بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

باب قبح العقاب بلا بيان وقد تكون شرعية من باب أخبار الرفع والحجب والسعة والاطلاق مع أنها أصل في كلتا الصورتين فقبح العقاب بلا بيان عند العقلاء ليس من باب الكشف عن الاباحة الواقعية بل من باب أنه ليس في المقام حكم وعلى فرض وجوده فبما أنه ليس بمبين فالمكلف معذور عنه ومرجع الأمرين الى العذر وهكذا الاحتياط الذي هو أصل عقلي فالتنجيز ثابت بسبب العلم وليس امارة والاتيان بالأطراف لا بد منه في مرحلة الامتثال لا أنه حكم غير الحكم الأول والحاصل انّه لا ملازمة بين الاعتبار العقلي وبين كون المعتبر العقلي امارة وعليه فلا بد وان ينظر في أن العقلاء من أي وجه يحكمون بالاستصحاب؟

فاعلم أن حكمهم به في المقام مستند الى اليقين السابق ولا يرفعون اليد عنه ما لم يظهر لهم خلافه ولا يقاومه الشك وإلّا فليس من جهة أن له حظا من الكشف وإن كان فيه كشف ناقص إلّا أنه ليس تاما حتى يكون النظر ابتداء اليه وهكذا الحال فيما اذا كان التعبد به بحسب الشرع فالمستند أيضا هو اليقين السابق في قولهم عليهم‌السلام لا تنقض اليقين بالشك ونحوه والمحصّل أن اليقين السابق قد أثبت التنجز ولا يعارضه الشك بمقتضى حكم العقل والشرع فما ذهب اليه الشيخ من جعله امارة بناء على كونه من باب العقل واصلا على فرض حجيته من باب الشرع لم يظهر لنا من ذلك وجه.

فإن قلت انّه لا حكم للعقل إلّا في مورد الكشف ـ قلت ـ ليس الأمر كذلك على اطلاقه فإنّ البراءة العقلية لا يكون كذلك كما بيّنا وكذا الاحتياط فإنّه من ناحية العلم بالتكليف وعدم امكان الجمع مع أنه أصل عقلي وليس له كشف من جميع الجهات.

وأما البراءة ـ فالمعروف انّها تستند الى عدم العلم ـ ولكن يتوجه عليهم انّه ما السبب في ترجيح العدم على الوجود عند الشك في المسألة مع ان نسبته متساوية

١٤١

الى طرفيه فلا بد من وجود خصوصية في المقام توجب ترجيح العدم فنقول : اذا حصل العلم بوجود شيء وشك في زواله وبقائه فيقال انّ الأصل وجوده وبقائه واذا علم بالعدم وشك في الحدوث فيقال الأصل عدم الحدوث فأصالة العلم ليست لها خصوصية يكون هو الأصل مع قطع النظر عن العلم بل هذان الأصلان انّما يستندان الى الحالة السابقة المحرزة قبل عروض الشك وهو العلم السابق فالأول هو الاستصحاب والثاني أصالة العدم واطلاق الروايات يشمل كلا الأصلين أعني العلم بالوجود والشك في الزوال وعكسه كقوله عليه‌السلام : من كان على يقين فليمض على يقينه. وقوله لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وقوله اياك أن تنقض الخ وليس لأخبار الاستصحاب اختصاص به وعلى فرض التسليم فليس مورديا وإلّا فلا يصح التعدي عنها الى ساير موارد الاستصحاب بل اللازم الاقتصار على مورد شخص الحكم المفروض فيها ـ وأما البراءة الشرعية فالأخبار مبينة للبراءة العقلية.

فالذي قد تحصل الى حد الآن أن مرجع جميع الأصول إنّما هو الى العلم فإنّ الشك في حد ذاته متساوي الطرفين ولا ترجيح في البين فترجيح أحدهما في موارد الأصول إنما يكون باعتبار مجامعة الشك مع العلم دائما إما العلم بالعدم وإما بالوجود وإمّا بالتكليف أو بالمكلف به فالأصول الأربعة تجامع كلا من العلم والشك إلّا أن الكلام هو في استنادها الى العلم أو الى الشك أما الاحتياط والتخيير فواضح وكذا الاستصحاب فالشك لا يقاوم العلم وأما البراءة فهو استصحاب العدم فإنّه لا يمكن ترجيح أحد الجانبين في مورد الشك سواء كانا وجوديين أو أحدهما وجوديا والآخر عدميا فالمستند ليس إلّا العلم ولكن العلم بالمعنى الأعم من الموجود فعلا أو الموجود اقتضاء والأول هو العلم بالوجود والشك في الزوال والثاني العلم بالعدم مع الشك في الوجود والحدوث.

الأمر الثاني ـ إنّ الاستصحاب وإن كان فيه خلاف من حيث جهته إلّا أن

١٤٢

الحق انّه من جهة احراز المقتضي والألزم أن يكون من باب إسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر وهو أقبح من القياس كما اذا علم بوقوع عقد اجارة وشك في أنّ مدتها هل كانت سنة أو سنتين فبعد انقضاء السنة الأولى المقطوع بها وإن كانت الحالة السابقة ثابتة بالنسبة الى اليوم الأول من السنة الثانية لكنه لا اعتبار بذلك لعدم وجود المقتضى للسنة الثانية فلو أردنا اجرائه بالنسبة الى السنة الثانية كان ذلك اسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر فإن المحقق المعلوم هو السنة الأولى وأما بالنسبة الى الثانية فأصل وقوع الاجارة مشكوك فيه فلا مجال للاستصحاب بل ان مقتضى الاستصحاب هو عكس ذلك فإن العلم بوقوع الاجارة قبل انقضاء السنة الأولى لم يكن بالنسبة الى الثانية وبعد انقضاء الأولى نشك في أن الثانية داخلة أم لا فالشك في أصل الحدوث فيرجع الى استصحاب العدم ولا أثر لاستصحاب الحالة السابقة ـ وبعبارة أخرى ـ ان مورد الاستصحاب هو الشك في الزوال والبقاء بعد العلم بالوجود فتستصحب الحالة السابقة أو عكس ذلك وهذا مفقود في المقام بل الشك هنا إنّما هو في الحدوث وعدم الحدوث بالنسبة الى السنة الثانية.

