـ في المقام ـ ان هناك قرينة على الوجوب.

أقول : لا بد من الرجوع الى الآية الكريمة والاستفادة منها. فنقول :

انّه سبحانه وتعالى قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ...) وهذه الكلمة للتخفيف. وأما في آية الحج فيكون الطواف واجبا. من استعمال نفس هذه الكلمة فيها. والوجه في ذلك : انّ السعي كان في الجاهلية حول الأصنام المنصوبة بعضها على الصفا وبعضها على المروة فإذا جاء الاسلام وحارب وخالف الشرك وأهله وبارز وأنكر عقايدهم وأعمالهم لذا كان المسلمون يحسبون انّ الطواف والسعي أيضا ممنوع من قبل الاسلام بزعم أن هذين النسكين مناف للتوحيد والاسلام فقال الله سبحانه : لا جناح عليكم الطواف ثم السعي بين الصفاء والمروة لأنهما من شعائر الله فالعملان معدودان من العبادة لله

١٧٥

فلا جناح ولا بأس بهما دفعا لتوهم المنافاة وهذا لا ينافي الوجوب والالزام (١).

وهكذا الحال في مسئلة السفر وانّ البناء على التخفيف ولقد كان يتوهم بعضهم انّ القصر مناف لفرض التكليف فقال الله تعالى : لا جناح عليكم ان تقصروا من الصلاة ليعلموا ان القصر والتخفيف غير منافيين لغرض التكليف. فهذا أيضا وارد في مورد توهم الخلاف.

إنّما الكلام ـ في انّه اذا كان التكليف هو قصر الصلاة فقد انقلب أصل التكليف بالتمام الى التكليف بالقصر فلم يصح الصلاة منه تماما اذا كان جاهلا بالقصر مع انّ زيادة الركن مبطل مطلقا ومع ذلك فقال عليه‌السلام : تمت صلاته (٢) وفسّره بعضهم بالجاهل القاصر.

وقد قيل في الاجابة على هذا السؤال وجوه أحسنها ان يقال :

انّ الاتمام الذي هو الوضع الأوّلي للصلاة في محل الكلام ما زال موضوعه بل هو باق بحاله وانّ القصر ليس وضعا آخر بل القصر والتمام هما موضوع واحد وأمر فارد فهما كيفيتان لصلاة واحدة لا في الموضوع فليسا موضوعين حتى يكون قد أتى

__________________

(١) ولعل هنا وجها آخر في آية الحج وهو ان تشريع السعي بين الصفا والمروة إنّما هو في ضمن عمل الحج والعمرة وبعد وقوع الطواف وحينئذ يرتفع المانع من اتيان السعي وأما قبل الطواف بالبيت فلا شرعية للسعي فإذا وقع قبله وجب أعادته وهكذا ليس السعي عبادة مستقلة كما يزعمه اليوم أيضا بعض العوام فيسعون بالصفا والمروة رأسا لا في ضمن عمل الحج أو العمرة وعلى هذا فلا جناح لا ينافى أصل وجوبه بل إنّما تشير الآية الى أن السعي بنفسه أو قبل الطواف فيه بأس وجناح.

(٢) وسائل الشيعة ب ٣٣ من المجلد الخامس ص ٥٤١ الحديث الأول.

وفيه قال عليه‌السلام : تمت صلاته ولا يعيد. هذا ولا يخفى انّه لو كان المراد هذه الرواية التي أشرنا إليها فهي لا تدل على مطلب الأستاذ المحقق قدس‌سره وذلك لورودها في مقام آخر وإن كان أصل ما ذكره قدس‌سره مسلّما فراجع أصل الرواية في مصدره المذكور. المقرر

١٧٦

بأحدهما مكان الآخر.

