بدايع الاصول

السيد علي الشفيعي

بدايع الاصول

المؤلف:

السيد علي الشفيعي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات خوزستان
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6511-21-x
الصفحات: ٢٥٦

مرحلة الامتثال مختلف إذ مقتضى البعث هو الانبعاث ومقتضى الزجر هو الانزجار والأول فعل والثاني ترك فإذا جعلنا تعريف الأمر بطلب الفعل والنهي بطلب الترك تعريفا باللازم لم يكن في البين اشكال إذ لازم الأمر طلب الفعل مع انّ النهي متعلق بمفهوم يكون هذا المفهوم متعلقا للأمر أيضا وإذا كان التعريف تعريفا باللازم فإنّه من ناحية الزجر عبارة عن ترك الامتثال ومن ناحية البعث هو الانبعاث والامتثال أي الفعل فإذا كان الطلب في الفعل والترك لم يكن متعلقا بأمر مولوي بل المولوية في مرحلة الامتثال إذ الأمر يتعلق بالاطاعة أو انّه ارشادي يحكم العقل بوجوب الطاعة فإذا قلنا بالمولوية فالفعل في الطاعة وفي الأمر بها تعريف باللازم.

هذا ولكن مع ان طلب الفعل في مرحلة الاطاعة والامتثال مع ذلك قد يوجد الأمر ولا يتحقق الامتثال وهكذا النهي فقد يوجد ولا يوجد الانزجار فطلب الفعل ليس على سبيل الاطلاق بمعنى انّ الغرض من الأمر هو طلب الفعل إلّا انّه لا يلزم منه امتثال هذا الأمر في الخارج بل يجوز أن يقترن بالمانع فلا يتحقق الامتثال مع انّ الأمر باق بحاله.

وتوهم ان في حال المرض والسفر يكون الأمر بالصوم ساقطا رأسا ـ لا وجه له ـ إذ لو كان كذلك لما كان قضاء الصوم واجبا فإنّ القضاء فرع الفوت والفوت فرع التعلق فالبحث عن ان القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول ليس معناه بتكليف جديد بل معناه هل انّ الفوت في الحال الأول كاف في الحكم بالقضاء أو يلزم بأمر جديد به وذلك لا مكان فوت شيء مع عدم وجوب قضاء له. كما انّه قد يكون النهي باقيا مع انّه يكون تركه جائزا ولا يطالب به ـ كما في حال الضرورة ـ فان أكل الميتة حرام والنهي عنه باق بحاله لكن وجوب حفظ النفس أهمّ من حرمة أكل الميتة.

ثم انّ بعد هذا المبحث أبحاثا أخرى نتعرض لبعضها اجمالا :

١٠١

١ ـ هل للأمر صيغة تخصّه

بحيث متى ترد في غيره كان مجازا.؟

هذا التعبير كان موجودا في عبارة متقدمي الأصوليين وقد ارتكب بعض المتأخرين فيه تغييرا بدعوى ان هذا العنوان لا معنى له إذ لفظة (كل) و (اجمع) موجودتان فلا مجال لهذا البحث.

ولكن هذا اشتباه منهم فان القدماء لم يقولوا (هل للأمر لفظ يدل على كونه أمرا بحيث متى يرد لغيره كان مجازا) بل قالوا : هل للأمر صيغة تخصه ...) والفرق واضح اذ الصيغة هيئة. فالمقصود انّه هل هنا صيغة مخصوصة للأمر وضعا؟

والأكثر على العدم.

وقد تمسك بعضهم بأن الاسم هو (صيغة الأمر) فهذا وضع للأمر.

وأجيب بأن هذا مجرد اصطلاح لعلماء الصرف والنحو وكون هذا اسما ليس المقصود خصوص الطلب المستعمل من العالي.

على أنه لو قلنا بأن الصيغة هذه اسم للأمر وضعا فحينئذ لنا أن نسأل انّه حقيقة في الوجوب أو الندب أو الجامع؟

بل الحقيقة فرع الوضع. ووضع الصيغة للوجوب والندب لا معنى له إذا الأحكام التكليفية ليست من مقولة المنشئات بل انّها من الصفات النفسانية والحال ان صيغة افعل وضعت لانشاء الطلب.

توضيح ذلك. ان المفاهيم قسمان. قسم هو من قبيل المفاهيم المنشئة بحيث ما لم يكن انشاء لم يتحقق المنشا في الخارج وذلك كالعقود والايقاعات.

والقسم الآخر هي المفاهيم الغير المنشئة وفي هذا القسم تترتب الآثار سواء

١٠٢

كان هناك انشاء أم لم يكن وذلك كالارادة النفسية التي تثبت آثارها من العلم والظن والشك سواء يقبل الانشاء أم لا. وغير خفي ان صيغة الأمر من مقولة الانشاء يقينا بمعنى انّها توجد النسبة والغرض من الطلب أيضا هو الطلب الانشائي بل هو سابق عليه فهو سابق على الارادة الفعلية أيضا فقد يكون الارادة الانشائية قائمة مقام الارادة الفعلية ـ كما لو اطلع العبد على وجود عدو في كمين المولى فيجب عليه دفعه وحفظ المولى وإلّا استحق العقاب ولا يقبل عذره بعدم صدور أمر من المولى.

