بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

القضية اللفظية قد أحرز المقتضي وهو الصداقة فإذا شك في المانع وهو العداوة يكون المرجع الحكم بعموم المقتضى وادخال المصداق تحت حكم العام فصح مؤاخذة المولى عبده على عدم اكرام المصداق المشتبه.

فهذا الذي استشهد به صاحب الكفاية مرجعه الى قاعدة المقتضى والمانع التي جعلناها مبنى أبحاثنا في الأصول. فإن قلت : ان العداوة مانع. قلت هذا لا يوجب عدم عموم الاقتضاء بل المقتضي موجود في الجيران أجمع وإنّما العداوة مانع عن فعلية المقتضي بالنسبة الى وجوده.

وبالأخرة فكلما كان وصف مناطا للحكم ظاهرا (مثل صل خلف العادل) فهو ما يتناسب مع الحكم واما لو كان معرفا للحكم فلا تناسب له معه كما في (اكرم الجالس) اذ البديهي أن الجلوس عرفا لا دخل له في الحكم ولا ربط له به ولا نعلم ان سبب اكرامه هل هو الرحميّة أو الفقر أو الدين أو العلم فلا بد من التوقف هنا.

وتلخص مما ذكرنا أنّ الحق في المسألة هو عدم الاندراج تحت العام ولا تحت الخاص. ولكن قد يصح ذلك كما فيها اذا أحرز المقتضى وشك في المانع أو فيما اذا علم القدر المتيقن كالتحيض اذ هو موجود عموما الى الخمسين وأما الى الستين في خصوص القرشية والنبطية فإذا اشتبه مصداق بين أن تكون منهما أو من غيرهما فذهبوا الى أصالة عدم القرشية والنبطية وقد استشكل بعضهم في هذا الأصل فإنّ النسبة الى قريش وغيره على حد سواء والترجيح بلا مرجح فلا يمكن المصير الى أصالة عدم القرشية. أقول : إن كان الحكم في القرشية والنبطية وفي غيرهما عرضيا بأن يكون لهاتين حكم ولهذه حكم. فالاشكال واضح ولكن كل منها مشتركة تحت الحكم الى الخمسين والزائد عليه مشكوك وعدم القرشية لا مدخل له فإذا شك في وجود الزائد على الخمسين وعدمه فالأصل عدمه. فلا ضير في جريانه وهذا وإن كان أصلا موضوعيا إلّا أنّه حيث كان باعتبار الحكم الشرعي بمعنى أن القرشية لها حكم زائد فلا مانع في الجريان والمتحصل ان عدم الدخول هنا تحت حكم القرشية

١٢١

إنّما هو من باب القدر المتيقن والزائد محكوم بالعدم.

اذا تبين ما ذكرنا من أول المبحث الى هنا ظهر لك التفصيل الذي أشرنا اليه في صدر المبحث وهو انه اذا كان الشك لضيق الدائرة ولم ندر ان المصداق من أفراد العام أو الخاص فلا وجه للقول باندراجه في تحت أي واحد منهما. واذا أحرزنا المقتضى للحكم من الخارج واستكشفنا بأن الخاص قد استثنى في العام لوجود المانع لا لفقد المقتضى وذلك في القضية النفس الأمرية وفهمنا من القرائن أن العام مقتض للعموم حتى فيما وجد فيه المانع فإذا كان مصداق مشتبه وقد أحرز المقتضى وشك في المانع فنختار اندراج هذا المصداق تحت العام مثلا اذا قال اكرم العلماء ولا تكرم الفساق فالعلم مقتض والفسق مانع (لا أن يكون العدالة شرطا فلا بد من احراز الشرط) فإذا اشتبه أحد في المصاديق فنحكم ببركة احراز المقتضى فيه بدخوله تحت حكم العام فيؤخذ بالمقتضى ولا يعتنى بالمانع. فكما ان الاستثناء جائز في القضية اللفظية وفي الخروج الموضوعي فكذا يجوز ذلك في المقرون بالمانع فإذا كانت الشبهة المصداقية من هذا القبيل فلا وجه لدخوله تحت العام إلّا باعتبار رجوعه الى قاعدة الاقتضاء والمنع. فإن قلت : إنّ هذا ينافي ما ذكرتم سابقا من أن العام مقتض لجميع أفراده فالمقتضى في كل منها محرز وانّ العموم في اكرم العلماء يقتضى شمول زيد وقوله (إلّا زيدا) إنّما هو لوجود المانع. قلت : فرق بين الاقتضاء في القضية اللفظية وفي القضية النفس الأمرية ففي الأول يرجع ذلك الى أنّك لو شككت في وجود مانع أو استثناء فتحكم بثبوت المقتضى حقيقة من دون تجوز واما في القضية النفس الأمرية فالتخصيص ثابت ولا شك فيه إلّا أنه لا نعلم بأنّه يرجع الى المانع أو الى الخروج الموضوعي وعلى هذا فلا بد من التوقف لكن اذا أحرز ان العام له اقتضاء في نفس الأمر والاستثناء إنما هو لوجود المانع فيحكم بعموم الاقتضاء (١).