والحاصل. انه لا ينبغي اجراء الاستصحاب مع عدم احراز المقتضى وإن نسب الى بعض عدم اعتباره ولكن ذلك في الحقيقة هو الإسراء والشك في الحدوث فيرجع الى عكس مقتضى الاستصحاب ـ إلّا أن الكلام في جهة أخرى وهي انّه هل احراز المقتضى كاف في المقام أو انّه لا بد من مجامعته للحالة السابقة؟ لا شبهة في اعتبار الاستصحاب عند مجامعتهما وأما لو ثبت المقتضي مفارقا عن الحالة السابقة فهل يكفي ذلك في ترتيب آثار المقتضى (بالفتح) ويسمى ذلك بالاستصحاب أم لا يكفي كما انّه لا اعتبار عندنا بوجود الحالة السابقة مفارقا عن احراز المقتضي ـ فقد

١٤٣

عبروا عن المبحث بقاعدة المقتضى والمانع وقد بنى عليه بعض المحققين (١) وانه يكفي مجرد احراز المقتضى سواء اجتمعت معه الحالة السابقة أم لم تجتمع اذ لا أثر فيه بل العمدة في ترتب الأثر هو احراز المقتضي واليك بعض الأمثلة في المقام ـ.

منها ـ مسئلة أصالة اللزوم في العقود فإذا فرض وقوع عقد البيع وشك في انّه هل كان فيه غبن أم لا أو هل اشترط فيه خيار أم لا أو هل كان فيه عيب أم لا فلا وجود لحالة سابقة إلّا أن المقتضى للزوم البيع موجود حيث انّه من العقود اللازمة واللزوم حد ذاتي له (كما انه قد ينعكس الأمر ويكون الجواز ذاتيا واللزوم بالعارض كالهبة غير المعوضة فما دامت العين باقية فهي جائزة فإذا تصرف فيها أو تلفت لزمت أو أن يشترط عوض في ضمن عقد الهبة) ومن الأمثلة أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الاطلاق التي ينتهي البحث اليها ـ ففي أمثال هذه الموارد هل يكفي احراز المقتضى أو لا يكفي إلّا مع الاقتران بالحالة السابقة فاللازم تحقيق حقيقة المقتضى وانّه هل هنا دليل على اعتباره عند افتراقه عن الحالة السابقة أم لا ـ؟

وقد أورد ـ العلامة النائيني قدّس الله سرّه على قاعدة المقتضى والمانع بوجوه.

الأول ـ انّه لم يعلم المراد من المقتضى والمانع وانّه ما المقصود من انّه اذا أحرز المقتضى فيترتب الآثار ما لم يعلم بوجود المانع ـ الثاني ـ انّه على فرض وضوح حقيقته وفهم المراد منه لكن لا سبيل الى احرازه ـ والثالث ـ انه ما الدليل على اعتبار هذه القاعدة ـ؟

ثم ـ انه قد جعل الأمر في ايراده الأول مرددا بين ثلث معان وانّه لا بد وان يكون المراد أحد هذه الأمور ـ الأول ـ المقتضى والمانع التكوينيان كالنار المقتضية للحرارة والرطوبة المانعة عنها ـ فإن كان المراد هو هذا فيرد عليه انّه خارج عن محل

__________________

(١) المراد به هو العلامة المحقق الطهراني قدس‌سره وتلامذة مكتبه الأصولي.

١٤٤

البحث لأنّا لا نبحث عن الأمور التكوينية ـ الثاني ـ المصالح والمفاسد المقتضية لجعل الأحكام كالعلم المقتضى للاكرام والفسق المانع عنه. فإن كان المراد ذلك فهذا ممنوع لأنه لا سبيل لنا الى تشخيص ملاكات الأحكام الشرعية وادراك المصالح والمفاسد حتى نشك فيها أو لا نشك إلّا لمن نزل عليه الوحي ـ والثالث ـ أن يراد بالمقتضى السببية المطلقة وبالمانع ما يعرض ويرفع المسبب كالوضوء حيث ان له السببية المطلقة للطهارة والحدث الذي سبب مطلق في نقض الطهارة ويرفعها أو كتطهير الشيء الذي له السببية المطلقة لحصول الطهارة مع ملاقاته لنجاسة أخرى توجب رفع الطهارة وكأسباب الحدث التي لها السببية في ظهوره وعروضه إلّا أن يعرضه الوضوء مثلا ـ وكالبيع الذي هو السبب على الاطلاق لحصول الملكية إلّا أن تعرضه الاقالة ومثل النكاح الذي هو سبب مطلق للمحرمية ولحلية الوطي ما لم يعرضه طلاق ـ فإن أريد هذا المعنى ففيه انّه أيضا مما لا يمكن تشخيصه واحرازه فإن الأمر دائر بين أن يقال ان الوضوء سبب للطهارة اطلاقا والحدث رافع لها وبين أن يقال ان الوضوء الذي لم يتعقبه الحدث موجب وسبب للطهارة والعقد الذي لم يتعقبه طلاق موجب لحلية الوطي فلا يعلم ان السبب للطهارة هو الوضوء الذي لم يتعقبه حدث أو أن الوضوء سبب للطهارة والحدث مانع فإن الشق الأول قد تضيقت دائرته من أول الأمر والذي يعيّن أحد الاحتمالين غير معلوم إلّا لمن نزل عليه الوحي. هذا ما ذكره رحمه‌الله في المقام ايرادا على قاعدة الاقتضاء.