ولو كان الانشاء لازما في الحكم التكليفي لم يكن الحكم مترتبا ما لم يترتب الانشاء مع ان الأثر يترتب كما في مثال العبد ومولاه. فالانشاء ليس إلّا لاعلام الارادة النفسية.

فلو قلنا ان الصيغة حقيقة في الوجوب فالوجوب الذي هو من أقسام الحكم التكليفي ليس تحققه دائرا مدار الانشاء حتى يكون الوجوب من مقولة الانشاء.

لكن لا مجال للقول بأنها حقيقة في الوجوب والتعبير الذي استعمله المتقدمون من انّه هل للأمر صيغة تخصه كان أصح وأصلح فان الصيغة الخاصة بالأمر يمكن أن يكون بالوضع كما يمكن أن يكون وضعه للازم وهذا اللازم ليس منفكا عن الوجوب وأما ان الأمر حقيقة في الوجوب فلا صلاحية فيه لافادة هذا المعنى. وهذا ما قلناه ان عبارة القدماء أحسن من عبارة المتأخرين.

ثم إنّ الأمر يستعمل في عدة معان ولو أننا قلنا بوضعه لأحد هذه المعاني كان من اللازم أن يكون بينه وبين المعنى المجازي علاقة بإحدى العلائق المرسلة. وحينئذ فأي مناسبة بين هذه المفاهيم وبين الوجوب والندب؟ ولهذا اعترف بعضهم بأن العلاقة بين معنى الأمر وبين هذه المعاني مما لم يحم حوله أحد. فالصيغة للبعث. والبعث له أغراض ودواع فقد يكون في مقام التكليف كالوجوب والندب. أو في مقام السؤال كما سبق توضيحه.

١٠٣

٢ ـ افادة الأمر للوجوب أو الندب أو غيرهما

لا يخفى ان ما ورد في المعالم (١) من ان صيغة افعل وما في معناها حقيقة في الوجوب فقط ... وان قوما قالوا بكونها حقيقة في الندب وقيل في الطلب وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب إلى آخر ذكره قدس‌سره مأخوذ من المتقدمين.

وعبارة الغنية في المقام واضحة لائحة. حيث قال : إنّ الأمر الذي هو طلب الفعل وجامع بين الوجوب والندب يحمل اطلاقا على الوجوب وعلى الندب ما لم تكن قرينة على الوجوب أو التوقف.

وقد ذكر في الدلالة على الوجوب وجوه. أحدها انّه أحوط.

ولا يخفى انّه لو كان الاحتياط مقتضيا للحمل على الوجوب لم يكن احتياج إلى لفظ فانّ الاحتياط أمر عقلي خارج عن نطاق اللفظ.

وأما السيد في الغنية فلا يقول بعدم ارتباط هذا بالمبحث بل يقول : ان جعل الكلفة من أصله خلاف الاحتياط.

وأما الندب. فقيل في وجهه انّه بعد ما ثبت الرجحان في الأمر نشك في ان هذا الرجحان مشدد ومؤكد؟ والأصل العدم ومرجعه إلى الندب.

وأما الوقف. فوجهه. انّ الوجوب والندب أمران متقابلان ولا رجحان لأحدهما على الآخر فيتوقف. فالقائل بالوقف ليس مقصوده انّه لا يدري.

بل يدري لكن يرى انّه في التقابل لا يوجد مرجح فلذا سكتوا عن اختيار أحد القولين الأولين.

والجواب عن التوقف. ان طلب الفعل جنس والمنع عن الترك فصل مميّز و

__________________

(١) معالم الأصول : ص ٣٩.

١٠٤

لا يعقل ان يكون الفصل عرضا لموضوع ثم يجعل عرضا لموضوع آخر.

والحاصل ان الطلب يقع على الفعل والمنع عن الترك وكذا الاذن في الترك لا ربط لها بطلب الفعل فلا يقال : ان طلب الفعل هو المنع عن الترك بل طلب الفعل مع المنع عن الترك ولازم ذلك هو الطلب الشديد أعني الوجوب.

فالقائل بالوقف لا يقول بطلبين متقابلين شديد وضعيف بل إذا قيل : الطلب يحمل على المنع عن الترك كان المطلب تماما وكاملا إلّا ان يكون المتبادر هو الاطلاق فيحمل على الوجوب وإن لم يثبت فالتوقف.

والحاصل. انّ القول بالوقف لا وجه له لرجوعه إلى أمر باطل أو محال فإنّه اذا قيل الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك. كان المنع من الترك فصلا. وإذا قيل الندب هو طلب الفعل مع الاذن في الترك. كان الاذن في الترك فصلا والحال ان الواجب أو المندوب كفعل الصلاة مثلا فإذا كان المنع من الترك فصلا فلا يمكن أن يكون الفصل عرضا قائما بالضد والجنس عرضا قائما بالضد اذ الفعل والترك ضدّان.

فالمنع من الترك والاذن في الترك من لوازم المرتبة الشديدة وعند الشك تحتاج إلى الدليل وإلّا فالمرتبة الضعيفة متحققة ولذا لو لم تكن هناك قرينة على الوجوب (على القول بالوضع للوجوب) فلا بد ان يحمل الأمر على الندب. فأين التوقف؟

٣ ـ مبحث الطلب والإرادة

هل ان الطلب عين الارادة أو هو لازمها أو منفك عنها؟

قد نسب إلى الأصحاب أن الطلب عين الارادة فالطلب التشريعي المراد للمولى لا ينفك عن ارادته.