والحاصل انّ الوضع في القصر والاتمام هو صلاة واحدة لكن بكيفيتين احداهما للحضر والأخرى للسفر نعم الكيفية الأولى (التمام) هي الأصل والثانية مبنية على التخفيف. وبناء على هذا فيطرح السؤال عن انه ما هو المنشا لصحة التمام في المقام؟

فنقول : انّه قد ورد في الروايات انّ الله تبارك وتعالى تصدق على المسافر بإسقاط ركعتين من صلاته والتصدّق من الكبير العظيم هدية منه الى الصغير الضعيف وبالطبع ان قبول الهدية أحسن من ردها لكن في المقام يجب ويلزم قبول هذه الهدية فإنّ ذلك من جانب الله العليّ الكبير ولأجل ذلك قد وردت في الأحاديث الشريفة انّ الهدايا والجوائز التي كان الائمة عليهم‌السلام يعطونها للفقراء فكان بعضهم احيانا يردّونها لم يقبل الائمة الهداة ردّها منهم بل يجيبون بما حاصله : انّ ما أعطيناه لا يرد علينا. وهذا منهم لأجل انّهم أولياء النعم وعمل الوليّ ممضى وغير مردود عليه. نعم اذا كان هذا الرد عن جهل من المهدى اليه أو خطاء منه فلا يعد هذا ردا منهم وإلّا لزم كفر الرّاد.

والحاصل ان تحقق الرد يحتاج الى العلم به فيكون الرد موجبا للاثم وأما في مقام البحث فلا يتحقق ردّ الهدية فيكون التمام على وفق القاعدة الأولية فيكون مبرئ للذمة.

وملخص المقال ان الجهة المقصودة في الآية وإن كانت بظاهرها تدلّ على التخيير (كما انّ العامة المعرضين عن أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام يقولون بالتخيير الى الآن) وقد فهم زرارة ومحمد بن مسلم أيضا هكذا فأجابهما الامام عليه‌السلام انّ الحكم في المورد كالحكم في آية الحج وانّ هذه الجملة (لا جناح ... لا يستلزم التخيير بل يجتمع مع الوجوب أيضا اذا كان المقام مقام توهم الجواز والإباحة. لكن هل الآية في المقام تدل على وجوب القصر أم لا؟ الآية ساكتة عن ذلك إلّا مع مراجعة المعصوم عليه‌السلام وارشاده وهدايته الى الوجوب وذلك مما يدل على ما ذكرناه من عدم مخالفة هذه الرواية مع الروايات السالفة في كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره.

١٧٧

تتمة مهمّة

قد ذكرنا انّ الجاهل القاصر اذا أتم في موضع القصر تمت صلاته وصحت كما هو المذكور في الروايات والمفتى به عند الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين. فكيف الأمر في ذلك مع انّه لم يأت المأمور به على وجهه ولا أقل من زيادة الأركان. المبطلة للصلاة سهوا وعمدا؟

وقد أوردنا ما أفاده بعض المحققين من أن القصر والتمام ليسا موضوعين ونوعين بل هما موضوع واحد بكيفيتين والأول كفريضة الصبح والظهر المقصورة. والثاني كالظهر التامة والمقصورة ولا يخفى ان لفظي القصر والتمام شاهدان على أنّه ليس في البين حقيقتان ونوعان من الصلاة ولذلك قد أفتى الأصحاب بأنّه اذا نوى التمام في موضع القصر أو بالعكس أو ينوي أحدهما لكن يتم الصلاة سهوا على النحو الآخر فلو تذكر في الاثناء كانت صلاته صحيحة بلا حاجة الى العدول مع انّ في مسئلة الصبح والظهر. أو الظهر والعصر لا بد من نية العدول اذا تذكر في الاثناء عدم الاتيان بالسابقة فعدم الاحتياج الى العدول كاشف عن أن المقدار الزائد ليس من حقيقة أصل الصلاة وعليه فالاتمام المأتي به في موضع القصر صحيح اذ انّه قد أتى بحقيقة المأمور به إلّا انّه لم يأت بها بالحيثية المقصودة فلا يلزم من ذلك نقص الصلاة كالنقص الوارد على الصلاة غير المستقبل بها القبلة أو الصلاة مع الحدث.

