التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

(٢) بادي الرأي : لأول وهلة أو الظاهر الواضح.

(٣) عميت عليكم : أغلق عليكم فهمها.

(٤) أنلزمكموها : هل نكرهكم عليها.

(٥) تزدري : تحتقر.

(٦) إن كان الله يريد أن يغويكم : تعبير أسلوبي فيه تنديد وإنذار.

(٧) فلا تبتئس : فلا تحزن.

(٨) اصنع الفلك بأعيننا : اصنع السفينة برعايتنا وهدايتنا.

(٩) فار : انفجرت منه المياه.

(١٠) التنور : مكان إيقاد النار لخبز الخبز.

(١١) في معزل : بعيد منعزل.

(١٢) حال : فرّق.

(١٣) أقلعي : توقفي أو كفي.

(١٤) غيض الماء : انحسر الماء.

(١٥) الجودي : اسم الجبل الذي استقرت فوقه السفينة.

(١٦) إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح : إن عمله غير صالح فليس من نوعك ولا ينبغي أن يعد من أهلك.

تعليق على قصة

نوح عليه‌السلام

الآيات حلقة من سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأممهم جريا على الأسلوب القرآني في إيراد القصص عقب حكاية مواقف الكفار وأقوالهم وتعجيزياتهم للتذكير والتمثيل والإنذار ، فهي والحالة هذه متصلة بالسياق.

والآيات واضحة المعاني لا تحتاج إلى أداء آخر ، وقد احتوت قصة نوح عليه‌السلام بتفصيل أو في مما جاء في سورتي الأعراف والشعراء مما اقتضته حكمة التنزيل. وفيها جديد لم يذكر فيما سبق وهو : الأمر بصنع السفينة ، وكيفية حدوث

٥٢١

الطوفان ، وأخذ زوجين اثنين من كل حي ، وموج الطوفان العظيم الذي شبه بالجبال ، واستواء السفينة على الجودي ، ومسألة ابن نوح الذي ظل مع الكفار ، والحوار الذي جرى بينه وبين قومه حول رسالته وحول الذين آمنوا بها منهم وبينه وبين الله حول غرق ابنه.

والقصة كما ذكرنا قبل واردة في سفر التكوين ، وليس في السفر المتداول اليوم ذلك التفصيل ولا الحوار ولا مسألة ابن نوح وإن كان فيه تفصيل عن حجم السفينة لم يرد في الآيات. والذي نرجحه أن ما ذكر في الآيات كان واردا في قراطيس أو أسفار أخرى كانت متداولة في أيدي أهل الكتاب وكان هو المتداول في أوساطهم.

ولقد أورد المفسرون في سياق قصة نوح في هذه السورة وفي غيرها بيانات كثيرة معزوة إلى كعب الأحبار وغيره من رواة المسلمين من اليهود وغيرهم وكثير منها لم يرد في القرآن ولا في سفر التكوين المتداول (١) حيث يؤيد هذا ما قلناه ، هذا ويدل على أن من أهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يعرف أشياء كثيرة من قصة نوح وطوفانه. ولم نر ضرورة ولا فائدة في إيراد ذلك أو تلخيصه لأنه غير متصل بشروط القرآن من القصة.

واسم الجبل الذي استوت عليه السفينة في سفر التكوين أرارات ، وهو في شمال جزيرة الفرات. وهذا الجبل يذكر في كتب التفسير والتاريخ العربية القديمة باسم الجودي وهو الاسم المذكور في الآيات وذكره في القرآن دليل على أنه كان متداولا معروف المكان في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تعليق على آية

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما

كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا)

والآية الأخيرة من الآيات تثير إشكالا حيث تذكر أن ما أوحاه الله تعالى

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والمنار والطبرسي والبغوي.