__________________

(١) قبل الورود في المقصد الثاني من هذا الكتاب راجع مقدمة المؤلف. الصفحة ٥

١٢٢

المقصد الثاني في الظن

١٢٣

١٢٤

المقصد الثاني في الظن

قد عرفت أن الشيخ قدس الله أسراره قسم المكلف الى قاطع وظان وشاك (١) وقد مرّ هناك أن الأولى أن يعبّر بالعلم دون القطع والكلام هنا إنّما هو في الظن فنقول من باب المقدمة أن الحجية ذاتية للقطع كما سبق في محله فلا تناله يد الجعل لا اثباتا ولا نفيا وإلّا لزم الدور والتسلسل والتناقض.

وأما الشك فجعل الحجية له غير معقول ضرورة تساوي نسبته الى طرفيه وجعل الحجية بالنسبة الى طرفيه تناقض والى طرف واحد ترجيح بلا مرجح.

وأما الظن فهو باعتبار أنّه رجحان أحد الطرفين فليس حاله حال القطع من كون الحجية ذاتية له ولا مثل الشك في امتناع جعلها له ومع ذلك فقد قسم الشيخ أمر الظن الى قسمين أحدهما امكان التعبد به وعدمه وقد نسب الى بعض امتناعه (٢) وسيجيء الكلام فيه وثانيهما انّه بعد فرض الامكان فهل هو واقع شرعا أم لا؟ ولا بدّ أولا من بيان معنى الحجة وشرح حقيقتها ثم النظر في المقصود. فنقول :

إنّ الحجة عبارة عن الواسطة في الاثبات والمراد هو الثبوت الذهني لا الخارجي الذي بمعنى الايجاد اذ لو كان المقصود هو الايجاد الخارجي للزم اختصاصه باللمى ولما صح التعميم بينه وبين الإنّي فإنّ العلة هي الواسطة في الايجاد لا المعلول

__________________

(١) فرائد الأصول : مبحث القطع ، ج ١ ص ١.

(٢) فرائد الأصول : مبحث الظن ، ج ١ ، ص ١٠٦.

١٢٥

فالمراد بالواسطة في الاثبات الواسطة في إفادة العلم بثبوت النتيجة من المعلول بالعلة أو العكس فكل منهما واسطة فيه وقد نبّه الشيخ على ذلك بقوله (١) ان اطلاق الحجة على القطع مسامحة أو توسع في التعبير وليس بحسب الميزان بداهة عدم وقوع القطع واسطة في الاثبات بالنسبة الى مقطوعه وإلّا لزم التكرر في القطع فالواسطة في الاثبات أي في ثبوت النتيجة عند الذهن مع ان القطع عين الثبوت ولا تعقل وساطته في اثبات مقطوعه فلذا قد أفاد بأن ليس اطلاق الحجة على القطع الطريقي كإطلاقها على ساير الموارد أي الامارات المعتبرة شرعا فإنّ الحجة عبارة عن الوسط الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر ويصير واسطة للقطع بثبوته له. الخ. ولا يخفى ان التعليل الواقع في كلامه الشريف أعني قوله (لأنه بنفسه طريق الى الواقع (٢)) أيضا مسامحة وكان بالجدير أن يقول لأن القطع هو الوصول بنفسه لوضوح ان الطريق موصل والوصول هنا هو العلم بالنتيجة فالقطع وصول لا موصل ـ لكن هذا يتم فيما لو كان القطع واسطة في الاثبات بالنسبة الى مقطوعه اذ من المعلوم انه لا واسطة بين القطع ومقطوعه واما لو كان واسطة في اثبات تنجز حكم آخر فلا مانع من اطلاق الحجة عليه حينئذ فالقطع علة لتنجز الحكم لا لنفس الحكم فإنّ الحكم سابق عليه فلا علّية في القطع بالنسبة الى الحكم فيكون المعنى أنه قبل القطع لم يكن تنجز وإنّما القطع أوجده فالقطع بالنسبة الى التنجز دليل لمى وهذا بخلاف الأدلة حيث أن فيها يصل العلم بالعلة من المعلول فإنّ العلة في ايجاد قوله سبحانه (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أو قوله (حَرَّمَ الرِّبا) هي وجوبها وحرمته فالأدلة الشرعية معاليل عن ارادة المولى فالاستدلال بالأدلة إنّما هو من المعلول بالعلّة ولكن القطع بالعكس حيث انه علم

__________________

(١) فرائد الأصول : مبحث القطع ، ج ١ ، ص ٣٠.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ ص ٢٩.

١٢٦

بالمعلول من العلة فيحصل العلم بالتنجز بسبب القطع فالعلم بالتنجز هو العلة لا المعلول فما لم تكن علة فلا تنجز كما انه يثبت التنجز بسبب ساير أسبابه كالالتفات والقدرة وغيرهما من الأسباب والشرائط وينتفي بانتفاء أحدها.