والجواب عنه ـ ان من البديهي انّ العدم لا يؤثر ولا يتأثر وما يوهم خلاف ذلك كقولهم عدم المعلول يستند الى عدم علته فالمقصود انّ بينهما الملازمة فما دامت العلة معدومة فالمعلول كذلك وإلّا فلا يوجد عدم المعلول بعدم العلة بأن يكون عدم وجود العلة علة لعدم وجود المعلول وهكذا الحال في قولك الوضوء الذي لم يتعقبه الحدث سبب للطهارة فإن عدم الحدث ليس مؤثرا في الطهارة بل المؤثر هو الوضوء

١٤٥

وتعقب الحدث رافع له لا ان يكون عدم التعقب جزء من المقتضى وكم فرق بينهما واما دعوى عدم احراز السببية المطلقة فلازمها عدم كون مجرد الوضوء منشأ للطهارة بل الوضوء المقيد بعدم تعقب الحدث له ومعنى ذلك دخل عدم التعقب في الطهارة وهذا غلط واضح لعدم امكان مدخلية العدم في الوجود.

لا يقال ان العدم المضاف له حظ من الوجود.

لأنّا نقول ـ انّ العدم نقيض الوجود مضافا كان أو مطلقا فلا نصيب له من الوجود أصلا كما ان الوجود ليس له حظ من العدم ولم نتصور وجها لكون الاعدام الاضافية محظوظة بحظ من الوجود فلذا قد أرجع بعضهم هذا الكلام الى أن المقصود منه ان العدم المضاف يرجع الى أمر وجودي ولكن هذه مسئلة أخرى غير مرتبطة بالمقام. هذا أولا.

وأما ثانيا ـ فإن كان المقصود من سببية الوضوء الذي لم يتعقبه حدث للطهارة انّه ان تعقبه حدث فيكفّ عن بطلان الوضوء من رأسه أو من حين الحدث ـ أما الأول فباطل بالضرورة فتعين ان الطهارة ثابتة باقية الى أن يرفعها الحدث فتبين ان تعيين أحد الاحتمالين وترجيحه لا يحتاج الى نزول وحي.

فإن قلت ـ ان المقصود هو الكشف عن انتهاء أمد الطهارة بمجيء الحدث فإذا عرض فيستكشف به عن أن الطهارة لم يكن لها حد أزيد من ذلك لا أنّها ارتفعت من حين حدوث الحدث.

قلت ـ من المعلوم ان الطهارة عن الحدث ليست محدودة بحد ولا ممدودة بمدة كما ان الحدث أيضا كذلك على أن بعض الأشياء لا يقبل حدا أصلا كعقد البيع فلا يكون محدودا بأن يبيع العين من المشتري على أن يكون ملكا له لمدة خمسة سنين مثلا ثم تنقضي مالكيته بالنسبة اليه بل هي مطلقة دائمة وأما البيع الخياري فهو شيء آخر فإنّه بيع مشروط بالخيار على نحو خاص كما هو واضح ـ كما وان بعض الأشياء

١٤٦

يلزمه الحد كعقد الاجارة فلو لم تكن محدودة بمدة لما كانت اجارة وبعضها صالح لقبول الحد وعدم قبوله كالنكاح فإنه اذا عرض الطلاق للنكاح الدائم فلا يمكن أن يقال كان النكاح محدودا الى هذا الحد والطلاق كشف عنه حيث ان ذلك مناقض ومناف لفرض دوام النكاح ولو صح ذلك انقلب انقطاعا.

والحاصل ـ ان احراز المقتضي أمر يمكن تصوره ولا مجال للترديد فيه واما ما ذكره في طي كلماته من أن السببية مما لا تناله يد الجعل ففيه ان الوضوء سبب مطلق للطهارة شرعا وكذا الغسل والتيمم وهكذا أسباب الحدث ـ فلا مورد للتأمل فيها من حيث انّها أسباب مطلقة شرعية ـ نعم يمكن ذلك في أسباب الخبث ـ هذا مضافا الى أن السببية المطلقة موجودة في العرقيات قابلة للاحراز وقد تصرف الشارع فيها امضاء أو نفيا كالبيع والربا وغيرهما من المعاملات التي لها السببية المطلقة فلا حاجة الى جعل سببية بل يمكن أن تكون موجودة في نظر العرف فيقرره الشارع فلا محلّ لدعوى عدم امكان احرازها.

فالتحقيق ـ ان المراد بالقاعدة هو معنى غير ما تصوره المستشكل رحمه‌الله ـ نعم أحدها يكون من مصاديق المقتضى بالمعنى الذي عندنا فالمقصود من المقتضى هو كون المشكوك ثابتا في حد نفسه مع قطع النظر عن المانع والمزيل سواء كان المشكوك عدما أو وجودا يعني أن الوجوديات (التي لها السببية المطلقة) ثابتة ما لم يثبت المزيل والأثر باق ما لم يمنع عنه مانع وهكذا العدميات فإنّها وإن كان ليس لها اقتضاء الوجود ولكن لما كان العدم ثابتا ومستمرا ما لم توجد علة الوجود فتستصحب الاعدام الأزلية في الأشياء الى أن يرفع العدم بعروض علة الوجود فالمراد بالمقتضى هو الأعم من معناه المصطلح ومن مقتضى الوجود والمقصود من المعنى الذي يكون في كلام المستشكل وقلنا انّه من مصاديق المقتضى بالمعنى الذي عندنا هو السببية المطلقة ـ والنتيجة ـ ان احراز المقتضى كتصويره أمر ممكن ولا اشكال فيه ولا حاجة الى

١٤٧

نزول وحي في ذلك والترديد في غير محله.