٥٢٢

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصة هو من أنباء الغيب التي ما كان يعرفها هو ولا قومه من قبل. ومن شأنها أن تنقض ما قلناه. ولما كان سفر التكوين متداولا في أيدي الكتابيين في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتما ، سواء كان بنصه اليوم أو زائدا أو ناقصا والعرب كانوا على صلة بهم ، ومنهم من كان يدين بالنصرانية واليهودية ، بل ومنهم من كان يعرف العبرانية ويقرأ الكتب بها (١). فمن الصعب أن يفرض أن لا يكون من العرب السامعين من لا يعرف قصة نوح والحالة هذه. ومما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قومه المذكورة في سورة نوح وهي : ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، حيث كانت هذه الأصنام مما تعبدها العرب ومما كانوا يعزونها إلى قوم نوح ، وحيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن اسم نوح وقصته مع قومه مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول القرآن ولقد قلنا آنفا إن في كتب التفسير بيانات كثيرة حول قصة نوح غير واردة في القرآن عزاها رواة الأخبار إلى أناس عاشوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ذلك أشياء وردت في سفر التكوين المتداول اليوم مثل إطلاق نوح غرابا ثم حمامة من السفينة مرتين لاختبار جفاف الأرض وعودة الحمامة في المرة الثانية وفي فمها ورقة زيتون (٢). وهذا مما قد يدل على أن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق الكتابيين الذين كان سفر التكوين في أيديهم ، ويؤيد ما قلناه من أن القصة كانت معروفة في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق أهل الكتاب الذين كان سفر التكوين في أيديهم.

ولقد كان هذا الإشكال مما تنبه له بعض المفسرين حيث أشار إليه الخازن وعلّله باحتمال كون العلم بها كان مجملا لأن قصة نوح كانت مشهورة معروفة كما قال وأشار إليه كذلك البيضاوي وعلله باحتمال كون القصد هو عدم معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع قومه بجميع التفصيلات وأن هذا لا يمنع أن يكون عرفها بعضهم أو عرف بعضهم بعضها. ومن الجدير بالذكر أن قصة نوح في السور الأخرى السابقة والآتية خلت من مثل هذا الإشكال. ونحن نرى في تعليق هذين المفسرين

__________________

(١) جاء في صدد ورقة بن نوفل في حديث رواه البخاري وأوردناه في سياق تفسير سورة العلق.

(٢) انظر تفسير الآيات في الطبري مثلا وانظر الإصحاح ٨ من سفر التكوين.

٥٢٣

وجاهة ظاهرة ولا نرى معدى عنه أو عما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر ولا يعرف الناس تفصيل أحداثه ولقد قررنا قبل أن هدف القصص القرآنية إنما يتحقق بمعرفة السامعين لها جزئيا أو كليا لأنها إنما جاءت للوعظ والتذكير والتمثيل.

هذا ولقد علق المفسرون على قصة نوح في هذه السورة تعليقات متنوعة كما فعلوا في مناسبة ورودها في السور الأخرى. ومن ذلك مسألة عمومية طوفان نوح لجميع الأرض أو خصوصيته بقوم نوح وبلاده (١). ونحن نرى في هذا وأمثاله تكلفا لا طائل من ورائه وليس مما يتصل بالهدف القرآني.

مواضع العبرة في قصة

نوح عليه‌السلام

وفي الحلقة مواضع عبر جديدة ، منها ما في الحوار المحكي بين الله تعالى ونوح عليه‌السلام بشأن ابنه من موعظة وعبرة بليغتين حيث يقرر أن قربى الدم مهما كانت لا حمة بين رجال الله وذوي أرحامهم فلا يمكن أن تغني عن هؤلاء شيئا إذا لم يكونوا مؤمنين صالحين ، وأن المعول على الإيمان والعمل الصالح في تثبيت قيمة المرء وصلاحه وفساده واستحقاقه لرضاء الله تعالى ونقمته ، وهذه العبرة في القصص الواردة في السور التي سبق تفسيرها ممثلة في زوجة لوط ووالد إبراهيم عليهما‌السلام ، وفي سورة التوبة نهي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من الاستغفار للمشركين ولو كانوا من ذوي قرباهم كما ترى في هذه الآيات : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) وهكذا تتم السلسلة ويتقرر المبدأ القرآني الجليل في هذا الباب.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير المنار والطبري وابن كثير والخازن وغيرهم.