والمنسوب إلى الأشاعرة ان الطلب يغاير الارادة وان الطلب التشريعي منفك

١٠٥

عن ارادة المولى فيجوز وجود الطلب مع عدم حصول مراده في الخارج ـ كما قد تحصل الارادة ولا يحصل طلب خارجا ـ فتأمل.

واستدلوا انّه لو كان طلب الفعل عين ارادة الباري تعالى شأنه لزم عدم تخلف الارادة عن مراده مع انّا نرى عصيان العاصين لارادات المولى وتخلفهم عنها.

وهذا سهو منهم وغلط وخلط :

إذ فرق بين الارادة التكوينية والتشريعية ففي الأول لا قائل بتخلف المراد عن الارادة فليس هذا من محل النزاع. وأما الارادة التشريعية فليس كذلك إذ يكون البناء فيها على امهال العباد وامتحانهم.

مثال الأول. قوله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(١).

وأما الثاني فانّ الله سبحانه وتعالى قد شرع الشرع وجعل تحقق ارادته بارادة المكلفين وقد أبلغهم وأعلمهم وأتم الحجة عليهم وأمهلهم.

فلا يقاس الارادة التشريعية بالتكوينية.

ومن هنا يظهر الجواب عن مقالة أهل الجبر من ان العباد ليسوا مختارين وانهم ـ وإن أرادوا فعلا ـ لكن لا أثر يترتب على ارادتهم لأنها لو كانت موافقة لارادته فالمؤثر هو ارادة الباري لا العبد. ولو أراد شيئا وكانت ارادة الله على خلاف ارادة العبد فلا يعقل وقوع ارادته على خلاف ارادته لأن الله تعالى قوي والعبد ضعيف. فكيف تقع ارادة العبد الضعيف المخالفة لارادة المولى القوي العزيز.

أقول : هذا أيضا خلط بين الارادة التكوينية والتشريعية. وذلك لأن الله تعالى ـ في مورد الارادة التشريعية ـ اراد صدور العمل من العبد اختيارا ـ ولو قلت ـ بأن العبد ملجأ ـ لزم منه تخلف المراد عن الارادة ومعنى هذا ان الله تعالى قد أوجد

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٦٩.

١٠٦

وسائل الطاعة والمعصية وقد أقدر العبد على الاتيان والترك ـ ونظيره في افعال العباد ان أحدا يعطى ولده مبلغا مع علمه بأنه غير قابل له لكن لو لم يعطه لعيّره الناس وتكلموا عليه انّه بخيل وانه لا يصل رحمه وولده. فهو يعطيه مع قدرته على المنع لكن يدفع إليه المال حتى يكون الولد باختيار وارادة فلو أطاع الولد كان مأجورا وإلّا عوقب عليه. فذكر هذا الكلام لا وجه له.

٤ ـ المرة والتكرار

الحق انه لا دليل على المرة ولا على التكرار بمعنى انه ليس في الأمر تقييد بأي واحد منهما.

هذا ولصاحب المعالم هنا كلام وقع موقع التعقيب من جانب المحشين. وحاصله : انه ليس الأمر إلّا لطلب الماهية وهي تحصل بالمرة فيحصل الامتثال بالمرّه. لكنه فرق بين ما نقول وبين القول بالمرة إذ هذا القائل لا يجوز عنده التكرار. ولكن طلب الماهية لا ينافي المرة ولا المرّات (١).

وأما المحشّون على المعالم فقالوا بأن امتثال المرة مسقط للأمر والمرة الأخرى ليس عنوانا للأمر فسقوط الأمر إنّما هو بسبب الاتيان بالمرة ولو كان من باب طلب الماهية فقد حصلت الماهية ولم يبق معه مجال للامتثال بمرة أخرى.

هذا ولم نر من أيّد كلام المعالم. لكن يتصور طريق إلى تصحيحه وهو يتفرع على بيان مراحل الحكم وانّ الحكم التكليفي هل له مرحلة واحدة أو له مراحل؟ فإنّ بعض الوجودات ليس لوجودها الخارجي مراتب وبعضها لها مراتب كالحصرم والعنب والتمر.

__________________

(١) معالم الأصول : ص ٤٩ إلى ٥١.

١٠٧

والحكم التكليفي المتعلق بأفعال المكلفين من القسم الثاني ولها مراتب هي عبارة عن مرتبة التحقق ومرتبة التعلق ومرتبة التنجّز.

فالمكلف الذي هو في مرحلة التعلق إذا أتى بالمكلف به بدون وجود التعبد به في كلام الشارع سواء بالمرة أو التكرار لا يكون هذا الاتيان منه سببا لرفع اشتغال ذمته.

نعم تكرار المأمور بواسطة أمر المولى في مرحلة التحقق فلا مانع منه.

مثاله : الصبي المميز. ليس له حكم في مرحلة التعلق لكن الاتيان به منه صحيح فانّه يأتي بالمأمور به التحققي فلا مانع منه بل إنّما هو ارفاق به فعمل الصبي صحيح شرعا وإن كانت ذمته غير مشغولة به بل انّه لا ذمّة له.

فكلام صاحب المعالم في الامتثال بالمرة إنّما يوجب سقوط الأمر التعليقي لا التحققي.

فهذا ما يمكن ان يكون وجها لتصحيح كلامه قدس‌سره وتوجيهه وتأييده.

