التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

سورة هود

بين هذه السورة وسابقتها تشابه في مواضع كثيرة ، حيث احتوت حكاية لأقوال ومواقف تعجيزية عديدة للكفار وردود عليها ومناقشة لها وإفحام لهم فيها. وفيها سلسلة طويلة من قصص الأنبياء والأمم للتذكير بما كان من مواقف كفار الأمم السابقة من أنبيائهم وما صاروا إليه من سوء المصير وما صار المؤمنون منهم إليه من حسن العقبى والنجاة ، تثبيتا وتطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وإنذارا للكفار ، وفيها تذكير بحكمة الله في خلقه التي اقتضت أن لا يكونوا أمة واحدة.

وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة حتى تمت كسابقاتها ، والتشابه بينها وبين السورة السابقة قد يكون قرينة على تتابعهما في النزول ، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات [١٢ و ١٧ و ١١٤] مدنيات ، وانسجام الآيات في السياق والموضوع مع سابقاتها ولا حقاتها يسوغ الشك في صحة الرواية.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)) [١ الى ٤]

(١) ثم : هذا الحرف في هذه الآيات ليس للتراخي وإنما هو للعطف وبيان

٥٠١

الحال. وفي الآية الأولى بمعنى أن آيات الكتاب هي محكمة ومفصلة ، وفي الآية الثالثة بمعنى استغفروا ربكم وتوبوا إليه.

(٢) تولوا : تتولوا.

بدأت السورة بحروف الألف واللام والراء لاسترعاء الأسماع والأذهان لما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها ، وقد أعقب هذه الحروف :

١ ـ ذكر الكتاب وتنويه بآياته المحكمة المفصلة الواضحة ، وتوكيد بأنه أنزل من عند الله الحكيم الخبير أي الذي له في كل أمر حكمة والذي له الخبرة الشاملة بمقتضيات الأمور.

٢ ـ وهتاف بالناس بأن الكتاب إنما أنزل على هذا الوجه لينبذوا عبادة غير الله ، وتقرير عن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه قد أرسل إليهم من الله بشيرا ونذيرا يبشرهم بما يكون لهم من حسن العاقبة إذا عبدوا الله وحده ، وينذرهم بسوئها إذا هم أشركوا معه غيره.

٣ ـ وهتاف للناس كذلك بأنهم مدعوون إلى طلب الغفران من ربهم عما بدا منهم من انحراف قبل نزول الكتاب وإعلان إنابتهم إليه. ووعد بأنهم إذا استجابوا نالوا رضوان الله ورحمته وبره فيسر لهم المتاع الحسن والحياة السعيدة في الأيام المعينة لهم في الدنيا ، وجازى كل ذي فضل وعمل صالح بما يستحقه فضله وعمله. وإنذار موجه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يخاف عليهم من عذاب يوم القيامة الهائل إذا تصامموا عن الدعوة ، فإن مرجعهم إلى الله تعالى وهو قادر على إثابة المحسن ومعاقبة المسيء لأنه قادر على كل شيء.

قوة استهلال السورة

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات وهي على ما يلمح من الآيات الآتية مقدمة لذكر مواقف الكفار وحجاجهم. وهي في الوقت نفسه استهلال قوي ببيان مهمة الرسالة المحمدية وأهدافها والدعوة إليها. وفي الآية الثانية توكيد لما مرّ تقريره في السور السابقة وبخاصة في الآية [٩٩] من السورة السابقة بأن

٥٠٢

الإيمان بالله وكسب رضائه ونيل غفرانه يضمن لصاحبه المتاع الحسن والحياة السعيدة في الدنيا فضلا عن حسن العاقبة في الآخرة.