٥٢٤

ومنها الحوار الذي كان يجري بين نوح وقومه بشأن الذين آمنوا من الضعفاء والفقراء. ففيه صورة لما كان يجري بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزعماء الكفار مما حكته آيات عديدة ، منها آيات الأنعام هذه : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) وآية سورة الكهف هذه : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨) حيث كان زعماء قريش ينظرون إلى الفقراء الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعوه بنظر الازدراء ويطلبون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طردهم. وفي الحوار تثبيت للمؤمنين من هؤلاء وتنبيه لهم بأن موقف الكفار منهم ليس جديدا بل هو ديدن الكفار السابقين أيضا ، وتنويه بهم وتقرير بأنهم قد استحقوا رحمة الله وبرّه بإيمانهم وعملهم.

ومنها ما حكي من قول نوح عليه‌السلام لقومه بأنه لا يعلم الغيب وليس عنده خزائن الله وليس هو ملكا. وهذا ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله للكفار كما مرّ شرحه في سياق سورتي يونس والأعراف ، ومما جاء في آية سورة الأنعام هذه : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) والعبرة في هذا إعلان وحدة طبيعة الأنبياء وكونهم جميعا ليسوا إلّا مبلغين عن الله وليسوا إلّا بشر كسائر البشر.

تعليق على آية (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) من آيات الحلقة

هذا ، ولقد اختلف المفسرون في المقصود بالآية [٣٥] (١) حيث قال بعضهم إنها معترضة وإنها تعني مشركي العرب وتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم إذا قالوا إن ما

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والبغوي.

٥٢٥

يقصه مفترى وحيث قال بعضهم إنه من الجدل والحوار بين نوح عليه‌السلام وقومه لأنهم اتهموه بالافتراء على الله حينما بلغهم أنه رسوله إليهم. وكلا القولين محتمل ، وإن كنا نرى الأول أوجه. وأكثر المفسرين على ذلك أيضا. ولعل بدء الآية التالية لها بخطاب نوح قرينة على ذلك وفي النظم القرآني أمثلة من ذلك. كما أن ذلك القول قد حكي عن مشركي العرب مرات عديدة سبقت أمثلة منها.

وإذا صحت وجاهة القول الأول ففي الرد الذي أمرت الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برده على المشركين تحدّ ضمني لهم وتقرير ضمني بأنه يعرف عظم مسؤولية الافتراء على الله ولا يمكن أن يقترفه.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)) [٥٠ ـ ٦٠]

(١) مدرارا : كثيرا متتابعا.

٥٢٦

(٢) اعتراك بعض آلهتنا بسوء : يريدون بذلك أن يقولوا إن بعض معبوداتنا أصابوك بسوء فغدوت تهذي كالمجنون بدعوتك ومواعظك.

(٣) ما من دابة إلّا هو آخذ بناصيتها : ما من دابة إلّا هو أي الله مالك لأمرها ومحيط بحركاتها وسكناتها.

(٤) تولوا : تتولوا.

تعليق على قصة هود عليه‌السلام

وهذه حلقة ثانية من السلسلة فيها قصة هود عليه‌السلام مع قومه ، وآياتها واضحة. وقد وردت القصة في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار ، وفي الحلقة حوار بين هود عليه‌السلام وقومه غير ما ورد في السور الأخرى مما اقتضته حكمة التنزيل وفيه مماثلة لما حكته آيات عديدة ومرت أمثلة منها من أقوال ومواقف المشركين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يبدو في ذلك أيضا عبرة واضحة بإعلان وحدة طبيعة ذوي النوايا الخبيثة والسرائر الفاسدة ووحدة مواقفهم من الدعوة إلى الهدى والحق التي يدعو إليها رسل الله تعالى. وفي هذا تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من جهة وتبكيت وتقريع وإنذار للكفار من جهة أخرى.