فحال القصر في مقابل التمام ليس كحال الصلاة المستدبر بها عن القبلة في قبال المستقبل بها اليها أو حال الصلاة لا عن طهارة في مقابل الصلاة مع الطهارة. فليس في المقام ردّ لصدقة المولى ـ نعم الاتيان بالتمام مع العلم والعمد مبغوض فيبطل هذه الصلاة دون صورة الجهل.

١٧٨

ولا منافاة بين هذا وبين أن يأمر بالاعادة مع بقاء الوقت وعدم القضاء خارج الوقت اذ مع بقاء الوقت هو قادر على الاعادة وقبول ما تصدق الله به عليه. والمتحصل ان هذا أحسن الوجوه في دفع الاشكالات والأجوبة على السؤالات.

هذا ما يرجع الى مسئلة القصر والتمام والحمد لله في البدء والختام وفي كل مقام ومع كل كلام.

ثاني (من وجهى المنع) عند الاخباريين حول المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين. الذي جعله الشيخ قدس‌سره مع ما قبله أقوى ما يتمسك لهم هو : إنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصص والتجوز في أكثر ظواهر الكتاب وذلك مما يسقطها عن الظهور (١).

وفيه. ما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره من النقض بظواهر السنة التي حالها حال ظواهر الكتاب هذا أولا. وثانيا ان وجود هذه الأمور لا يوجب سقوط الظواهر بل يوجب الفحص عما يوجب مخالفة الظواهر.

نتيجة المبحث

إنّ هذا الوجه الثاني ليس بوجيه ولا يعبأ به والعمدة هو الوجه الأوّل وقد عرفت ما يرد على ما نوقش فيه. مع ان الأخبار التي ادعى الشيخ قدس‌سره معارضتها للروايات السابقة لم تنهض على ما ادعاه فليس فيها قوة المعارضة مع الاخبار التي استدل الاخباري على مسلكه.

فالحق الحقيق بالتصديق هو موافقة أصحابنا الاخباريين في هذا المقام من ان ظواهر الكتاب موجودة ثابتة لكنها ليست بحجة من دون مراجعة المعصوم والمسائلة عنه عليه‌السلام. اللهم إلّا أن يتجاوز عن الظاهر ويصل الى النص.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٤٩.

١٧٩

تحقيق مقالة السيد الصدر قدس‌سره

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره :

ثم انّك قد عرفت انّ العمدة في منع الاخباريين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبار المانعة عن تفسير القرآن إلّا انّه يظهر من كلام السيد الصدر ـ شارح الوافية ـ في آخر كلامه : انّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل والعمل بظواهر الاخبار خرج بالدليل حيث قال ـ بعد اثبات انّ في القرآن محكمات وظواهر وانّه مما لا يصح انكاره وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر وانّ الحق مع الاخباريين ـ ما خلاصته : انّ التوضيح يظهر بعد مقدمتين :

الأولى ان بقاء التكليف مما لا شك فيه ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الإفهام وهو يكون في الأكثر بالقول ودلالته في الأكثر تكون ظنية اذ مدار الإفهام على القاء الحقائق مجردة عن القرينة وعلى ما يفهمون وان كان احتمال التجوز وخفاء القرينة باقيا.

الثانية. انّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل ان يقول أحد : أنا استعمل العمومات وكثيرا ما أريد الخصوص من غير قرينة وربّما أخاطب أحدا وأريد غيره. ونحو ذلك فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظن به والقرآن من هذا القبيل لأنّه نزل على اصطلاح خاص. لا أقول على وضع جديد بل أعم من ان يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطعات. الى أن قال : اذا تمهدت المقدمتان فنقول : مقتضى الأولى العمل بالظواهر ومقتضى الثانية عدم العمل لأن ما صار متشابها لا يحصل الظن بالمراد منه وما بقى ظهوره مندرج في الأصل المذكور

١٨٠