التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

والروايات تقتضي أن تكون كل فقرة من فقرتي الآية الأولى نزلت لحدتها وأن تكون نزلت منفصلة عن ما سبقها وما لحقها. والرواية المروية عن اليهود تقتضي أن تكون الآية مدنية. ورواية منع الجهر بالقرآن تفاديا من سب الكفار وهي الوثيقة من سائر الروايات غريبة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتلو القرآن عليهم في كل موقف من مواقف دعوته ، وهذا من أسس مهمته. ومأمور به في آيات عديدة منها آيات في سورة النمل التي مرّ تفسيرها وهي [٩١ ـ ٩٢] ولم يمتنع من ذلك قط ، وكان يقابل بقولهم إن هذا إلّا أساطير الأولين. كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي فسرناها سابقا. وفي سورة الحج آية مهمة فيها حكاية موقف تهديدي للنبي ورد عليه بتهديد رهيب وهي هذه (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٢) ثم استمر في تلاوة آيات القرآن بدون مبالاة تنفيذا لأمر ربه ومهمته منذرا حينا منددا حينا مقرعا حينا مفصلا داعيا مبشرا حينا بدون انقطاع كما هو المستفاد من السور المكية جميعها بحيث يكون في كل ذلك دلالة حاسمة.

ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الأولى من الآية الأولى أنه كان في نفوس بعض المسلمين بعض التردد في صيغة دعاء الله تعالى وفيما إذا كان يجوز أن يذكر اسم الرحمن في مقام كلمة (الله) فأريد بها بيان ما هو جوهري في الأمر وهو الإخلاص لله والاتجاه له وحده. فله أحسن الأسماء ، وبأيّها دعاه المخلص أجزأه. ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الثانية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار يخفت في قراءته اتباعا لنهي آية سورة الأعراف هذه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) فشكى المسلمون من عدم سماعهم القرآن منه فأمر في هذه الفقرة بالتوسط بين الجهر وخفت الصوت. هذا مع التنبيه إلى أننا نرجح أن الآية الأولى نزلت مع الآية الثانية وأن الآيتين استمرار للسياق السابق ، وكل ما في الأمر أن أولاهما تضمنت جوابا على ما كان يسأله أو يحتار فيه المسلمون ، والله أعلم.

٤٤١

سورة يونس

في السورة حكاية أقوال ومواقف عديدة للكفار ، وردود عليها وتسفيه لهم على باطل تقاليدهم وسخيف عقائدهم وشدة عنادهم ومكابرتهم. وإفحام لهم في سياق الجدل والمناظرة. وفيها لفت نظر الناس إلى آيات الله ومظاهر قدرته في الكون وتبشير وإنذار بالآخرة وحسابها وثوابها وعقابها وشرح لأثر الإيمان والكفر في نفوس الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

وبيان لمهمة النبي عليه‌السلام وطبيعة الرسالة ، وتقرير لمسؤولية الناس في الهدى والضلال وتمثيل بما كان بين نوح وقومه وبين موسى وفرعون ، وبما كان من مصير البغاة ونجاة المؤمنين وضرب بقوم يونس الذين آمنوا مثلا على ذلك.

والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [٤٠ و ٩٤ ـ ٩٦] مدنية ، وبعض الروايات تذكر أن من أول السورة إلى رأس الآية الأربعين مكي والباقي مدني (١). وقد تكرر مضامين الآيات التي يروي مدنيتها في آيات مكية لا خلاف فيها ؛ كما أن هذه الآيات منسجمة مع سياقها السابق واللاحق ولذلك فإننا نتوقف في الروايات ونرجح مكية جميع آيات السورة.

__________________

(١) انظر تفسير السورة في تفسير القاسمي الموسوم بمحاسن التأويل ج ٩.

٤٤٢

وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يلهم أنها نزلت متتابعة حتى تمت.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)) [١ الى ٢]

(١) تلك : لغويا هي إشارة إلى البعيد في حين أن (هذه) للقريب. وقد انطلق بعضهم من هذا الفرق فقال إنها عنت كتب الله السابقة. غير أن الطبري وآخرين رجحوا أنها في مقام (هذه) ، وأنها إشارة إلى القرآن وهذا هو الصواب المتوافق مع المطالع المماثلة مثل مطالع سور الشعراء والنمل والقصص التي مرّ تفسيرها.

(٢) الحكيم : هنا من الإحكام ، والحكمة أيضا منه. وعلى هذا فتعبير (الحكيم) بالنسبة لكتاب الله يمكن أن يكون بمعنى (المحكم) كما يمكن أن يكون بمعنى (المحتوي حكمة) ويمكن أن يكون بالمعنيين معا أي أنه محكم الأسلوب حكيم المضمون.

(٣) قدم صدق : أوجه الأقوال أنها بمعنى فضل ومنزلة رفيعة مضمونة وثابتة.

روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في صدد (الر) منها أنها اختصار لجملة (أنا الله أرى) أو اختصار لاسم الرحمن. أو من أسماء القرآن ، أو قسم أقسم الله به ونرجح بالنسبة لها ما رجحناه لمثيلاتها أنها استرعاء السمع إلى آيات القرآن والإشارة التي أعقبتها (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) مما قد يدعم ذلك. وقد

٤٤٣

تكرر هذا الأسلوب في سور عديدة مرت أمثلة منها. وفي الآية دليل تكرر كثيرا على أن تعبير (الكتاب) للقرآن كان يطلق على ما كان ينزل منه تباعا وقبل أن يتم تمامه.

أما الآية الثانية فقد احتوت سؤالا استنكاريا عن استغراب الناس لاختصاص الله تعالى رجلا منهم لينذرهم ويبشر المؤمنين بما لهم عند الله من المنزلة الرفيعة المضمونة ، وحكاية لقول الكافرين عن هذا الرجل بأنه لساحر بارع.

ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه شيئا في صدد نزول الآيتين. والمتبادر من فحواهما وفحوى ما يأتي بعدهما أنهما في صدد حكاية مواقف وعقائد المشركين والتنديد بها بصورة عامة ، والأرجح أنها نزلت في صدد موقف من مواقفهم المتكررة المتجددة.

وقد تكرر ما حكته الآية عن الكفار. وجاء ذلك في سورة الإسراء التي سبقت هذه السورة مباشرة في النزول حسب ما روته الروايات. ولعل التساوق بين أخريات سورة الإسراء وبداية هذه السورة ثم في ما حكته السورتان من أقوال الكفار ومواقفهم المتشابهة قرائن على صحة رواية نزول هذه السورة بعد تلك السورة.

ولقد احتوت الآية ردا على استغراب الكفار وعجبهم ونسبتهم السحر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانطوى في هذا الرد تسفيه مفحم لهم ، فالساحر يبقى في حدود الأفعال والأقوال والمظاهر الوضيعة الدنيوية التي تمتزج بالخداع والكذب والتخييل ، وتستهدف منافع وأغراضا خاصة ، في حين أن الرجل الذي جاءهم قد جاء داعيا إلى الله ومكارم الأخلاق ، ونذيرا للناس حتى يتقوا الله ، وبشيرا للمتقين بالمنزلة الكريمة الرفيعة.

وتكرار حكاية أقوال الكفار المتشابهة في سور متعاقبة يفيد أنهم كانوا

٤٤٤

يكررون هذه الأقوال في كل موقف ومناسبة ، فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايتها للرد عليها وتسفيهها.

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)) [٣ الى ٦]

(١) اختلاف الليل والنهار : بمعنى تعاقبهما واحد بعد آخر.

في الآيات شرح لموجبات استحقاق الله وحده للعبادة والخضوع والدعوة إليه ، وبيان مصير كل الذين يؤمنون برسالة الرجل الذي أرسل إليهم ويعملون الصالحات ، وكل الذين يكفرون بها بعد الإنذار والتبشير.

فالله هو رب الناس الحقيقيّ الذي خلق السموات والأرض والقمر والشمس والليل والنهار بإحكام وإتقان ، ويسرها لا نتفاعهم بها ، وجعل في كل خلق من خلقه آية على قدرته وعظمته وانفراده في تدبير الكون وتصرفه المطلق فيه وصيرورة الناس إليه جميعا وهو الذي خلقهم أول مرة والقادر على إعادة خلقهم ثانية. فعليهم أن يفكروا ويتدبروا ليظهر لهم ذلك واضحا وليعبدوا الله وحده. ولسوف يصيرون إليه لتحقيق وعده الحق القاضي بمحاسبتهم على أعمالهم وتكريم المؤمنين الصالحين وعقاب الكافرين بالعذاب الأليم والشراب الشديد الحرارة جزاء كفرهم.

٤٤٥

ولا يروي المفسرون كذلك رواية ما في صدد نزول الآيات والمتبادر أنها متصلة بما سبقها بقصد الرد على حكته الآيات السابقة من استغراب الكفار مع الشرح والبيان القويين المحكمين.

وظاهر أنه أريد بالآيات لفت نظر السامعين إلى ما ترتكز عليه دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الرجل الذي جاء للناس بشيرا ونذيرا ـ من قوة وحق لا يتحمل إنكارا ولا استغراقا ولا نسبة سحر لأنها دعوة إلى الله الذي في كل ظاهرة من ظواهر الكون آية على ربوبيته وعظمته وقدرته وإبداعه ومطلق تصرفه واستحقاقه للعبادة والخضوع وحده إذا ما تفكر المرء فيها ، كما أنه أريد بها تبشير المؤمنين وتثبيتهم وتكرار إنذار الكفار وإرهابهم.

ولقد احتوت بعض السور التي سبق تفسيرها ما احتوته هذه الآيات من خلق الله السموات والأرض في ستة أيام واستوائه بعد ذلك على العرش ، ومن تعاقب الليل والنهار ومن تقدير دوران القمر في منازل وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار وهي هنا كما هي في المواضع السابقة بقصد لفت أنظار الناس وأسماعهم إلى ما يشاهدونه ويعرفونه من مظاهر قدرة الله تعالى.

على أن في الآية الأخيرة شيئا جديدا يحتمل تنبيها جديدا ، وهو تقرير كون الله قد جعل القمر منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب. فقد يقول قائل إنه ليس بالقمر وحده يعرف عدد السنين والحساب بل وإن معرفة ذلك بالشمس أدق وأضبط. فنقول إن هذه الآية وأمثالها لم ترد في القرآن لذاتها وبسبيل تقرير حقائق فلكية وكونية ، وإنما وردت للفت النظر إلى مشاهد الكون ونواميسه ومظاهر قدرة الله وعظمته فيها لإيجاب الاتجاه إليه وعبادته وحده. كما نبهنا على ذلك في مناسبات سابقة. وقد خوطب بها لأول مرة أناس يعرفون حساب السنين بواسطة القمر فخوطبوا بما يشاهدونه ويعرفونه من أجل ذلك القصد. ولقد ظل هذا معروفا يقوم عليه عدد الحساب والسنين. والعبارة القرآنية لا تنفي إمكان معرفة هذا العدد والحساب من الشمس لأنها كما قلنا لم ترد لتقرير نظرية كونية أو فلكية ، ومن

٤٤٦

الواجب إنهاؤها في هذا النطاق والله أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)) [٧ الى ١٠]

(١) لا يرجون لقاءنا : لا يعتقدون بالبعث الأخروي ولا يحسبون حسابه.

(٢) دعوى : هنا بمعنى دعاء.

الآيات متصلة بالسياق اتصال استمرار وتعقيب. فآيات الله في كونه باهرة قائمة ، والذين يغفلون عنها ولا يتدبرونها وانشغلوا بمطالب النفس الدنيوية واطمأنوا بها ولا يحسبون حساب الآخرة ولقاء الله تعالى مصيرهم النار بما اقترفوا واكتسبوا. أما الذين تدبروا في آيات الله وتحققوا من لقاء الله وحسبوا حساب الآخرة فآمنوا وعملوا الأعمال الصالحة فلهم جنات النعيم ، وكل شغلهم فيها تسبيح الله وحمده وتحية بعضهم بعضا بالسلام.

وقد انطوى في الآيات تقرير أثر الكفر بالله والإيمان به في النفوس ، فالأول يحمل صاحبه على الاكتفاء بمتع الحياة وعدم التفكير في العواقب وإهمال ما عليه من واجبات نحو الله والناس. في حين أن الإيمان بالله إذ يشع في صاحبه ينير بصره وبصيرته ويهديه إلى كل ما فيه خير وصلاح ويحفزه على القيام بواجباته نحو الله والناس والابتعاد عن كل ما يتناقض مع هذه الواجبات حاسبا حساب العاقبة ومعتقدا أنه صائر إلى الله وواقف بين يديه ومسؤول عن كل ما يقدم من عمل ومجزي عليه بما يستحق. وفي هذا ما فيه من روعة وتلقين جليل مستمر المدى. والمتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما فيها من مشهد أخروي يجب الإيمان به

٤٤٧

استهدفت بشرى المؤمنين الصالحين وإثارة اغتباطهم وإنذار الكافرين وحملهم على الارعواء.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)) [١١]

احتوت الآية تنويها بحكمة من حكم الله تجاه الجاحدين للقائه. فلو أن الله عجل لهم الشر بدرجة استعجالهم الخير لكان في ذلك هلاكهم وانقضاء أمرهم. ولكن حكمته اقتضت إمهالهم إلى الأجل المعين في علمه حتى يحق عليهم العقاب إذا ظلوا سادرين في غوايتهم وطغيانهم.

ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد هذه الآية ، وقد تبدو جملة مستقلة عن سابقاتها ، غير أن تعبير (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [١١] فيها وفي الآيات السابقة يجعل الصلة قائمة بينها وبين هذه الآيات لتحتوي تنديدا بالذين لا يرجون لقاء الله بأسلوب آخر. وقد شرحنا حكمة تأجيل الله عذابهم على النحو الذي شرحناه لأنه هو المتبادر من روحها ومن مقتضى تلك الحكمة. وهذا المعنى انطوى في آيات عديدة منها ما ورد في سور سابقة ، وإطلاق الكلام في الآية يجعلها مستمرة المدى والإنذار والتلقين في كل موقف مماثل في كل ظرف كما هو المتبادر.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)) [١٢]

في الآية تنديد بخلق بعض الناس ـ والمقصودون هم المسرفون الجاحدون بلقاء الله أيضا على ما تلهم روحها ـ حيث اعتادوا حينما يمسهم ضرّ أن يلحفوا بالاستغاثة بالله تعالى وهم قاعدون وواقفون ومضطجعون. حتى إذا كشف الله عنهم الضرّ نسوه وكأنهم لم يدعوه ويستغيثوا به ، وهذا هو شأن المسرفين في ضلالهم

٤٤٨

وعمايتهم الذين تزين الوساوس لهم أعمالهم فيرضون عنها مهما كان فيها تناقض وجحود.

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآية ، والمتبادر أنها هي الأخرى استمرار في السياق على سبيل التنديد بالجاحدين بلقاء الله بصيغة أخرى فيها صورة من صور جحودهم وتناقضهم. وفي الآية بيان صريح حاسم في عقيدة العرب بالله وشمول قدرته وكونه المتصرف المطلق في كل شيء والموئل في كل أمر. وإطلاق الكلام في الآية يجعلها هي الأخرى مستمرة المدى والتلقين والإنذار بكل موقف مماثل في كل وقت ومكان.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)) [١٣ الى ١٤]

في الآيات انتقال من الغائب إلى المخاطب ، ومن التعميم إلى التخصيص ، حيث وجه الخطاب فيها إلى السامعين بأسلوب تقريري : فالله سبحانه قد أهلك الأمم التي سبقت السامعين حينما ظلموا وانحرفوا ، وجاءتهم الرسل بالبينات من الله فلم يؤمنوا ولم يرتدعوا. وهذه هي سنة الله في عقاب المجرمين أمثالهم. وقد جعل الله السامعين خلفاء في الأرض بعد أولئك الهالكين ويسّر لهم أسباب النمو والحياة ليختبرهم فيما يفعلون وفي أي الطرق يسلكون.

والآيات غير منفصلة عن السياق ، وفيها استطراد واستمرار في التنديد والإنذار ، وانطوى فيها إنذار للجاحدين برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عذاب الله يوشك أن يقع عليهم كما وقع على من قبلهم جريا على سنة الله ، لأنهم يقفون من رسوله إليهم الذي بعثه بالبينات ويصرون على الظلم والإجرام والجحود كما فعل من قبلهم فكان عقابهم الهلاك.

ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنه يتبادر لنا من روحها أنها تنطوي على إنذار

٤٤٩

وتنبيه ربانيين مستمرين للأجيال بعد الأجيال بأن على كل جيل يأتي بعد جيل فاسد أن يتعظ بما حل في هذا الجيل الفاسد الذي سبقه نتيجة لفساده وأن يعتبر نفسه في موقف الاختبار وعرضة للهلاك والدمار إن هو لم يتعظ وسار على درب الجيل الفاسد المجرم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)) [١٥ الى ١٧]

(١) ولا أدراكم به : ولا أنزله عليّ لأبلغه لكم ويجعلكم تدرون به.

في الآيات حكاية لبعض أقوال الكفار ومواقفهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث كانوا يطلبون منه إذا ما تلا عليهم ما يوحيه الله إليه من القرآن أن يأتيهم بقرآن غيره ، أو أن يدخل فيه بعض التبديل والتغيير ، وحيث أمر بالرد عليهم بأنه لا يمكنه أن يبدل ويغير فيه من عند نفسه وأنه إنما يبلغ ما يوحى إليه من الله عزوجل ويتبعه ويقف عنده ، وأنه يعرف ما ينتظره من عذاب الله العظيم لو تجرأ وعصى ربه ، وأنه إذ يبلغهم ما يوحى إليه إنما يفعل ما أمره الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أنزله عليه ليبلغه لهم. وأنه لبث فيهم قبل الوحي القرآني عمرا طويلا فلم يصدر منه في هذا الصدد شيء ، وأن هذا وحده كاف لإقناعهم بأن ما يبلغهم إياه هو وحي الله وقرآنه لو تمعنوا وتعقلوا وتدبروا.

وانتهت الآيات بتقرير أن ليس أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب في نسبة ما لم يصدر عنه إليه وفي تغيير ما يصدر عنه وتبديله ، ولا ممن يكذب بآياته

٤٥٠

الصادرة عنه ، وإنه لا يقدم على هذا إلا المجرمون الذين لن يفلحوا.

وقد يتبادر أن التقرير المنطوي في الآية الأخيرة وارد بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية وإلى المجرمين من ناحية أخرى في وقت واحد. وبالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه ينطوي على تبرئته من أي احتمال للكذب على الله تعالى فيما يبلغه والله أعلم.

تعليق على قول الكفار

(ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ)

وجواب القرآن عليه

روى بعض المفسرين (١) أن خمسة من رجالات قريش جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلبوا منه الإتيان بقرآن ليس فيه تسفيه لعقولهم وحملة على آلهتهم وتبديل لهجته إذا كان يريد أن يستجيبوا له أو يسكتوا عنه ، ويدعوه وشأنه فأنزل الله الآيات على سبيل حكاية قولهم والرد عليه. وفحوى الآيات يسوغ القول حقا أنها في صدد مشهد مثل هذا المشهد. وبكلمة ثانية يجعل الرواية محتملة الصحة ولو لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. غير أن عطف الآيات على ما قبلها وورود تعبير (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الذي تكرر وروده في الآيات السابقة يجعلاننا نرى في الآيات استمرارا للسياق. ونرجح أن المشهد كان قبل نزولها. فحكته الآيات في جملة ما حكاه السياق من مواقف الجاحدين بل إن خطورة المشهد الذي حكته يجعلنا نرجح أن السياق منذ بدء السورة هو تمهيد وتوطئة لحكايته.

ولقد احتوت سورة الإسراء السابقة لهذه السورة في ترتيب النزول آيات ذكرت أن الكفار كادوا يفتنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أنزل عليه ليفتري على الله غيره على ما شرحناه في سياقها. فليس بعيدا أن يكون الموقف والمطلب واحدا ولا سيما إن سورة يونس نزلت بعد سورة الإسراء على ما روته الروايات وقامت عليه القرائن أو أن يكون الكفار عادوا فألحوا فيما طلبوه فكان هذا المشهد الذي نزلت الآيات به.

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والخازن.

٤٥١

ولقد تكرر في السور السابقة حكاية مشاهد الجدل والحجاج حول القرآن ، كما استمر في السور اللاحقة أيضا ؛ مما يدل على أن القرآن كان موضوع حجاج وأخذ ورد دائم بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ، ومما هو طبيعي لأنه أعظم وأقوى مظهر للنبوة والرسالة.

وهذا الجدل المستمر بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار حول القرآن وحكايته فيه يؤيد ما قلناه قبل من أن تعبير (القرآن) كان يطلق على ما كان ينزل منه قبل تمامه أولا ، ومن أن الفصول المحكمة فيه التي احتوت أسس الدعوة أي وحدة الله والإيمان برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء الآخرين وباليوم الآخر والتزام مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة وعبادة الله وحده واجتناب الآثام والفواحش والشرك هي التي كان يقصد بها هذا التعبير ويدور حولها الجدل وتنزل الفصول التدعيمية الأخرى من قصص وأمثال وترغيب وترهيب وتذكير وتنديد وتسفيه لدعمها ثانيا ، ولما كان جميع ذلك وحيا ربانيا فقد شملته دفتا المصحف ودخل في نطاق تعبير كلام الله وقرآنه.

والمتمعن في الآيات يلمس صورة رائعة قوية تثير الإجلال والإعظام لصميمية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبلاغه أمر الله القرآني ردا على طلب الكفار وإخلاصه وصدقه وعمق إيمانه بأنه إنما كان يبلغ وحي الله النازل عليه وباستشعاره خوفا عظيما تجاه أي احتمال في تبديل أو تعبير أو زيادة أو نقص فيما كان يوحى إليه في سياق إبلاغه وتفهيمه للناس.

وفيها ردّ قوي على من يزعم أن القرآن نابع من نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي الآية الثانية صورة من صور نشأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة وشيء من سيرته وخلقه ؛ حيث تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتذكير السامعين بما كان من أمره وحالته قبل نزول الوحي عليه ، وبأنهم يعرفونه ويعرفون أنه لم يكن فضوليا ولا مفتريا ولا كذابا ولا مندفعا في أي أمر وحركة ، ولا راغبا في البروز والظهور ، ولا مترشحا للنبوة ، ولا شاعرا ولا خطيبا ولا كاتبا ولا قارئا ، وإن هذا لدليل على أنّ ما كان يبلغه ليس منه وإنما هو وحي الله وقرآنه.

٤٥٢

ومن غرائب مفارقات مفسري الشيعة أنهم يقولون إن جملة (ائت بقرآن غير هذا) عنت طلب قريش الإتيان بقرآن لا يذكر إمامة علي للمسلمين ويذكر شخصا بديلا عنه (١) ، وتبدو شدة المفارقة إذا لوحظ أن الآية مكية وسياقها في صدد التنديد بالمشركين وسخف شركهم وحالة الضعف والقلة في المسلمين وكون عليا ما يزال صبيا.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)) [١٨]

في الآية تنديد بالمشركين لعبادتهم غير الله الذين لا يقدرون على ضرهم ونفعهم ، وحكاية لاعتذارهم بالقول إنما يتخذونهم شفعاء لدى الله ، وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤالهم سؤالا فيه تحدّ وسخرية عما إذا كانوا بذلك يخبرون الله تعالى بشيء في السموات والأرض لا يعلمه الله ، ثم انتهت بتنزيه الله عما يشركه المشركون معه.

والضمير في الآية عائد إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة جحودهم ومواقفهم ومطالبهم على ما هو المتبادر ، وهي والحالة هذه متصلة بها ولعل التنديد الذي انطوى فيها متصل بما كانوا يطلبونه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإتيان بقرآن لا يتعرض لشركائهم ولا يسفه عقولهم ، فشركاؤهم لا يضرونهم ولا ينفعونهم وإشراكهم مع الله تعالى في العبادة والدعاء هو سخف يستحق كل التنديد.

مدى عقيدة الشرك عند العرب

ومدى عقيدة التوحيد الإسلامية

وفي الآية صورة واضحة صريحة لمدى عقيدة الشرك العربية ، وهي أنهم كانوا يعترفون بالله ويؤمنون بأنه الخالق الرازق المدبر المتصرف في كل شيء ،

__________________

(١) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٦٧.

٤٥٣

القادر على كل شيء ، ويعتبرون الشركاء الذين كانوا يشركونهم معه في الدعاء والعبادة شفعاء ووسائل زلفى لديه.

ومعظم الآيات التي نددت بعقائد العرب تضمنت هذه الصورة أيضا بوجه عام ، وقد مرّت أمثلة عديدة من ذلك بحيث يمكن أن يقال إن هذه العقيدة كانت هي العامة عندهم.

والرد الذي ردت به الآية هنا وفي المناسبات الأخرى انطوى على تسفيه عبادة غير الله والاتجاه إلى غير الله ولو بقصد الاستشفاع والتوسط ، وعلى تقرير كون ذلك شركا ، وفي هذا تلقين مستمر المدى في صدد عقيدة التوحيد الإسلامية التي لا تتحمل أي ملابسة أو تأويل أو شائبة مهما أريد تهوينها وتخفيفها ومهما كانت صفة الشفعاء وماهياتهم بحيث يصح أن يقال إنها أنقى من أي ديانة أخرى.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)) [١٩]

تعليق على جملة

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)

تعددت الأقوال في معنى الأمة الواحدة واختلاف الناس. فهناك من أوّل الأمة بالملّة على معنى الدين وقال إن في الآية تقريرا بأن الناس قد فطروا على فطرة واحدة هي الإسلام لله والتوحيد ابتداء من آدم. فمنهم من يستقيم على هذه الفطرة ومنهم من ينحرف عنها وهذا هو معنى اختلافهم (١). وفي القرآن آيات قد تؤيد ذلك منها آية سورة الروم هذه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠) والحنيف هو الموحد المستقيم على التوحيد وهو الوصف الذي

__________________

(١) انظر تفسيرها وتفسير آية البقرة ٢١٣ في تفسير ابن كثير والطبرسي والبغوي مثلا.

٤٥٤

وصف به إبراهيم عليه‌السلام في آيات كثيرة منها هذه الآية : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧) آل عمران [٦٧] وقد وصفت ملة الأنبياء بالأمة الواحدة كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢) بعد سلسلة ذكر فيها طائفة من الأنبياء ونوّه بما كان من إخلاصهم وإسلامهم أنفسهم لله. وجاء بعد هذه الآية آية تشير إلى اختلاف الناس في الطريقة الدينية بعد كل نبي وهي هذه : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٩٣). وفي سورة المؤمنون آيات مماثلة جاءت في أعقاب سلسلة مماثلة وهي : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٥٣).

ومن المفسرين من أوّل ذلك أيضا بالملة الدينية مع تحديد ملة إبراهيم عليه‌السلام الحنيفية وقال إن العرب كانوا في الأصل على هذه الملة فانحرفوا عنها إلى الشرك والوثنية وهو معنى الاختلاف (١).

ومنهم (٢) من أوّل معنى الأمة الواحدة واختلاف الناس بفطرة ارتباط الناس ببعضهم وحياتهم الاجتماعية ، فهم من هذه الناحية أمة واحدة. واختلافهم في مختلف الشؤون الدينية وغير الدينية طبيعي تبعا لما بينهم من تفاوت في القوى العقلية والدينية. واستشهد على ذلك بآية سورة البقرة هذه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣) مع أن الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في الدين على ما تلهمه روحها.

__________________

(١) المصادر السابقة.

(٢) انظر تفسير الآيتين المذكورتين في تفسير المنار للسيد رشيد رضا.

٤٥٥

والذي نرجحه على ضوء آيات سورة الروم والأنبياء والمؤمنون أن الآية هي بسبيل تقرير وحدة الفطرة بالنسبة لجميع البشر ، وأن المقصود بالآية هو الملة الدينية حيث يكون المراد من ذلك أن فطرة الاستشعار بوجود الله عزوجل الواحد المدبر الخالق الأزلي الأبدي المحيط بكل شيء المتصرف بكل شيء وبوجوب إسلام النفس إليه هي الأصل في جميع البشر على اختلافهم. وأن ما هم عليه من انحراف عن هذا الأصل هو طارئ نتيجة لاختلاف أهوائهم وماربهم وحوافزهم ، وآية سورة البقرة تدعم هذا أكثر مما تدعم الرأي الثالث.

ومن واجب المسلم أن يؤمن بهذه الحقيقة التي يقررها القرآن في الآية التي نحن في صددها وفي الآيات الأخرى التي أوردناها.

على أنه يتبادر لنا في الوقت نفسه أن في الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن موقف الكفار الجحودي الذي حكته الآيات السابقة. فكأنها تريد التنبيه على أن موقفهم هذا ليس بدعا فقد كان ممن قبلهم تجاه رسلهم أيضا. وأن الله قادر على الانتقام منهم لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده وقد تكرر مثل هذا الأسلوب من التسلية في مواقف مماثلة مرت أمثلة منه.

على أن من المحتمل مع ذلك أن تكون الآية نزلت ردا على استغراب بدا من الكفار في سياق الجدل والنقاش ، حيث يمكن أن يكونوا قالوا إنه كان في إمكان الله تعالى إذا صحت دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل الناس جميعا على طريقة واحدة لا يختلفون فيها ، فأريد بها تقرير أن ذلك في نطاق قدرة الله حقا وأن الناس يفطرون على فطرة واحدة أو كانوا على فطرة واحدة وأن اختلافهم إنما طرأ طروءا نتيجة لتباينهم في الأفكار والأخلاق والقوى ، وأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يتركوا أحرارا في التفكير والاختيار بعد أن يبين لهم رسله طريق الهدى وطريق الضلال ، ويدعوهم إلى سلوك الأولى واجتناب الأخرى ليستحق كل منهم ما يستحقه بعدل وحق ، وأن يؤجل قضاءه فيهم إلى أجل معين في علمه ، وأن ذلك هو سبب استمرار اختلافهم.

٤٥٦

وقد تكرر تقرير هذا بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها في مناسبات مماثلة.

هذا ، وواضح من كل ما تقدم أن الآية متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب واستطراد ورد. وواو العطف الذي بدأت به مما يؤيد ذلك فضلا عن مضمونها وصلته بموقف الكفار المحكي في الآيات السابقة لها.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)) [٢٠]

(١) لو لا : هنا بمعنى هلا وينطوي فيها معنى التحدي.

وفي الآية حكاية لتحدي الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستنزال آية من ربه تصديقا وتأييدا لدعواه ، وأمر رباني له بالرد عليهم بأن الغيب والمستقبل بيد الله وأمره بأن يطلب منهم الانتظار ويعلنهم أنه معهم من المنتظرين.

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآية وهي معطوفة على ما سبقها حيث يتبادر أنها استمرار في السياق لتحكي قولا آخر من أقوال الجاحدين وتعجيزهم مع الرد عليهم.

ومثل هذا الطلب تكررت حكايته عنهم كثيرا بصيغ متنوعة مرّ بعضها في السور التي فسرناها ، وشرحنا ما يتبادر لنا من حكمة الله في عدم تلبيته طلبهم وتحديهم.

والمتبادر أن الكفار كانوا يرون في مثل هذا التحدي منفذا للتشفي والتعجيز. ومخرجا من المأزق الحرج الذي يضعهم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم ويفحمهم ويلزمهم به ، مقابلة على ذلك بالمثل. ولعل عدم استجابة الله عزوجل لتحديهم وإجابة القرآن عليه بما تكرر وروده في كل موقف من مواقف تحديهم على ما مرّ شرحه في تلك السورة والسور الأخرى وبخاصة سورة الإسراء السابقة في النزول لسورة يونس مما كان يغريهم بتكرار التحدي.

٤٥٧

وفي هذا صورة من صور السيرة النبوية في العهد المكي فيها دلالة على ما كان المشركون عليه من قوة الخصومة والجدل والعناد. وهو ما وصفوا به بصراحة في آيات أخرى منها آيات سورة الزخرف هذه : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨).

والرد الذي احتوته الآية ينطوي على وعيد ، ويتجلى فيه كذلك عظمة تصميم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثبات قلبه وعدم اعتبار التحدي مخرجا له حيث يؤمر أن يعلن أن الأمر بيد الله حاضره وغائبه ، وليس هو إلّا رسول يقوم بما يؤمر به ويبلغ ما يوحى إليه وينتظر تصريف الله انتظار الواثق المطمئن ويطلب منهم الانتظار معه طلبا منطويا على الإنذار والتهديد.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)) [٢١ الى ٢٤]

(١) مكر : الأولى بمعنى مقابلة آيات الله بالجحود والنكران ، والثانية بمعنى

٤٥٨

مقابلة الله لهم بالانتقام السريع.

(٢) ظن أهلها أنهم قادرون عليها : اطمأن أصحابها وأهلها بأنهم مالكوها ومستمتعون بها وتيقنوا من ذلك.

(٣) حصيدا : هنا بمعنى الإبادة والمحو والتبديد.

(٤) كأن لم تغن بالأمس : كأنها لم تكن قائمة موجودة بالأمس والجملة بسبيل التعبير عن شدة التبديد والإبادة.

معاني الآيات واضحة ، وقد احتوت تنديدا بالذين يجحدون فضل الله ويقفون من رسله وآياته موقف المكر والمناوأة ، وينقضون ما عاهدوا الله عليه حينما يتهددهم خطر البحر وعواصفه من الإخلاص له وحده بعد أن ينقذهم وينجيهم. وإنذارا لهم بأن مرجعهم إليه فيحاسبهم على مكرهم وبغيهم. وتمثيلا لمتاع الحياة الدنيا الخداع في زينته ومظهره ، والذي لا يلبث أن يزول بعد أن يكون الإنسان قد ظن أنه ملك منه مشتهاه وتنبيها للسامعين بأن الله تعالى إنما يفصل الآيات ويضرب الأمثال لمن يريد أن يتدبر ويتفكر.

وأسلوب الآيات هادئ رزين قوي موجه إلى القلوب والعقول معا من شأنه أن ينفذ إلى أعماق ذوي القلوب السليمة والنيات الحسنة. وفي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية الثانية بإعلان الناس بأن الله أسرع مكرا وفي ما جاء في الآية الرابعة من الهتاف بالناس بأن بغيهم إنما هو عليهم التفاتان قويان في سياق الأسلوب الخطابي يهزان النفس هزا.

ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في صدد نزولها. وهي وإن كانت مطلقة التوجيه فالمتبادر أنها بسبيل التنديد بالكفار الذين حكت الآيات السابقة جحودهم واقترافهم ووقوفهم من آيات الله ورسوله ودعوته موقف الماكر الساخر المتحدي ، مع اعترافهم بالله وما يرونه من فضله عليهم ومع ما يكون منهم من الإسراع إلى الاستغاثة به وحده في حالات الخطر والضرر ، ومعاهدته على الشكر والإخلاص الدائمين حيث ينقضون بمواقفهم العهد الذي عاهدوه به ، وهي

٤٥٩

على هذا غير منقطعة عن السياق السابق وفيها معنى التعقيب عليه.

وفي الآية تقرير مكرر لاعترافهم بالله وكونه المعاذ والملجأ الحقيقي ، القادر وحده على كشف الضرّ والأذى والخطر ، والمنقذ وحده من الشدائد.

وليس في التمثيل بمتاع الحياة الدنيا ما يفيد وجوب انصراف الإنسان عن متع الحياة ومطالبها ، وكل ما يفيده هو التحذير من الاغترار بها والاستغراق في شهواتها استغراقا يجر إلى الإثم والفواحش وينسى الإنسان واجباته نحو الله والناس التي فيها وحدها السلامة في الدنيا والآخرة ، وقد مرّ في سياق تفسير سورة الأعراف التنبيه إلى ما في بعض آياتها من استنكار تحريم زينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق حيث يتمثل في ذلك الضابط القرآني المحكم في هذا الأمر.

ومع ما يفيد شرحنا للآيات من صلة بين فحواها وبين أحوال ومواقف الجاحدين السامعين للقرآن لأول مرة فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها شاملة الخطاب والتوجيه والتلقين لكل الناس في كل مناسبة مماثلة وفي كل ظرف ومكان.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)) [٢٥]

في الآية إيذان رباني بأن الله تعالى إنما يدعو إلى دار السلام ويهدي بدعوته من استحق الهداية من عباده الصالحين إلى الطريق المستقيم الذي فيه النجاة لهم.

والمتبادر أن الآية بمثابة تعقيب على الآيات السابقة وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة التي تقرر أن الله تعالى إنما يفصل آياته لمن يريد أن يتدبر ويتفكر فيها.

وقد أولنا جملة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بما أولناها به ، على ضوء الآيات العديدة الأخرى التي تذكر أن الله يهدي إليه من أنيب وأنه لا يضل إلّا الفاسقين والظالمين على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أن (السلام) في الآية اسم الله وأن دار

٤٦٠