١٠٨

العموم والخصوص *

اذا جمعت في القضايا الخبرية أو الانشائية ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبة التامة بينهما فالموضوع فيها إمّا عام أو خاص فإن كان عاما فالمحمول يكون بتبعه عاما أيضا وان خاصا فخاص وأما العموم الحكمي فهو يتولد من العموم الموضوعي ويثبت تبعا له وحينئذ فإذا جاء التخصيص فهل هو في العموم المتولد أو في عموم الموضوع؟ من البديهي ان في قولك اكرم العلماء الا زيدا. ان زيدا غير خارج عن ذات الموضوع فالتخصيص ليس في عموم الموضوع بل هو بالنسبة الى المتولد.

إن قلت. انّ الموضوع بوصف انّه موضوع يكون خارجا عنه الخاص فيخصص لا ذات الموضوع فالتخصيص راجع الى الموضوع إلّا أنّ الرجوع قسمان خروج عن الذات وخروج عن الموضوع بوصف انّه موضوع ـ قلت ـ نعم ولكن مرجع ذلك إنّما هو الى الخروج عن الحكم.

__________________

(*) قبل الورود في هذا المبحث راجع مقدمة الكتاب (ص ٥).

١٠٩

فالخروج والتخصيص متعلق بعموم الحكم ولا شبهة وعلى هذا فالبحث في باب العموم والخصوص إنّما هو في عموم الحكم وهذا يظهر بوضوح من العناوين والأبواب مثل كميّة التخصيص وتخصيص الأكثر وإنّ العام المخصص مجاز أو حقيقة وحجة في الباقي أم لا؟ ومما يرشد الى ذلك قول صاحب المعالم حيث انّه قد احتفظ على عبارة المتقدمين وقال : (الحقّ ان للعموم في لغة العرب صيغة تخصه) (١) ولم يقل هل للعموم لفظ يخصه. وهذا علامة ان مرجع البحث هو العموم الحكمي اذ المراد بالصيغة هي الهيئة التركيبية فإنّ في اكرم العلماء. معلوم انّ وضعه للعموم فإنّ العلماء جمع محلّى باللام فالعموم الحكمي متولد من التركيب وإلّا فلا عموم. وعلى ذلك فمحل النزاع هو ان صيغة اكرم العلماء التركيبية هل وضعها للعام بحيث متى ترد لغيره كان مجازا؟ وقد نبّه أكثر القدماء بأنّه ليس للعموم صيغة تخصه وهذا بديهي فإنّه لا احتياج الى وضع الهيئة التركيبية للعموم بعد تولد العموم من عموم الموضوع فانّ هيئة (اكرم العلماء) و (اكرم زيدا) واحدة إلّا ان زيدا خاص فالحكم أيضا وقع على الخاص وهكذا الحال في اكرم العلماء إلّا أن له أفرادا فالحكم أيضا يسرى تبعا الى افراد الموضوع فالعموم الحكمي متولد من الوضع والحمل وهنا نكتة يجب ذكرها وهي ان هذا التوليد هل هو على وجه العلّية التامة للعموم؟ ـ بحيث لا يقبل الخلاف؟ ـ أو أنه مقتض لذلك فيؤثر أثره ما لم يمنع عنه مانع. الصحيح هو الثاني فهو مقتض للسريان فالكلام الشائع المعروف عند أهل اللسان الواقع في محاوراتهم من انه للمتكلم أن يلحق من اللواحق ما دام متكلما صحيح متين. كما في مورد الاقرار مثلا فإذا قال له علىّ ألف لا بد من أن ينتظر الى أن يختم كلامه لصحة ان يقول في عقبيه إلّا مائة مثلا. فعموم الحكم ليس إلّا على وجه الاقتضاء. ومن هنا تبيّن انه لا مجال بل

__________________

(١) معالم الأصول : ص ١٠٤.

١١٠

ولا وقع لبعض الابحاث الواردة في المقام مثل الاشكال الذي أورده بعض علماء العربية والأصول من وجود المناقضة بين ان يقول اكرم العلماء وأن يقول بعده إلّا زيدا. ثم تصدوا في رفعه ودفعه. فقال بعضهم ان في قوله له عندي عشرة إلّا خمسة من ان خمسة لها اسمان أحدهما خمسة والآخر عشرة إلّا خمسة وهذا من عجيب الاضحوكة وبعضهم على أن العام قد استعمل في أول الأمر في ما عدى الخاص والمستثنى والقرينة عليه هو وجود الاستثناء والخاص بعد ذلك. وبعضهم (عصام الدين من محققي العربية) قال : انّه قد خرج الخاص أولا ثم حمل الحكم على المستثنى.

أقول. دعوى استعمال الموضوع في ما عدى الخاص أو اخراج الخاص قبل الحكم بعموم المستثنى. ليس معناها إلّا الاخراج عن ذات الموضوع وسلب الموضوع عن العموم صحيح. وهذا لا معنى له والتخصيص لا يتوقف على استعمال الموضوع ابتداء في غير المعنى الحقيقي فالخروج عن موضوعيّة الموضوع عين الخروج عن الحكم وهو كما ترى. والتخصيص غير مناقض لصدر الكلام وهذه الوساوس ليس إلّا من جهة التصرف في الموضوع ولكن الجواب الصحيح هو انّ الحكم مراعي الى تمام الكلام. فعلى هذا فقد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي وله الصلاحية للتخصيص ولاستقراره على ظاهره.