وقد ـ يتوهم امكان احراز الحالة السابقة بالنسبة الى العدم الأزلي كما اذا شك في أن البيع الواقع هل انعقد لازما أو جائزا ـ فحيث انّه لم يكن قبل العقد لزوم فيستصحب عدم اللزوم الى أن يثبت اللزوم أو الجواز ـ ولكنه توهم فاسد جدا فإنّ العدم السابق على العقد إنّما هو مستند الى انتفاء الموضوع فكان من السالبة بانتفاء موضوعه وليس في المقام كذلك فالشك بالنسبة الى ما بعد العقد كالشك في نسبة المحمول الى موضوعه فلا ارتباط له بمجعول ذلك الموضوع المنتفي وهذا واضح فاستصحاب العدم الأزلي في هذه الموارد التي أجراها بعضهم يستند في الحقيقة الى قاعدة الاقتضاء والمنع يعني ان عدم الشيء في حد ذاته ولو خلىّ وطبعه ثابت ما لم يثبت نقيضه الدال على الحدوث فلا مجال لاستصحاب العدم السابق على العقد.

والعجب من المستشكل المذكور قدس الله روحه انّه مع وضوح هذا المعنى من المقتضي ومع امكان احرازه تشبث في كلام الشيخ الأنصاري بالتأويل فذكر ان مراد الشيخ من الحكم باعتبار الحالة السابقة مع احراز المقتضى هو مقتضى الاستصحاب لا مقتضى المستصحب.

فإنه يرد عليه ـ ان مقتضى الاستصحاب عبارة عن شرائطه ولا خلاف في اعتبار الشرائط حتى يكون مراد الشيخ مقتضى الاستصحاب ولا ينكر أحد اعتبار الشرائط ولزومها حتى من لا يقول باعتبار احراز مقتضى المستصحب فلا وقع لهذا التأويل فعلى هذا يمثلون في المقام بالسببية المطلقة فيحكم بالبقاء في مرحلة الظاهر عند الشك مع احراز المقتضى.

وأما الجواب عن ايراده الثالث وهو المطالبة بدليل اعتبار القاعدة ـ فنقول ـ ان الاعتبار ثابت من حكم العقل وبناء العقلاء في عدة موارد فلا مانع عن الحكم بأنّه أصل عقلائي والشارع قد قرّره ـ منها أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة

١٤٨

الاطلاق ـ فهذه الأصول الثلاثة قد جرى بناء العقلاء في محاوراتهم وأقاريرهم على اتباعها فهي متبعة شرعا وعرفا ـ والتأمل في حال المخاطب وغير المخاطب في المقام والفرق بينهما وعدمه لا ينافي أصل المقصود ـ ولكن هل يقتضى ثبوت الاعتبار بحكم العقل وبناء العقلاء اعتبار القاعدة المبحوث عنها في كل مورد أم لا ـ؟ ـ فلا بد أولا من بيان تطبيق القاعدة على أصالة الحقيقة والعموم والاطلاق ثم سرايتها الى ساير الموارد.

فنقول ـ لا خفاء في وضع الألفاظ لمعانيها الحقيقية إلّا أن لها الصلاحية لأن يراد منها المعاني المجازية ولكن بما أن وجهتها الأولية هي المعاني الحقيقية فلا يصار الى المجازية إلّا بقرينة صارفة عن الحقيقية وهذا هو معنى المقتضي والمانع فإنّ اللفظ الملقى في مقام الافادة والاستفادة ينصرف في حد نفسه الى المعنى الحقيقي فالقرينة الصارفة مانعة عن هذا المعنى وليست في المقام حالة سابقة عند الشك في المعنى الحقيقي والمجازي ولكن المقتضى محرز وهو أن الوجهة الأولية للفظ عبارة عن انصرافه الى المعنى الحقيقي فما دام الشك باقيا في القرينة الصارفة فحيث انه أطلق اللفظ في حال الشعور والارادة فقد أطلقه الى تلك الوجهة الأولية وهي المعنى الحقيقي.

وهكذا الحال في أصالة العموم وأصالة الاطلاق ـ أما الأول فهو قسمان موضوعي وحكمي ـ أما الأول فهو ما استفيد بحسب وضع اللفظ كالجمع المحلّى باللام والثاني فكقولك اكرم العلماء فكلما وجد هذا المحمول وذلك الموضوع فهو الحكمي وهو الذي يقبل التخصيص فإذا قلت اكرم العلماء إلّا زيدا فمن الواضح انه لا يخرج الاستثناء زيدا من أفراد العلماء بل يخرجه من المعروضين للاكرام فالعموم الحكمي هو القابل للتخصيص وهو الذي لم يوضع لها لفظ بخلاف العموم الوضعي فالحكمي تابع للوضعي والمفيد له إنّما هو الهيئة التركيبية فكل من الموضوع والمحمول عام وإلّا فلا استناد الى اللفظ وما يقال بعدم وضع ما يفيد العموم من الألفاظ فإنّما هو

١٤٩

في العموم الحكمي لا الوضعي ـ والمقصود ان الوجهة الأولية في اكرم العلماء هو اقتضائه لإفادة العموم الى أن يقوم التخصيص.

وأما أصالة الاطلاق فهو أيضا كذلك فإن قولك (اعتق رقبة) وجهته الأولية هي الاطلاق ما لم يكن قيد فهذه أصول ثلاثة ثبت اعتبارها بحكم العقل والعرف وعند التأمل يظهر ان اتكاءهما في هذه الأصول الى قاعدة الاقتضاء والمنع.

