التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

السلام هي الجنة. وقال البغوي إلى هذا وقيل إن الجنة وصفت بدار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضا والملائكة يحيونهم بالسلام على ما جاء في آيات عديدة منها الآية [١٠] من هذه السورة.

على أنه يتبادر لنا مع ذلك أن التعبير ينطوي على معنى تطمين عام بأن الله تعالى إنما يدعو الناس إلى كل ما فيه سلامهم ونجاتهم وطمأنينتهم وأمنهم والله أعلم.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)) [٢٦ الى ٢٧]

(١) يرهق : يغشى أو يلمّ أو يلحق أذى وشدة ، والإرهاق أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه ، وفي سورة الكهف آية فيها هذا المعنى : (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣).

(٢) قتر : دخان النار وسخامها.

(٣) عاصم : مانع أو ملجأ ويمنع العذاب عن مستحقه.

في الآيات بيان لمصير المحسنين والمسيئين في الآخرة ، فللأولين الحسنى وزيادة ، فلا يغشى وجوههم قتر النار ولا تتلوث بسخامها ولا يصيبهم هوان ويكونون خالدين في الجنات ، وللآخرين جزاء سيء من جزاء عملهم ولهم الذل والهوان ولن يجدوا لهم من الله عاصما ، ويشتد سواد وجوههم من القتر والسخام ويكونون خالدين في النار.

والآيات جاءت كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها وهي والحالة هذه

٤٦١

متصلة بها واستمرار لها ، وقد انطوى فيها تنويه بالمهتدين المحسنين وتطمين لهم وإنذار للكفار المسيئين وتنديد لهم.

وإطلاق الكلام فيها يجعلها كسابقاتها عامة التوجيه والتبشير والإنذار لكل الناس في كل ظرف كما هو المتبادر.

ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم أن الزيادة المذكورة في الآية الأولى هي رؤية الله عزوجل. وأوردوا أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. ومن الأول حديث رواه الترمذي ومسلم عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، قالوا ألم تبيّض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة. قال فيكشف الحجاج فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحبّ إليهم من النظر إليه» (١). ومن الثاني حديث عن أبيّ بن كعب جاء فيه : «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله» (٢).

ولقد أنكر الزمخشري صحة الأحاديث ووصف القول بإمكان رؤية الله تعالى بأنه قول المشبهة لأن في ذلك تجسيدا لله تنزه عنه سبحانه.

وهذه المسألة من المسائل الخلافية في المذاهب الكلامية الإسلامية وقد شرحناها وعلقنا عليها في سياق تفسير سورة القيامة بما يغني عن التكرار. على أن الطبري والبغوي وغيرهما رووا تأويلات أخرى للكلمة منها أن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب عزوا إلى علي بن أبي طالب ، ومنها أنها زيادة في غفران الله ورحمته ومضاعفة أجر الحسنات أضعافا كثيرة عزوا إلى ابن عباس والحسن وقتادة. وإذا صحت هذه الأقوال فإن هذا يفيد أن قائليها لم يثبت عندهم الأحاديث التي تفسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى.

ويتبادر لنا أن تأويل الكلمة في مقامها بمعنى مضاعفة الأجر وزيادة رحمة الله

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٢٩.

(٢) النص من الطبري ، وفي الطبري حديث آخر من هذا الباب عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٦٢

هو الأوجه ، وأن هدف الآيتين على كل حال هو ما نبهنا عليه من تبشير وتطمين للمحسنين وإنذار وترهيب للمسيئين بأسلوبهما القوي ليغتبط الأولون ويستمروا على سيرتهم ويرتدع الآخرون ويثوبوا إلى الله والله أعلم.

وحديث الترمذي ومسلم الذي بعد من الصحاح ليس في صدد تفسير الآية ، وفيه مشهد أخروي والواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن وثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشاهد الأخروية والوقوف عند ذلك دون تزيد وجدل مع استشفاف الحكمة. ومن الحكمة المتبادرة في الحديث التطمين والتبشير والله أعلم.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)) [٢٨ الى ٣٠]

(١) زيلنا : فرقنا وحجزنا.

(٢) تبلوا : تختبر وتذوق.

(٣) ضل عنهم : غاب عنهم أو بطلت دعواهم.

في الآيات تصوير لما يكون من موقف المحاجة بين الله تعالى من جهة والمشركين وشركائهم من جهة أخرى ، حيث يأتي الله سبحانه بالمشركين والشركاء ويوقفهم بين يديه كلا على حدة ، وحيث ينكر الشركاء عبادة المشركين إياهم وصلتهم بهم ويستشهدون الله على براءتهم من ذلك وعدم علمهم بعبادتهم لهم ، وحيث ترى بعد ذلك كل نفس نتيجة عملها وتتحمل تبعة ما قدمت ، وحيث يقضي الله عزوجل الذي هو مولاهم الحق في أمرهم ، وحيث يغيب عن المشركين شركاؤهم الذين كانوا يأملون فيهم الشفاعة والنفع وينكرونهم أو يفرون منهم.