وظهر أيضا انه لا مجال لترديد القوم في انّه هل يوجد اللفظ الموضوع للعام أو لا؟ اذ اللفظ موجود ولكن العموم المقصود ليس هو الموضوع والقول بالاشتراك وغيره لا معنى له بل ان عموم الحكم لا يحتاج الى وضع لفظ.

ثم ان هنا بحثا آخر وهو انّ عموم الحكم كما عرفت متولد من عموم الموضوع ولكن ذلك قد لا يكون كذلك كالنكرة الواقعة في سياق النفي فإنّه مفيد للعموم مع ان مفاد النكرة واحد اثباتا ونفيا إلّا أن عموم الحكم باعتبار السلب عن فرد بعينه لا يصدق إلّا بسلب جميع الافراد وهذا واضح في (ما رأيت رجلا ـ ورأيت رجلا)

١١١

فان في الثاني يحصل الصدق برؤية رجل واحد فسواء في الخبرية والانشائية ولهذا كان هذا الفرق ثابتا في الأمر والنهي ففي الأول يحصل بفرد واحد أو مرة كذلك وأما في الثاني فلا يصدق إلّا بترك جميع الأفراد والمرّات.

وهكذا في مثل بعت الدار إلّا نصفها فإنّ الدار فرد ذو أجزاء ولكن فرق بين ذي الاجزاء وذي الافراد فإنّ زيدا له أجزاء أيضا وكذلك الدار إلّا أنّه ليس في البين إلّا فرد واحد ومع ذلك فعموم الحكم متولد من سراية الحكم في الافراد فتعلق الحكم بكل ذي أجزاء إلّا أنّه قد يسري الى الأجزاء وقد لا يسري. والثاني كما في زيد فلا يقال بعته إلّا يده أو اشتريته إلّا رأسه والأول كالدار فتقول بعتها إلّا نصفها فيسري الحكم في الاجزاء فهذه الاجزاء ذو افراد بالنسبة الى الحكم فاجزاء في جانب الموضوع وافراد في جانب الحكم فقد انفكّ العموم الحكمي عن الموضوعي في بعض الموارد فقد تكون ذات الموضوع عاما دون الحكم وهذا أيضا من جملة الشواهد الشاهدة على ان محل البحث هو تخصيص الحكم لا الموضوع.

ثم. ان عموم الحكم قد يفترق عن عموم الموضوع فالثاني ليس عاما بخلاف الأول كالنكرة في سياق النفي وكتعلق الحكم بكل ذي اجزاء مع السراية الى الاجزاء كالبيع بالنسبة الى الدار والعتق بالنسبة الى الرقبة وقد اتضح بهذا ان ما ذهبوا اليه بأنّ عموم الحكم يثبت بمقدمات الحكمة فيما اذا لم يكن اللفظ مفيدا للعموم وضعا كالمفرد المعرف باللام مثل أحل الله البيع. لا حاجة اليه. فإنّ العرض قد يكون عرض الوجود فما لم يكن وجود في الخارج لم يتصور ارتباط العرض به كالقيام والقعود. وقد يكون عرض الماهية مثل الأربعة زوج فالزوجية مرتبطة بالأربعة سواء كانت هنا أربعة أو لم تكن ومعنى ارتباط العروض بالماهية لا ينافي القضية الفرعية وهي (ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له) فإنّ الثبوت الأصلي فرع ثبوت المثبت له وأما الثبوت الربطي فليس كذلك والنسبة بين مفهومين أو موجودين أما اتصال أو انفصال

١١٢

والاتصال فرع وجود الموجودين وكذا الانفصال إلّا أن يقال بأنّ الانفصال أمر عدمي وإلّا فلو كان وجوديا فلم يكن فرضه إلّا بعد فرض موجودين كما وانه لا بد وان يكون نوع ربط بين الانسان والحجر حتى يصح أن تقول ان النسبة بينهما التباين وهذا التحقق في النسبة بين كليين إنّما هو قبل وجودهما في الخارج لوضوح عدم امكان التماثل بين جزءين موجودين ولا يتصور صدق أحدهما على الآخر. والحاصل ان الموجود الخارجي لا يتصور التباين والتساوي بينه وبين الموجود الآخر.

وبالتالي فلو كان العرض عرض الماهية فهو يسري في جميع الافراد فإنّ الماهية من حيث هي لا تعدد فيه بل التعدد من حيث سريانها في الافراد وما كان عارضا لها فكذلك يسري الافراد تبعا لها وسريان الماهية في الافراد ليس على سبيل العموم فإنّ العام ناظر الى الافراد وأما اسم الجنس فلا نظر له في نفسه لذلك مع ان له السراية في الفرد فإذا عرض الحكم لاسم الجنس وللطبيعة وفرض أيضا كونه عارضا للماهية فلا مجال بعد ذلك لعموم الافراد إلّا باعتبار الماهية وسريانها في الافراد فمحمول الطبيعة أيضا يسري في الافراد وحلية البيع في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) من هذا القبيل بمعنى أن البيع قبل ايجاده خارجا إمّا حلال أو حرام ولا يلزم البحث عن ان هذا المفرد المعرف الذي لا عموم له هل الحكم فيه متعلق بعينه أو لا بعينه أو بجميع الافراد كل ذلك لا يكون. اما اللابعينة فلأنّه ترجيح بلا مرجح ولا ثمرة له أيضا ولا فائدة بل الفائدة تتحقق فيما اذا حملناه على الكلي وإلّا كان منافيا صريحا للكلام فلا بد من حمله على جميع الافراد (إلّا ما خرج بالدليل الخاص). فإن قلت : انّ المعرف باللام قائم مقام الجمع المحلى باللام قلت : نعم هذا صحيح فيما لو كان الحكم متعلقا بالموضوع وأما لو تعلق بالطبيعة قبل وجودها في الخارج فلا احتياج الى هذه المقدمات فالطبيعة سارية وعليه فالسريان موجود هنا فإن قولنا الأربعة زوج (لا بمعنى كل أربعة بل هذه الأربعة) ان الزوجية عرض لماهية الأربعة فوجودها الخارجي لا يوجب الزوجية