فقد تحصل مما ذكر أن نفي الحجية عن القطع لا يتم على اطلاقه لما عرفت من اختصاص نفيها عنه بما اذا فرض كونه واسطة في اثبات مقطوعه والعجب من الشيخ قدس الله أسراره انّه نفى الحجية عن القطع بالمعنى المذكور ولكن أثبتها للظن حيث قال في مبحث القطع ان اطلاق الحجة عليه ليس كإطلاق الحجة على الامارات المعتبرة شرعا الخ (١) يعني من حيث أن هذه الامارات كالبينة والفتوى وسائط للاثبات ـ فإنّه يتوجه عليه حينئذ أنه هل الظن في طول العلم أم لا ـ؟ والمقطوع به هو الأول وعلى هذا فلو كانت له حجية لما كانت إلّا التنجز فإنّه بالنسبة الى مظنونه لا يقع واسطة في الاثبات كما كان الحال كذلك في القطع فمعنى اعتبار الظن هو ايجابه لتنجز الواقع إلّا أنّ التنجز في العلم واقعي وفي الظن ظاهري والحاصل أن نفي الحجية عن القطع بالاطلاق توسع في التعبير وإلّا فلا مضايقة له في ذلك بالنسبة الى تنجز حكم آخر ولا وجه للتفكيك بين الظن والقطع بأن يكون اطلاق الحجة على الظن أمرا متعارفا فيقع واسطة في اثبات الظن بالنسبة الى التنجز فيوجبه عقلا كالقطع حيث كان يوجبه ذاتا بخلاف ما لو كان واسطة في اثبات مظنونه فهذا غير صحيح كما عرفت فإنّه لا بد من أن يكون بين الشيئين ملازمة فيكون أحدهما علة والآخر معلولا وأما الظن بالنسبة الى ذات المظنون فليس علة ولا معلولا وهكذا العلم وأما بالنسبة الى التنجز فتوجد العليّة والمعلولية ذاتا أو جعلا كما تلي عليك.

واذ قد اتضح علّية العلم للتنجز وصحة وقوعه واسطة لاثباته فاعلم أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ٢٩.

١٢٧

التنجز متفرع على مرحلة التعلق فما لم يكن تعلق لم يكن تنجز وهذه المرحلة هي التي فيها للعذر أو التنجز مجال فيمكن أن يكون التعلق موجودا ولكن يكون المكلف معذورا وأثر ذلك يظهر فيما اذا كان الحكم بالقضاء فيثبت بعد ارتفاع العذر كما في قوله سبحانه وتعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(١) ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)(٢) فقد تعلق الحكم في أمثال هذه الموارد لكن لا بنحو يدور الأمر بين الاطاعة والعصيان والمانع عن تحقق العصيان هو العذر الموجود ولكن لما كان الحكم منجزا فالأمر دائر بين الحالتين ـ والتعلق أيضا فرع التحقق أعنى مرحلة تقنين القانون وتشريع الشرع فهذا قبل التعلق ولذا ورد أن شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مستمرة الى يوم القيامة حيث أنّها تشمل الغائب والحاضر والموجود والمعدوم الى قيام القيامة فإنّه وإن كان تشريع الشرع بلحاظ المكلف وإلّا كان لغوا إلّا أن وجوده غير لازم عند مرحلة التحقق نعم لا بد من وجوده في عالم التعلق كما هو واضح ـ فقد تبين مما ذكرنا أن للحكم مراتب ثلث. تحقق وتعلق وتنجز.

ولكن صاحب الكفاية قدس الله روحه قسم مراتب الحكم الى أربعة وجعل كل واحدة منها مقدمة لرفع اشكال اجتماع الضدين الوارد في مبحث امكان التعبد بالظن ومحصل كلامه (٣) : ان لكل من حكمي الواقعي والظاهري مراتب أربع الشأنية والانشاء والفعلية والتنجز وذهب الى انه لو اجتمعت المراتب الأربع في الحكم الواقعي وصار منجزا كان الحكم الظاهري باقيا في مرحلتيه الأوليين الشأنية والانشاء واذا كان الحكم الظاهري واجدا لمراتبه كلها كان الحكم الواقعي باقيا في

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٨٤.

(٢) سورة البقرة : آية ٢٨٠.

(٣) كفاية الأصول : ص ٢٧٧ الى ٢٧٩.

١٢٨

مرحلتيه المذكورتين فالحكمان الواقعي والظاهري يجتمعان في المرتبتين الشأنية والانشاء ويفترقان في الفعلية والتنجز. هذا.

أقول. هذا الكلام ليس تاما في حد نفسه وعلى فرض تمامية التقسيم فلا تحصل النتيجة المطلوبة به توضيح ذلك ان الشأنية إنّما هي مقدمة للحكم لا أنها من مراتب وجوده فهي قبل وجوده كصلاحية الرجل القاعد للقيام فلا يلزم أن يكون القيام موجودا خارجا. وأما الانشاء فهو مؤخر عن الحكم لا انه مرتبة من مراتبه حتى تكون الفعلية بعده.

تفصيل المبحث : ان المفاهيم قسمان منشئة وغير منشئة. أما الأولى فلا يترتب عليها أثر إلّا بعد الانشاء خارجا كالعقود والايقاعات من البيع أو النكاح أو الطلاق فما لم يكن انشاء فلا بيع ولا نكاح ولا عتق ولا طلاق ولو مع وجود الارادة الجدّية وهذا بخلاف الحكم التكليفي حيث انّه تكفى فيه ارادة المولى بداهة أنّه لو اطلع العبد على ارادة سيده لكنه لم ينشئه لداع من الدواعي لوجب على العبد الامتثال ويستحق الثواب على فعله والعقاب على تركه فإذا تمت للمولى ارادته النفسية وعلم بها العبد وجب عليه الخروج عن عهدتها ولو لم يبرزها المولى في الخارج ولا يسمع دعواه عدم صدور حكم من مولاه خارجا فلا يترتب استحقاق الثواب والعقاب على الانشاء فإنّ الأوامر الواردة في الكتاب والسنة تتفرع على الحكم بمعنى أنه نستدل على وجوب الصلاة بقوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مثلا فلو لا الوجوب لم يصدر هذا الحكم من المولى وهذا يجري أيضا في الموارد العرفية فإذا تكلم شخص فتستدل بكلامه وجود مضمونه في ضميره وهذا من باب الاستدلال من المعلول على العلة فالحكم علة والكلام معلول ـ فالنتيجة ان مرحلة الانشاء متأخرة عن وجود الحكم لا أنّها مقدمة من مقدماته.