إن قلت ـ ان هذه موارد خاصة ولا تدل على السريان الى باقي الموارد ـ قلت ـ هذا مسلم لو كان الحكم ثبت التعبد به بحسب الشرع وأما العقلاء وأهل العرف فلا جعل لهما اذ لا ولاية لهما على أحد حتى يلزم اطاعتهما على الآخرين بل ان العرفيات جهات ذاتية معروفة عند العرف يتوجهون اليها بحسب فطرتهم (ونعني بالعرفيات هنا هذا المعنى) وأما الجعل فهو خاص بمن له الولاية اما غيره فليس له حق تغيير وتبديل ومن المعلوم ان الذاتيات والفطريات لا تقبل التخصيص نعم إنما تقبله بجعل من الشارع بأن يتصرف الشارع في المقتضيات اثباتا ونفيا كما في البيع والربوا فالخصوصيات المجعولة من قبل الشارع إنّما هي باعتبار عدم كون المقتضيات عللا تامة وإلّا فلا تقبل التصرف أصلا ومن أي أحد كقبح الظلم وحسن العدل.

فالنتيجة الحاصلة لنا من هذه الأصول إنّما هي ببركة قاعدة الاقتضاء والمنع المعتبرة عند العقلاء ولا تخص الموارد الخاصة المذكورة بل إنّما هي مصاديق لها بل ان الفقهاء قدس الله أسرارهم قد تمسكوا بالقاعدة في موارد كثيرة ويظهر ذلك للمتتبع في الفقه ـ منها ـ أصالة اللزوم فقد أفاد الشيخ الأنصاري قدس‌سره في أول باب الخيارات بأن عند الشك في اللزوم والجواز في عقد البيع يرجع الى اللزوم (١) وهو قدس‌سره لما لم ير القاعدة معتبرة فلذا قد أرجع الأمر الى الحالة السابقة بتقريب انّه اذ أوقع البيع (لازما

__________________

(١) كتاب المكاسب : ج ٥ ص ١٣.

١٥٠

أو جائزا) فقد حصل التمليك والتملك فإذا عرض الشك في ادعاء أحد للفسخ فهذا يحتاج الى أن يكون العقد جائزا فنشك في أن قسمة الفاسخ مؤثر أم لا فتستصحب الحالة السابقة وهي حصول تملك المشتري للمبيع وتملك البائع للثمن.

وهذا مخدوش بأن الأمر لو كان كما ذكره من استصحاب الحالة السابقة فلا بد وان يجري ذلك في مطلق العقود لازمة كانت أو جائزة ـ مثلا اذا وقعت هبة وشككنا في كونها من ذي رحم وأنكر الواهب أن تكون كذلك فبعد حصول التمليك هل ترجع الموهوبة برجوع الواهب أم لا؟ فأين هنا من حالة سابقة حتى تستصحب مع ان اصالة الجواز في هذه المسألة تكون عندهم بالتبع فما لم يثبت المتهب كونه ذا رحم للواهب يجوز للواهب الرجوع مع انه لو بنينا على استصحاب الحالة السابقة فاللازم بقاء التمسك بحاله كما في البيع مع انّه يجوز للواهب الرجوع ما لم يثبت المتهب كونه ذا رحم ـ فقد علم أن أصالة اللزوم لا تستند الى الحالة السابقة بل ولا ربط لها بها ولكنها ترجع الى قاعدة الاقتضاء والمنع فإنّ البيع لو خلى وطبعه لازم في حد ذاته والهبة بالعكس فبعد احراز المقتضى اذا شك في وجود المانع وانه هل اقترن مع البيع أحد الموانع كغبن أو عيب أو دعوى اشتراط خيار فتجري أصالة اللزوم فالقاعدة عبارة عن أنه بعد احراز المقتضى يتمسك به الى أن يثبت المانع سواء كان الشك في الدفع أو الرفع أو القطع فكلها موانع إلّا أنه اذا عرض بعد ثبوت المقتضى فهو الرفع واذا اقترن به فهو الدفع واذا حصل في حال الاستمرار فهو القطع فالقاعدة أي احراز المقتضى سواء انفك عن الحالة السابقة أو قارنها معتبرة بلحاظ أنه نرى في مواردها ان العقلاء وأهل العرف يرتبون الآثار مع احراز المقتضى ولو لم تكن معتبرة عند الانفكاك عن الحالة السابقة (كما انه لا اعتبار بوجود الحالة السابقة منفكا عن احراز المقتضى) للزم التوقف في هذه الموارد كما في الاشتراك حيث أنّه يتوقف عند استعمال اللفظ المشترك مع عدم القرينة لتساوي نسبة اللفظ الى جميع المعاني ـ مع انّه نرى أن في المقام ليس توقف فالاعتبار ثابت والترديد والتأمل غير مسموع.

١٥١

تتميم نفعه عميم

إنّ بين قاعدة المقتضى والمانع وبين الاستصحاب المعروف عموما من وجه فيجتمعان في مورد ويفترق كل منهما عن الآخر في مورد ـ أما مورد الاجتماع فهو مثل ما لو علم بوضوء وشك في حدوث الحدث فالمقتضى محرز وهو سببية الوضوء للطهارة على الاطلاق وعدم محدوديتها بحد ومدة والحالة السابقة أيضا موجودة بلا كلام.

وأما صورة وجود الحالة السابقة مع عدم احراز المقتضى أو عدم وجوده كما في عقد الاجارة الذي مثلنا به فيما تقدم وانّه مشكوك في امتداده سنة أو سنتين فالحالة السابقة وهي السنة الأولى موجودة لكن الشك إنّما هو بالنسبة الى الثانية فلا احراز للمقتضى فإنّ العقد لو كان ممتدا سنة واحدة فلا اقتضاء لبقائه بأزيد منها نعم إنّما يعتبر لو امتد من أول الأمر بسنتين وشك في الإقالة.