ومن الحوار الذي فيه عبرة أيضا قول هود عليه‌السلام لقومه إنكم إن تتولوا فلن تضروا الله شيئا وإن الله قادر على إهلاككم واستخلاف غيركم في الأرض محلكم حيث ينطوي في هذا إنذار للمشركين الذين كانوا يناوئون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن مواضع العبرة في الآيات إيذان الله بتنجية هود والذين آمنوا معه من العذاب الذي وقع على الكافرين من قومه حيث ينطوي في هذا بشرى وتطمين للنبي والذين آمنوا.

٥٢٧

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)) [٦١ ـ ٦٨]

(١) استعمركم فيها : جعلكم قادرين على إعمارها.

(٢) قد كنت فينا مرجوا قبل هذا : يريدون بذلك أن يقولوا إننا كنا نظنك أعقل ، وكان لنا فيك بسبب ذلك أمل ورجاء.

(٣) فعقروها : قطعوا أرجلها.

(٤) جاثمين : قاعدين على ركبهم وهم أموات.

(٥) كأن لم يغنوا فيها : كأنهم لم يقيموا فيها ويسكنوها.

تعليق على قصة صالح عليه‌السلام

وهذه حلقة ثالثة من السلسلة فيها قصة صالح عليه‌السلام وقومه وآياتها واضحة. وقد وردت القصة في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره ، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. وفي الحلقة حوار بين صالح عليه‌السلام وقومه غير ما ورد في السور الأخرى كذلك مما اقتضته حكمة التنزيل. وفيه مماثلة لما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال ومواقف المشركين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تبدو هنا أيضا

٥٢٨

العبرة التي نبهنا إليها في تفسير قصة هود عليه‌السلام ومثل هذا يقال في ما ذكرته الآيات من تنجية صالح عليه‌السلام وقومه أيضا.

وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة في سياق هذه الحلقة أيضا عن صالح وقومه وناقته ، وتامر قومه عليه وعلى الناقة لم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها أو تلخيصها لأنها لا تتصل بالهدف القرآني وهو العبرة والتذكير.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)) [٦٩ ـ ٧٦]

(١) حنيذ : مشوي.

(٢) نكرهم : أنكرهم واستغرب أمرهم.

(٣) أوجس منهم خيفة : استشعر الخوف منهم.

(٤) ضحكت : قال المفسرون إنها ضحكت حينما رأت الرسل لا يأكلون من الطعام أو حينما بشروها بإسحاق وهي تظن أن ذلك مستحيل لأنها وزوجها كانا عجوزين.

(٥) بعلي : زوجي.

(٦) الروع : الخوف أو الدهشة.

(٧) أواه : كثير التأوه بمعنى كثير البكاء والدعاء والابتهال.

(٨) منيب : راجع إلى الله ومسلم له.

٥٢٩

تعليق على قصة إبراهيم عليه‌السلام

وهذه حلقة رابعة فيها قصة جديدة من قصص إبراهيم عليه‌السلام. فقد ذكرت قصته مع قومه في سورة الشعراء ، وهذه القصة تحكي مجيء رسل الله إليه بالبشرى ، ثم إلى قوم لوط بالعذاب. وتكررت هذه القصة بعد هذه السورة بأساليب متقاربة. وهذه القصة مما ذكر في سفر التكوين بما في ذلك الحوار بين إبراهيم ورسل الله الملائكة وضحك سارة وتعجبها من أنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم ، خلافا لقصة سورة الشعراء على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. وهي هنا مقاربة إجمالا لما ذكر في سفر التكوين عدا عدم أكل رسل الله من الطعام حيث ذكر في هذا السفر أنهم أكلوا وعدا البشرى يبعثون مع ذكره عهد ربه له أن يكون مع اسحق ابن سارة وأن ينمي ذريته (١).

وسفر التكوين كان متداولا في أيدي أهل الكتاب واليهود في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يقال بجزم إن هذه القصة مما كان متداولا في هذه البيئة. ونعتقد إلى هذا أن ما لم يذكر في السفر وذكر في القرآن أو ما ذكر في القرآن مباينا لما ذكر في السفر كان متداولا بين اليهود وكان واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا.

وفي القصة من العبر تقرير قدرة الله على جعل إبراهيم وزوجته ينجبان رغم طعنهما في السن رحمة بنبيه وخليله. وقد نوهت به وبأهل بيته تنويها كريما. ومما فيها أيضا ردّ على إبراهيم عليه‌السلام حينما جادل في قوم لوط عليه‌السلام بأنهم قد حق عليهم العذاب فلا راد له. وفي هذا إنذار لسامعي القرآن من قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن صلتهم به لن ترد عنهم العذاب الرباني إذا حق عليهم بإصرارهم على الكفر والإثم.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ

__________________

(١) انظر الإصحاحات ١٦ و ١٧ و ١٨ من سفر التكوين.

٥٣٠

عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)) [٧٧ ـ ٨٣]

(١) سيئ بهم : ساءه مجيئهم خوفا عليهم.

(٢) ضاق بهم ذرعا : التعبير يقصد به بيان ما ألمّ بالمرء من ضيق وشدة.

(٣) عصيب : شديد الخطر.

(٤) يهرعون إليه : يسارعون إليه.

(٥) يعملون السيئات : كناية عن عادتهم السيئة بإتيان الذكور.

(٦) لو أن لي بكم قوة : لو أن لي قوة بكم تنصرني عليهم وأدفع عنكم بها قومي.

(٧) ركن شديد : ملجأ حصين أحميكم فيه.

(٨) لن يصلوا إليك : لن يقدروا على أذيتك.

(٩) بقطع من الليل : في أثناء ظلمة الليل.

(١٠) سجّيل : طين جاف وهي كلمة معربة من الفارسية.

(١١) منضود : مصفوف أو متتابع.

(١٢) مسومة : معدة أو عليها علامة ربانية.

٥٣١

تعليق على قصة لوط عليه‌السلام

وهذه حلقة خامسة من سلسلة القصص تحتوي قصة لوط عليه‌السلام ومجيء رسل الله إليه وما كان من التدمير الذي حل بقومه وبلادهم وتنجية لوط وأهله باستثناء زوجته ، وآياتها واضحة المعنى. والقصة واردة في الإصحاح (١٩) من سفر التكوين المتداول مقاربة لما جاء في هذه السورة وسورتي الشعراء والأعراف اللتين مرّ تفسيرهما. وقد علقنا عليها في السورتين المذكورتين بما يغني عن التكرار. وتكرارها هنا يتضمن تكرار العبرة في ما كان من إهلاك الله لقوم لوط وامرأته معا وتنجيته والذين آمنوا معه.

وفي الآيات جديد لم يرد في السور السابقة وهو انزعاجه من مجيء رسل الله لأنه لا يقدر على حمايتهم. وهذا مباين لما في سفر التكوين المتداول الذي ذكر أن لوطا ألح عليهم لينزلوا في ضيافته (١). ونحن نعتقد أن ما جاء في القرآن كان متداولا وواردا في قراطيس أخرى ، وهو المتسق مع ما حكي من أخلاق قوم لوط وعاداتهم السيئة التي كان لوط يعرفها بطبيعة الحال. وفي تفسير الطبري وغيره لهذه الآيات بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الصدر الأول فيها ما هو المتطابق مع سفر التكوين وغير المتطابق ، لم نر ضرورة ولا طائلا لإيراده أو تلخيصه هنا لأنه غير متصل بالهدف القرآني ويدل على كل حال على تداول تفصيلات لم ترد في السفر عن هذه القصة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته ، مما فيه دعم لما نقول.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما

__________________

(١) انظر الإصحاح ١٩.

٥٣٢

أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)) [٨٤ ـ ٩٥]

(١) لا يجرمنكم شقاقي : لا يجعلنكم شقاقي أو لا تحملنكم رغبة مخالفتي.

(٢) ما نفقه : ما نفهم.

(٣) رهطك : عشيرتك أو أسرتك.

(٤) وما أنت علينا بعزيز : لست شخصيا غاليا علينا أو مكرما عندنا أو قويا.

(٥) اتخذتموه وراءكم ظهريا : بمعنى تناسيتموه ولم تبالوا به.

(٦) اعملوا على مكانتكم : استمروا في عملكم وحالتكم.

(٧) ارتقبوا إني معكم رقيب : انتظروا وأنا منتظر معكم. وفي الجملة معنى الإنذار بعذاب الله.

٥٣٣

تعليق على قصة شعيب عليه‌السلام

وهذه حلقة سادسة من السلسلة. وقد احتوت قصة شعيب عليه‌السلام وقومه أهل مدين. وآياتها واضحة. وقد وردت هذه القصة في سورتي الشعراء والأعراف بصيغ متقاربة مع بعض زيادات اقتضتها حكمة التنزيل ولقد علقنا على مدى القصة في السورتين المذكورتين بما يغني عن التكرار. وفي الحوار الذي يحكي بين شعيب وقومه مماثلة لما حكته آيات عديدة لبعض ما كان يقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار العرب حيث ينطوي في ذلك إظهار وحدة الطبائع التي تجمع بين الكفار وزعمائهم بخاصة في مختلف الأدوار. وبالإضافة إلى ذلك فإن فيما احتوته آيات القصة من إنذار ووعيد وتنديد وتأنيب وتطمين قد انطوى إنذار ووعيد للكافرين السامعين وتثبيت وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)) [٩٦ ـ ٩٩]

(١) يقدم قومه : بمعنى يتقدم قومه ويقودهم.

(٢) بئس الورد المورود : الورد بمعنى الورود على الماء ، ومعنى الجملة : بئس الورد الذي أورد فرعون قومه لأنه أوردهم النار.

(٣) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة : لحق بهم في هذه الدنيا سخط الله وغضبه.

(٤) بئس الرفد المرفود : الرفد بمعنى العون والعطاء والقرى. ومعنى الجملة : بئس الرفد الذي رفد به فرعون قومه.

٥٣٤

تعليق على قصة موسى عليه‌السلام

وهذه حلقة سابعة من السلسلة وهي الأخيرة ، وقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون الإشارة فيها إلى قصة رسالة موسى عليه‌السلام إلى فرعون مقتضبة جدا. وقد وردت القصة مفصلة في سور سبق تفسيرها. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار ، ومن مواضع العبرة هنا ما يمكن أن يكون إنذارا للكفار السامعين وبخاصة للذين اتبعوا الزعماء من سوادهم وتنبيههم إلى أن هؤلاء الزعماء سيوردونهم النار وبئس هي من مورد وسيكون نصيبهم جميعا لعنة ونقمة ربانيين في الدنيا والآخرة وبئس ذلك من نصيب.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)) [١٠٠ ـ ١٠٤]

(١) قائم : بمعنى باق وموجود.

(٢) حصيد : بمعنى مدمر وهالك.

(٣) تتبيب : خسارة.

(٤) يوم مشهود : يوم عظيم حافل.

الآيات جاءت معقبة على سلسلة القصص جريا على النظم القرآني. وفيها توكيد صريح لما قلناه مرارا لأهداف القصص القرآنية وهي العبرة والتذكير والإنذار والتثبيت ، حيث قررت :

١ ـ أن الله يقص أنباء القرى والأمم السابقة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يسمع القرآن

٥٣٥

للعبرة والتذكير. ومن هذه القرى والأمم ما هو باق يرى الناس آثار تدمير الله فيه ومنها ما زال.

٢ ـ وأن الله لم يظلم تلك القرى والأمم وإنما ظلموا أنفسهم بانحرافهم وبغيهم ، ولم تكن آلهتهم التي كانوا يدعونها من دون الله لتنفعهم شيئا حينما حق عليهم عذاب الله تعالى ، ولم تزدهم إلّا خسارا.

٣ ـ وأن الله إذا أخذ القرى والأمم وهي ظالمة باغية فيكون أخذه لها شديدا أليما.

٤ ـ وأن في ذلك نذيرا للناس من شأنه أن يحملهم على الارعواء ويدعوهم إلى التفكير وبخاصة من يحسب حساب الآخرة منهم ويومها الرهيب الهائل الحافل بالأحداث الجسام والمجموع له جميع الناس ، والذي إنما يؤخره الله تعالى بمقتضى حكمته لأجل محدود قصير. وإذا كان أخذ الله في الدنيا للظالمين يثير خوفا ورعبا فعذابه في الآخرة يجب أن يكون أشد إثارة لهما لأن الأول يأتي ثم ينقضي ولكن الآخر طويل المدى.

والإنذار في الآيات قوي موجه للعقول والقلوب معا وقد استهدف كما هو المتبادر إثارة الرعب والارعواء في قلوب الكفار وزعمائهم. ولعل في جملة (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤) إنذارا بأن الفرصة أمامهم سانحة ولكنها قصيرة فعليهم أن لا يضيعوها.

تعليق على جملة (وَهِيَ ظالِمَةٌ)

وجملة (وَهِيَ ظالِمَةٌ) [١٠٢] تنطوي على معنى أوسع وأشد من جملة (وهي كافرة) كما هو المتبادر فالظلم يشمل الشرك والكفر ويشمل في الوقت نفسه الإجرام والبغي والعدوان على الناس والفساد والتكبر في الأرض. ويتبادر لنا أن هذا هو مقصود الجملة القرآنية وليس الكفر وحده. وفي آية آتية ما يمكن أن يؤيد ذلك.

ولقد أورد الطبري في سياق الآية الثانية حديثا بطرقه رواه الشيخان والترمذي

٥٣٦

أيضا عن أبي موسى بهذا النص : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية» (١) حيث ينطوي في الحديث توكيد للإنذار الرهيب الذي احتوته الآية.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)) [١٠٥ ـ ١٠٨]

(١) لا تكلم : لا تتكلم.

(٢) لهم فيها زفير وشهيق : المراد بهذه الجملة وصف الشدة التي سوف يقاسيها أهل النار. فالمرء حينما يشتد عليه البلاء يسرع نفسه ويضيق.

(٣) غير مجذوذ : غير مقطوع.

والآيات استمرار بياني للآيات السابقة ، فحينما يأتي ذلك اليوم يخشع الناس ويسكتون تهيبا من الموقف. ولن يستطيع أحد أن يتكلم إلّا بإذن الله ، والناس في ذلك اليوم صنفان أشقياء وسعداء. فالأولون يلقون في النار حيث يقاسون من البلاء أشده ويخلدون فيها ما دامت السموات والأرض إلّا ما شاء الله الفعّال لما يريد. وأما الآخرون فينزلون في الجنة ويخلدون فيها ويتمتعون بنعم الله التي لا تنقطع ما دامت السموات والأرض إلّا ما شاء الله كذلك.

وفي الآيات ما يثير الرعب والخوف في قلوب الكفار والطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو ما استهدفته في جملة ما استهدفته على ما هو المتبادر.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٣١.

٥٣٧

تعليق على جملة

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم (١) في تأويل جملة (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فقالوا فيما قالوه إن الاستثناء الأول عائد إلى مذنبي المؤمنين الذين سوف يخرجون أخيرا من النار ويدخلون الجنة وقالوا إن الاستثناء هو في صدد زيادة أنواع العذاب والنعيم وقالوا إنه على طريقة قول العرب : «ما لاح كوكب» و«ما أقام ثبير» و«ما دامت السماء سماء والأرض أرضا» ويريدون بذلك التأبيد ، والقول الأخير يعني أن التعبير أسلوبي مما اعتاد العرب استعماله وهم يقصدون التأبيد. وهو قول وجيه يزيل وهم التناقض الذي قد يبدو بين العبارة القرآنية هنا وبين آيات كثيرة وردت فيها جملة (خالِدِينَ فِيها) بالنسبة لأهل الجنة وأهل النار بدون قيد (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لهم هل تعرفون هذا فيقولون قد عرفناه وهو الموت الذي وكّل بنا فيضجع فيذبح على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» (٢). ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخبار المشاهد الأخروية فإن في الحديث من جهة توكيدا للخلود الأبدي في النار والجنة لمن استحقه من الناس ومؤيد لما تفيده العبارة التي جاءت كأسلوب تعبيري عن التأبيد حسب تخاطب العرب. ومن الحكمة المستشفة منه قصد الترهيب للكفار والبشرى للمؤمنين.

ومع ذلك فقد يتبادر أيضا أن التعبير من الأساليب التي جرى عليها الوحي

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي والبغوي.

(٢) التاج ج ٥ ص ٣٨٢.

٥٣٨

القرآني في كثير من الآيات حيث يقرن الأمر بمشيئة الله تعالى إعلانا بأن كل شيء وأمر منوط بأمره وإذنه ومشيئته. وأنه لا ضرورة ولا طائل من التخمين وإطالة الكلام في العبارة ومداها كما فعل بعضهم (١) وتفويض الأمر في حكمة مداها لله عزوجل مع ملاحظة كون الهدف الجوهري للآيات هو إنذار الكفار السامعين ومن بعدهم ليرعووا ويتوبوا وتبشير المؤمنين السامعين ومن بعدهم ليغتبطوا ويثبتوا والله أعلم.

تعليق على جملة (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)

روى الطبري في سياق هذه الجملة حديثا عن عمر بن الخطاب رواه أيضا البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جاء فيه : «قال عمر أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما فرغ منه فقال فيما فرغ منه يا ابن الخطاب. كلّ ميسّر أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء» (٢). وروى البغوي حديثا عن علي بن أبي طالب رواه أيضا مسلم والترمذي جاء فيه : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل. قال اعملوا فكل ميسّر لما خلق له. ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) الآيتين في سورة الليل».

ولسنا نرى في هذين الحديثين ما يوهم أن الله قد كتب الشقاء والسعادة من الأزل على أناس بأعيانهم وبصورة اعتباطية تنزّه عن ذلك ، بل فيهما ما يمكن أن يفيد أن ذلك منوط بسلوكهم. وكل ما يمكن أن يكون بالإضافة إلى ذلك أن الله

__________________

(١) كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [١٢٨] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.

(٢) التاج ج ٥ ص ١٧٣ و ١٧٤.

٥٣٩

سبحانه يعلم الذين يسلكون سبيل الشقاء فيستحقون النار والذين يسلكون سبيل السعادة فيستحقون الجنة. أما من باب (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) البقرة : [٢٦] و (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) الرعد : [٢٧] وهذا هو المتسق مع المبادئ القرآنية المحكمة على ما شرحناه في مناسبات سابقة. على أن في آيات سورة الليل التي قرأها رسول الله على ما جاء في الحديث الثاني قرينة حاسمة فهي تنسب الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى والبخل والاستغناء والتكذيب بالحسنى لفاعلي ذلك وترتب تيسير الله للأولين للحسنى وتيسير الآخرين للعسرى على ذلك. وهذا أيضا وارد في بقية آيات سورة الليل التي تأتي بعد الآيتين.

تعليق على جملة (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ)

وقد وقف بعض المفسرين (١) إزاء تعبير (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لأن هناك آيات جاء فيها ما قدم يوهم نقض ذلك مثل آية سورة النحل هذه : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١) ومثل آيات سورة ص هذه : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤).

ومما ذكره الزمخشري في رفع الإشكال أن ذلك اليوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم. وهذه التخريجات وجيهة وكل الصور المذكورة فيها مما ورد في آيات قرآنية أخرى مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري.

٥٤٠