١١٣

بل هي ذاتا زوج كما ان الثلاثة فرد ذاتا. وقد سبق ان هذا لا ينافي القضية الفرعية.

ومن هنا يظهر ان ما زعمه التفتازاني في ان عروض العرض قبل الوجود الخارجي غير معقول. هذا زعم فاسد ناش عن عدم التوجه. ثم انه قال بأن مرجع عرض الماهية ليس إلّا الى عرض الوجود كالاحراق بالنسبة الى النار في الخارج.

أو الى عرض الوجود الذهني كالكلية بالنسبة الى الانسان أو الى كليهما كالأربعة فانها عرض للأربعة لوجودها الخارجي والذهني.

أقول. كأنّ صدور هذه الكلام منه كان لأجل عدم حصول منافاة بين القضية الفرعية وبين تقسيم العرض. ولكنه لا يخفى عليك ان هذا مما لا حاجة اليه ولا معنى للوجود الذهني مضافا الى الخلط بين الثبوت الربطي والثبوت الأصيل (في قولهم ثبوت شيء لشيء الخ).

فلنرجع الى ما كنّا فيه. وهو ان عموم الحكم قد يكون موجودا دون عموم الموضوع كالنكرة في سياق النفي وفيما كان الحكم تعلق بكل ذي اجزاء وفي تعلقه بالطبيعة. وقد يكون عموم الحكم متولدا من عموم الموضوع كما في اكرم العلماء. كما انه قد يكون كل منهما مفترقا عن الآخر وهذا مما قد غفلوا عنه ومثاله تزوج الابكار وجالس العلماء فهنا جمع محلّي باللام ومفاده في المثال باق على حاله إلّا أنّه لا يكون له عموم شمولي كما في اكرم العلماء بل بدليّ فالموضوع له عموم شمولي وارتباط الحكم بهذا الموضوع منصرف اطلاقا الى الشمولي اذ عموم الموضوع شمولي إلّا أنّ القرينة الخارجية يردّ هذا العموم الشمولي الى البدلي فهذا العموم البدلي ليس تصرفا في اللفظ بأن ينسلخ الجمع عن كونه جمعا فما دام خاليا عن القرينة ينصرف الى الشمولي ولكن الحكم المتعلق به بدلي فيصرفه الى نفسه ولذا قالوا في قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) الخ (١) انه لا يجب البسط فانّ عموم الحكم بدلي مع ان

__________________

(١) سورة التوبة : آية ٦٠.

١١٤

الصدقات جمع مستعمل في الجمعية. والمتحصل الى هنا ان العمومين قد يجتمعان كما في اكرم العلماء وقد ينفك الحكم عن الموضوع في العموم وقد يكون بالعكس.

واذا عرفت ذلك فاعلم انّه لا بد على هذا أن يكون المقصود بالعموم والخصوص في كلمات الأعلام والسنة الأصوليين هو في الحكم دون الموضوع.

هل للعموم صيغة تخصه؟

ليس للعموم صيغة تخصه اذ عرفت ان العموم مقتضى التركيب والتركيب له معنى جامع وهو امّا بالنسبة الوقوعية أو القياميّة وهذه النسبة موجودة في كل تركيب ولا فرق بين الهيئات التركيبية في مفادها بسبب اختلاف مواردها إلّا أن هذه النسبة في بعضها عامة وفي بعضها خاصه فالهيئة التركيبية في اكرم زيدا وفي اكرم العلماء واحدة ولا اشتراك بينهما.

وهنا بحث آخر وهو ان الجمع المحلّى باللام هل يفيد العموم وضعا حيث لا عهد؟ أقول من المعلوم ان حرف التعريف الداخل على الاسم ليس يوجب وضعا آخر ولا يحصل بسبب دخول الحرف وضع ثانوي حتى يكون من قبيل (زيد منطلق) مثلا علما. بل العلماء باق على مفاده الأصلي ذهنا أو ذكرا وحرف التعريف ليس له إلّا اشارة الى مدخوله فإن كان المشار اليه معنى معهودا فيرجع اليه وإلّا فلا يحمل على بعض دون بعض لاستلزامه الترجيح بلا مرجح وحينئذ لا بد وان يشار به الى كل أفراد الجمع فلذا كان له الانصراف عرفا من دون وضع جديد والحاصل ان الجمع المنكر والمعرف لا يتفاوت الوضع فيهما إلّا باعتبار مفاد اللام ومن هنا يعلم أن المفرد الذي يفيد العموم إنّما هو لأجل القرينة.