وأمّا صورة وجود المقتضى المحرز مع عدم حالة سابقه ـ فمنها ـ أصالة اللزوم في البيع ـ فإذا وقع عقد البيع واختلف المتبايعان فيدعى أحدهما غبنا أو اشتراط خيار فهذا الشك إنّما هو في أن العقد حين وقوعه هل كان فيه غبن أو عيب أو اشتراط خيار حتى تكون هذه موجبة لجواز العقد أم لا ـ فلا حالة سابقة هنا فالحالة السابقة قد انفكت عن المقتضى ولكن المقتضى محرز من أن البيع لو خلى وطبعه مفيد للزوم واللزوم ينتزع عن ذات عقد البيع بخلاف الجواز بالعيب أو الغبن مثلا فإنّه منتزع عن سببه ـ فلا حاجة الى اثبات لزوم البيع بالآيات الشريفة فإنّها محل مناقشة وكذا المؤمنون عند شروطهم بل اللزوم إنّما يستند الى نفس العقد فإنّ العقد يشتمل

١٥٢

على بدليّتين بدلية الثمن للمثمن وعكسه فإنّه مبادلة مال بمال (وذلك في قبال ما لو كان للبدليّة طرف واحد كبدل الحيلولة) فإذا أتلف مال الغير فلا بد له من رد مثله أو قيمته فقد صرحوا بأنه لو أخذ البدل أو القيمة ثم وجد التألف فللمالك حق مطالبة العين وله حق استرجاع البدل أو القيمة وردّ العين التالفة الموجودة بعدا فالبدلية من طرف واحد ولو كانت من طرفين للزم أن تصير العين ملكا له فلا مورد لارجاعها.

فللبيع بدليتان ومن المعلوم أن إحداهما في اختيار المشتري والأخرى في يد البائع فلا يمكن للبائع ايجاد كلتا البدليتين ففي الحقيقة يكون كل منهما ايجابا فلذا يقولون (البيعان بالخيار) وإنّما التعبير بالقبول باعتبار أن القصد الذاتي قد تعلق ببدلية المبيع وأما بالنسبة الى الثمن فهو تبعي.

فهاتان البدليتان وإن كانتا أمرين تحليلا وفي الذهن كما في الجنس والفصل إلّا انّهما خارجا أمر واحد وهكذا الحال في عقد البيع مع أفادته اللزوم في حدّ ذاته فهما خارجا أمر واحد وعقد فارد وليس من قبيل الهبة المعوضة من أنّها هبة في قبال هبة ولذا قالوا بأن فيها لو لم يف المشروط عليه بالشرط فللآخر الخيار لا أن تكون الهبة باطلة فإنّها ذاتا تمليك بالمتهب وليس العوض جزء لحقيقتها بل إنما هي اشتراط هبة في قبال هبة بخلاف البيع فإنّه عقد واحد مركب من عمل البائع وعمل المشتري ولما لم يكن لكل واحد منهما اختيار في عمل الآخر فلذا كان البيع متوقفا على اجتماعهما وايجادهما له وهكذا الأمر في مورد حل هذا العقد فلا مانع من اجتماعهما وايقاع الاقالة ولكن استقلال أحدهما في حلّه مرجعه الى سلطنته على عمل الآخر وهذا لا يكون فلذا يعتبر في الفسخ أما بجعل الشارع له بسلطنة شرعية وأما بتواطيهما أو اشتراطهما.

والحاصل ان اللزوم يستند الى ذات العقد والجواز الى أمر خارج فالمقتضى له ثابت والمانع هو الغبن أو العيب أو اشتراطه لخيار فما دام الشك فيها مع احراز

١٥٣

المقتضي يرجع الى ترتيب آثار المقتضى حتى يقوم دليل على الخلاف.

ومنها النكاح ـ فإذا شك في أن تكون المرأة المعروضة للنكاح محرما لزوجه بسبب أحد وجوه المحرميّة فقد ذهبوا الى أصالة عدمها فلا مانع من الازدواج ما لم يقم دليل على المحرميّة فليس في المقام وجود حالة سابقة فالأصل عدم المحرمية لا عدم الأجنبية.

ومنها ـ في الحيض ـ فإذا شك أن امرأة قرشية ينقطع عنها الدم في الستين أو غير قرشية فالأصل عدم القرشية اذ ليس في انتسابها الى قريش حالة سابقة اذ لا يعلم انتسابها من أول الأمر الى هذه الطائفة أو طائفة أخرى ولكن الأمر فيه وفي سابقه خال عن الاشكال على حسب قاعدة الاقتضاء والمنع أما في مورد النكاح فلأنّ الأجنبية أمر عدمي لرجوعها الى عدم الانتساب والعدمي لا يحتاج الى الاثبات ونشك في أمر وجودي وهو الانتساب وهو أمر زائد دخيل في الحرمة والحلية فيكفي عدم الانتساب فبما أن العدم لا ربط لها بالحالة السابقة فلا يدري أنّها حين وجودها هل انتسبت أم لم تنتسب وعلى الأول فالمانع عن الازدواج موجود دون الثاني وأما الأجنبية ـ فليست شرطا لرجوعها الى العدم وهو لا يؤثر ولا يتأثر ـ وأما في الحيض فبما أن تأثر الطبيعة في أكثر من خمسين سنة أمر زائد مسبب عن الانتساب الى القريش فبالنسبة الى الخمسين لا كلام وما لم يعلم بالأمر الزائد يرجع الى العدم.

والمتحصل ـ انّه تكون في الفقه موارد كثيرة لا يتمّ حكمها إلّا بقاعدة الاقتضاء والمنع ولا تتم بالتمسك بأصل آخر.

فلا يبقى ريب في اعتبار القاعدة ببناء العقلاء وحكم العقل فلذا كان المقتضى منفكا عن الحالة السابقة في أصالة الحقيقة وأصالة الاطلاق وأصالة العموم التي لا ترديد في اعتبارها اجمالا ـ والوجه في السريان الى ساير الموارد هو ان حكم العقل

١٥٤

ليس ايجاده شيئا بل ادراكه ومورد حكمه الذاتيات غير المجعولة فيدركها ويحكم فالعقل وهكذا العرف (لا بمعنى اجتماع أهل العرف بل بمعنى كون الأمر معروفا بحسب الفطرة ومعمولا به بحكم الطبيعة) يحكمان بالعمل بالقاعدة ومن مواردهما الأصول الثلاثة المذكورة فعند التحقيق والتأمل في ساير الموارد نرى أنّه ليس في البين إلّا تلك القاعدة ولا تخصيص في حكم العقل فإنّه في الحكم التعبدي لا الذاتي ـ وهذا المقدار كاف في المطلوب.