وأما الفعليّة ـ التي فسرها رحمه‌الله بالبعث والزجر ـ فنقول ـ هل ان الفعلية

١٢٩

تجامع التنجز أو تفارقه ـ؟ وحيث أنه قدس‌سره يقدّمها على التنجز فيتوجه عليه ان البعث والزجر لا يصح إلّا مع التنجز فهما متأخران عنه والحاصل انه لم نجد معنى معقولا للانفكاك بين الفعلية والتنجّز. فهذه المراحل الأربع للحكم غير تامة وإنّما ذهب الى هذا التقسيم والترتيب دفعا لإشكال اجتماع الضدين أو المثلين بين الحكمين وقد أفاد في وجه الدفع ما نقلناه عنه من اجتماعهما في مرحلتين وافتراقهما في مرحلتين اخريين ولكن البناء فاسد كالمبنى فإنّه اذا فرض ان الحكم الظاهري كان ثابتا فليس الواقعي حينئذ بفعلي وهكذا العكس لزم منه التصويب الباطل والدور أما الأول فلأنّه اذا لم يحصل العلم بالحكم الواقعي فالمفروض انّه لا بد من أن تجري احدى الأصول الأربعة من البراءة أو الاشتغال أو التخيير أو الاستصحاب ويبقى الحكم الواقعي عند الشك فيه أو الجهل به في مرحلة الشأنية كما هو مفروض كلامه فلو كان كذلك يلزم منه عدم اشتراك المكلفين في الأحكام الواقعية مع انه يشترك فيها العالم والجاهل وأما الثاني فلان من المعلوم توقف العلم بالحكم على وجوده وثبوته فلو توقف وجوده وثبوته على العلم به (كما هو لازم كلامه) كان دورا.

فالتحقيق ـ انّ الأحكام الظاهرية ليست إلّا التنجز أو العذر لا جعل الحكم في مقابل الحكم الواقعي فإنّ الحكم الواقعي موضوعه أفعال المكلفين التي لها في نظر الشارع حكم من الأحكام الخمسة فإذا علم المكلف به كانت النتيجة هي التنجز واذا جهل فيثبت العذر فتختلف وظيفته باختلاف الموارد من الاحتياط أو التخيير أو البراءة أو الاستصحاب فالأولان مؤداهما التنجز والثالث العذر والرابع إمّا تنجز المستصحب أو العذر من الحكم اللاحق الذي جرى الاستصحاب على خلافه وعلى هذا فلا احتياج الى ترتيب مراتب أخرى للأحكام وإنّما نشاء هذا التقسيم والداعي الى ذلك الترتيب من الاغترار بالتعبير عن الأحكام الظاهرية بالوجوب أو الحرمة مثلا ـ لكن هذه التعابير وإن كانت جارية دائرة إلّا أن المقصود منها ليس هو الوجوب أو

١٣٠

الحرمة بالنسبة الى الحكم التكليفي بل المقصود تنجز الحكم الواقعي أو العذر عنه فإذا ثبت التنجز فالاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية فالتعبير متحد بين الحكمين إلّا أن المفاد يختلف فمؤدى الوجوب والحرمة في الحكم الظاهري هو التنجز والعذر ولكن الحكم بالنسبة الى الأفعال مولوي ففي الحقيقة هنا قضيتان مختلفتان موضوعا ومحمولا وقد اختلط الأمر بينهما ـ إحداهما الحكم الواقعي وموضوعه أفعال المكلفين ومحموله الأحكام التكليفية والثانية الحكم الظاهري وموضوعه الحكم التكليفي ومحموله التنجز أو العذر فالأحكام الظاهرية موضوعها عين محمول الأحكام الواقعية وأما الموضوع في الأحكام الواقعية فهو أفعال المكلفين كما عرفت ولكنهما قد اشتركا في التعبير ومجرد هذا الاشتراك لا يكون منشأ لاجتماع الضدين أو المثلين ـ وأيضا ـ ان الصبي بما أنه ليس بمكلف فلو علم بالحكم الواقعي أو جهله فليس لهذا التنجز والعذر أثر في حقه وهذا أيضا مما يبين عدم تمامية ما ذهب اليه صاحب الكفاية قدس‌سره من عدم التفكيك بين الفعلية والتنجز ـ هذا ملخص الكلام في مرحلة الامكان وحاصله انّ الظن برزخ بين القطع والشك فحكمه أيضا برزخ بين حكميهما فهو قابل للحجية ولكن ليست بذاتية له كالأول ولا ممتنعة كالثاني وهذه المسألة وإن كانت واضحة إلّا أنه مع ذلك قد نسب الى ابن قبة وبعض من امتناع الحجية بالنسبة الى الخبر الواحد (١) ولكن لا اختصاص لذلك بخبر الواحد وإن كانت مبحوثا عنها فيه بل تشمل مطلق الامارات غير العلمية وملخص ما نسب اليه أمران.

