التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

توكيد وتوضيح ما احتوته من أوامر ووصايا ربانية منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد ، وقد رأينا أن نجاريهم فنورد بعض ما ورد في كتب الصحاح منها كأمثلة للتساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي. ففي صدد برّ الوالدين روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رغم أنفه ثمّ رغم أنفه ثمّ رغم أنفه. قيل يا رسول الله من قال من أدرك والداه عنده الكبر أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنّة» (١) وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «رضا الرّبّ من رضا الوالد وسخط الرّبّ من سخط الوالد» (٢).

وفي صدد البرّ بالأرحام وذوي القربى روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سرّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» (٣) وروى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال «قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل الجنّة قاطع رحم» (٤).

وفي صدد (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أورد ابن كثير حديثا قال إنه في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر قالت «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنفقي هكذا وهكذا ، ولا توعي فيوعي الله عليك ، ولا توكي فيوكي الله عليك».

وفي صدد (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) أورد ابن كثير حديثا عن مالك الطائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحلّ له».

وفي صدد (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن مسعود قال : «قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم ، قال أن تجعل لله ندّا وهو

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤ و ٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ص ٩ و ١٠.

(٤) المصدر نفسه.

٣٨١

خلقك ، قلت ثمّ أيّ قال أن تقتل ولدك حشية أن يطعم معك» (١).

وفي صدد (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) روى البخاري وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» (٢). وروى النسائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» (٣).

وفي صدد الوفاء بالعهد روى الأربعة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتّى يدعها إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» (٤). وروى الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان» (٥).

وفي صدد (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث ، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (٦) وروى الترمذي عن عطية السعدي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس» (٧) وروى أبو داود والترمذي عن أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّ من اتبع

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) ج ٤ ص ٣٩.

(٥) ج ٥ ص ٤١.

(٦) المصدر نفسه ص ٢٧.

(٧) المصدر نفسه ص ١٦٦.

٣٨٢

عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته فضحه في بيته» (١) وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن علي بن الحسين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٢).

وفي صدد (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) روى الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما رجل يمشي قد أعجبته جبّته وبرداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض حتّى تقوم السّاعة» (٣) وروى الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بأهل الجنّة ، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه ، ألا أخبركم بأهل النّار كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» (٤).

تعليق على صرف جملة (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)

إلى أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

روى المفسر الشيعي الطبرسي في مناسبة آية في نفس صيغة هذه الآية في سورة الروم وهي الآية [٣٨] عزوا إلى مجاهد والسدي من علماء التابعين أن هذه الآية هي خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ليعطى أقاربه حقوقهم التي جعلها الله لهم في الغنائم والفيء. وروى عن أبي سعيد الخدري من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبي لما نزلت الآية أعطى فاطمة فدكا (٥) وسلّمها إليها. وعن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر مثل ذلك. ثم روى أن المأمون ردّ فدكا إلى بني فاطمة بناء على هذه الروايات. وروى الطبري عن ابن الديلم في سياق تفسير سورة الإسراء أن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال لرجل من أهل الشام «أما تقرأ في سورة

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢٨.

(٢) التاج ج ١ ص ٦٩.

(٣) التاج ج ٣ ص ١٤٧.

(٤) التاج ج ٥ ص ٢٩ وهناك أحاديث كثيرة من بابها في كتب الصحاح وفي كتب التفسير وبخاصة في تفسير ابن كثير.

(٥) فدك من مستعمرات اليهود التي أفاءها الله على رسوله.

