التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

وقد قال الطبرسي إن الآية الثانية أمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة المؤمنين للفرح والسرور بما شملهم الله من رحمته ومنحهم من فضله ، وتوكيد كون ما حصلوا عليه من ذلك هو خير مما يتمتع به الكفار ويملكونه ويجمعونه. ولا يخلو هذا من وجاهة ولا يتعارض مع ما شرحناه من مداها المستمر التلقين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)) [٥٩ الى ٦٠]

في الآية الأولى أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال الكفار بأسلوب تنديدي عما إذا كانوا يستندون في تحليلهم وتحريمهم رزق الله الذي رزقهم إياه إلى إذن الله وتعاليمه أم أنهم يفترون عليه ، والسؤال يتضمن تقرير كون ذلك منهم افتراء على الله. وفي الآية الثانية إنذار للذين يفترون على الله. فهل يظنون أنهم ينجون من عذاب الله ونكاله يوم القيامة ، والسؤال يتضمن نفي نجاتهم وقد ذكرت الفقرة الثانية من الآية بأسلوب تنديدي بما يغدقه الله من فضله على الناس وبعدم شكر أكثرهم لفضله إذ يقفون من آياته ورسله موقف الجاحد المناوئ.

والآيتان تنطويان على تقرير كون زعم المشركين بأن ما يحرمونه وما يحللونه نسبة إلى الله هو افتراء عليه وبدون أي سند وأنهم بذلك لا يتلقون نعم الله وأفضاله على وجهها الحقّ ويسيئون استعمالها.

ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيتين ، والمتبادر أنهما فصل من الفصول التي ما فتئت تحكي أقوال المشركين ومواقفهم على سبيل التنديد والتسفيه والإفحام. فهما والحالة هذه ليستا منقطعتين عن السياق وتوجيه الخطاب إلى مخاطبين كانوا يخاطبون قبلهما وهم الكفار قرينة على ذلك.

والآية الأولى تنطوي على صورة من صور ما كان عليه العرب من تقاليد دينية حيث كانوا يحرمون بعض الأنعام في ظروف خاصة ، أو يحظرونها على فريق

٤٨١

ويبيحونها لفريق ، ويعتبرون ذلك من التقاليد الدينية التي التي أمر الله بها وجرى الأجداد والآباء عليها ، وقد احتوت سورتا المائدة والأنعام آيات عديدة في صدد هذه التقاليد التي سوف نشرحها في سياق تفسير السورتين اللتين إحداهما في هذا الجزء.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)) [٦١]

(١) تفيضون فيه : تخوضون وتكثرون الحديث فيه.

(٢) يعزب : يغيب أو يضيع أو يذهب.

(٣) ذرّة : لغة هي واحدة من صغار النمل. وقد تكرر ورودها في القرآن للتعبير عن أخف شيء وزنا.

الضمير في فعلي (تكون) و(تتلو) عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قاله المفسرون. أما الضمائر الواردة في الفقرات الأخرى فهي عائدة إلى المخاطبين بالقرآن كما هو ظاهر.

وعلى كل حال فالآية بسبيل تقرير شمول علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء : فما من شأن يكون فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما من مجلس يتلو فيه قرآنا ، وما من عمل يعمله السامعون ، وما من حديث يخوضون فيه إلا هو مشهود من الله سبحانه وعلمه محيط به ومعلوم له ما فيه من نوايا ومقاصد ، فهو لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء في الأرض ولا في السماء ولو كان مثقال الذرة في الضؤولة أو أقل أو أكبر.

والآية معطوفة على ما قبلها وفيها معنى التعقيب على الآيات السابقة لها مباشرة. وفيها إنذار للناس في كل ظرف ومكان ليكون ما يقولون ويعملون مما يرضي الله ولا يسخطه.

٤٨٢

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)) [٦٢ الى ٦٤]

في الآيات هتاف تنويهي بأولياء الله تعالى وتطمين لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن وتعريفهم بأنهم المؤمنون المتقون ، وإعلان البشرى لهم في الحياة الدنيا والآخرة وتقرير كون ذلك حقا لهم عند الله الذي لا تبديل لكلماته ، وفي هذا ما فيه من الفوز العظيم.

تعليق على الآية

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

والآيتين التاليتين لها وما روي في صدد ذلك من أحاديث

روح الآيات ومضمونها متسقان مع الآيات السابقة سياقا وموضوعا كما يتبادر عند التمعن فيها. فقد نددت الآيات السابقة بالمفترين على الله المكذبين لرسالة نبيه وقرآنه وأنذرتهم فجاءت هذه لتنوّه بالذين استجابوا لهذه الرسالة وتولوا الله ورسوله. وبذلك يصح القول إنها جزء من السياق ولا سيما أنه لم ترو رواية خاصة في نزولها.

وجمع الإيمان مع التقوى في الآيات جدير بالتنبيه والتنويه ، من حيث كون الإيمان أمرا قلبيا وغيبيا وكون التقوى برهانا عليه يعني التزام كل ما أمر الله ورسوله به وكل ما نهيا عنه لينال المؤمن رضاء الله تعالى ويتفادى غضبه ولا يمكن أن تصح دعوى الإيمان إلّا به. ومن حيث إن التقوى بالتالي هي أعظم مظاهره على ما شرحناه شرحا أو في سياق سورة العلق.

وفي كتب التفسير (١) بعض الأحاديث في سياق هذه الآيات.

ومن ذلك في صدد الآية الأولى حديث في صيغ عديدة روى صيغة منها أبو

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن ، وقد استوعبها الطبري.

٤٨٣

داود عن عمر جاء فيها : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء ويغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانتهم من الله. قالوا يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فإنا نحبّهم لذلك. قال هم قوم تحابّوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها. فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢)» (١).

ويتبادر لنا أن الحديث لا يعني أن الفئة المذكورة فيها أعظم من الأنبياء والشهداء ، وكل ما يعنيه أنهم ذوو منزلة عظمى عند الله يمكن أن ينالها غير هاتين الطبقتين اللتين تكونان قلة على كل حال بالنسبة للمؤمنين الصالحين في الأجيال المتعاقبة التي لا تحصى إلى يوم القيامة. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشاهد الأخروية والأمور المغيبة فحكمة الحديث المتبادرة هي الحثّ على نيل هذه الدرجة بالتحلي بما فيها من صفات لا بد من أن الإيمان والتقوى منطويان فيها والتنويه بمن ينالها.

وفي صدد الآية الثالثة حديث في صيغ عديدة روى واحدة منها الترمذي والحاكم وصححها جاء فيه : «قال رجل من أهل مصر سألت أبا الدرداء عن هذه الآية قال ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها قال ما سألني عنها أحد منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» (٢).

ويلحظ أن هذه الآية معطوفة على سابقتيها ومبشرة بحسن منزلة أولياء الله في الدنيا والآخرة. ولا تبدو حكمة لتفسير البشرى الموعودة بالرؤيا الصالحة إلا أن يكون أريد بذلك زيادة التطمين والبشرى ، والله أعلم.

ولقد تطرق السيد رشيد رضا والسيد جمال القاسمي في تفسيريهما في سياق تفسير الآيات إلى الفئة التي اعتاد العوام أن يلقبوها بلقب ولي الله ويرووا عنها

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٧٦.

(٢) التاج ج ٤ ص ١٢٩.

٤٨٤

النوادر والكرامات ويلجأوا إليها لإخبارهم بالغيبيات وكشف ما يلم بهم من ملمات ويتخذوا قبورها مزارات وأماكن عبادة وتوسل واستغاثة وينذروا لها النذور. واعتاد أفراد منها أن يصنفوا أنفسهم صنوفا كالأقطاب والأوتاد والمرشدين وأن يتزيوا بأزياء خاصة ويتظاهروا بمظاهر عجيبة كثيرا ما تتناقض مع ما يقتضيه الإيمان والتقوى وأحكام القرآن والسنة. وينبهوا على أن الآيات لا تعني فئة محددة مثل هذه الفئة وحذروا الناس من ذلك ، وهذا حق وسديد. فليس في الآيات ولا في الأحاديث سند لمثل هذه المظاهر والمزاعم التي قد ينخدع بها الناص والتي قد يقعون بها في مزالق الشرك والله تعالى أعلم.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)) [٦٥ الى ٦٧]

(١) العزة : هنا بمعنى القوة والعظمة والملك الشامل.

(٢) يخرصون : يخمنون تخمينا لا يقين فيه ويظنون ظنا.

تأمر الآيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا يحزن من أقوال الكفار وتطمئنه بأن الكرامة والعزة والعظمة لله في كل ظرف وحال وهو سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يجري ، وتقرر هاتفة بأن كل من في السموات ومن في الأرض ملك لله خاضعون له ، وبأن الكفار الذين يدعون غيره لا يدعون في الحقيقة أحدا دعاء الواثق المستيقن من صحة وجوده وشركته مع الله وإنما هم متوهمون توهما ومخمنون تخمينا. وتشير إلى مظهر من مظاهر قدرة الله كدليل على كونه المتصرف وحده في الكون فهو الذي جعل الليل مظلما ليسكنوا فيه وجعل النهار منيرا ليسعوا فيه. وفي

٤٨٥

هذا آيات ربانية لمن يريد أن يسمع ويرى ويتدبر الأمر دونما عناد ومكابرة.

والآيات كما هو المتبادر من روحها وعطفها على ما سبقها مفصلة بالسياق وفيها استمرار لحكاية مواقف الكفار وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير واقع الأمر من شرك المشركين.

ولقد كان المشركون يعترفون بكون الله تعالى هو وحده خالق الكون ومدبره ومبدع نواميسه المتصرف فيه ، فجاءت الآية الثالثة تذكر مظهرا من مظاهر ذلك مذكرة منددة ، ولقد جرى النظم القرآني على ذكر بعض المظاهر الكونية دون بعض على سبيل الاستشهاد والتذكير ولا تعني حصرا ، وما احتوته الآية الثالثة من هذا الباب.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)) [٦٨ الى ٧٠]

(١) إن عندكم من سلطان بهذا : ليس عندكم برهان ولا حجة على هذا.

تحكي الآيات عقيدة المشركين باتخاذ الله ولدا وتنزهه عن ذلك وتقرر أنه غني عنه لأن له ما في السموات والأرض وليس في حاجة إلى ولد يساعده أو ولي ينصره أو شريك يسنده ، وتؤكد بأن ما يقولونه غير مستند إلى علم وبرهان وإنما هو كذب وافتراء على الله ، وتنذرهم بأن مرجعهم إلى الله بعد متاع الحياة الدنيا القصير فيذيقهم جزاء افترائهم وكذبهم عذابه الشديد.

والآيات كذلك متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وفيها تزييف لعقيدة اتخاذ الله ولدا بأسلوب قوي المنطق والإلزام.

والمتبادر أن ما حكته عن هذه العقيدة يعني عقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله وكلمة الولد تطلق على الذكر والأنثى والمفرد والجمع.

٤٨٦

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)) [٧١ الى ٧٣]

(١) أجمعوا أمركم وشركاءكم : تفاوضوا واتفقوا مع شركائكم على الموقف وأجمعوا كلمتكم فيه.

(٢) غمة : مستورا أو مبهما أو مغطى.

(٣) اقضوا إليّ : أبلغوني بما تقررون أو اقضوا عليّ.

(٤) ولا تنظروني : ولا تمهلوني.

(٥) خلائف : خلفاء في الأرض بعد الهالكين منهم.

تعليق على قصة

نوح عليه‌السلام

هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت على العادة القرآنية التي جرت عقب أكثر مواقف الجدل والحجاج والتعجيز والتحدي التي كانت تقوم بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار لتضرب لهم المثل وتذكرهم بمواقف ومصائر من سبقهم من أمثالهم فهي والحالة هذه متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وتذكير.

والحلقة تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يذكرهم بنبإ نوح وما كان من نجاته مع من آمن معه وهلاك الكافرين ، والآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ، وفيها بشرى وتثبيت وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وإنذار للكفار.

والبداية التي بدئت بها السلسلة تؤكد ما قلناه مرارا من هدف القصص القرآنية وحكمة تكرارها ، فالقصص للعبرة والتذكير والتمثيل والتكرار لتجدد المواقف وتكررها.

٤٨٧

وقصة نوح عليه‌السلام مقتضبة هنا ، ولقد جاءت هذه القصة مفصلة في سور كما جاءت مقتضبة في سور أخرى حسب مقتضى حكمة التنزيل ولقد سبق شرح لقصة نوح في سور سبق تفسيرها فلم يعد ضرورة لشرح جديد.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)) [٧٤]

(١) نطبع : بمعنى نختم ونغلق ، والطبع والختم على القلوب تعبير مجازي يراد به معنى إغلاقها عن فهم ما يخاطب به أصحابها.

في الآية إشارة مقتضبة إلى ما كان من إرسال الله الرسل إلى أقوامهم من بعد نوح عليه‌السلام وإلى ما كان من تكذيبهم للرسل كما كذب الذين من قبلهم وعدم إيمانهم.

وخاتمة الآية تقرر أن المعتدين هم الذين كذبوا أولا وآخرا أي أن انحرافهم وفسادهم هما اللذان ساقاهم إلى الكفر والتكذيب. ولذلك طبع الله على قلوبهم. والعبارة من باب عبارة آية سابقة في هذه السورة وهي : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) وما قلناه في سياقها يقال هنا بطبيعة الحال فلا حاجة إلى التكرار.

وقد هدفت الآية إلى تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكرها مواقف ذوي النيات السيئة الناشزين من الأمم السابقة من رسلهم ليعرف من ذلك أن مواقف ذوي النيات السيئة من قومه ليست بدعا.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ

٤٨٨

آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)) [٧٥ الى ٩٣]

(١) أن يفتنهم : أن يعذبهم ويردهم عن الإيمان قهرا.

(٢) من المسرفين : المتجاوزين الحدّ في العتوّ والبغي.

(٣) تبوّأا : هيأ واختارا.

(٤) عدوا : عدوانا واعتداء.

(٥) بوّأنا : مكّنا وخوّلنا وهيأنا.

٤٨٩

تعليق على آيات قصة موسى

وفرعون وبني إسرائيل

والآيات هي الحلقة الثالثة من سلسلة القصص ، وفيها قصة رسالة موسى وهرون عليهما‌السلام إلى فرعون وقومه ونتائجها. ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد وردت هذه القصة في سور سابقة مسهبة ومقتضبة ، وهي هنا بين بين ، حسب ما اقتضته حكمة التنزيل.

ومن الجديد فيها ذكر إيمان ذرية من قوم موسى به. وقد تعدد تأويل ذلك حيث أوله بعضهم بأنهم بنو إسرائيل في زمن موسى على اعتبارهم ذرية من قومه وحيث أوله بعضهم بأنهم جماعة من نسل بني إسرائيل من القبطيات أو من نسل الأقباط من الإسرائيليات. ورجح الطبري الأول وهو الأوجه ، وقد ذكر إيمان بني إسرائيل برسالة موسى ضمنا في السور التي سبق تفسيرها وذكر ذلك في سفري الخروج والعدد اللذين ذكر فيهما رسالة موسى عليه‌السلام مفصلة.

ومن الجديد أمر الله لموسى وهرون بأن يبنوا لقومهما بيوتا يجعلونها قبلة ، وقد تعدد تأويل ذلك كذلك حيث أولها بعضهم بجعلها في اتجاه الكعبة وبعضهم بجعلها مساجد لأنهم كانوا يخافون أن يصلوا لله وحده في معابدهم السابقة. وكلا التأويلين وارد من ناحية الدلالة اللفظية ولم ترد إشارة إلى ذلك في الأسفار المتداولة اليوم ، ونعتقد أنه لا بد من أن يكون شيء ما يفيد ما قصدته الجملة القرآنية واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا.

ومن الجديد حكاية حث موسى قومه على التوكل على الله إن كانوا آمنوا حقا ودعاء بني إسرائيل لله بتنجيتهم من الكافرين وعدم جعلهم فتنة للظالمين. ثم دعاء موسى وهرون على فرعون وملأه بطمس أموالهم والتشديد على قلوبهم لأنهم لن يؤمنوا ما لم يروا عذاب الله الأليم. ولم يرد ذلك في الأسفار المتداولة. ونعتقد كذلك أنه لا بد من أن يكون واردا في أسفار أخرى. ولقد روى الطبري وغير واحد عن قتادة أن حروثهم صارت حجارة وعن مجاهد أن الله قد حول ما يملكون من

٤٩٠

أموال وحروث إلى حجارة وأن هذا هو معنى الطمس. ونعتقد أن هذا مما كان يخبر به اليهود استنادا إلى أسفار وقراطيس كانوا يتداولونها.

ولقد أوّل المؤولون جملة (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨٥) بمعنى لا تنصرهم علينا حتى لا يظنوا أنهم على حق ونحن على باطل ، وهو تأويل وجيه.

ومن الجديد ما حكي عن فرعون عند غرقه من إعلان الإيمان بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وخطاب الله التنديدي له وإيذانه بأنه سينجي بدنه ليكون آية لمن بعده. ولم يرد هذا في الأسفار المتداولة ونعتقد أنه كان واردا في أسفار وقراطيس يهودية أخرى وكان مما يتداوله اليهود وبقية ما جاء في الآيات جاء ما يتساوق معه في سور سبق تفسيرها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.

ومن مواضع العبرة في الآيات بالإضافة إلى مقام ورودها في حلقة قصصية بعد ذكر مواقف كفار العرب للتمثيل لهم وتذكيرهم وإنذارهم والتنديد بهم وتثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتطمينهم بصورة عامة حكاية إعلان موسى للسحرة بأن ما جاؤوا به من السحر سيبطله الله لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. حيث ينطوي في هذا شجب السحر والشعوذة والفساد مما فيه تلقين مستمر المدى. ومثل هذا أيضا في جملة (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). (٨٢) وحكاية حث موسى قومه على التوكل على الله إن كانوا آمنوا حقا ودعائهم لله بتنجيتهم من الكافرين وعدم جعلهم فتنة للظالمين حيث ينطوي في هذا تثبت وتطمين وتعليم للنبي والمؤمنين تجاه مواقف المشركين. وحكاية عدم قبول الله إيمان فرعون عند غرقه حيث ينطوي في هذا تمثيل إنذاري للكفار بالحقيقة التي عرفها فرعون القوي بالنسبة إليهم وبعدم نفعه معرفته لها لأنها جاءت بعد فوات الوقت. وحكاية دعاء موسى وهرون على فرعون وملأه واستجابة الله لدعائهما حيث ينطوي في هذا إنذار للكفار أيضا. وحكاية إيذان الله عزوجل بأنه بوّأ بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وقومه مكانة عزيزة ورزقهم من الطيبات قبل أن يختلفوا وينحرفوا حيث ينطوي في هذا تبشير وتحذير للمسلمين.

٤٩١

ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس أن الاختلاف المذكور في الآية الأخيرة هو اختلاف بني إسرائيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن المقصود بالعلم هو القرآن ، غير أن معظم المفسرين بما فيهم الذين رووا ذلك رجحوا كون الاختلاف هو ما كان فيما بينهم. وهذا هو الأوجه الذي يلهمه مضمون الآية نفسها ويؤيده آيات عديدة أخرى مكية ومدنية منها آية سورة النمل التي مر تفسيرها والتي جاء فيها : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦).

وفي الآية على ما يتبادر معنى التنديد ببني إسرائيل وبخاصة بعلمائهم ، فالمقتضى أن يكون العلم سببا للوفاق لأنه يحسم الخلاف الذي يقوم على الظن والتخمين والاختلاف بعده شذوذ عن المقتضى الحق. ويكون هذا الشذوذ ناشئا عن الولع بالتأويل والتخريج المتناقضين مع المبادئ والأسس التي جاء بها رسلهم من الله لأنها من حيث الجوهر لا تتحمل خلافا ولا نزاعا.

ولقد كان العرب متصلين باليهود في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وواقفين على ما هم عليه من خلاف ونزاع ، فكان هذا يثير فيهم العجب والاستغراب ويحدوهم إلى الاحتجاج به في سياق ما كان يقوم بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نقاش وحجاج ، وحينما كان القرآن يستشهد بأهل الكتاب الذين منهم اليهود على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني ، فأريد بهذه الآية وما جاء من بابها بيان حقيقة الأمر ووضعه في نصابه الحق. ولا تخلو العبارة القرآنية من تحذير وتلقين مستمري المدى موجهين إلى المسلمين في كل ظرف ومكان حتى لا يحذو حذوهم في الاختلاف في التأويل والتخريج أتباع الأهواء إلى الحد الذي يخرجهم عن مقتضى العلم والحق.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا

٤٩٢

يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)) [٩٤ الى ٩٧]

(١) من الممترين : من الشاكين المجادلين.

تعليق على الآية

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ)

والآيات الثلاث التالية لها

في الآيات خطاب رباني موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه إذا كان في شك من صحة ما أنزل عليه فعليه أن يسأل الذين يقرأون الكتب السماوية المنزّلة قبله ليتأكد من ذلك. وتوكيد بأن ما جاءه هو الحق من ربه. ونهى عن الشك والمراء فيه ، وعن الوقوف منه موقف المكذبين بايات الله الشاكين في صدقها فيكون من الخاسرين. وتقرير رباني بأن الذين حقّ عليهم قضاء الله لا يصدقون ولا يؤمنون مهما سمعوا من الآيات ورأوا من الدلائل حتى يروا العذاب الأليم وحينئذ لا يكون تصديقهم مجديا.

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات ، والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآيات الثلاث الأولى مدنيات ولم نطلع على تأييد لهذه الرواية. والملحوظ أنها تضمنت معنى التعقيب على الآيات السابقة وأنها منسجمة مع السياق الذي قبلها والذي بعدها وأن الآية الرابعة بخاصة متصلة بها بل متممة لها. وكل هذا يسوغ الشك في صحة الرواية وتقرير كون الآيات الثلاث متصلة بالسياق واستمرار له.

وصيغة الآية الأولى تتضمن تقريرا إيجابيا بأن المطلعين على الكتب السماوية السابقة سيشهدون حتما بصحة ما أنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلهم الوثوق واليقين التامين للسامع أيضا. أما الآيتان الأخيرتان فإنهما ليستا في صدد تقرير كون الله قد حتم على الكفار الكفر ففقد الأمل بإيمانهم ، وإنما هما في صدد تصوير شدة عناد

٤٩٣

الكفار وجحودهم ، وقد تكررت هذه المعاني بمثل هذا الأسلوب وعلقنا عليها في مناسبات مماثلة بما فيه الكفاية وعلى كل حال فإن الأولى أن تفسر على ضوء الآية [٣٣] من هذه السورة التي جاء فيها : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) والتي شرحناها شرحا شافيا يغني عن التكرار وأمثالها التي فيها تقييد لما جاء مطلقا في الآيات.

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل في مدى الجملة الأولى من الآية الأولى ، فمن ذلك أنها في صدد نبوة النبي وصفاته. ومن ذلك أنها في صدد ما أوحي إلى النبي من القرآن. ونحن نرجح القول الثاني لاتصاله بسياق الآيات. وتعددت الأقوال كذلك التي يرويها المفسرون في المخاطب في الآيتين الأولى والثانية حيث روي أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي أنه السامع مطلقا ، أو أنه المسلم بخاصة. وقد خرج أصحاب القول الأول ذلك على اعتبار أنه على سبيل التثبيت والتطمين وبثّ اليقين ، ونفوا أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شك أو سأل بل ورووا عن قتادة أنه قال بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أشك ولا أسأل». ومع أن القول الثاني وارد ووجيه فإننا نرجح القول الأول بقرينة العبارة (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) التي يبدو منها بكل قوة أنها موجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع قولنا إن هذا الأسلوب من أساليب القرآن المألوفة ومنه آيات سورة القصص [٨٦ ـ ٨٨] التي مر تفسيرها. ومع تصويبنا بكل قوة تخريج القائلين بالقول الأول ونفيهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي شك وسؤال. ومع قولنا أن من واجب المسلم الإيماني استبعاد احتمال انبثاق أي شك ومراء وتكذيب في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أنزل إليه لأن ذلك مناقض للعصمة النبوية الواجب الإيمان بها. وللإيمان العميق النبوي بصدق نبوته وبما كان يوحى إليه والذي امتلأ به قلبه. وللإسلام التام الذي أسلم به نفسه لربّه وللاستغراق الشديد الذي استغرقه في مهمته العظمى وللكمال النفسي والخلقي الذي تحلى به وجعله أهلا لاصطفاء الله له للرسالة العظمى مما قررته آيات كثيرة بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها وعلقنا عليها في سور سبق تفسيرها.

٤٩٤

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)) [٩٨]

(١) فلو لا : هنا بمعنى هلا للحض وقيل للتنديد (١).

(٢) إلّا : هنا بمعنى لكنّ (٢).

في الآية تنديد بالقرى أو الأمم السابقة التي أهلكها الله لعدم إيمانها فلو آمنت لكان إيمانها نفعها ونجاها من عذاب الله. وتذكير بقوم يونس الذين آمنوا فكشف الله عنهم العذاب الذي كاد يحيق بهم ويخزيهم ، ومتعهم متاعا حسنا إلى أجلهم المعين في علم الله.

وقد جاءت الآية على ما هو المتبادر معقبة على ما سبقها تعقيب تنديد وحض معا وتضمنت إنذارا للسامعين بما كان من أمر القرى السابقة ، وحثا لهم على أن يتلافوا أمرهم قبل فوات الوقت كما فعل قوم يونس فينجوا من عذاب الله وهلاكه.

وروح الآية تلهم أن شأن قوم يونس لم يكن مجهولا من السامعين وهو ما نبهنا عليه وشرحناه في تفسير سورة القلم ، وبذلك تستحكم العبرة في التمثيل والتذكير.

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية قصة يونس مسهبة مروية عن أهل الأخبار والتابعين. وما أوردوه متطابق في جملته مع ما ورد في سفر يونان من الأسفار المتداولة اليوم الذي ورد فيه قصة يونس مما فيه دلالة أخرى على أن هذه القصة كانت متداولة ومعروفة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفصيلها الوارد في السفر المذكور.

ولقد شرحنا شيئا من هذه القصة في سياق سورة القلم التي وردت في إشارة

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبرسي والبغوي والزمخشري.

(٢) انظر تفسير الآية في تفسير الطبرسي والبغوي والزمخشري.

٤٩٥

إلى يونس عليه‌السلام بعبارة صاحب الحوت ومما رأينا فيه الكفاية. ولم نر أن نجاري المفسرين فنسرد هذه القصة بإسهاب لأن القرآن إنما أورد منها ما فيه تحقيق الغاية من القصص القرآني وهو العبرة والتذكير.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)) [٩٩ الى ١٠٣]

(١) الرجس : هنا بمعنى الخزي والخذلان أو العذاب.

(٢) حقا : منصوبة على أنها مفعول مطلق لفعل مضمر تقديره يحق علينا حقا.

(٣) ننج : مخففة من ننجي.

في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى لو شاء لآمن من في الأرض جميعا ، وسؤال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما إذا كان هو مع ذلك يريد أن يرغم الناس جميعا على الإيمان ، وتقرير رباني آخر بأنه ليس لأحد أن يؤمن إلّا بإذن الله وتوفيقه ، وأن الذين لا يعقلون ولا يتدبرون في دعوة الله وآياته يتعرضون لخزي الله وخذلانه وغضبه وعذابه ، وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفت نظر الناس إلى ما في السموات والأرض من آيات الله ، وتقرير بأن الذين لا يؤمنون لا يمكن أن ينتفعوا بآيات الله ونذره ولن يجدي ذلك فيهم ، وتساؤل عما إذا كان كل ما ينتظره الجاحدون هو عذاب الله الذي حلّ في أمثالهم من قبل ، وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستمهالهم وإعلانهم بأنه منتظر معهم أمر الله ، وإشارة إلى أن الله تعالى سينجي رسله والذين آمنوا معهم

٤٩٦

حينما يحين وقوع العذاب على الكفار ويتحقق وعيده لهم ، وأن ذلك حق لهم عليه.

تعليق على الآية

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)

والآيات الأربع التالية لها

ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات ، والمتبادر أنها هي الأخرى جاءت معقبة على الفصول السابقة التي حكت أقوال الكفار ومواقفهم وحجاجهم ثم على الفصول القصصية التذكيرية والتمثيلية التي أعقبتها بقصد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإدخال الطمأنينة على قلبه وتخفيف حزنه من عدم إيمان أكثر الناس الذي كان شديد الحرص عليه من جهة ، والتنديد بالكفار وعقولهم وغفلتهم عما في السموات والأرض من آيات الله الباهرة الدالة على وحدانيته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع ووصف شدة عنادهم وتصميمهم على عدم الإيمان من جهة ، وتبشير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالنجاة من جهة.

وعلى ضوء هذا الشرح المستلهم بقوة من فحوى الآيات وروحها لا يبقى محل للتوهم بما قد يفيده ظاهر نص الآية الأولى والآية الثالثة من كون عدم إيمان الذين لم يؤمنوا هو بسبب عدم مشيئة الله. فالله لم يشأ أن يقرهم على الإيمان وهو قادر بل تركهم لتمييزهم واختيارهم ليستحقوا الثواب والعقاب عدلا.

ومثل هذه التقريرات والتنبيهات والتطمينات والإنذارات تكرر كثيرا لنفس المقاصد مما مرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها.

والآيتان الأولى والثانية تضمنتا بالإضافة إلى ما ذكرناه طبيعة مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي دعوة الناس وإرشادهم وتبشيرهم وإنذارهم ثم تركهم إلى عقولهم وضمائرهم من دون إلحاح ولا تشديد. وتقرير كونه ليس عليه من ذلك مسؤولية ولا تثريب. فالناس فريقان إزاء الدعوة فذوو العقول السليمة والنيات الحسنة هم الذين يدركون

٤٩٧

ما فيها من حق وخير فيستجيبون إليها. وذوو العقول السقيمة والنيات السيئة يقفون منها موقف المعاند المكابر. وهذا التفاوت والتباين مظهر من مظاهر حكمة الله وخلقه. والله قادر على جعل الناس جميعهم مؤمنين ولكن حكمته شاءت تركهم إلى عقولهم وضمائرهم. وقد تكرر تقرير هذا بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها أيضا.

ولقد آمن بعد هذه الآيات كثيرون من الذين وصفوا بما وصفوا فيها حيث يصح أن يقال إن الآيات من ناحية ما قد احتوت تسجيلا لواقع الأمر عند نزولها بالإضافة إلى ما احتوته من تقريرات وانطوى فيها من مقاصد وتنبيهات.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)) [١٠٤ الى ١٠٩]

الآيات واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء آخر ، ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولها. والمتبادر أنها جاءت خاتمة لفصول المناظرة والحجاج التي احتوتها آيات السورة فصلا بعد فصل. ومعقبة على الآيات السابقة لها مباشرة ومؤيدة لما انطوى فيها من أهداف ، وهي خاتمة قوية محكمة. وقد احتوت شرحا جديدا لمهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقريرا لطبيعة رسالته ، وبأسلوب واضح قوي ومؤثر من جهة وتطمينا لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيتا له وبثّا للسكينة في روعه من جهة أخرى. وفي الآية [١٠٨] دعم قوي للتأويل الذي أولنا به جملة : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

٤٩٨

الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) التي وردت في الآيات السابقة. فالله قد أنزل للناس الحق بواسطة رسوله ثم تركهم لاختيارهم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها.

وفي الآيات نهي موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشرك وإنذار له بأنه إن فعل يكون ظالما ، وقد ورد في آيات سابقة قريبة شيء مماثل لذلك كما جاء شيء من مثل ذلك في آخر سورة القصص التي مر تفسيرها وعلقنا عليه بما يزيل أي توهم باحتمال وقوع ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما قلناه هناك يقال هنا بطبيعة الحال.

تعليق على كلمة الحنيف

وبمناسبة ورود كلمة (حنيفا) لأول مرة نقول : إن هذه الكلمة قد تكررت كثيرا في القرآن وبخاصة في صدد وصف ملة إبراهيم عليه‌السلام ، ووردت بدون ذكره أيضا كما هو الأمر هنا. وقد قال المفسرون إنها من (حنف) بمعنى مال أو انحرف وإنها في القرآن بمعنى المنحرف عن الشرك إلى التوحيد ، كما قالوا إنها من الأضداد تجيء بمعنى استقام كما تجيء بمعنى مال أو انحرف (١). وقد ورد في كتب اللغة اشتقاق (تحنف) مرادفا لكلمة تحنث أي تعبد وتورع كما ذكرت الكتب العربية كلمة (الحنيفية) وصفا لملة إبراهيم عليه‌السلام (٢). ولقد أعاد بعض المستشرقين وأبدوا في أصل الكلمة ومدلولها ومعناها. ومنهم من ذهب إلى أنها كانت تعني مذهبا دينيا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته ، وأنه كان هناك طائفة أو فرقة تسمى (الحنفاء) ومنهم من قال إن الكلمة أعجمية دون أن يذكروا اسم اللغة المقتبسة منها. ومنهم من قال إنها منحوتة من (بني حنيفة) التي ظهر فيها مسيلمة النبي الكذاب وإنها تعني الدين الذي دعا إليه. بل ومنهم من زعم أن معناها لم يكن مجلوا تمام الجلاء في ذهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر تفسير آية البقرة [١٣٥] في تفسير الطبرسي والزمخشري والمنار.

(٢) انظر مادة حنف في أساس البلاغة للزمخشري وفي لسان العرب.

٤٩٩

وننبه إلى أن روح ومضمون الآيات التي وردت فيها وبخاصة التي لم يرد ذكر إبراهيم عليه‌السلام فيها مثل الآية التي نحن في صددها ، ومثل آية سورة الحج هذه : (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١) يلهمان أن معناها الاستقامة على توحيد الله والاتجاه إليه وحده وعدم الشرك به بصورة عامة ، والقول إن معناها لم يكن مجلوا في ذهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاحة أكثر منها أي شيء آخر ، ويظهر هذا في وضوح معنى الكلمة في آيات القرآن التي وردت فيها. والقول إنها أعجمية غريب وبخاصة إذا لاحظنا أن العرب كانوا يتسمون باشتقاقها ويعنون ما يريدون من التسمية كالأحنف والحنفاء ، والقول إنها منحوتة من بني حنيفة سخيف لأن الكلمة استعملت في القرآن قبل ظهور مسيلمة بني حنيفة.

على أن استعمالها في وصف ملة إبراهيم عليه‌السلام وفي مقام التعبير عن التوحيد والاستقامة عليها أو الانحراف عن الشرك والدين الباطل وفي مقام التعبد والتورع يدل على أنها كانت تستعمل قبل نزول القرآن في معنى ديني خاص أو وصف ديني خاص ، ولا نستبعد أن تكون أطلقت أو أطلق جمعها على الذين تخلوا عن دين الجاهلية وشركها ووثنيتها واتجهوا إلى الله وعبدوه على ملة إبراهيم الحنيفية ، أو ما ظنوه كذلك موحدين غير مشركين على ما ذكرته الروايات وفصلناه في كتابنا عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته قبل البعثة (١).

__________________

(١) انظر عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته قبل البعثة ص ٤١٩ ـ ٤٣٤.

٥٠٠