وأما الشرع ـ فهو أيضا مقرّر للقاعدة والألزم أن لا يكتفى في الخطابات إلّا بالقرينة على أنّه يمكن تقرير القاعدة ببركة روايات الاستصحاب فإن عدم نقض اليقين بالشك إنّما يحتاج الى اجتماع الأمرين معا قطعا فموردهما واحد فلا بد من اعتبار اجتماعهما ومن البديهي أن بمجرد صرف وجود الحالة السابقة والحالة اللاحقة لا يحصل اجتماع اليقين والشك إلّا مع وجود المقتضي واحرازه ـ كما في المثال المتقدم بالنسبة الى حال الاجارة فهي بالنسبة الى السنة الأولى معلومة والى الثانية مشكوكة فلم يجتمع اليقين والشك نعم اذا تيقن بالعدم وشك في الحدوث فقد اجتمع الأمران ـ لكن اذا أحرز المقتضى فاجتماعهما بمكان من التصوّر حيث أن المقتضي قد أحرز وقد اتحد المقتضى (بالفتح) أيضا معه كما في مورد اليقين بالوضوء والشك في حدوث الحدث فالشك في بقاء الطهارة.

وبناء على ما ذكرناه فمنشأ اجتماع اليقين والشك في محل واحد هو اتحاد المقتضى والمقتضى وحينئذ فاخبار الاستصحاب تشمل المقام وجدت الحالة السابقة أم لا وورودها في الوضوء إنّما هو من باب المورد ولا اختصاص لها به وإلّا لزم الاقتصار على موردها ولم يصح التعدي عنها مع أنها عام وسار في كل مورد اجتمع اليقين والشك الذي يسمى بالاستصحاب.

فبناء على ما شرحناه وحققناه لحد الآن أن المعتبر هو احراز المقتضي واتحاده

١٥٥

مع المقتضى سواء قارن الحالة السابقة أو فارقها ودليل الاعتبار هو العرف والعقل وبناء العقلاء وتقرير الشرع وموارد كثيرة في الفقه بل لا أصل في المقام سوى هذه القاعدة المعبر عنها بالمقتضى والمانع والأصول الأربعة مندرجة بأجمعها تحتها وساير الأصول المختصة بموارد خاصة ترجع بالآخرة الى هذه القاعدة.

أما الاحتياط والتخيير ـ المسببان عن العلم باشتغال الذمة وهو يقتضى لاستفراغ الذمة الى أن يثبت المزيل والتخيير مرتبة ضعيفة من الاحتياط أعني الموافقة الاحتمالية.

وأما الاستصحاب ـ فقد عرفت حاله بالتفصيل وانّه باعتبار احراز المقتضي.

وأما البراءة ـ فمرجعها الى استصحاب العدم الأزلي وعرفت أن نسبة الشك الى طرفيه متساوية فلا مجال لترجيح أحد الطرفين على الآخر اذ لا يعقل ترجيح العدم على الوجود أو العكس من ناحية الشك فالموجب للرجحان هو العلم فإن كان علم بالعدم وشك في الوجود فالأصل العدم وإن كان بالعكس فمع احراز المقتضى يكون الأصل هو الوجود أي الاستصحاب.

وببيان أوضح ـ إنّ أخبار الاستصحاب تشمل البراءة أيضا فإنّ لاجتماع اليقين والشك صورتين العلم بالوجود والشك في الزوال والعلم بالعدم مع الشك في الحدوث ـ فقد رجعت الأصول الأربعة الى القاعدة وكذا أصالة اللزوم في البيع وأصالة عدم المحرمية وأصالة عدم القرشية.

وببيان آخر ـ إنّ الترددان كان بين أمرين وجوديين فكلّ واحد منهما لا يوافق الأصل وأما إن كان بين العدم والوجود فالعدم لا يحتاج الى الاثبات بل المحتاج له هو الوجود وإلّا فالعدم سابق فما دام الحكم مرددا بين مانعية أمر وجودي وعدمها أو كان ثابتا في حال العدم كمسألة المحرمية وعدمها فإما إن يكون هنا نسب

١٥٦

أو لا فالعدم لا يؤثر في حلية الوطي حتى نحتاج الى اثباته وأما المحرمية فهي التي تمنع عن حلية الوطي فإذا تردد الأمر بين وجود نسب وعدمه فالمقتضى ثابت والشك إنّما هو في المانع ـ وهكذا الحال في أصالة الطهارة فترجع الى هذه القاعدة.

وبالأخرة فقاعدة الاقتضاء والمنع وإن كان التعبير عنها مختلفا باختلاف الموارد كأصالة الصحة والطهارة والاشتغال والبراءة والتخيير والاستصحاب واللزوم ونحو ذلك إلّا ان حقيقتها أمر واحد.