الأول ـ لزوم جواز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن الله على تقدير حجيته والتالي باطل فالمقدم مثله ـ ولا يخفى أن هذا الدليل على فرض تماميته لا يدل على الامتناع الذاتي بل يدل على عدم الجواز مع ان محل النزاع في المرحلة الأولى هو أن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ، ص ١٠٥.

١٣١

الظن باعتبار أن له رجحانا هل يجوز بحسب نظر العقل ومرحلة الذات (مع قطع النظر عن المحاذير) ان تقبل الحجية أم لا ـ؟ هذا أولا ـ وأما ثانيا ـ فإن هذا إنّما يتطرق فيما لو كانت الاعتقاديات كالفروع ولكن بما انّها من الأصول فيختلف حكمها عن حكم الفروع فهي خارجة عن محل البحث اذ لا مجال لتطرق الظن في الاعتقاديات.

الثاني ـ استلزام ثبوت الحجية لخبر الواحد تحليل الحرام وتحريم الحلال ومن البديهي عدم جواز أي واحد من الأمرين وكل ما يستلزم غير الجائز غير جائز ـ وفيه أولا أن مرجع هذه الملازمة أيضا الى عدم الجواز وعدم الوقوع ولا تدل على الامتناع الذاتي الذي هو محل الكلام من امكان التعبد به أو امتناعه ـ وثانيا ـ انّه ما هو المقصود من تحليل الحرام وتحريم الحلال ـ؟ ـ فإن كان المقصود لزوم اجتماع حكمين متضادين ومرجعه الى اجتماع الضدين فيرد عليه ان حجية الظن ليس مرجعها الى جعل حكم بل انه بعد فرض كون الظن حجة من قبل الشارع يرجع الأمر الى تنجز الحكم الواقعي عند المصادفة أو العذر عنه عند المخالفة فتنجيز الحرام الواقعي أو المعذورية عنه المعبر في المقام عن الأول باجتماع المثلين وعن الثاني باجتماع الضدين لا يرجع الى محذور فإنّهما ليسا إلّا مجرد تعبير ولا حقيقة لهما حيث انه لم يجعل حكم (في فرض حجية الظن) على خلاف الحكم الواقعي أو في قباله بل ان مرجع حجية الظن هو الأخذ بمؤدى خبر الواحد مثلا فإن طابق الحكم الواقعي فهو عبارة عن تنجز ذلك الحكم وإن لم يصادفه فهو العذر عنه وليس في البين اجتماع ضدين أو مثلين ـ مع ان ذلك يلزمه النقض بمورد الأصول العملية حيث ان هذا الأمر يجري فيها أيضا فما هو الجواب هناك يأتي هاهنا فإنّه لا بد من أن يجري في الشبهة الحكمية الاشتغال أو البراءة (على الخلاف بين الاخباري والأصولي) فيلزم أيضا محذور الاجتماع على كل من القولين فيمكن لزوم تحليل الحرام على البراءة وعكسه

١٣٢

على الاشتغال فهذا الكلام ليس بتمام والاعراض عنه أولى فإنّ مسئلة امكان التعبد بالظن كاد أن يلحق بالبديهيات فلا بد من الرجوع الى البحث عن المرحلة الثانية أعني الوقوع وعدمه.

وقد أفاد الشيخ قدس‌سره أنّه لا بد قبل الورود في البحث من تأسيس أصل يكون مرجعا في المقام (١) وانه هل هو الوقوع إلّا ما خرج أو عدم الوقوع إلّا ما خرج فإنّ بعض الظنون منهي عنها كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وبعضها معتبرة كالبينة وفتوى المفتي ونحوهما (بناء على أفادتها الظن النوعي فتكون حجة) فمركز البحث الظنون المشكوك اعتبارها.

وقد ذكر قدس‌سره أن الأصل الأولي هو الحرمة (٢) واستدل عليه بالأدلة الأربعة ـ أما الكتاب فلقوله تعالى (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣) حيث دلّ على أن ما ليس بإذن من الله من اسناد الحكم الى الشارع فهو افتراء عليه سبحانه.

وفيه. انّ ما تدل عليه الآية الشريفة إنّما هو عدم جواز الافتاء بغير علم ولا تدل على أن الأصل هو اعتبار الظن أو عدمه فإن قيل باعتباره من دون علم فهو افتراء وإن قيل بعدم اعتباره من دون علم فهو أيضا افتراء فتدل الآية على أن الأمر المجهول لا يجوز الاقتحام فيه والحكم به ما دام مجهولا فلا دلالة لها على عدم اعتبار الظن وهذا كالظن في أفعال الصلاة مثلا اذا ظن بأنه سجد سجدتين مع بقاء المحل فهذا الظن الفعلي مردد بين اعتباره وعدمه فعلى فرض الاعتبار يلزم أن يكون أتى بسجدتين فعليه المضيّ ولكن المحل لم يتجاوز بعد وعلى الثاني فلا بد من الاتيان بسجدة أخرى وربما أتى بسجدتين فتكون هذه سجدة ثالثة فلذا احتاط بعضهم بأنّه

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ، ص ١٢٣.