٣٨٣

إسرائيل (١) (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فقال له وإنّكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتى حقّها قال نعم». والمصحف الذي اعتمدناه ذكر في عنوان سورة الإسراء أن آية الإسراء التي نحن في صددها مدنية. وهذا ما تفيده الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري أيضا وليس شيء من كل ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد توقف الطبري في ما أورده عن ابن الديلم وقال إن الصواب أن الجملة هي خطاب للمؤمنين عامة لحثّهم على إعطاء ذوي قرباهم ما لهم من حقوق بالإضافة إلى المسكين وابن السبيل. ولقد أورد ابن كثير الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري وقال إنها أشبه أن تكون من وضع الرافضة وإن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت في السنة السابعة بعد الهجرة. ثم صرف الجملة إلى المؤمنين عامة. مثل الطبري ، ومعظم المفسرين السنيين صرفوها إلى المؤمنين عامة كذلك. وهو الصواب. ويزيد في وجاهة وفي غرابة صرف الجملة إلى أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الجملة لم ترد منفردة في الآية بل جاءت مع ذكر المسكين وابن السبيل ومع النهي عن التبذير. وأعقبتها آية وصفت المبذرين بإخوان الشياطين. وآية أمرت بتطييب نفوس هذه الفئات إذا ما تعذر مساعدتها ماديا في الحاضر. والآية بعد منسجمة كل الانسجام في السياق نظما وموضوعا ومشابهة في الأسلوب للآيات المكية. وآية سورة الروم المماثلة لها مثلها تماما. ولا يذكر أحد أنها مدنية. وآية سورة الروم التي يسوق الطبرسي الروايات في مناسبتها منسجمة كل الانسجام مع سياقها أيضا. ونرجح بل نعتقد أن رواية مدنية آية الإسراء ملفقة لتعضيد ذلك الصرف لأنه يكون أكثر غرابة بل مستحيلا في حالة مكية الآية ، لأن معظم أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا في العهد المكي كفارا فضلا عن أن صرف جملة (ذَا الْقُرْبى) في آيات الفيء والغنائم محل نظر على ما سوف نشرحه في سياق هذه الآيات. والمشهور أن فاطمة رضي الله عنها راجعت أبا بكر رضي الله عنه ليعطيها فدكا إرثا عن رسول الله لأنها كانت فيئه. فقال لها ليس أحب إليّ من ذلك لولا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا نورث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال ، ثم قال والله لا أدع أمرا رأيت

__________________

(١) سورة إسرائيل اسم ثان لسورة الإسراء.

٣٨٤

رسول الله يصنعه فيه إلّا صنعته» (١) وقد يكون المأمون العباسي قد ردّ فدكا لآل النبي وأعطى حصة من الغنائم والفيء لذي قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأولا لآيات الغنائم والفيء مع القول إن ذلك ليس ثابتا يقينا. وليس من شأنه إذا صح أن يثبت شيئا من الروايات أو يجعل التأويل صحيحا. وإنما كان على الأرجح بل على اليقين من وحي الانفعالات الحزبية والاختلافات السياسية.

وكلمة (ذَا الْقُرْبى) جاءت في الآية مع المسكين ، ولقد كان الأقوياء في الأسر قبل الإسلام يتطاولون على حقوق المستضعفين من أقاربهم في الإرث وبنوع خاص النساء والأيتام ، ولقد شدد القرآن في منع ذلك في سياق تشريع الإرث في آيات عديدة في سورة النساء في العهد المدني حيث صار التشريع الملزم ممكنا ، فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت التنبيه على هذا في السورة المكية والأمر بإعطاء ذي القربى حقه ولو كان بأسلوب الحث الذي كان هو الأسلوب المكي وأن لا يتطاول عليه بالنسبة للضعفاء من ذوي القربى. والله تعالى أعلم.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)) [٤٠ الى ٤٤]

(١) أفاصفاكم : هل اختصكم واصطفاكم.

(٢) قولا عظيما : قولا عظيما في النكر والافتراء.

(٣) نفورا : بعدا وانصرافا.

__________________

(١) روى هذا الخمسة انظر التاج ج ٢ ص ٢٤٠.

٣٨٥

(٤) لابتغوا : لتطلعوا إلى ذي العرش وحاولوا أن يتجاوزوا عليه.

الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة والسابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ والبنات ويشركون معه آلهة أخرى.

وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن ، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم ، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.

وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق ؛ إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين.

واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى ؛ فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء.

واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده ؛ ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذين يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه ، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه.

وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.

٣٨٦

ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالا ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الأسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن هذا التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه.

وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر.

وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار حيث قال هؤلاء إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها.

تعليق على تحديد عدد السموات بسبع

وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السموات بسبع ، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني.

وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة (السموات والأرض) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا.

وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السموات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا ، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم ، قال هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال هل تدرون ما فوقكم ، قالوا الله ورسوله أعلم ، قال فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف ، قال هل تدرون كم بينكم وبينها ، قالوا الله ورسوله أعلم قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال هل تدرون ما

٣٨٧

فوق ذلك ، قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سموات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال هل تدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)» (٣) (١) وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية.

ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر.

ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السموات السبع ؛ إلا ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه إن بعض علماء الفلك قالوا إن السموات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن عدد (سبع) و(سبعين) و(سبعمائة) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات.

ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السموات سبع ، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٢٦ و ٢٢٧ انظر حديثا طويلا آخر رواه البخاري فيه ذكر السموات سبعا ج ٣ ص ٢٣٠ ـ ٢٣٣.

٣٨٨

اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء من هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سموات الله من عظمة وروعة.

ولا تخمين ، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السموات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة ، والله أعلم.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)) [٤٥ الى ٤٨]

(١) أكنة : جمع كنان بمعنى الغشاوة.

(٢) الوقر : بفتح الواو بمعنى الصمم.

(٣) وإذ هم نجوى : إذ هم وحدهم يتسارّون.

(٤) انظر كيف ضربوا لك الأمثال : انظر كيف شبهوا حالتك بما في أذهانهم من صور وأمثال.

الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم ، وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد.

٣٨٩

والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عزوجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم ، غير أن التمعن فيهما وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاممهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه ، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به والأصمّ فلا يسمعه ، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧) ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب (١) ، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف.

والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم ، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه ، وليس هو المسئول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير.

على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها ، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة بعد الفتح المكي.

والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

٣٩٠

والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به ، وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم ، حيث كانوا يقولون لهم إنكم تتبعون رجلا مسحورا ، وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل. وبتشبيههم حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه ، مما عنته آية (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً). (٤٨)

والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا ، ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة (تَتَّبِعُونَ) وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش.

والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة ، ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة ، وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن ، وفي الآيات التالية توكيد لذلك.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)) [٤٩ الى ٥٢]

(١) رفاتا : ذرات بالية.

(٢) ينغضون رؤوسهم : يهزونها هزة استنكار أو استهزاء.

٣٩١

(٣) تستجيبون بحمده : قيل معناها تستجيبون لأمره ، وقيل تستجيبون إليه مسبحين حامدين رغم أنوفكم.

الآيات متصلة كما هو المتبادر بما سبقها واستمرار لها في صدد حكاية موقف الكفار ومشاهد حجاجهم الوجاهية ، حيث احتوت حكاية سؤالهم الاستنكاري عن صحة ما ينذرهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البعث بعد أن يصبحوا عظاما بالية ، وعن موعد هذا البعث وعمن يبعثهم ، وحيث أمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوكيد ذلك لهم حتى لو كانوا حجارة أو حديدا أو شيئا أشد استعصاء على الإعادة والإرجاع ، وبإخبارهم بأن ذلك قد يكون أقرب كثيرا مما يظنون ، وبأنهم حينما يدعون ويبعثون سيدركون ما يكون من وفاء الله بوعده حتى إنهم ليظنون أنهم لم يلبثوا بين الموت والبعث إلّا فترة قصيرة ويستجيبون لأمره مسبحين حامدين له برغم أنوفهم ، معترفين بقدرته وعظمته ، وحيث حكت إصرارهم على الإنكار والجحود وهزهم لرؤوسهم استنكارا واستهزاء حينما قيل لهم إن الله الذي خلقهم أول مرة هو قادر بطبيعة الحال على بعثهم ثانية.

وفي الآيات صورة من صور الجدل الذي كثيرا ما كان يحتدم بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار وبخاصة حول البعث والحساب ، وأسلوب من أساليب الحجاج التي كانت تختلف باختلاف المواقف.

وقد احتوت حجة ملزمة مستمدة من عقيدتهم بأن الله هو الخالق الفاطر ؛ مما تكرر في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣)) [٥٣]

(١) عبادي : المرجح أن المقصود بالكلمة المسلمون.

(٢) ينزغ : يدس ويوسوس ويفسد.

٣٩٢

في الآية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغ عباد الله المسلمين أن يقولوا التي هي أحسن ، أو ألّا يتجادلوا إلّا بالتي هي أحسن ، وأن يتجنبوا المخاشنة وأن يحذروا من وساوس الشيطان ودسائسه بينهم فهو ألدّ أعداء الإنسان.

تعليق على آية

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وظروفها وتلقينها

وقد روى الزمخشري في كشافه أن الآية نزلت في مناسبة مشادّة وقعت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورجل من الكفار فبدر من هذا كلام بذيء ، فهمّ عمر رضي الله عنه بتأديبه. كما روى الطبرسي في مجمع البيان أنها نزلت بمناسبة طلب المسلمين الإذن بقتال المشركين الذين يؤذون المسلمين. وليس ما يمنع صحة إحدى الروايتين. غير أن وحدة أسلوب السياق تلهم أن الآية تضمنت إشارة إلى الحادث في سياق قرآني عام ، وأنها استمرار للسياق السابق الذي احتوى صورا لما كان يحتدم بين المسلمين والكفار من جدل. فأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغ المسلمين بوجوب الجدل بالتي هي أحسن واجتناب العنف والإثارة مع الكفار الذين يلعب الشيطان في عقولهم. فذلك أحرى أن يسد الباب على الشيطان وأن يؤلف القلوب ويخفف العناد ويحمل على الرجوع إلى الصواب.

وقد قال بعض المفسرين إن الوصية في الآية عائدة إلى تعامل المسلمين فيما بينهم (١). ومع أن هذا مما وصّى به القرآن في مواضع عديدة على ما سوف نشرحه في مناسباته فإن صرف الكلام في الآية إلى ما بين المسلمين والكفار هو الأوجه والمستلهم من روحها وسياقها وقد قال به غير واحد من المفسرين أيضا (٢).

وفي سورة الجاثية آية فيها شيء من الصراحة والتأييد وهي هذه (قُلْ لِلَّذِينَ

__________________

(١) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي. والغريب أن هذا المفسر هو الذي روى أن سبب نزولها طلب المسلمين الإذن بقتال الذين يؤذون المسلمين من المشركين.

(٢) انظر تفسيرها في كشاف الزمخشري وتفسيري ابن كثير والطبري.

٣٩٣

آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) وقد نزلت في مناسبة مماثلة على ما رواه المفسرون (١).

وفي الآية تلقين جليل مستمر المدى فيما احتوته من الأمر بالمحاسنة واللين وقول التي هي أحسن والمجادلة بالتي هي أحسن. لأن المخاشنة والعنف مما يوسع الخلاف ويثير العداء والحقد ويدفع إلى العناد والمكابرة. ويغطي على الحق والحقيقة مطلقا. وسواء أكان ذلك في سياق الجدل والمناظرة أو التعامل فيما بين المسلمين وغيرهم أو فيما بين المسلمين أنفسهم.

وقد تكرر هذا الأمر في سور أخرى عديدة مكية ومدنية مما يدل على ما أعارته حكمة التنزيل من عناية له.

وفي كتب التفسير أحاديث متنوعة في صدد ذلك. منها ما ورد في كتب الصحاح ، من ذلك حديثان رواهما الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه» (٢) و«كفى بك إثما ألا تزال مخاصما» (٣) وحديث رواه الأربعة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه» (٤) وحديث رواه أبو داود ومسلم عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا عائشة ارفقي فإنّ الرّفق لم يكن في شيء إلّا زانه ولا نزع من شيء قطّ إلا شانه» (٥).

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)) [٥٤]

__________________

(١) انظر تفسير الآية في ابن كثير والكشاف مثلا.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٣٩٤

قال غير واحد من المفسرين (١) إن ضمائر الجمع المخاطب في الآية عائدة إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق ، وقال بعضهم إنها عائدة إلى المسلمين أو سامعي القرآن إطلاقا (٢) والقول الأول هو الأوجه المستلهم من روح الآيات والسياق أيضا. وقد أوّلها أصحاب هذا القول بأنها تتضمن أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للكفار إن أمركم بيد الله وهو أعلم بكم إن شاء رحمكم فتاب عليكم وهداكم ، وإن شاء خذلكم فبقيتم على كفركم.

أما خاتمة الآية ففيها التفات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله لم يجعله وكيلا عنهم ولا مسؤولا عن هدايتهم وكفرهم ، وكل ما عليه أن ينذرهم ويبشرهم ، مما ينطوي فيه تسلية له إزاء مواقف الحجاج والعناد التي يقفها الكفار من دعوته.

وواضح من هذا أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق. ولقد انطوى فيها تعليل لمشيئة الله تعالى فيهم على ما هو المتبادر. فهو تعالى أعلم بما في ضمائرهم وقلوبهم فيهدي من فيه الخير والرغبة في الهدى فيدخل في نطاق رحمته ، ويخذل من لم يتوفر فيه ذلك فيكون مصيره إلى العذاب على حد ما جاء في آية سورة الرعد هذه (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧) وآية سورة إبراهيم هذه (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧) وبهذا يزول ما يمكن أن يحيك في صدر القارئ من وهم من ظاهر عبارة الآية.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)) [٥٥]

لم يروا المفسرون رواية في مناسبة هذه الآية. وهي معطوفة على ما سبقها. وقد بدئت بما بدئت به الآية السابقة حيث يسوغ هذا القول إنها استمرار للسياق.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في القاسمي والكشاف والطبري والخازن.

(٢) انظر تفسيرها في ابن كثير.

٣٩٥

وقد تضمنت الآية السابقة لها تقرير كون الله تعالى كما هو أعلم بما في ضمائر الكفار فيرحم بمشيئته من يكون أهلا للرحمة ويعذب من يكون أهلا للعذاب ، فجاءت هذه الآية بعدها لتقرر أن الله أعلم بكل من في السموات والأرض ، وقد فضل ـ نتيجة لذلك ـ بعض النبيين على بعض وآتى ـ نتيجة لذلك ـ داود الزبور. وهذا الشرح الذي يلهم الآية يوثق الصلة بين الآية وسابقاتها موضوعا أيضا.

وقد قال بعض المفسرين (١) إن في الآية ردّا على الذين كانوا ينكرون فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر النبيين. ومع أن فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد في آيات ومظاهر عديدة منها أنه خاتم الأنبياء ، وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة ، وأن الله قد أرسله بالهدى ودين الحق ووعد بأن يظهر دينه على سائر الأديان فإننا نتحفظ في كون الآية قد تضمنت ما قاله المفسرون.

والزبور هو على الأرجح المزامير التي تعزى إلى داود عليه‌السلام في سفر من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وعددها في هذا السفر مئة وخمسون وفيها تمجيد وتسبيح وابتهالات لله تعالى بليغة المبنى والمعنى ، فيها كثير من المواعظ والأمثال والحكم. واسم داود مذكور في نصفها ويرافقه عبارة لإمام (الغناء) في بعضها والنصف الثاني غفل من الأسماء أو مذكور فيه أسماء أخرى وصفوا في بعضها بنفس العبارة. وظاهرها أنها من إنشاء من ذكرت أسماؤهم فيها. وهذا لا يتعارض مع جملة (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) ولا مع كون ما عزي إلى داود منها هو من وحي الله تعالى وإلهامه.

ويقول البغوي في سياق تفسير الآية ، إن الزبور كتاب علّمه الله داود ويشتمل على مائة وخمسين سورة (وهذا عدد جميع المزامير في السفر) كلها تمجيد ودعاء وثناء على الله عزوجل. ليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود. وقد يفيد هذا أن سفر المزامير كان مترجما وأن المفسر قد اطلع عليه. ووفاة هذا المفسر كانت في عام ٥١٦ ه‍.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبرسي والخازن والكشاف والقاسمي مثلا.

٣٩٦

تعليق في صدد تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض

لقد ذكر المفسرون في صدد تفضيل بعض النبيين على بعض أن من مظاهر ذلك اتخاذ الله تعالى إبراهيم خليلا. وهو ما ذكرته آية النساء [١٢٥] وتكليمه لموسى مباشرة وخلقه عيسى بدون أب. وجعله محمدا خاتم النبيين ، وإيتائه موسى ومحمدا كتبا فيها تشريعات وأحكام في حين لم يكن في زبور داود مثل ذلك واختصاصه نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى مع النبي بالذكر والميثاق في بعض الآيات مثل آية الشورى [١٣] المكية وآية الأحزاب المدنية [٧] وتأييده عيسى بروح القدس في بعض الآيات مثل آيات البقرة [٨٧ و ٢٥٣] وإنطاق عيسى في المهد كما جاء في آيات آل عمران [٤٦] والمائدة [١١٠] ومريم [١٤ ـ ٢٣] وفي هذا وجاهة ظاهرة. ولقد نبّه ابن كثير في سياق هذا الموضوع والآية إلى أنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تفضّلوا بين الأنبياء» ثم قال إن هذا النهي هو بسبيل النهي عن التفضيل لمجرد التشهّي والعصبية لأنه لا خلاف في فضل بعضهم على بعض وفي فضل الرسل على الأنبياء من غير الرسل وفي فضل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأنبياء. وهذا أيضا وجيه سديد يدعمه النص القرآني في الآية التي نحن في صددها وفي آية سورة البقرة هذه (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ...) [٢٥٣] ويدعمه بالنسبة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعت القرآن له بأنه خاتم النبيين آية الأحزاب [٤٠] وكون دينه مرشحا للظهور على سائر الأديان آية الفتح [٢٨] وآية التوبة [٣٣] وآية الصف [٩] كما يدعمه أحاديث عديدة صحيحة منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة ، قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النّبيين» (١) وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠٤ و ٢٠٦ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

٣٩٧

يوم القيامة كنت إمام النّبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» (١).

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)) [٥٦ الى ٥٧]

(١) الوسيلة : الطريقة إلى الزلفى والتقرب إلى الله.

(٢) محذورا : واجب الاتقاء والحذر.

في الآيتين عود على بدء في تحدي الكفار وتسفيه شركهم بالله ، فهي والحال هذه متصلة بالسياق الذي ما يزال يدير الكلام بعد مجموعة الوصايا على الكفار المشركين ويندد بهم ويحكي مواقفهم وأقوالهم.

وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها أن يقول لهم ـ متحديا مسفها منذرا ـ ادعوا الذين تدعون من دون الله فإنكم إنما تدعون عبثا لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا له. وإنهم هم أنفسهم يتحرون الطريقة المثلى التي تقربهم إلى الله أكثر ويرجون رحمته ويخافون عذابه الذي ينبغي على خلق الله جميعهم خشيته والحذر منه.

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في المقصود من جملة (مِنْ دُونِ اللهِ) البقرة [٢٣] منها عن ابن مسعود أنهم نفر من الجن كان يعبدهم العرب فأسلموا ولم يعرف العرب إسلامهم فظلوا على عبادتهم إياهم فأنزل الله الآية. ومنها عن ابن عباس أنهم المسيح وأمه والعزيز والشمس والقمر. ومنها عن قتادة أنهم الملائكة. واستبعد الطبري المسيح وأمه والعزيز لأنهم غير موجودين وقت نزول الآية. ورجح رواية ابن مسعود ، ويتبادر لنا أن الكلام أوسع

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠٤ و ٢٠٦ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

٣٩٨

وأهم من نفر من العرب يعبدون نفرا من الجن أسلموا. فضلا عن أن إسلامهم لو صحّ هو إخبار غيبي ليس فيه حجة على العرب. ونرى القول أنهم الملائكة هو الأصوب المتساوق مع السياق القريب الذي ذكر فيه عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وأنهم شركاء مع الله. وكانوا يعبدونهم على سبيل الانتفاع بهم كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها.

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)) [٥٨ الى ٥٩]

(١) كان ذلك في الكتاب مسطورا : بمعنى أن ما قررته الآية التي وردت فيها الجملة هو سنة الله المستمرة الحتمية التي قضاها منذ الأزل في علمه.

(٢) مبصرة : آية بينة واضحة.

(٣) فظلموا بها : كفروا بها وعتوا على الله وعقروا الناقة.

وفي الآية الأولى تقرير رباني بأنه ما من قرية أو أمّة إلّا سوف تهلك قبل يوم القيامة سواء أكان ذلك بسنة الكون الطبيعية أم بالعذاب الرباني ، وأن هذه هي سنة الله التي كانت ولن تزال مقررة في علمه المحيط الأزلي.

وفي الآية الثانية تقرير رباني كذلك بأن الله لم يمتنع عن إظهار الآيات والمعجزات على يد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا بسبب تكذيب الأمم السابقة لرسلهم وعدم تأثرهم بالمعجزات التي كان يظهرها على أيديهم ، كما كان ذلك من ثمود مثلا الذين أظهر الله تعالى لهم الناقة آية من آياته البينة فكفروا بآيات الله ورسوله وظلموا ، وأن الله إنما يرسل الآيات لتخويف الناس وإنذارهم حتى يرتدعوا عن ضلالهم وغوايتهم ويسلكوا سبيله القويم.

٣٩٩

تعليق على الآية

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ

أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)

والآية التالية لها

لقد روى الطبري في سياق تفسير الآيتين عن سعيد بن جبير من علماء التابعين أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك فادع ربّك أن يكون جبل الصّفا ذهبا. فأوحى الله إليه إن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العقاب فإنّه ليس بعد إظهار المعجزة مناظرة إن لم يؤمنوا وإن شئت استأنيت بهم قال يا ربّ استأن».

والرواية لم ترد في كتب الصحاح ، ووحدة السبك بين الآيتين والآيات السابقة واللاحقة والصلة الملموحة بين الآيتين وما سبقهما حيث انتهت الآيات السابقة بالتخويف من عذاب الله وجاءت الآيتان على أثرها تؤكدان قدرة الله على إيقاع هذا العذاب ، كل هذا يجعلنا نرجح أن الآيات سياق متصل وأن الآيتين لم تنزلا في مناسبة ما طلبه المشركون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تنفي بهذا ما ترويه الرواية من مطلب المشركين التعجيزي. ومن المحتمل أن يكون قد وقع منهم في ظروف نزول السورة ، ولقد كان الكفار ينكرون البعث ويستهترون بما ينذره القرآن بإنزال العذاب ، ويتحدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعجيل به مما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور التي فسرناها قبل. ومن المحتمل أن يكون هذا أيضا قد تكرر منهم في ظرف نزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآيتان الرد عليهم في الأمرين في سياق ذكر مواقفهم والتنديد بها. وقد انطوى في الردّ الأول إيذان بأن هلاك السامعين أمر محتم لأنه سنة ربانية عامة.

وفي هذا الردّ تسلية وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين ، فلا محل ليأس الأولين أو فرح الآخرين ، إذا ما تأخر ذلك وقتا ما.

وانطوى في الردّ الثاني تعليل لعدم إظهار الآيات على يد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٠٠