والآيات استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر والتصوير قوي مؤثر أريد به

٤٦٣

فيما أريد بيان ما عليه المشركون من خطأ وسخف وما ينتظرهم من هوان وعذاب بسبيل حملهم على الارعواء والارتداع.

وهذه هي المرة الثانية التي يحكي فيها جمع المشركين مع شركائهم يوم القيامة وتنصل هؤلاء منهم حيث حكي ذلك لأول مرة في سورة الفرقان التي مرّ تفسيرها. وقد استلهمنا من آية سورة الفرقان أن الشركاء المعنيين هم الملائكة وقد تلهم الآية التي نحن في صددها هذا أيضا. لأن الشركاء يستشهدون الله على كذب المشركين ويتنصلون منهم. وواجب المسلم أن يؤمن بما أخبر به القرآن من المشهد الأخروي في هذه الآية وأمثالها مع استشفاف الحكمة من ذكره مرارا ، والمتبادر أن من هذه الحكمة تسفيه المشركين وجعلهم يتيقنون من عدم جدوى شركهم بهم عند الله ليرتدعوا ويرعووا ويتوبوا والله أعلم.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)) [٣١ الى ٣٦]

(١) فأنّى تصرفون : فأين تذهبون وتنصرفون في تفكيركم الخاطئ.

(٢) فسقوا : تمردوا وعصوا وانحرفوا.

(٣) فأنّى تؤفكون : بمعنى «فأنى تصرفون».

(٤) يهدّي : يهتدي.

٤٦٤

معاني الآيات واضحة ، وقد احتوت الأولى والرابعة والخامسة منها أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه أسئلة استنكارية إلى المشركين عن المتصرف في الكون المدبر لكل أموره الخالق الرازق القادر على إخراج الحي من الميت والميت من الحي ، المبدئ المعيد الهادي إلى الحق ، وعما إذا كان من شركائهم من يقدر على ذلك ، كما احتوت تقريرا بواقع الأمر من اعترافهم بأن الله عزوجل هو وحده الذي يقدر على ذلك ويفعله ، وتقريعا لهم على انصرافهم مع ذلك عن مستلزمات هذا الاعتراف وعدم تقواهم الله تعالى ووقوفهم منه موقف الجاحد وإشراكهم معه في الاتجاه والخضوع شركاء عاجزين عن أي شيء من ذلك.

واحتوت الآية الثانية تقريرا ربانيا مباشرا بأن الله الذي يعترفون بشمول قدرته ومطلق تصرفه هو الرب الحق وأن ما دونه هو الضلال المحض.

واحتوت الآية الثالثة تقريرا مماثلا بأن كلمة الله بعدم الهداية والإيمان إنما تحق على الفاسقين.

واحتوت الآية السادسة تقريرا مماثلا كذلك بأن المشركين لا يستندون في شركهم إلى عقل ومنطق وإنما يسيرون وراء الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا.

وقوة الإفحام والإلزام في الآيات ملموسة ، وقد ازدادت بكون المشركين لا ينكرون أن الله تعالى هو الرب الأعظم الخالق الرازق المدبر ، كما تشير إليه الآية الأولى صراحة وتلهمه الآيات التالية لها.

ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات ، والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الذي ظل يحكي مواقف المشركين وعنادهم ويقرعهم وينذرهم ، ويلحظ فقط أنها انتقلت من الحكاية إلى توجيه الخطاب مباشرة إليهم مما جرى عليه النظم القرآني كثيرا ، ومن المحتمل مع ذلك أن تكون هذه الآيات وما قبلها في صدد مواقف مناظرة وحجاج وجاهية بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين.

٤٦٥

تعليق على جملة

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)

ولقد قال المفسرون (١) في تأويل جملة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) إن الحي هو ما كان فيه نسمة الحياة المتغذية النامية والميت ما لم يكن كذلك. وعلى هذا فالنواة والبذرة والنطفة والبيضة ميتة يخرج الله منها أنواع الحيوان والنبات الحية ، ويخرج من هذه الأنواع تلك الأنواع الميتة.

وإلى هذا فقد ذكروا ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرّ بعضها من أن الله ينزل الماء على الأرض الميتة فيحييها بعد موتها كظاهرة من مظاهر مدى هذه الجملة وتأويلها.