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ١٢٣.

(٣) سورة يونس : آية ٥٩.

١٣٣

اما يعمل بظنه ويتم الصلاة ويعيدها أو يأتي بسجدة أخرى ويتمها ثم يعيدها أيضا والحاصل ان الآية الكريمة لا ترتبط بالمقام.

وأما السنة ـ فقوله عليه‌السلام ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم (١) ـ والجواب عنها هو الجواب عن الآية بعينه من أنه لا يجوز الحكومة لمن لا علم له بها واما دلالته على عدم اعتبار الظن فخارجة عن محل الكلام.

وأما الاجماع ـ فما ادعاه الفريد البهبهاني من أن الركون الى شيء لم يقم عليه دليل شرعي قبحه من البديهيات (٢). وهذا حسن لرجوعه الى البداهة التي هي أقوى من الاجماع.

وأما العقل ـ فلأن العقلاء يقبحون الالتزام بما لا علم به ـ أقول ـ اما ما أفاده من قبح الالتزام بغير العلم من دون أذن وانّه قبيح عقلا وشرعا فمسلّم وكذا صحة المنع عنه ولكنه ليس في الأدلة ما يتمسك به للحكم بعدم اعتبار الظن حيث ان هذا الحكم من دون علم أيضا ينافي الآية الكريمة والرواية الشريفة وهكذا الحكم بالاعتبار أيضا فلا بد من أن لا يترتب أثر الاعتبار ولا أثر عدم الاعتبار فلا يجوز كل حكم مع عدم العلم بل لا مناص عن الرجوع الى الاحتياط كما في مسئلة الظن في الاتيان بسجدتين المتقدمة وليس في تقبيح العقلاء أزيد من ذلك أي الالتزام بشيء من دون ثبوت وهذا أمر لا ننكره إلّا أن هذا الظن الحاصل هل هو من القسم المعتبر أو غيره فأمر آخر ولا يصح التكلف في الحكم باعتباره أو عدمه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ـ ب ٤ ـ ح ٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ ص ١٢٦ نقلا عن الرسائل الأصولية ، ص ١٢.

١٣٤

بحث

(عن ساير الأصول المؤسّسة في المقام)

وقد ذكر للأصل في المقام وجوه أخر ـ منها ـ ان الأصل عدم حجية الظن وعدم وقوع التعبد به وعدم ايجاب العمل به (١).

وهذا الأصل مرجعه الى أن الظن لما لم يكن تاما في حد نفسه وليست الحجية ذاتية له كالقطع ولا ممتنعة عنه كالشك بل له صلاحية لها فلا بد وان تكون حجيته بجعل جاعل فإذا شك في ذلك فالأصل عدم الحجية وعدم وجوب العمل وعدم جواز التعبد به ـ وقد ناقش الشيخ فيه بأن الأصل وإن كان ذلك إلّا أنه لا احتياج الى اجرائه لعدم ترتب شيء عليه فإنّه يكفى في حرمة العمل به عدم العلم بوقوع التعبد به كما مر فمجرد عدم العلم كاف في الحكم بعدم اعتبار الظن وهذا ببركة الأدلة الأربعة المتقدمة فلا حاجة الى تأسيس الأصل في المقام بتقرير انّا نشك في أن الظن هل طرأته الحجية والأصل عدمه فإنّ هذا الأصل وهو عدم طروّ الحجية وحدوثها إنّما يحتاج اليه اذا ترددنا في ثبوت الحادث فننفيه بأصالة عدمه وأما اذا ترتب الأثر المقصود على عدم العلم بالحادث فلا داعي الى اجراء هذا الأصل وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة على جريان أصالة عدم الفراغ اذ يكفي عدم العلم بالفراغ فتحكم قاعدة الاشتغال بوجوب اليقين بالفراغ.

هذا ولكن المناقشة في غير محلها بل الاحتياج الى اجراء أصالة عدم الحجية باق على حاله فإنّ عدم العلم غير كاف في اتخاذ أي واحد من الطرفين كما هو واضح

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ١٢٧.

١٣٥

وأما الآية والرواية فقد سبق الجواب عنهما بأنهما انّما تدلان على عدم جواز الحكم بشيء من دون العلم به والأخذ بكل واحد من الطرفين أمر غير معلوم كما في مسئلة الظن بالسجدتين فلا حجية لأي واحد منهما فلا مناص عن الرجوع الى أصالة عدم الحادث فمع قطع النظر عن الأصل لا يكفى عدم العلم فالبناء على عدم الاعتبار ليس إلّا ببركة جريان الأصل فإنّ الظن فاقد للحجية ذاتا فيشك في طرو الاعتبار عليه فيرجع الى أصالة العدم وأما تنظيره قدس‌سره بقاعدة الاشتغال فهي أيضا غير تام فإنّه اذا اشتغلت الذمة بالتكليف فما لم يحصل الفراغ اليقيني لم تبرأ الذمة فعدم براءتها إنما هو باعتبار أن في مورد الشك بالبراءة حيث انّها كانت مشغولة فلا بد من الأخذ بالاشتغال الى أن يحصل العلم بالفراغ وإلّا فالشك في أصل الاشتغال وعدمه مرجعه الى أصل البراءة عن التكليف ولكن بعد ثبوت الاشتغال تجري أدلة الاستصحاب من قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك ومن كان على يقين فليمض على يقينه وليس لك ان تنقض اليقين بالشك ونحوها فيستصحب الاشتغال وهذا معنى جريان الأصل ويحتمل أن يكون أمره بالتأمل اشارة الى ذلك (١).

ومنها ـ ان الأصل إباحة العمل بالظن لأنها الأصل في الأشياء. حكاه بعض عن السيد المحقق الكاظمي (٢) قدس‌سره أقول ـ انّ الشك في المقام إنّما هو في الحكم الوضعي أعني الحجية وعدمها فلا مجال ولا ربط له بالاباحة هنا لوضوح ان الشك ليس في الحكم التكليفي من الحرمة والاباحة حتى يكون لما ذكر وجه ولو كان شك فيه فإنّما هو مسبب عن الحجية وعدمها ولا يجرى الأصل في المسبب ما دام يجري في السبب.

وقد أورد عليه الشيخ قدس الله سره بوجهين :

الأول ـ انه على تقدير صحة النسبة لا يعقل اباحة التعبد بالظن فإنّه على هذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ١٢٨.

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ١٢٨.

١٣٦

يكون التعبد واجبا لا جائزا مباحا اذ لا معنى لجواز التعبد وتركه لا الى بدل حيث ان الاباحة مورده الترخيص فإن كان التعبد ثابتا فيجب وإلّا فيحرم فلا معنى للاباحة إلّا أن يكون المورد من قبيل الواجب التخييري حتى يترك هذا ويؤخذ ببدله غاية الأمر يكون مخيرا بين التعبد بالظن والتعبد بالأصل أعني أصالة عدم الاعتبار فلا وجه للاباحة ـ هذا.

ولكنه مخدوش بأن لازم التخيير هو ان يكون الأمران عرضيين وفي نسبة واحدة مع أن الظن له جهة رجحان وليس ذلك للأصل فلهذا تقدم الامارات على الأصول عند التعارض فإنّ الامارات لها حظ من الكشف دون الأصول إلّا في بعضها ناقصا كالاستصحاب وهذا لا يصح عرضيته للامارات اما أصالة البراءة والعدم فليس فيهما كشف بأي وجه والحاصل انه لو جوزنا التعبد بالظن من باب الاباحة مع التعبد بالأصل الذي ليس فيه كشف فلا يبقى مجال للتخيير.

الوجه الثاني ـ انّ أصالة الاباحة إنّما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه وقد عرفت استقلاله بقبح التعبد بالظن من دون علم بوروده من الشارع.

ومنها ـ ان الأمر دائر بين وجوب التعبد بالظن وحرمته فهنا تكليف إما الوجوب وإما الحرمة فهو مخيّر بين الأمرين (١).

وفيه ان لفظي الوجوب والحرمة وان شاع استعمالهما في مورد الأحكام التكليفية إلّا انهما قد استعملا في الوضعيات أيضا والمراد بهما هنا هو الأحكام الوضعية أي حجية الظن وعدمها لا أن هاهنا حكما تكليفيا وهو الوجوب أو الحرمة حيث انه لا تكليف في البين حتى يتردد أمره بين الوجوب والحرمة بل ليس إلّا جهة وضعية وهي كون الظن طريقا وعدمه والشك إنّما هو في ذلك ومن البديهي

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ ص ١٢٩.

١٣٧

كما مر مرارا أن الطريقية ليست ذاتية للظن بل الشك إنّما هو في أن الطريقية هل جعلت للظن وعرضته أم لا والأصل العدم.

ومنها ـ ان الأمر في المقام يدور بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعية المعلومة اجمالا وبين وجوب خصوص الاعتقاد القطعي فيرجع الى الشك في المكلف به ويتردد بين التعيين والتخيير فالحكم هو تعيين خصوص الاعتقاد القطعي تحصيلا لليقين بالبراءة خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام.

ويردّ هذا ـ أولا أن مرحلة الامتثال يرجع حكمها الى العقل لا الشرع بمعنى ان الأحكام المولوية التي هي الأحكام الأولية من الوجوب الفعلي والحرمة الفعلية كلها راجعة الى المولى فإذا ثبتت من ناحيته فالحاكم بتحصيل البراءة والخروج عن عهدتها هو العقل ولو كان للشارع أمر فهو ارشاد الى حكم العقل ضرورة انه لو كان الامتثال أيضا راجعا الى المولى لزم التسلسل في الأمر وفي الاطاعة فالحكم عقلي ولا مجال للترديد والتأمل فيه بل ليس إلّا قطعيا فإما أن يحكم بتحصيل الاعتقاد القطعي رأسا وإما ان لا يحكم كذلك قطعا فما لم يحرز الموضوع عند العقل لم يكن له حكم فالترديد في المقام لو كان حكما شرعيا فلا مجال لأن يأمر الشارع بالاعتقاد القطعي أو الظني لكن تحصيل الاعتقاد لا يرجع إلّا الى العقل والعقل ليس في موضوع حكمه تردد ـ وثانيا ـ انّك قد عرفت مما قدمنا ان هذا الكلام خارج عن محل البحث فإن الشك في تحصيل الاعتقاد وعدمه مسبب عن حجية الظن وعدمها فليس الترديد ابتدائيا بل هو مسبب عن الحكم الوضعي فإن كان حجة فيكفى تحصيل البراءة الظنية وإلّا فلا فهذا هو السبب في ذلك فإن جرى الأصل في السبب لم تصل النوبة الى جريانه في المسبب وقد ذكرنا أن الأصل عدم حجية الظن فلا وجه للترديد بين تحصيل الاعتقاد القطعي أو الظني في دوران الأمر بين التعيين والتخيير حتى يقدم التعيين أو لا.

١٣٨

والمتحصل ان الصحيح التام من هذه الوجوه هو ما ذكرنا من أن الأصل في المقام هو عدم حجية الظن ولا مجال للخدشة فيه وهذا مما يكتفي به ومعه لا حاجة في الرجوع الى الوجوه الأخر فإنّ مرجعها بأجمعها الى كون مصبّ الترديد هو الحكم التكليفي من إباحة العمل بالظن أو الترديد بين الوجوب والحرمة أو الدوران بين التعيين والتخيير وقد عرفت ان مرجع البحث إنّما هو الى الترديد في الحكم الوضعي أعني الترديد في جعل الحجية والطريقية للظن وعدمه.

اذا عرفت ذلك وان الأصل عدم الحجية فلنشرع في بيان الظنون الخارجة عن هذا الأصل ـ منها :

أصالة الحقيقة

ولا شبهة في اعتبارها في الجملة وإن كانت على اطلاقها محلا للكلام وانّها هل تعتبر في حق المخاطب المقصود به الافهام أو مطلقا حتى الغائبين عن زمان صدور الخطاب فالأصحاب إنّما يجرون أصالة الحقيقة بالنسبة الى الألفاظ الصادرة اليهم بلا شبهة وأما الغائبون فإن تم الاطلاق فهم أيضا كالمخاطبين في ذلك وإلّا فلا بد من أن يكونوا تابعين لفهم الأصحاب. هذا

ولكن ـ قد أنكر بعض المحققين أن تكون أصالة الحقيقة من جملة الظنون الخارجة عن الأصل حتى يكون اعتبارها من جهة أفادتها الظن بل انّها أصل مستقل برأسه والأصل لا يستند الى ظن ولا الى شك بل يستند الى العلم خاصة فتحقيق المقام يتوقف على بيان أمرين.

الأمر الأول. هل انّ الأصل مستند الى الجهل والشك كما عليه شيخنا الأنصاري حيث جعل مجرى الأصول الأربعة هو الشك أو انه يستند في مورد الشك

١٣٩

الى العلم ـ؟ ـ فنقول ـ انه لا ريب ان في مورد جريان الأصول يوجد علم وشك ـ أما في مورد الاحتياط فعلم بالتكليف وشك في المكلف به مع امكان الجمع وهو إما أصل شرعي أو عقلي أما على الأول فلا بد من الرجوع الى الأدلة الشرعية حتى يتّضح أن الشارع هل اعتبره من جهة العلم أو الشك وأما على الثاني فالمرجع فيه هو العقل ومن الواضح ان الاحتياط وهكذا التخيير أصلان عقليان ولا شبهة في أن العلم بالتكليف هو الذي يجعل الذمة مشغولة حتى يجب الاحتياط أو يحسن (بناء على كلا شقّيه) فإن مورده التردد مع امكان الجمع ومعنى أصالة الاحتياط هو لزومه واللزوم في مورد العلم بالتكليف والشك في المكلف به لا يستند الى الشك بالبديهة وإلّا فلو كان الشك في التكليف والمكلف به معا كما اذا شك في انّه هل فاتت منه صلاة أم لا وعلى فرض الفوت هل كانت صبحا أو ظهرا فالاحتياط حسن وليس بواجب لعدم العلم باشتغال الذمة حتى يستلزم البراءة اليقينية فالاحتياط براءة يقينية وأما التخيير فبراءة احتمالية لعدم امكان اليقينية منها كما في الظهر والجمعة بناء على عدم امكان الجمع فلا مناص حينئذ عن الرجوع الى التخيير وفيما لا يمكن الجمع بين الطرفين عقلا أو شرعا تكفى الموافقة الاحتمالية فلزوم كل من البراءتين القطعية أو الاحتمالية مستند الى العلم وإلّا فالشك في حد نفسه ليس مما يجعل الذمة مشغولة ـ هذا حال الاحتياط والتخيير.

وأما الاستصحاب فالتعبد به إما ان يكون بحسب العقل أو الشرع فإن كان الأول فقد جعله الشيخ أمارة وحجيته من باب إفادة الظن فيكون مثبته حجة دون ما اذا كان أصلا شرعيا فلا يكون امارة بل أصل ولا حجية لمثبته.

وهذا الكلام ليس بتمام فإنّه على القول بكون الاستصحاب من باب العقل وبناء العقلاء فلا بد وان يكون اعتباره من باب الكشف وكونه امارة مع ان الاعتبار العقلي لا يستلزم ان يكون المعتبر (بالفتح) امارة فإنّ البراءة مثلا قد تكون عقلية من

١٤٠