بقى شيء

وهو أن هذه الأصول كما عرفت ترجع الى العلم لا الى الشك حتى تكون خارجة عن أصالة عدم التعبد بالظن فليست بامارات بل أصول برأسها وقاعدة الاقتضاء والمنع التي عرفت تحقيقه هي من الأصول وتنطبق على تلك الأصول الثلاثة وغيرها فالقاعدة ليست أصلا لفظيا بل أصل عملي فلازم ذلك ان تكون أصالة الحقيقة والاطلاق والعموم أصولا عملية مع انّهم قد جعلوها من الأصول اللفظية الاجتهادية كما انّ بعض مصاديق القاعدة أصول عملية بل وبعضها أصول عملية ساذجة ليست فيها جهة كشف أصلا كالبراءة وبعضها توجد فيها جهة كشف كالاستصحاب المعروف ـ فكيف يكون ذلك؟

الوجه في ذلك ان أصالة الحقيقة وكذا العموم والاطلاق أصول واقعة في مورد الدليل فهي متممة للدليل لا نفسه فإنّ الكلام الملقى لغرض الافادة والاستفادة كاشف عما في ضمير المتكلم وموجب للعلم بالعلة من المعلول وعكسه لكن هذه الدلالة ناقصة لتردد المدلول بين المعنى الحقيقي والمجازي فلو تساوى الطرفان فهذا اجمال في الدليل كالاشتراك ولكن قد سبق انّ الوجهة الأولية للفظ هو انصرافه الى المعنى

١٥٧

الحقيقي وليس المعنى المجازي في عرضه بل هو محتاج الى القرينة فلذا يرجح الحقيقة فالاقتضاء في أحد الطرفين موجود وليس كذلك في المشترك ـ فلذا هذا الأصل عبارة عن الأخذ بالمقتضى وعدم الاعتناء باحتمال المانع إلّا انّه أصل متمم للدليل لا نفس الدليل فلذلك يكون أثر الدليلية موجودا فيه وهذا باعتبار مورده أي الدليل وإلّا فهو أصل كسائر الأصول وهكذا العموم والاطلاق وأصالة البراءة كذلك أيضا فإنّها بما أنّ متعلقها العدم فلا رجحان فيها لأنّه لا يؤثر ولا يتأثر وأما في مورد السببية المطلقة كالعلم بالوضوء والشك في حدوث الحدث فالبقاء له الرجحان فإذا ثبت ولم يحصل العلم بوجود المزيل فالعمل على ترتيب آثار البقاء.

١٥٨

مورد اعتبار أصالة الحقيقة

هل اعتبار أصالة الحقيقة يختص بالمخاطب المقصود افهامه بالكلام أو هو مطلق فيشمل غير المقصود بالخطاب وكذا المعدومين والغائبين؟

فنقول ـ إنّه قد لا يكون المقصود بالكلام افهام الحاضر المخاطب بخصوصه كما في الخطابات التصنيفية مثل ما ذكر الشيخ الأنصاري في أول مبحث القطع بقوله (اعلم ان المكلف اذا التفت الى حكم ـ الخ) فمن الواضح انه لم يقصد بقوله (اعلم) خصوص من حضر بحثه الشريف أو المراجع الى كتابه فقط لعدم لحاظ هذه الأمور والحيثيات حين تصنيفه فلا ينبغي الريب في اعتبار هذه الخطابات وإلّا لسقطت عن الاعتبار بالكلية بل المقصود هو جميع الافراد بلا فرق بينهم وأوضح من ذلك ؛ القرآن العظيم فإنّه من قسم الخطاب التصنيفي حيث انّه قد جاء به أمين الوحي من اللوح المحفوظ ولم يكن هناك أحد حتى يقصد بالخطاب وما تلاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرأه عليهم فانّه قراءة كلام الله سبحانه لا ان يكون خطاب شفاهي وتوهم انّ القرآن خطاب شفاهي فلا يستوي فيه الحاضر والغائب فاسد.

وأما الخطابات الشفاهية ـ فبما ان الملاك هو احراز المقتضي والشك في المانع فيترتب آثار المقتضى ولا يعتنى باحتمال المانع فهذه الخطابات لا فرق فيها بالنسبة الى المقصود بالخطاب وغيره وليس في البين شيء إلّا احتمال وجود قرينة توجب الفرق بين الموجودين والمعدومين ـ ولكن هذا هو احتمال المانع ولا اعتناء به مع وجود العلم بالمقتضى وعلى ذلك قد جرت سيرة العقلاء فإذا أقرّ أحد في مجلس واستمع آخرون فلهم أن يشهدوا بما سمعوه.

١٥٩

ظواهر الكتاب

وهي من جملة الموارد التي توهم عدم اعتبارها فقد اختلف في حجيتها وعدمها فذهب بعض الى انّ الكتاب لا ظاهر له وهذا يرجع الى الصغرى وبعض اعترف بالظواهر ومع ذلك ذهب الى عدم اعتبارها أو تأمل فيها بسبب وجود أخبار في المقام : فلا بأس أولا بتصوير لفظ الكتاب ثم الاشارة الى خصوصيات البحث فنقول.

إنّ للفظة (كتب) معاني عديدة ـ أحدها الكتابة بالمعنى المعروف ـ وثانيها الجمع ـ ثالثها التقدير كقوله سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(١) رابعها الوجوب كقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(٢) ونحو ذلك ولكن يمكن أن يفرض في المقام معنى جامع مطرد في جميع الموارد فتكون المعاني العديدة غير مختلقة حقيقة بل من مصاديق ذلك الجامع وهذا المفهوم الجامع المطرد هو (الإتقان والإحكام) فهذا في مورد الوجوب عبارة عن اتقان فعل وفي مورد الجمع هو المنع عن التفرق وفي مورد الكتابة والخط اتقان المكتوب بسبب نقشه على القرطاس فيصون عن الضياع والتلف ويقال كتيبة القوم لكونها في غاية الانتظام والترتيب.

وأما لفظ (الكتاب) فلا بد وان ينظر في انّه من أي مصداق والواضح البديهي ان المقصود منه ليس ما بين الدفتين أعني النقش فإنّ الكتاب سابق على النقش وإنّما النقش حاك فقوله سبحانه : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٣) ليس اشارة الى المكتوب

__________________

(١) سورة المجادلة : آية ٢١.

(٢) سورة البقرة : آية ١٨٣.

(٣) سورة البقرة : آية ٢.

١٦٠