والجملة القرآنية على كل حال في صدد تقرير ما يشاهده الناس وتستوعبه أذهانهم للتنويه بقدرة الله تعالى ولسنا نرى والحالة هذه ضرورة لمحاولة التوفيق بين ما جاء في الآيات وتأويلات المفسرين القدماء لها وبين ما عرف فينا عن عالم الأحياء لأن ذلك ليس من أهداف الآيات القرآنية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة.

ولقد ذكر المفسرون فيما ذكروه من وجوه تأويل الجملة خروج الكافر من صلب المؤمن وخروج المؤمن من صلب الكافر على مجاز كون الكافر بمثابة الميت والمؤمن بمثابة الحي. ونحن نرى في هذا تكلفا وبعدا عن مدى الجملة التي تكررت في القرآن بصيغ متقاربة والتي هي أكثر اتساقا وتوافقا مع التأويلات السابقة.

تعليق على جملة

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

والآية الثالثة وهي تقرير أن كلمة الله حقت على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون

__________________

(١) انظر تفسير الآيات وتفسير آيات سورة آل عمران [٣٧] وسورة الأنعام [٩٥] التي فيها نفس الجملة في تفسير المنار والخازن والطبرسي وابن كثير.

٤٦٦

قد تضمنت قصد تقرير كون الذين لا يؤمنون بالحق ولا يتبعونه والذين يكابرون في الحقائق الباهرة ويتناقضون إنما هم الفاسقون الذين تعمدوا الانحراف والاعوجاج والعناد والجحود وفسدت أخلاقهم ونياتهم فحقت عليهم كلمة الله ولعنته وغضبه. وتضمنت بالتالي قصد تقرير كون فساد الخلق والنية وسوء الطوية في المرء هما اللذان يحولان دون اتباعه الحق. وكون الذين يهتدون بهدي الله هم ذوو النيات الحسنة والطوايا السليمة. وهذا المعنى مما تكرر تقريره صراحة تارة وضمنا تارة في مناسبات عديدة مرّ تفسير بعضها. والجملة بناء على هذا الشرح من قبيل (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] و (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧] من الضوابط التي يحسن أن يؤول بها العبارات التي تقرر كون كلمة الله حقت على بعض الناس بصيغة مطلقة أي بدون أن تقترن بتعليل الفسق أو الظلم أو الكفر ، ويزول بها ما قد يرد من وهم وإشكال على العبارات القرآنية المطلقة.

والجملة وإن جاءت مطلقة لتنطبق على كل فاسق في كل ظرف فإن الآيات التي وردت في سياقها قد وجه الخطاب فيها إلى المشركين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو ظاهر من نصها ، وتكون هي بالنسبة إليهم تسجيلا لواقع أمرهم عند نزولها في حين أن كثيرا منهم قد آمنوا حيث يصح أن يقال في شأنها ما قلناه في شأن أمثالها إنها ليست على التأييد والإطلاق إلّا بالنسبة لمن ظل كافرا فاسقا ومات كذلك.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)) [٣٧ الى ٣٩]

(١) ولما يأتهم تأويله : جمهور المفسرين يؤولون الجملة بمعنى (لما يروا بعد تحقيق ما يوعدون به من مصير وعذاب) والكلمة من آل بمعنى صار إليه من

٤٦٧

عاقبة وعقبى. وليست هنا بمعنى تفسيره ومعناه. وتأويل الجمهور سديد.

وقد مرّ مثل هذا التعبير بهذا المعنى في سورة الأعراف التي مرّ تفسيرها.

تعليق على الآية

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ)

والآيتين التاليتين لها

لا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات والمتبادر أنها جاءت معقبة على ما قبلها لتنفي أي احتمال وشبهة بكون القرآن مفترى على الله تعالى ، ولتؤكد بأنه موحى من ربّ العالمين من دون ريب ، وأنه جاء مصدقا للكتب التي سبقته ومتطابقا معها ، وفيه تفصيل وتطابق للمبادئ والأسس التي قامت عليها مما فيه البرهان القاطع على صدق صدوره عن الله عزوجل ، ولتتحدى الكافرين في دعواهم افتراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بأن يأتوا بمثل سورة من سورة إن كانوا صادقين في دعواهم بأنه من صنعه ، وأن يستعينوا على ذلك بكل من يستطيعون ويريدون. ولتقرر بعد هذا حقيقة الواقع من أمرهم : فهم إنما سارعوا إلى تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبة افتراء القرآن إليه اعتباطا ومكابرة ودون أن يتدبروا محتوياته ويتمعنوا في مضامينه ويحيطوا بما فيه من علم وحقائق مغترين بعدم سرعة وقوعهم بسوء العاقبة الذي وعدوا بأن مآلهم إليه. وإن هذا كان شأن الذين كذبوا الرسل من قبلهم ، وقد انتهت بلفت النظر إلى ما كان من عاقبة الظالمين المكذبين الأولين لفتا يتضمن الإنذار والوعيد للسامعين المكذبين.