والحاصل ان أكثرهم قالوا بأنّ الجمع المحلى باللام يفيد عموم الموضوع ويتولد

١١٥

منه عموم الحكم وذلك كله حيث لا عهد. ولكن الخلاف ليس في ذلك فحسب بل يجري بينهم في الجمع المضاف كما في قوله سبحانه وتعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(١). وهذا أيضا في حكم الجمع المحلّى في أفادته العموم بل قد يجري هذا العموم في بعض المفردات أيضا إلّا أنه في المفرد المعرف باللام موضوع البحث ومحل الكلام بأنه هل يفيد العموم موضوعا حتى يثبت بتبعه عموم الحكم أو ليس كذلك؟ وقد تمسك بعضهم في أفادته العموم بقوله عزوجل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وباستعمالات أهل اللسان حيث وصفوا المفرد المعرف باللام بالجمع المحلى باللام كما في الحديث (أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر) فلو لم يفد العموم لم يتصف بما اتصف. وقد أورد على ذلك صاحب المعالم بما حاصله (٢) أنّا لا ننكر استعمال المفرد المعرف باللام احيانا في العموم إلّا أنه ليس ظاهرا فيه نعم يأتي كذلك مع القرينة فالاستشهاد بقوله عليه‌السلام : أهلك الناس الخ لا يصح.

أقول. إنّ مقالة صاحب المعالم أيضا غير تامة لظهورها في أنه قد يستعمل للعموم وقد لا يستعمل. مع ان المستعمل فيه في كل من المفرد المعرف والجمع المحلى واحد سواء استفيد العموم من الجمع المحلى أو لا ـ ففي (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لم يستعمل البيع في البيوع إلّا أن العموم قد يستفاد من قبل الحكم باعتبار عروضه على الطبيعة السارية في الافراد وأما أهلك الناس الخ. فيدل على أن الجمع فيه قد سقط عن افادة العموم اذ ليس المقصود ان كل فرد فرد من الدراهم والدنانير مهلك بل المراد ان هذا الجنس مهلك للناس وعلى هذا فاللفظان (البيض والصفر) من قبيل تزوج الابكار باعتبار عروض الحكم على الطبيعة فهذان الجمعان في حكم المفرد الراجع الى البدلي.

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٠٣.

(٢) معالم الأصول : ص ١٠٩.

١١٦

مقدار التخصيص

اختلفوا في مقدار التخصيص. فهل يجوز الى أن يبقى من العموم واحد. أو الى أن يبقى مدلول الجمع أو بحيث يبقى كثرة قريبة من العموم كما ذهب اليه أكثر الأصوليين. وجوه.

واستدل الأكثر باستهجان قول القائل أكلت جميع ما في البستان من الرمان والحال انّه لم يأكل إلّا واحدة أو اثنتين فإذا كانت فيها خمسمائة. يقول أكلت جميع الرمان في البستان إلّا أربعمائة وتسعين (مثلا) فهذا مستهجن وهو دليل عدم الجواز.

أقول. الاستهجان في المقام صحيح لا ننكره إلّا أنه ليس من أجل التخصيص الى ذلك الحد بل لوجود نقض غرض الكلام فإنّ لفظة (كل. وجميع) مثلا وغيرهما ألفاظ تدل على العموم وواردة مورد رفع توهم التخصيص فقولك اكرم العلماء كلهم. كلمة الكل تأكيد لرفع توهم التخصيص في الجملة والتأكيد في عرف النحاة وإن كان تابعا لوجود شيء حتى يكون هذا مؤكدا له إلّا أن بحسب المعنى لم يكن فرق بين اكرم جميع العلماء واكرم العلماء جميعهم ولا تفاوت بينهما في المفاد إلّا في بعض الخصوصيات فقول القائل أكلت جميع ما في البستان إنّما هو في مقام رفع توهم التخصيص وعليه فلا مجال لكون التخصيص الى تلك الدرجة المذكورة.

إن قلت. إنّ لفظ العلماء كما يفيد عموم الموضوع فكذا عموم الحكم. قلت : ليس الأمر كذلك بالبداهة فإنّ هذا اللفظ قبل التركيب ليس له مجال لافادته عموم الحكم وبعد التركيب ليس له وضع آخر والوضع في الهيئة التركيبية ليس إلّا مفيدا للنسبة سواء كان محل النسبة عاما أو خاصا فلا ربط لهما بمفاد النسبة فإن كان أحد طرفي النسبة عاما كان المحمول كذلك أيضا وإلّا فلا وهذا إنّما هو بمقتضى وضع

١١٧

الحمل لا الوضع فلا مجال للتجوز. وعلى هذا فإن زعمت أن تولد عموم الحكم من عموم الموضوع علة بنحو العلّية التامة بأن يكون كلما عم الموضوع عم الحكم وبعده لا يجوز التخصيص. فهذا بديهي البطلان فإنّ للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللواحق ما دام متكلما وهذا الكلام المعروف ليس أمرا تعبديا بل حصل العلم به من موارد الاستعمالات ولو كان في البدء متجها الى نحو خاص إلّا أن استقراره في تلك الجهة موقوف على ذيله ونهايته. فعموم الحكم ليس معلولا لعموم الموضوع بالعلّية التامة بل هو مقتض له بمعنى انّه ما لم تكن قرينة كان العموم بحاله وإن كانت فلا منافاة فالتخصيص غير مناف للعموم الاقتضائي فإنّ الموضوع العام يقتضي عموم الحكم لو خلّى وطبعه وما لم تنصب قرينة على الخلاف فإذا قامت القرينة كما في تزوج الابكار فيخرج الحكم عن عمومه لوضوح عدم امكان تزوج كل باكرة في العالم فالقرينة موجودة من أول الأمر على كون العموم بدليا لا شموليا.