تعليق على ما يبدو من

كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المباشر للناس

والآيات الثلاث الأخيرة كأنما هي موجهة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس ، والآية الثانية صريحة بذلك. وقد تكرر هذا الأسلوب أكثر من مرة ، والمتبادر أن هذا على اعتبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يخاطب الناس. وجملة (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) معطوفة على (أَلَّا تَعْبُدُوا) والعبارة تفيد أن كتاب الله قد أنزل داعيا إلى نبذ عبادة غير الله واستغفاره ، وآمرا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول للناس إني لكم منه نذير وبشير. فليس في الآيات والحالة هذه أي إشكال. ومع ذلك فإن المؤولين والمفسرين يفرضون محذوفا وهو (قل) وهذا سديد متسق مع الحقيقة الإيمانية المقررة بأن جميع ما في القرآن وحي رباني وكلام الله. وهناك آيات كثيرة سبقتها كلمة (قل) ولولا ذلك لبدا ما فيها كأنما هو تقرير مباشر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد مرّت أمثلة لذلك في السور التي سبق تفسيرها ومن ذلك آيات عديدة في سورة يونس السابقة لهذه السورة مثل الآيات [١٥ و ١٦ و ٣١ و ٣٣ و ٣٤ و ٣٥ و ٣٨ و ٤١ و ٥٠ و ٥٢ و ٥٧ و ٥٨ و ١٠٣ و ١٠٥]. وفي سورة النمل مثال فيه توضيح أكثر. ففيها هذه الآيات : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣) فالمتبادر أن كلمة (قل) في الآيتين الثانية والثالثة مقدرة واردة بالنسبة لما في الآية الأولى والشطر الأول من الآية الثانية من كلام يوهم أنه كلام النبي المباشر. وعلى كل حال ففي هذا الأسلوب صورة من صور الوحي والنظم القرآني كما هو المتبادر أيضا.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما

٥٠٣

يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)) [٥ الى ٦]

(١) يثنون صدورهم : يلوونها كما يفعل الذي يريد أن يخفي نفسه من غيره.

(٢) يستغشون ثيابهم : يضعون ثيابهم غشاء عليهم لمنع غيرهم من رؤيتهم.

لقد روى المفسرون عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أهل التأويل في الصدد الأول أقوالا عديدة في مدى الآية الأولى. منها أنها نزلت في حق الأخنس بن شريق الذي كان يظهر الود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدره مشحون بالبغضاء له. أو أنها نزلت في بعض المنافقين أو الكفار الذين كانوا يثنون صدورهم أو يستغشون بثيابهم إذا رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا حتى لا يراهم. ومنها أنها بسبيل الإشارة إلى عادة عند العرب وهي أنهم كانوا يستخفون من الله حينما يأتون منكرا أو أنهم كانوا يستحيون من الإفضاء بنظرهم إلى السماء فى حالة الجماع أو في حالة التخلي لقضاء الحاجة. وفي كتاب التفسير في صحيح البخاري حديث في القول الأخير جاء فيه : «إن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء أو يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت الآية» (١).

والروايتان الأوليان تقضيان بأن يكون ضمير (منه) عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حين أن روحها ومضمونها وروح الآية ومضمونها معا يلهمان أن الضمير عائد إلى الله تعالى. وهذا يتسق مع الأقوال الأخرى ومنها الحديث الذي يرويه البخاري عن ابن عباس مع استبعادنا أن يكون ابن عباس قصد أن الآية نزلت خاصة في الأحوال المذكورة في الحديث وإنما قصد بيان عادة العرب فيها وقصد إشارة القرآن إليها. ويتبادر لنا والحالة هذه أن الآيتين جاءتا معقبتين على ما سبقهما. فالآية السابقة لهما مباشرة تقرر أن مرجع الناس إلى الله تعالى وأنه قدير على كل شيء فجاءت الآيتان عقب ذلك تشيران إلى عادة كان العرب يجرون عليها بل تكاد تكون عادة

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٣٠.

٥٠٤

إنسانية عامة وهي محاولة التواري عن الأعين بليّ الصدور والاستغشاء بالثياب إذا ما باشروا عملا آثما أو مكروها. وتقرر أن عدم جدوى ذلك بالنسبة إلى الله تعالى لأن علمه الشامل وقدرته الكاملة محيطان بكل شيء من مكنونات الصدور وأعمال الناس في السر والعلن وبكل دابة على الأرض حيث يعلم سيرها ومقامها وحيث يتكفل برزقها أيضا. وذلك بسبيل حمل المخاطبين في الآيات السابقة على مقابلة دعوة الله التي يبلغها رسوله إليهم بالإقبال وعدم التهرب.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)) [٧ الى ٨]

(١) أمة : هنا بمعنى أيام أو مدة.

(٢) ما يحبسه : ما الذي يمنعه.

معاني الآيتين واضحة ، وهما معطوفتان على ما قبلهما واستمرار لهما على ما هو المتبادر ، وضمائر الجمع المخاطب في الآية الأولى مماثلة لما في آيات السورة الأولى مما يسوغ القول إن الآيتين والآيتين اللتين قبلهما وآيات السورة الأولى جمعها سياق واحد متصل ببعضه.

ومن المحتمل أن يكون في الآيتين تسجيل لمشهد جدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض الكفار ، كما أن من المحتمل أن يكون ما احتوتاه حكاية عامة.

وقد تضمنت الآية الثانية حكاية قول جديد للكفار في صدد إنكار البعث الأخروي حيث قالوا إن هذا من باب السحر ، والمتبادر أنهم كانوا يعنون بذلك

٥٠٥

استحالة البعث حيث كانوا يعتقدون أن السحر تخييل وقوع ما لا يمكن وقوعه على ما شرحناه في سياق سورة المدثر.

وما جاء في الآية الثانية من تحدي الكفار واستهزائهم بسبب تأخر العذاب الموعود قد تكرر منهم كثيرا مما مرّت أمثلة عديدة منه في السور التي سبق تفسيرها حيث كان البعث والجزاء الأخرويان من أهمّ مواضيع الجدل والحجاج والتحدي بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ردت عليهم الآية ردا قويا مؤكدة ومنذرة ومتوعدة كما هو الشأن في سياق حكاية أقوالهم المماثلة.

تعليق على جملة

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)

وفي الآية الأولى جديد وهو أن عرش الله كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، وقد ذكر هذا في الإصحاح الأول من سفر التكوين هكذا : (في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلام ، وروح الله يرف على وجه الماء). ولقد علقنا على مسألة خلق الله السموات والأرض في ستة أيام في سياق تفسير سورة القمر وعلقنا على مدى تعبير العرش في سياق تفسير سورة البروج بما يغني عن التكرار ، والفقرة هنا بما فيها الجديد هي بسبيل تقرير أزلية الله سبحانه وعظمته وإبداعه للأكوان وما فيها وهيمنته الأزلية والبرهنة على قدرته على بعث الناس بعد الموت ، فلا محل ولا طائل وراء البحث في الكيفيات والماهيات المتصلة بذات الله الذي ليس كمثله شيء على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة.

ولقد أورد المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي رزين لقيط بن عامر قال : «قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟

قال : في عماء ما تحته هواء أو ما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك» (١). وحديثا

__________________

(١) هذا الحديث رواه الترمذي في سياق تفسير الآية أيضا بمغايرة يسيرة وهي جملة «وخلق عرشه على الماء» بدلا من جملة : «ثم خلق العرش بعد ذلك» انظر التاج ٤ ص ١٣٠ ـ ١٣١ وفي تفسير ابن كثير أحاديث أخرى من باب ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه.

٥٠٦

آخر جاء فيه : «إنّ جماعات من بني تميم سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول هذا الأمر ـ أي الكون ـ كيف كان؟ فقال : كان الله قبل كلّ شيء وكان عرشه على الماء ، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كلّ شيء».

وفي الأحاديث ترديد لما احتوته الآية كما هو ظاهر. وما جاء في الثاني في صدد اللوح المحفوظ قد ذكرناه وعلقنا عليه في سياق سورة البروج بما يغني عن التكرار.

تعليق على جملة

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

المتبادر أن في الجملة استطرادا هدف إلى تقرير حكمة الله في خلق الناس وهي اختبارهم في أعمالهم وإظهار من هو الأحسن عملا فيهم ، وينطوي في هذا تقرير قابلية الناس للسير الحر والإرادة الحرة والاختيار بين الهدى والضلال والخير والشر ليكونوا قد استحقوا جزاء الله العادل على اختيارهم ، وفي هذا أولا تذكير تنويهي بما اقتضته حكمة الله من تمييز الإنسان على سائر خلقه وثانيا إيقاظ لضمير الإنسان وجعله رقيبا على صاحبه وحفزه إلى الهدى والخير دون الضلال والشر ، وقد تكرر هذا أكثر من مرة لما له من أثر وخطورة في أعمال البشر وواقع حياتهم ، وقد انتهت السورة السابقة بتقرير ذلك أيضا على ما شرحناه.

ومما يتبادر من هذا التكرار أن حكمة التنزيل بالإضافة إلى حكمة الله تعالى في جعل يوم آخر يبعث فيه الناس ليجزوا على أعمالهم في الدنيا قد قصدت تنبيه الإنسان إلى أنه وقد وجد في الحياة مكلف بالاندماج فيها دون تساؤل لا طائل من ورائه. ومكلف بعمل أحسن العمل في حياته أي كل ما فيه الخير والبر والعدل والحق. وإلى أنه بذلك فقط يكون قد حقق حكمة الله في خلقه ووجوده وتمييزه عن سائر الخلق وأدرك معنى هذه الحكمة. وتسامى عن بقية المخلوقات الحية التي لم تشأ هذه الحكمة أن يتكامل فيها العقل وتكون موضع تكليف وخطاب إلى ما يتساوق مع المرتبة التي شاءت هذه الحكمة أن يكون فيها. وقد يكون مما انطوى

٥٠٧

في الجملة جواب على الأسلوب الحكيم على ما قد يتساءل الناس عنه من حكمة خلقهم وخلق الأكوان وبداية ذلك ونهايته. فهذا التساؤل لا طائل من ورائه لأن ذلك من سر الله عزوجل والأولى بالإنسان أن لا يتساءله وأن ينصرف إلى ما يجب عليه من الأعمال الصالحة والتسابق فيها وأن يعتبر ذلك من حكمة الله تعالى في خلقه على الصورة التي خلقه عليها. والله أعلم.

ولقد توقف بعض المفسرين عند كلمة (لِيَبْلُوَكُمْ) لأن فيها معنى لا يتسق مع علم الله المحيط الأزلي الأبدي وخرجوها بأن ذلك على سبيل التمثيل والاستعارة والمجاز أو لتحقيق العلم الأزلي بالواقع العملي. أو ليمتاز صاحب العمل الحسن من صاحب العمل السيء وينال كل ما يستحقه حقا وعدلا. ومع وجاهة هذه التخريجات فالذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي لمخاطبة الناس وبيان حكمة الخلق ولتنبيه الناس بأنهم تحت اختبار الله ورقابته ليلتزموا حدود ما رسمه الله من أوامر ونواه. وليس فيها إشكال يتحمل التوقف. والله تعالى أعلم.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)) [٩ الى ١١]

(١) النعماء : نعمة يظهر أثرها على صاحبها.

(٢) الضراء : ضرّ وأذى يظهر أثرهما على صاحبهما.

وفي الآيات إشارة تنديدية إلى خلق فاش في سواد الناس وهو أن المرء إذا ناله ضيق وعسر وضر بعد سعة ويسر ورخاء يئس وكفر ، وإذا ناله خير بعد شر ورخاء بعد عسر فرح وبطر وظن أنه قد أمن حوادث الدهر ومفاجات الأيام. وقد استثنى المؤمنون الصابرون الذين يعملون الصالحات من التنديد وقرر لهم على صبرهم مغفرة الله وأجره الكبير.

٥٠٨

والآيات قد جاءت كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها حيث انطوى فيها شرح حالة الكفار الذين كانوا السواد الأعظم من سامعي القرآن ، والذين كانوا موضوع تنديد في الآيات السابقة بعد استثناء المؤمنين الصابرين الصالحين ، وقد تكرر هذا في المناسبات المماثلة مما مرّ بعض أمثلته.

وواضح أن الآيتين الأوليين وهما تنددان بذلك الخلق تنطويان على تلقين مستمر المدى فيه تحذير ودعوة إلى التفكير دائما في عواقب الأمور والاستعداد لها فلا تبطر المرء نعمة فتخرجه عن طوره ، ولا تيئسه نقمة فتسلمه إلى الكفر والجحود. وقد انطوى في الآية الثالثة تقرير أثر الإيمان في صاحبه إزاء تقلبات الدهر حيث يساعده على الصبر والاستمرار في العمل الصالح في حالتي السراء والضراء دون بطر ولا يأس.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثالثة حديثين نبويين أحدهما ورد في صحيحي البخاري ومسلم جاء فيه : «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد غير المؤمن». وجاء في الحديث الثاني : «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله عنه بها من خطاياه». حيث ينطوي في الحديثين تطمين وتثبيت وبشرى للمؤمنين وحث على الشكر على حالة السراء والصبر في حالة الضراء وحيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ

٥٠٩

مُسْلِمُونَ (١٤)) [١٢ ـ ١٤]

(١) أن يقولوا : مخافة أن يقولوا.

لا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات ، والمتبادر أنها استمرار لحكاية مواقف الكفار وحكاية حالهم فهي والحالة هذه استمرار للسياق.

وقد تضمنت الأولى تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته إزاء مواقف الكفار وتحديهم ؛ فقد كان يستشعر أحيانا بشيء من القلق وضيق الصدر حينما كان يتلو عليهم الجديد من القرآن مخافة أن يتحدوه باستنزال ملك يؤيده أو كنز يلقى إليه. فليس هو إلّا نذير وليس عليه إلّا تبليغ ما يوحى إليه والله الوكيل على كل شيء.

وتضمنت الآية الثانية ترديدا لما كانوا ينسبونه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من افتراء القرآن وأمرا بتحديهم بالمقابلة. فليأتوا بعشر سور مثله إذا كانوا صادقين في زعمهم بأنه مفترى وليستعينوا بمن يستطيعون على ذلك.

وتضمنت الآية الثالثة توكيدا في حالة عدم استجابة الكفار للتحدي بأن القرآن هو منزل بعلم الله الذي لا إله إلّا هو ودعوة للسامعين إلى إسلام النفس له وحده. وينطوي في أسلوب الآية تقرير عجز الكفار عن الاستجابة إلى التحدي وإلزام للسامعين بالإسلام لله لأن عجزهم يثبت أن القرآن منزل من الله تعالى ولم يبق لهم مناص إلا الإذعان والتسليم.

ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الأول التي يرويها المفسرون عن المخاطب في الآية الثالثة حيث قيل إنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قيل إنهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمون وقيل أيضا إنهم السامعون إطلاقا. والعبارة تتحمل كل ذلك ، وإن كنا نرجح أن المخاطب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه معا ، وكلمة (لكم) تقوي هذا الترجيح.

٥١٠

تعليق على الآية

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) إلخ

والفقرة الأولى من الآية الأولى قد تورد على الخاطر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحسب أحيانا حساب مكابرة الكفار وتكذيبهم ، ويقوم في ذهنه عدم إعلان جميع ما ينزل عليه وبخاصة ما فيه هجوم على آلهة الكفار وعقولهم فاحتوت الآيات تحذيرا وتنبيها له. وورود شيء من هذا في آيات أخرى وبخاصة آيات سورة الإسراء [٧٣ ـ ٧٥] على ما شرحناه في تفسير هذه السورة قد يقوي هذا الخاطر. غير أننا نرجح أن التعبير هنا تعبير أسلوبي يقصد به وصف شدة ما كان يلم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ألم نفسي وضيق صدر من جراء موقف الكفار وتحدياتهم. وأنه ليس من نوع ما أشارت إليه آيات الإسراء المذكورة. وجملة (أَنْ يَقُولُوا) التي بمعنى مخافة أن يقولوا ويطلبوا مؤيدات خارقة على صحة النبوة مثل استنزال ملك أو كنز قرينة على صحة الترجيح. وعلى كل حال فليس في الآية ما يمس العصمة النبوية في صدد تبليغ ما أوحى الله به إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدنية ، وهي رواية غريبة لم تطلع على تأييد لها. فالاية منسجمة في السياق موضوعا وسبكا. والصورة التي احتوتها من صور العهد المكي. وهناك آيات لا خلاف في مكيتها ، ومنها آيات سورة الفرقان [٧ ـ ٨] احتوت مثلها. وهذا مما يسوّغ الشك في صحة الرواية.

ولقد روى الطبرسي في سياق هذه الآية عن ابن عباس أن رؤساء قريش أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة فأنزل الله الآية (١). وروى الطبرسي في الوقت نفسه حديثا عن العياشي عن أبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل ، فقال بعض القوم والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا

__________________

(١) انظر تفسير الآية في مجمع البيان للطبرسي.

٥١١

مما سأله محمد ربه ، فهلا سأله ملكا يعضده على عدوه أو كنزا يستعين به على فاقته ، فأنزل الله الآية (١).

وقد يكون ما ورد في الرواية الأولى قد قاله رؤساء قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن مضمون الآية وأسلوبها يبعث على التوقف في أنها نزلت جوابا لقولهم عند التمعن فيها ، ولعلهم قالوه في موقف آخر.

أمّا الرواية الثانية فهي متهافتة بل مخترعة فيما نعتقد وهي مثال من أمثلة كثيرة من روايات الشيعة في سياق كثير من الآيات لأجل تأييد أهوائهم.

دلالة تكرار تحدي

الكفار بالقرآن

هذا ، ويلحظ أن تحدي القرآن للكفار بالإتيان بشيء مثل القرآن وتقريره الصريح والضمني بعجزهم عن ذلك قد توالى في السور الثلاث المتتابعة في النزول أي الإسراء ويونس وهود ، وهذا ، يعني أن موضوع الوحي القرآني كان من أهم مواضيع الجدل والمكابرة من قبل الكفار. وهذا مؤيد بكثرة ما حكاه القرآن من مواقف جدلهم ومكابرتهم إزاء القرآن. مما مرت منه أمثلة عديدة. والتحدي في الآية التي نحن في صددها قوي مفحم فالكفار يقولون إن القرآن مفترى وهذا يعني أن تقليده غير عسير ، فليأتوا بعشر سور مفتريات منه إذا استطاعوا.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)) [١٥ ـ ١٦]

(١) حبط : بمعنى بطل وذهب هدرا.

__________________

(١) انظر المصدر السابق نفسه.

٥١٢

تعليق على آية

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ

إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ)

في الآيتين تقرير بأن الذين يتوخون بما قد يعملون سعادة الحياة الدنيا وزهرتها والتمتع بالجاه والثروة والسلامة فيها فقط فإنهم قد ينالون جزاء عملهم فيها دون بخس ولا نقص ، ولكن أعمالهم هذه لن تنفعهم في الآخرة لأنها قد انحصرت في الدنيا وأغراضها واستهدفت النفع العاجل والجزاء السريع. فهي بالنسبة للاخرة باطلة معدومة الأثر ولن يكون لأصحابها إلّا النار لأنها لم تصدر عن إيمان بالله ورغبة في رضائه وتقواه وتنفيذ أوامره.

وواضح من فحوى الآيات وروحها أن الأعمال المذكورة فيها هي أعمال البر والخير التي يعملها بعض الناس ابتغاء للجزاء والذكر في الحياة الدنيا وحسب.

ولقد روى الطبرسي عن الجبائي أن المقصود بالذكر هم المنافقون الذين كانوا يغزون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للغنيمة دون نصرة الدين وليس من خلاف في مكية الآيات. ويكون هذا القول بناء ذلك من قبل التطبيق المتأخر.

وورود الآيتين عقب الآيات السابقة يلهم أنهما في صدد الكفار وفي سياق ما هو دائر بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجاج وجدل وهما والحالة هذه استمرار للسياق.

ويظهر أن الكفار كانوا يتبجحون بعمل بعض المكرمات ويظنون أن ما يسّره الله لهم من مال وجاء ورفاه بسبب ذلك فأريد الرد عليهم بما انطوى تقريره في الآية على النحو الذي شرحناه. وفي سورة (المؤمنون) آيات قد يكون فيها إشارة إلى ذلك وهي : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦).

والآيتان بالإضافة إلى كونهما في معرض الرد على الكفار والتنديد بهم فإن إطلاق الخطاب فيهما يجعلهما عامتي التوجيه لكل الناس. ويدخل في ذلك

٥١٣

المسلمون. وأنهما قد توختا أيضا كما يتبادر :

١ ـ تقرير ما للنية من أثر في عمل المرء ونتائجه.

٢ ـ دعوة الناس إلى عمل الخير والسير في طريق الحق والهدى لا بقصد الجزاء الدنيوي العاجل لأن هذا قد يحدث وقد لا يحدث ، وإذا حدث فلا يكون دليلا على أن قصد عمل الخير لذاته صادق ومخلص.

٣ ـ تثبيت فكرة الآخرة وتقرير وجوب الإيمان بالله ومراقبته وتقواه في ما يعمله المرء في الدنيا أملا في رضاء الله وغفرانه والسعادة الأخروية الخالدة. فإذا صدر المرء في عمله عن هذا القصد والأمل مع مرافقة الإيمان استوى عنده نيل الجزاء الدنيوي وعدمه وأقدم على عمل الخير لذاته ابتغاء رضاء الله ورضوانه. وفي هذه المقاصد من السمو والتلقين والتربية الأخلاقية ما هو رائع جليل.

ولقد أورد البغوي في صدد مدى الآية حديثا عن أنس بن مالك فيه توضيح وتبشير جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يظلم الله المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».

ولقد تكرر تقرير ما قررته الآية مرارا بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها حيث يفيد هذا أن حكمة التنزيل قد أسبغت على هذا الأمر خطورة لما فيه من تلقين جليل سام. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا عن أبي هريرة يفيد أن ما قررته يشمل أو يتناول الذين يعملون الأعمال الصالحة من المسلمين رياء مهما كانت أعمالهم.

وقد روى مسلم والنسائي والترمذي حديثا مقاربا لما ورد في الطبري عن أبي هريرة أيضا ، وقد جاء في حديث الترمذي : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ، قال قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ

٥١٤

القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنّك تعلّمت العلم ليقال عالم. وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه ، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال ما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» (١).

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)) [١٧]

(١) أولئك : راجعة على الأوجه إلى الذين هم على بينة من ربهم.

(٢) الأحزاب : تعني الفئات العديدة التي تتجمع لمقصد مشترك وتتحزب له. وهي هنا وفي الأماكن الأخرى من القرآن عنت الفئات التي تحزبت ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) مرية : شك وريب.

(٤) إنه الحق من ربك : قيل إن الجملة راجعة إلى الشاهد كما قيل إنها راجعة إلى الموعد. وقيل أيضا إنها راجعة إلى القرآن والقولان الأولان أكثر وجاهة وورودا في مقام الجملة.

تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون (٢) في الضمائر الواردة في الجملة الأولى من الآية وفي مداها. منها أن المقصود من (أفمن) هو جبريل أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو علي بن أبي طالب. ومنها أن معنى (ويتلوه) يؤيده ويتبعه. ومنها أن المقصود

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٥٠.

(٢) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

٥١٥

من (شاهد منه) هو القرآن أو جبريل أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو علي بن أبي طالب أو الإنجيل واسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقحم إقحاما بدون أي مناسبة. وهذا ديدن رواة الشيعة. والذي يتبادر لنا أنه الصواب استلهاما من فحوى الجملة وروحها وروح وفحوى الآية معا أي جملة (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) تعني الذين آمنوا بعد أن ظهرت لهم البينة والبرهان. وأن جملة (ويتلوه) يعني يؤيد ذلك البرهان وأن جملة (شاهِدٌ مِنْهُ) تعني القرآن ، ومن مرجحات ذلك الجملة التي بعدها والله أعلم.

وفي الآية :

١ ـ سؤال إنكاري ينطوي على نفي معقولية وإمكان التسوية بين المؤمنين والكافرين وتعليل ذلك بأن الأولين قد أدركوا الحقيقة الإلهية وصاروا منها على يقين وبينة وخاصة بعد ما جاءهم من ربهم شاهد ودليل وهو القرآن الذي سبقه شاهد ودليل آخر وهو كتاب موسى عليه‌السلام الذي أنزله الله كذلك إماما هاديا ورحمة فامنوا وصدقوا ، بعكس الآخرين الذين هم في غفلة عن هذا وضلال.

٢ ـ وإنذار لكل من كفر بالله تعالى ولم يصدق القرآن من مختلف الفئات بأن موعده ومصيره إلى النار.

٣ ـ وأمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو للسامع إطلاقا بأن لا يكون عنده أي شك وتردد في ذلك فهو الحق من الله ولو لم يؤمن به وصدقه أكثر الناس.

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية مدنية ، ويلحظ أنها منسجمة مع ما قبلها سياقا وموضوعا. وكذلك مع ما بعدها. وفيها معنى التعقيب على ما سبقها. وكل هذا يبرر الشك في صحة الرواية التي لم نطلع على تأييد لها. ونخشى أن تكون من موضوعات الشيعة لتبرير صرف (أَفَمَنْ) و (شاهِدٌ مِنْهُ) إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث كان في أوائل الإسلام التي نزلت السورة فيها ما يزال حدث السن.

٥١٦

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)) [١٨ ـ ٢٤]

(١) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا : قد تكررت هذه الجملة ، وهي في مقامها بمعنى (ليس من أحد أشد جرما وجورا ممن يفتري على الله الكذب).

(٢) الأشهاد : جمع شاهد أو شهيد وكلاهما بمعنى واحد. وربما أريد بهم الأنبياء أو الملائكة أو كلاهما حيث ورد في آيات أخرى أن النبيين وفي آيات أخرى أن الملائكة يشهدون محاسبة الناس على أعمالهم يوم القيامة وقد مرّت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها.

(٣) لم يكونوا معجزين : ليسوا معجزين الله عن قهرهم وإهلاكهم.

(٤) ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون : قيل إن (ما) هنا ليست للنفي وإن معنى الآية إنهم يعذبون لأنهم كانوا يستطيعون السمع فلم يسمعوا والرؤية فلم يبصروا. وقيل إن معناها ما داموا يسمعون ويبصرون فإنهم معذبون ، وقيل إنها للنفي وإنها تعني أنهم يعذبون لأنهم كانوا من شدة العناد والمكابرة إلى درجة أن يوصفوا بعدم استطاعة السمع والرؤية وهذا ما نراه الأوجه (١)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري فقد روى كل هذه الوجوه عن أهل التأويل.

٥١٧

(٥) لا جرم : جرم بمعنى قطع وكسب. ولكن التعبير صار كالمثل بمعنى حقا وبمعنى لا محالة.

(٦) أخبتوا : خشعوا أو أخلصوا أو خضعوا لله.

في الآيات حملة شديدة على المشركين وزعمائهم بخاصة ، فهي :

١ ـ تتساءل تساؤلا يتضمن التقرير والتوكيد بأنه ليس من أحد أعظم جرما وأشد ظلما من الذين يفترون على الله الكذب وتؤكد بأنهم سيقفون أمام الله فيشهد عليهم الأشهاد بأنهم هم الذين كذبوا على الله فيهتف باللعنة على الظالمين الذين كانوا كافرين بالآخرة والذين كانوا يمنعون الناس عن سبيل الله ويضعون العراقيل في طريق الدعوة إليه.

٢ ـ تؤكد أنهم لن يكون لهم أولياء ونصراء يحمونهم من نقمة الله وأن عذابهم سيكون مضاعفا لأنهم اشتدوا في تصاممهم عن سماع كلمة الحق وفي تعاميهم عن رؤية الحق حتى لقد كانوا في مثابة العاجزين عن السمع والإبصار ، وأنهم خسروا أنفسهم وغاب عنهم شركاؤهم الذين زعموها كذبا وافتراء.

٣ ـ تقرر أن من الطبيعي أن يكونوا الأخسرين في الآخرة. وأنهم إذا كانوا أهملوا في الدنيا فليس ذلك لأنهم كانوا معجزين الله فيها وإنما لأن حكمته اقتضت ذلك. واستطردت الآيات إلى ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخلصوا وخشعوا لله تعالى ذكرا تنويهيا بالمقابلة لذكر الكفار مما هو مألوف في النظم القرآني ، فقررت أنهم هم أصحاب الجنة الخالدون فيها ومثلت كلا من الفريقين بالبصير والأعمى والسميع والأصم وتساءلت تساؤلا فيه معنى التقرير بأنه لا يمكن أن يستوي الأعمى والبصير ولا السميع والأصمّ ، ودعت الناس بأسلوب الحث إلى التدبر والتذكر لاستبانة الحق من الباطل.

والكذب على الله في الآيات يعني عقيدة الشرك. والقرينة على ذلك هي جملة (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وجملة (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) تعني الزعماء الذين تولوا قيادة المناوأة للدعوة النبوية ومنع الناس من الاستجابة إليها. وهذا وذاك هو ما قصدناه في مطلع الشرح من جملة الآيات

٥١٨

على المشركين وزعمائهم بخاصة.

والمتمعن في الآيات يلمس ولا ريب شدة الحملة في التنديد والإنذار وتصوير ما سيكون من أمر الكفار وزعمائهم ، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوبهم وإيقاظ ضمائرهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والمتبادر كذلك أن الاستطراد التنويهي إلى ذكر المؤمنين قد تضمن تبشير هؤلاء وبث الطمأنينة في نفوسهم.

والآيات كما هو المتبادر استمرار لموقف الجدل والحجاج وتعقيب عليه. فبعد أن حكى في الآيات السابقة ما كان من أقوال الكفار وتحدياتهم جاءت الآيات تحمل عليهم هذه الحملة الشديدة. ولعل في ورود هذه الآيات عقب الآية السابقة قرينة على مكية هذه الآية التي ذكرت بعض الروايات أنها مدنية.

وروح الآيات وفحواها يتضمنان تقرير كون الذين استحقوا الجنة أو النار في الآخرة إنما استحقوها نتيجة لاختيارهم طريق الهدى أو الضلال في الدنيا. وهذا يوجب التأويل الذي أولناه لجملة (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا

٥١٩

فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)) [٢٥ ـ ٤٩]

(١) أراذلنا : الفئة الحقيرة الوضيعة.

٥٢٠