وأسلوب الآيات قوي نافذ في توكيدها وفي تحديها وفي تقريرها للواقع من أمر المكذبين كما هو واضح. وبداية الآية الأولى تتضمن مع النفي تقرير كون مثل هذا القرآن الذي احتوى ما احتواه من مبادئ وتعليمات سامية فيها صلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا يعقل أن يكون مفترى.

ولقد قررت سورة الإسراء السابقة في النزول لهذه السورة عجز جميع الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن ولو اجتمعوا وتعاونوا ، وهنا تحدت الآيات الكفار

٤٦٨

القائلين بأنه مفترى بالإتيان بشيء منه بأسلوب قوي مفحم ، وقد تكرر هذا أكثر من مرة في سور عديدة أخرى قبل هاتين السورتين وبعدهما لأن الكفار ما فتئوا يخوضون في القرآن منذ أوائل نزوله وينسبون افتراءه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو اقتباسه من أساطير الأولين أو الاستعانة عليه بأناس آخرين على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان ، فيتكرر نزول الآيات لتتحداهم وترد عليهم في الوقت نفسه ردودا قوية مع تقرير عجزهم المطلق بأسلوب المستعلي الواثق من ذلك كما جاء في سورة الإسراء السابقة لهذه السورة وكما جاء بعد هذه السورة في آيات سورة هود هذه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤) وآيات سورة الطور هذه : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) وفي آيات البقرة هذه : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) هذا بالإضافة إلى آيات أخرى فيها ردود نافذة إلى أعماق النفس بغير أسلوب التحدي مثل آية سورة الشورى هذه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤) ومثل آيات سورة الأحقاف هذه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩).

تعليق على جملة

(صَبَّارٍ شَكُورٍ)

وصيغة الجملة في الآية الأولى تأتي لأول مرّة بأسلوبها القوي متضمنة تنويها بمن يتحلى بهذين الخلقين وحثّا على التحلي بهما. ثم تكرر في آيات أخرى. ولقد

٤٦٩

علقنا على خلقي الصبر والشكر في مناسبات سابقة فلا ضرورة للإعادة. غير أننا رأينا أن نورد حديثين أوردهما ابن كثير في سياق تفسير الآيات التي جاءت فيها هذه الصيغة ، والحديثان متقاربان مع زيادة في أحدهما وهو الذي يرويه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر. وإن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته». وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة هذه الصيغة : «عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى قضاء إلا كان خيرا له. إن أصابه سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك إلّا للمؤمن». وينطوي في الحديثين توضيح نبوي للجملة القرآنية وحث للمسلمين على أن يكونوا من الأشداء في الصبر في الضراء الشكورين للسراء.

ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الحث على الصبر لا يشمل حثا ما للمؤمن على الصبر على ظلم أو عدوان وإنما الصبر المطلوب من المؤمن هو الصبر على المصائب والجوائح التي لا يكون فيها عدوان وبغي من أحد. وفي سورة الشورى وصف للمؤمنين بأنهم إذا وقع عليهم بغي انتصروا منه أي قاوموه وانتقموا من البغاة (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩).

وجملة «وليس ذلك إلّا للمؤمن» في آخر الحديث الثاني ذات مغزى عظيم ، حيث انطوى فيها تقرير كون المؤمن يبتغي بصبره وشكره رضاء الله ويأمل فيه ، فيكون له الرضاء والأجر الربانيان خلافا لغير المؤمن بالله فإنه نادرا ما تجعله أخلاقه يقابل المصائب بالصبر والنعم بالشكر. ولا يكون له مدد من إيمان يجعله يفعل ذلك أملا في رحمة الله ورضائه.

تعليق على كلمة (سورة)

هذا ، وبمناسبة ورود كلمة (سورة) هنا لأول مرة نقول إن المفسرين قالوا إما

٤٧٠

أن تكون الكلمة من سور المدينة حيث يحيط السور بكل ما فيها ، وتحيط السورة بكل ما فيها من آيات القرآن ، وإما أنها من السورة التي بمعنى المنزلة أو المرتبة ، وإما أنها من السؤر الذي بمعنى البقية ، وفي لسان العرب : السورة هي منزلة من البناء ، ومنه سورة القرآن لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى ، ومهما يكن من أصل اشتقاقها اللغوي وأصل معناها فإن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة في القرآن يدل دلالة لا ريب فيها على أنها تعني مجموعة مستقلة وكاملة من الآيات والفصول القرآنية ، وأن هذا المعنى كان مفهوما ومألوفا في الوسط العربي الذي خوطب بالقرآن لأول مرة ، وأن تقسيم القرآن إلى المجموعات التي سميت سورا كان نتيجة لذلك أيضا.

ولما كانت هذه الكلمة قد وردت بعد نزول طائفة كبيرة من القرآن المكي فمن الممكن أن يقال إن كثيرا من السور القرآنية كان في هذا العهد قائم الشخصية ، وفي سورة هود التي يجيئ ترتيبها في روايات النزول بعد سورة يونس تحدّ للكفار بعشر سور مما فيه تأييد لما نقول. هذا عدا ما يلهم ذلك كثير من السور ذات المطالع والخواتم البارزة التي سبقت هذه السورة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)) [٤٠ الى ٤١]

تعليق على آية

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ)

ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه كذلك رواية في مناسبة نزول الآيتين ، وهما معطوفتان على ما قبلهما فتكونان والحالة هذه استمرارا للسياق. وقد قال بعض المفسرين (١) إن الآية الأولى تضمنت معنى التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تقرر أنه

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والمنار وابن كثير والخازن والبغوي.

٤٧١

إذا كان من قومه من لا يؤمن بما جاء به فإن منهم من آمن وسوف يؤمن به ، وعلى هذا يكون الخطاب الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيهه موجها للمكذبين فقط ليعلنهم في ما إذا أصروا على تكذيبهم أن كلا منهم يتحمل تبعة عمله وكلا منهم بريء مما يعمله الآخر. وبعض المفسرين قالوا (١) إن الآيتين في صدد الكفار المكذبين ، وإن الآية الأولى تضمنت تقرير أن من الكفار من يؤمن في سرّه بصدق القرآن وصحة الرسالة وإنما يكذب عنادا ومكابرة ، ومنهم من لا يؤمن ولا يصدق.

ويلحظ أن الآيتين معطوفتان على الآيات السابقة لهما التي يدور الكلام فيها على الكفار وتكذيبهم وتقريعهم ، وأن الضمائر فيهما عائدة إليهم أيضا ، وفحوى الآية الثانية قاصر على ما تلهمه روحها على الفريق الكافر فقط ، وليس فيها ما يفيد تقسيمهم إلى مؤمن صادق وكافر ، وهذا يجعلنا نرجح قول الفريق الثاني من المفسرين.

وهناك روايات تذكر أن منهم من كان يقرّ في قرارة نفسه أن القرآن كلام الله ولكنه يعلن تكذيبه مداراة للناس أو عنادا كمثل الروايات التي رويت عن الوليد بن المغيرة أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فقال لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى. وكان من نبهاء قريش فعلم بقوله أبو جهل فذهب إليه يؤنبه ويعاتبه ويثير غضبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تراجع (٢). وفي رواية أخرى أن الوليد جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله عن القرآن فتلا عليه منه ما تيسر فجاء إلى رجال قريش فقال يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة (يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا يهذي من الجنون وإن قوله لمن كلام الله ، فخاف رجال قريش أن يؤمن ويعدي غيره ، فجاء إليه أبو جهل يعيره ويوبخه ويثير حميته حتى تراجع (٣).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير القاسمي والطبرسي والزمخشري.

(٢) انظر تفسير سورة المدثر في تفسير البغوي.

(٣) انظر تفسير السورة المذكورة في تفسير ابن كثير.

٤٧٢

وفي بعض الآيات القرآنية دلالة ما على ذلك أيضا ، مثل آية سورة القصص التي جاء فيها : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [٥٧] حيث تلهم هذه الجملة أن قائليها كانوا يعتقدون في أنفسهم بصدق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوحي القرآني ولكنهم كانوا يخافون على مركز مكة وما يدرّه عليهم من منافع ويضمنه لهم من أمن. ومثل آية الزخرف التي جاء فيها : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١) حيث تلهم هذه الجملة أن قائليها كانوا يعتقدون بصحة الوحي القرآني ولكنهم أنفوا من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستكبروا لأن الله لم ينزل القرآن على زعيم كبير من مكة أو الطائف. بل إن مفاوضات رجال قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أشارت إليها سورة الإسراء [٧٣] السابقة لهذه في التفسير وآية سورة القلم [٩] وما روي في صددهما على ما شرحناه في تفسير السورتين لتؤيد ذلك أيضا.

وفي الآيتين تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن موقف تكذيب المكذبين وإنذار لهم. فعليه أن يتبرأ من عملهم ويعلنهم أنهم وحدهم الذين يتحملون تبعته إذا أصروا على تكذيبه وأن لا يحمل نفسه همّا. وربه أعلم بالمفسدين الذين إنما يقفون موقف التكذيب لفساد أخلاقهم ولإفساد غيرهم وهو القادر عليهم.

وقد يلمح في الآية الثانية بالإضافة إلى ما ذكرناه مبدأ حرية التدين الذي قررته سورة (الكافرون) وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.

والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية الأولى من الآيتين مدنية. وهذا غريب جدا فهي شديدة الانسجام مع الآية الثانية ومع السياق السابق معنى وسبكا ، ومضمونها متصل بظروف ومشاهد العهد المكي ولم نر في ما اطلعنا عليه من كتب التفسير تأييدا لذلك وكل هذا يسوغ الشك في الرواية.

ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن الآية الثانية منسوخة بآيات

٤٧٣

القتال. وهذا يذكر في سياق كل آية مكية مماثلة. والمتبادر أن هذا إنما يصح بالنسبة إلى من يقف موقف العدوان من الإسلام والمسلمين وحسب وقد شرحنا هذا الأمر في سياق سورة (الكافرون) شرحا وافيا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)) [٤٢ الى ٤٣]

لا يروي المفسرون كذلك رواية ما في نزول هاتين الآيتين وهما معطوفتان على ما قبلهما ، والمتبادر أنهما استمرار للسياق والتنديد. وقد وجه الخطاب فيهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا كسابقتيهما فمن الكفار من يستمع إلى ما يتلوه من قرآن ولكنه يقف منه كالأصم الذي لا يسمع وليس عليه أن يسمع الصمّ الذين لا يسمعون ولا يعقلون ما يقال لهم. ومنهم من ينظر إليه ولكنه يقف كالأعمى فلا يرى أعلام نبوته وصدق مظاهرها فيما يقول ويفعل وليس عليه أن يهدي العمي الذين لا يبصرون.

وظاهر أن الآيتين بسبيل تصوير شدة إصرار الكفار على العناد والمكابرة بالرغم مما يسمعونه من حجج القرآن وروحانيته ويرونه من دلائل صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صميميته ودعوته وأفعاله وتفرغه لها وإشفاقه عليهم من غضب الله ونقمته. ويلمح فيهما أيضا قصد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيذانه بأنه قد قام بواجبه وأنه غير مكلف بعمل المستحيل من إسماع من لا يستطيع السمع وإراءة من لا يستطيع الرؤية وإقناع المكابر العنيد الصادر عن سوء النية وخبث الطوية.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)) [٤٤]

(١) لا يظلم : بمعنى لا يجور.

(٢) أنفسهم يظلمون : ينحرفون عن جادة الحق فيضرون أنفسهم ويجورون عليها.

٤٧٤

المتبادر أن الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة ، وبسبيل تقرير كون الله تعالى إذا جازى المكذبين الذين وصفت مواقفهم في الآيات السابقة فإنما يكون ذلك بسبب هذه المواقف التي ظلموا بها أنفسهم.

وفي الآية توكيد لمبدأ قرآني تكرر وروده وهو مسؤولية الناس عن أعمالهم التي يعملونها نتيجة لاختيارهم وكسبهم.

ومن العجيب أن الخازن رغم ما في الآية من صراحة حاسمة قال إن الآية تعني أن الله تعالى إذا كتب الشقاء والعذاب على أحد فلا يعد ظلما لأنه يفعل ذلك بمقتضى كونه صاحب التصرف المطلق في عباده وأن ابن كثير قال شيئا من ذلك خلافا للطبري والطبرسي والبغوي والزمخشري الذين فسروا الآية بما يتفق مع ظاهرها الحاسم الذي شرحنا مداه. ومن العجيب أن ابن كثير مع ما قاله قد أورد حديثا رواه مسلم عن أبي ذر : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يروي عن ربه أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». حيث ينطوي في الحديث توكيد لذلك المبدأ وتساوق مع ظاهر الآية ومع تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والزمخشري.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)) [٤٥]

المتبادر أن الآية استمرار للسياق والحديث عن الكفار المكذبين أيضا ، وقد تضمنت تقرير كونهم حين يحشرهم الله إليه بعد موتهم سيندهشون لأنهم يشعرون أنهم لم يكادوا يغيبون إلّا ساعة من النهار ، وسيعرف بعضهم بعضا كأنما هم حديثو عهد بالفراق. وسيتحققون من أنهم قد خابوا وخسروا ، لأنهم كذبوا بلقاء الله والبعث الأخروي ولم يهتدوا بهدى الله.

٤٧٥

وفي الآية إنذار قوي للكفار استهدف فيما استهدفه بثّ اليقين فيهم بالبعث وحملهم على الندم والارعواء ، بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة إيمانية.

وقد تكرر فحوى الآية بصيغ متقاربة أكثر من مرة بعد هذه السورة لتوكيد ما استهدفته من إنذار وتقرير ما تضمنته من حقيقة إيمانية.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)) [٤٦]

الآية استمرار للسياق والحديث عن الكفار أيضا كما هو المتبادر. وقد وجه الخطاب فيها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقول له سواء أراه الله تحقيق بعض ما وعدهم الله من عذاب الدنيا وغضبه ، أم توفاه قبل ذلك فإليه مرجعهم أولا وآخرا. وهو شهيد على ما يفعلون وموفيهم حسابهم كما يستحقون.

وقد احتوت الآية تسلية وتطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما احتوت إنذارا للكفار أيضا.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)) [٤٧]

تعليق على جملة

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ)

ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد الآية ، وهي معطوفة على ما قبلها بحيث يصح القول إنها غير منقطعة عن السياق وبمثابة تعقيب عليه وقد روى المفسرون عن أهل التأويل من التابعين تأويلين أو احتمالين لمدى الآية ، الأول أن يكون صدد الحياة الأخرى فتكون بسبيل تقرير أن الله تعالى يحاسب يوم القيامة كل أمة بحضور رسولها فيقضي فيها بالحق ودون ما ظلم. وفي القرآن آيات تقرر هذا المفهوم عامة وخاصة مثل آيات سورة الزمر هذه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي

٤٧٦

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩) ومثل آيات سورة النساء هذه : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢).

والثاني أن تكون في صدد الحياة الدنيا فتكون بسبيل تقرير سنة الله في إرسال الرسل للأمم. فإذا جاء إلى أمة رسول يكون قد تعين بذلك مصيرها بالحق دونما ظلم حيث يكون نصيب المؤمنين الصالحين النجاة ونصيب المكذبين المسيئين الخسران.

ومع وجاهة كل من الاحتمالين فنحن نميل إلى ترجيح التأويل أو الاحتمال الثاني لأنه متصل برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموقف المكذبين ، وفيه إعلان لهؤلاء بأنهم لم يبق لهم عذر ولا مناص بعد بعثة رسول منهم إليهم ، وأنهم أمام خطتين يتحتم عليهم اختيار إحداهما ويكون مصيرهم منوطا بهذا الاختيار ، فإما الإيمان والنجاة وإما التكذيب والخسران ، وهذا هو قضاء الله العادل الذي لا ظلم فيه ولا إجحاف. وفيه بالتالي إنذار لهم ودعوة لهم إلى الارعواء وعدم إضافة الفرصة فيندمون ولات ساعة مندم.

والآية من ناحية ما تدعم ما ذكرناه في سياق آية سورة فاطر : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤) من كون حكمة الله تعالى وسنته جرتا على إرسال الرسل إلى كل أمة في كل ظرف. ولا نرى هذا متعارضا مع حكمة الله تعالى التي شاءت أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين كما نصت على ذلك آية سورة الأحزاب [٤٠] حيث صار عليه صلوات الله وسلامه رسولا لكل البشر إلى يوم القيامة.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ

٤٧٧

ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)) [٤٨ الى ٥٢]

في الآية الأولى حكاية لتساؤل الكفار عن موعد تحقيق ما يوعدون به. وفي الثانية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم قائلا إنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا وكل شيء منوط بمشيئة الله تعالى ، وإن لكل أمة أجلا عنده لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم ، وفي الآية الثالثة وما بعدها أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال الكفار بالمقابلة عن استعجالهم لعذاب الله وغضبه الذي قد يأتيهم ليلا أو نهارا ، وعمّا إذا كانوا يظنون أنه إذا وقع عليهم يبقى لهم مجال للإيمان ، وبإعلانهم أن هذا لن يتيسر لهم وأن عذاب الله إذا وقع عليهم يكون قد قضى في أمرهم ولم يبق إلّا أن يخلدوا في النار جزاء ما كسبت أيديهم.

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات فإما أن تكون حكاية مشهد وجاهي جديد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين بعد الآيات السابقة التي فيها وعيد لهم وحكاية لمواقفهم ، فنزلت بعده ، وإما أن تكون حكاية مشهد سابق للسياق كله سيق في صدد حكاية مواقف المشركين وأقوالهم. وعدم رواية خاصة في نزولها يجعلنا نرجح الاحتمال الثاني فتكون الآيات والحالة هذه استمرارا للسياق.

وسؤال الكفار الذي حكته الآية الأولى ينطوي كما هو ملموح على تحدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم على استهتارهم بما يوعدون به.

وقد جاء الرد القرآني في الآية الثالثة وما بعدها قويا لاذعا ينطوي على التوكيد الحاسم بتحقيق وعد الله.

وقد وجه الخطاب فيه إلى القلوب والعقول معا ، ونوقش الكفار فيه مناقشة محكمة من شأنها أن تبعث الخوف في نفوسهم من فوات الفرصة ووقوعهم في حسرة الندامة ، وهو ما استهدفته الآيات في جملة ما استهدفته.

٤٧٨

وهذا السؤال من الكفار بنفس أسلوب التحدي والاستهتار قد تكرر صدوره من الكفار لتكرر الوعيد والإنذار لهم حيث كانوا كلما وعدوا وأنذروا بعذاب الله قابلوا ذلك بالاستخفاف والسؤال الاستنكاري. وفي هذا صورة لما كان يتكرر وقوعه بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ ورد وتشاد.

وفي الآية الثانية تتجلى صورة رائعة لصميمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يؤمر فيعلن عن نفسه وفي موقف تحدي الكفار له بأنه ليس له من الأمر شيء حتى فيما يتعلق بنفسه ، وأنه ليس عليه إلّا التبليغ والإنذار دون أن يذهله تحدي الكفار وتعجيزهم عن واجبه والاستمرار فيه ، وقد تكررت هذه الصورة الرائعة نتيجة لتكرر الموقف نفسه. وقد جاء مثل هذه الصورة في الآية [١٨٨] من سورة الأعراف التي مرّ تفسيرها.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)) [٥٣ الى ٥٦]

(١) يستنبئونك : يستخبرون منك ويسألونك.

الآيات تحكي سؤال الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما إذا كان ما يتوعدهم به القرآن من البعث والحساب الأخروي حقا وصدقا بأسلوب الذي يريد التوثق أو يبالغ في الإنكار والشك ويظن أن الوعيد تهويش وتخويف ؛ وتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوكيد ذلك وكونه حقا وكونهم لن يعجزوا الله ولن يخرجوا عن شمول قدرته وإحاطته ، وتحكي ما سوف يكون عليه حال الكفار يوم القيامة من الشدة والفزع والندامة حين يرون العذاب ويسمعون قضاء الله العادل الرهيب فيهم حتى لو كان لكل واحد منهم جميع ما في الأرض لقدمه فدية عن نفسه ؛ وتهتف بالناس مؤكدة بأن وعد الله حقّ لا ريب فيه وهو قادر على تحقيقه كل القدرة لأنه الذي له ما في السموات والأرض

٤٧٩

والذي يحيي ويميت وإليه مرجع الناس على كل حال.

ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات وهي معطوفة على سابقاتها حيث يصح القول إنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا حيث تستمر في حكاية أقوال ومواقف الكفار ، وترد عليهم مقرعة منددة منذرة متوعدة بأسلوب قوي استهدف فيما استهدفه إثارة الخوف والارعواء في نفوسهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)) [٥٧ الى ٥٨]

هتفت الآية الأولى بالناس لا فتة نظرهم إلى ما جاءهم من ربهم من موعظة على لسان رسوله ليبين لهم الحق من الباطل ويشفي صدورهم من الحيرة ونفوسهم من القلق ويكون للمؤمنين به الهدى والرحمة والسكينة والطمأنينة ، وأمرت الآية الثانية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقرير ما انطوى في ذلك من فضل الله ورحمته مما هو الأجدر بإثارة فرح الناس واستبشارهم والأفضل من كل ما يشغلهم من متاع الدنيا وما يحوزونه من أعراضها.

والمتبادر أن الآيتين ليستا منقطعتين عن السياق السابق ، وأنهما جاءتا معقبتين على ما سبق من الإنذار ، وبسبيل دعوة السامعين إلى إدراك فضل الله ورحمته في إرسال الرسل إليهم وتنزيل ما فيه الشفاء والموعظة لهم عليهم ، وأسلوبهما رائع عظيم. وقد انطوى فيهما تنويه بأثر الإيمان في النفوس وما يوجده من لذة روحية تفوق كل لذة وتستحق أن يضحى في سبيلها بكل متاع زائل. فليست راحة المرء ولذته فيما يمكن أن يجمعه من حطام الدنيا ويستمتع به من متع إذ أن كثيرا ما يوجد مع هذا منغصات وآلام ، وإنما هما في طمأنينة القلب وسكينة النفس ونور اليقين وراحة الضمير وكل هذا إنما يتيسر بالإيمان ويتحقق للمؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.

٤٨٠