والذي تحصل من هذا المبحث انه لما لم يكن جواز التخصيص مقتضى الوضع ولا الهيئة التركيبية فلا مجال لتحديد التخصيص وبيان مقداره ولا منع في ذلك إلّا أن يكون في الكلام نقص من جهة أخرى كالاستهجان المذكور مثلا بسبب نقض الغرض من الكلام وغيره.

١١٨

التمسّك بالعام

في الشبهة المصداقية

اذا ورد عام وخاص واشتبه ان الفرد الفلاني هل هو مصداق للعام فيدخل في حكمه أو للخاص حتى يشمله حكمه؟ فالأكثرون على عدم الحكم باندراجه تحت العام وذهب بعض الى التوقف ولا قائل صريحا باندراجه تحت الخاص. كما اذا قيل اكرم البصريين إلّا الجلساء منهم ثم شك في فرد انه من مصاديق العام والمستثنى منه أو الخاص المستثنى.

والحق في المقام التفصيل. بيان ذلك. إنّ هذا الكلام امّا يجري في القضية اللفظية أو في النفس الأمرية. توضيحه. إنّه لا شبهة في وجود الحكم الواقعي والحكم الظاهري والثاني في طول الأول اذ الأول ينظر الى ثبوت المحمول لافراده الواقعية وأما الثاني فينظر الى الترديد في الحكم الواقعي مع الجهل به فيكون الحكم الظاهري وظيفة فهو متأخر موضوعا عن الحكم الواقعي والقضية الواحدة يستحيل ان تكون ناظرة الى بيان الحكمين فإذا قلت اكرم العلماء. فلا يمكن أن يكون نظر هذه القضية الى كل من المصداق الواقعي والمصداق المشتبه فإن (العلماء) وضع لمعنى ينطبق واقعا على زيد وعمرو وبكر وكل متصف بالعلم واقعا فالاكرام يتعلق حكمه بالافراد الواقعية فهذه القضية لا يمكن والحال هذه أن تنظر الى الحكم الظاهري وإلّا لزم تقدم مدلول القضية الواحدة وتأخره ويكون من قبيل استعمال المشترك في أكثر من معنى بل الأمر في ما نحن فيه اشنع من هناك فان في استعمال المشترك يكون المعنيان أو المعاني كل منها في عرض الآخر واما هنا فأحدهما في طول الآخر.

١١٩

والمتحصل ان عموم الحكم لا يعقل كونه ناظرا الى الأفراد المشتبه فلا مناص من هذه الجهة سوى التوقف اذ لا يعلم ان هذا المصداق المشتبه هل هو من الافراد الواقعية أو من الافراد التي هي في طول الافراد الواقعية. ومن هنا يظهر ان التفصيل الذي ذهب اليه صاحب الكفاية (١) بين المخصص المتصل والمنفصل والحكم بالدخول تحت العام في الأول دون الثاني أو التفصيل بين المخصّص اللفظي أو اللبي. كل ذلك لا وجه له. وقد استشهد قدس‌سره به من أنه لو قال المولى اكرم جيراني مع وجود المخصص اللبي بأن لا يكون الجار عدوا له فإذا اشتبه جار بين كونه عدوا أو صديقا وترك العبد اكرامه ان للمولى مؤاخذة العبد على عدم اكرامه مع عدم علمه بأنه عدوّ له. أقول. هذا أمر صحيح ولكن ليس الوجه فيه كون المخصص لبيا فإنّ ذلك يجري بعينه في المخصص اللفظي كما اذا قال اكرم جيراني ولا تكرم أعدائي منهم بل الوجه فيه ان هذا من باب الاقتضاء والمنع فإنّه اذا ورد وصف في الموضوع فهو اما مناط وملاك للحكم أو معرف صرف من غير دخل في الملاك أو منبّه على عموم الحكم فيما اذا توهم كون صفة مزيلا للحكم كما تقول تجب الصلاة على المريض في مورد توهم عدم وجوبها عليه.

فإذا قال المولى اكرم جيراني فمن المعلوم ان الحكم بالاكرام إنّما هو باعتبار الجوار فالمقتضى للحكم هو المجاورة والعداوة مانع عنه والمولى لم يقل اكرم جيراني اذا كانوا أصدقائي فلو استثنى وقال اكرم جيراني إلّا أن يكونوا أعدائي فهذا مما يدعوا الى الحكم بأن الجوار مقتض والعداوة منشأ للمنع.

وبعبارة أخرى. انه اذا قال اكرم جيراني ولا تكرم أعدائي فالفرد الفلاني إمّا معلوم الصداقة أو معلوم العداوة أو مشكوكهما فإذا صرح بعدم اكرام العدو ومنع عنه فيعلم انّه قد جعل الصداقة مقتضيا مطلقا للاكرام فقد تحصل من ذلك كله ان في

__________________

(١) كفاية الأصول ـ ص ٢٢٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢٠