التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

وفي الإصحاح السادس والعشرين من سفر الأحبار (اللاويين) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعداءهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه‌السلام ، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.

ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها ، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.

وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرد في كتب الصحاح ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات القديمة ومنها ما ليس متطابقا. ومنها ما فيه إغراب وخلط وتقديم لما هو متأخر وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيى بن زكريا سبعين ألفا إلخ إلخ.

ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.

والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيء العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في

٣٦١

السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)) [٩ الى ١٠]

(١) التي هي أقوم : الطريق الأفضل والأصلح الذي فيه قوام حياة البشر وسعادتهم.

الآيتان جاءتا معقبتين أو نتيجتين لما تقدمهما كما هو المتبادر. فبعد أن ذكر في الآيات السابقة الكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى ليكون هدى لبني إسرائيل ، وأشير إلى ما كتب الله على بني إسرائيل من عقاب دنيوي بسبب بغيهم وفسادهم جاءتا لتقررا أن الله أنزل القرآن أيضا ليهدي الناس إلى أفضل السبل وأصلحها وليبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الكبير وينذر الكافرين بعذاب الآخرة الأليم.

وواضح من روح الآيتين وفحواهما أن ما يهدي القرآن إليه من الطريق الأقوم شامل لصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة معا.

ويلحظ أمر مهم حين المقارنة. فقد ذكر في الآيات السابقة أن الله تعالى قد جعل الكتاب الذي آتاه موسى هدى لبني إسرائيل ، بينما جاءت الآيتان مطلقتين ليشمل هدى القرآن جميع الناس ولتبشرا المؤمنين الصالحين من جميع الناس بالأجر. والكافرين منهم بالعذاب إطلاقا ما هو متسق مع عموم الرسالة المحمدية على ما قررته آيات عديدة مرّت أمثلة بها.

وفي الآيتين تأييد لما قلناه في مناسبات سابقة من أن كلمة (القرآن) أريد بها في الأصل التعبير عما في القرآن من أسس الدعوة ومبادئها.

٣٦٢

تعليق على تكرر التنويه بالقرآن في

هذه السورة بخاصة وفي القرآن بعامة

وما ورد في ذلك من أحاديث

ومن الجدير بالتنبيه أن هذه الآيات ليست الوحيدة في هذه السورة التي احتوت تنويها بالقرآن. حيث تكرر ذلك مرارا على ما سوف يأتي التنبيه إليه. وجاء في ما جاء إعلان رباني بأن الجن والإنس لو تظاهروا سيكونون عاجزين عن الإتيان بمثله. حيث يبدو من ذلك أن القرآن كان موضوع أخذ وردّ شديدين بين النبي والكفار في ظرف نزول السورة. ولقد احتوت هذه السورة فصولا عديدة فيها جماع أسباب الصلاح والسعادة والنجاة للبشر في الدنيا والآخرة حيث يمكن أن يكون تكرار التنويه متصلا بهذا أيضا.

على أن من الواجب أن ننبه مع ذلك إلى أن التنويه بما في القرآن من هدى ورحمة وإحكام وحكمة وبينات وذكرى قد تواصل في مختلف السور المكية والمدنية فضلا عن أنه كان موضوع قسم رباني في مطالع السور مما مرّ منه أمثلة ومما فيه معنى التنويه. ويبدو هذا منسجما مع حكمة الله عزوجل التي شاءت أن يكون القرآن معجزة النبوة المحمدية الكبرى.

وهناك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في كتب الصحاح فيها تنويه بالقرآن وما فيه من هدى ورحمة وفضل نكتفي منها بهذا الحديث الشامل الذي رواه الترمذي عن الحارث الأعور قال «مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ رضي الله عنه فقلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث. قال وقد فعلوها قلت نعم ، قال أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج يا رسول الله قال كتاب الله ، فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبّار قصمه ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا

٣٦٣

تلتبس به الألسنة. ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرّشد ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل. ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (١).

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)) [١١ الى ١٢]

(١) مبصرة : منيرة أو مضيئة.

في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى خلق من أخلاق كثير من الناس حيث تقرر أنهم طبعوا على العجلة في أمورهم سواء أدت إلى شرّ أم إلى خير. وهم يستعجلون بأعمالهم الشرّ مثل استعجالهم الخير.

وفي الثانية تقرير رباني بأن الله قد جعل الليل والنهار من أدلة حكمة النواميس الكونية التي أبدعها ؛ فجعل النهار مضيئا ليسعى الناس فيه ويحصلوا من فضل الله على وسائل عيشهم وقوام حياتهم. وجعل الليل مظلما ليسكنوا فيه ويستريحوا ، وبالإضافة إلى ذلك فإنه جعل الليل والنهار وسيلة لمعرفة السنين وحساب الأيام. وهو يبين للناس في قرآنه كل أمر ليدركوا حكمته البالغة وقدرته الشاملة.

ويتبادر لنا أن الآيتين غير منقطعتين عن الآيتين السابقتين لهما. ويبدوا أن الكفار حينما سمعوا ما احتوته الآيتان السابقتان من بشرى للمؤمنين وعذاب للكافرين تحدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعجيل العذاب على عادتهم فنزلت الآيتان للرد عليهم ؛

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٦ ـ ٧ انظر أحاديث أخرى في التاج ج ٤ ص ٣ ـ ٥ وننبه على أن هناك من يتوقف في رواية الأعور وقد قال بعضهم إن الحديث مرفوع. وقال بعضهم إنه من كلام علي رضي الله عنه. وما احتواه الحديث احتوته آيات القرآن وتقريراته جملة وتفصيلا.

٣٦٤

ففي أولاهما نددت بهم لاستعجالهم الشرّ والعذاب كما لو كان خيرا. وفي ثانيتها نبهتهم إلى أن لكل شيء موعدا وأجلا ، فالعاجل لا يكون آجلا بالدعاء والطلب ، والآجل لا يكون عاجلا به أيضا ، كما هو شأن تعاقب الليل والنهار وشأن حساب الأيام والسنين ، فلا الليل سابق النهار ولا السنون سابقة للأيام ؛ فكل شيء يكون في وقته المعين له.

ومدى ما احتوته الآيتان من تنبيه وتنديد وتوضيح وتعليم شامل على كل حال لسامعي القرآن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده على ما هو المتبادر من أسلوبها وفحواها. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة مرّ بعضها لأن ما احتوته الآيتان متصل بحياة الناس وشؤونهم وأخلاقهم بعامة.

وننبه بصورة خاصة إلى صيغة الآية الثانية حيث ينطوي فيها تنبيه إلى أمر يشاهده ويمارسه الناس وسامعوا القرآن الأولون من الجملة وهو كون النهار ظرفا للسعي والتكسب الذي عبر عنه بجملة (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [١٢] ولكون الليل والنهار وسيلة إلى معرفة دوران الزمن وحساب الأيام والسنين. وهو أسلوب القرآن عامة في تقرير مشاهد الكون ونواميسه. فلا ينفي أن يتجاوز الأمر الهدف الملموح في الآيات وهو التدليل على آثار نعمة الله ونواميسه في الكون إلى التمحل والتجوز لإثبات نظريات فنية من الآيات القرآنية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)) [١٣ الى ١٥]

(١) طائره : كناية عن عمله أو علامة طالعه من سعد وشؤم.

(٢) منشورا : مفتوحا أو معلنا.

في الآيات بيان رباني بأن كل إنسان في الآخرة ملزم بعمله وعليه تبعته إن

٣٦٥

خيرا فخير وإن شرا فشر ، وأن الله تعالى سيخرج له كتاب أعماله مفتوحا ويقول له اقرأه وحاسب نفسك على ما فيه واحكم عليها وفاقا له ؛ وأن المهتدي إنما ينفع نفسه باهتدائه وأن الضال إنما يضر نفسه بضلاله ، وأنه لا يحمل أحد تبعة عمل أحد ولا مسؤوليته ، وأن من تمام حكمة الله وعدله ألا يعذب أحدا حتى ينذره بلسان رسول من قبله يعرف بواسطته طريق الهدى وطريق الضلال حتى يكون ما يلقاه من عذاب أو ثواب في الآخرة قد استحقه وناله عدلا وحقّا.

والآيات متصلة بما سبقها اتصال سياق وتعقيب على ما هو المتبادر ، وفيها قرينة مرجحة للتأويل الذي أولنا الآيات السابقة به.

والمتبادر كذلك أنها بالإضافة إلى حقيقة الحساب والثواب والعقاب الأخروية التي يجب الإيمان بها بسبيل تنبيه السامعين إلى أن كل ما يفعلونه في الدنيا محصي عليهم ومحاسبون عليه ؛ وحملهم على اجتناب الكفر والإثم والإقبال على الإيمان بالله والعمل الصالح.

وفي الآية الأخيرة صراحة قطعية بتقرير قابلية الاختيار للإنسان ، وكون ما يلقاه جزاء عمله من نعيم وعذاب هو جزاء على هذا الاختيار وفيها كذلك تقرير لحكمة إرسال الرسل حيث يبينون للناس الحدود التي لا يستطيعون معرفتها بعقولهم واجتهادهم.

ولقد شرحنا موضوع كتب أعمال الناس التي سوف تعلن لهم يوم القيامة في سياق تفسير سورة (ق) فنكتفي بهذه الإشارة.

تعليق على مدى الآية

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها

وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

في كتب التفسير تأويلات وتعليقات حول محتوى هذه الآية :

فأولا : إن بعضهم يفسر كلمة (رسول) بالعقل الإنساني ويوجب على الإنسان

٣٦٦

العاقل بأن يؤمن بالله وحده وباليوم الآخر ويعمل العمل الصالح سواء أبلغته دعوة ربانية بطريق رسول أم لم تبلغه. ويجعل مصيره الأخروي مماثلا لمصير من بلغته دعوة مثل هذه.

وبقطع النظر عن وجاهة مسؤولية العاقل الراشد عن هداه وضلاله بالذات فالذي يتبادر لنا أن المقصود بالكلمة هو النبي الذي يرسله الله لدعوة الناس وبيان الحدود التي يجب أن يسيروا في نطاقها مما قد لا يستطيع العقل تبينه وحده وأن في ذلك التفسير تحويلا للكلام لا يتحمله المقصود القرآني. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك منها آيات سورة الشعراء [٢٠٨ و ٢٠٩] وآية سورة القصص [٥٩] وآية سورة طه [١٣٤] اللتين مرّ تفسيرهما حيث تذكر أن الله لا يهلك ولا يعذب أمة وقرية إلا بعد أن يرسل إليها رسولا يتلو عليها آياته ويبلغها دعوته.

وثانيا : ويدور جدل حول ما إذا كان ما قررته الآية من قابلية الإنسان للاهتداء والضلال ومسؤوليته عن ذلك وعدم مسؤولية أحد عن عمل غيره متناقضا أو غير متناقض مع آيات أخرى فيها تقرير كون الله خالق كل شيء بما في ذلك أفعال الناس وكون ما يقع منهم إنما يقع بمشيئة الله. وهذا الجدل يدور حول كل عبارة مماثلة مما مرّت أمثلة منه. ولقد شرحنا هذا الأمر في المناسبات السابقة بما رأينا أنه الحق إن شاء الله. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن المتبادر من روح الآية ومقامها أنها على سبيل الإنذار والتنبيه ليكون في ذلك رادع وحافز للسامعين وأن الأولى أن تتلقى على هذا الاعتبار وتبقى في نطاقه. ومع ذلك فإن من الممكن أن يقال إن قابلية الإنسان للاهتداء والضلال التي تقررها هذه الآية وأمثالها بصراحة هي من مشيئة الله تعالى المودعة في جبلّته فيزول بذلك وهم التناقض الذي لا يصح أن يفرض بين العبارات القرآنية والله أعلم.

وثالثا : وبين علماء الكلام القدماء جدل على هامش هذه الآية وأمثالها حول ما إذا كان يجب على الله تعالى إرسال الرسل لهداية الناس وما إذا كان يجب على الله تعالى جزاؤهم وفق أعمالهم. وما إذا كان يجب على الله تعالى الأصلح لهم.

٣٦٧

ومع أن القرآن قرر في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها أن الله عزوجل لم يعذب الناس إلّا بعد أن يرسل إليهم الرسل والمنذرين ويكفروا برسالاتهم وبالله ويبغوا ويفسدوا. وإن عذاب من يعذبهم وثواب من يثيبهم منهم نتيجة لمواقفهم من دعوة رسله ومنذريه هو حق عليه. وأنه ليس بظلام للعبيد. فإننا نرى واجب السملمين اليوم أن يكفوا عن مجاراة علماء الكلام القدماء في ما كانوا يقولونه حينما كانوا يتجادلون مع بعضهم. وأن يكتفوا بما قرره القرآن ويقفوا عنده دون مماحكة ومراء وأن يتذكروا أن الله الحكيم العادل يعامل خلقه بمقتضى هاتين الصفتين وكفى.

ورابعا : لقد أثار المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية مسألة المصير الأخروي لمن يموتون في طفولتهم والمجانين والصمّ والبكم والذين لم تبلغهم دعوة ربانية بواسطة رسله وكتبه. وقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة معزوّة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها تضارب وغرابة ووصف بعضها بالمرفوع وبعضها بالضعيف. وليس فيها حديث صحيح يمكن الاحتجاج به نفيا وإثباتا في هذه المسألة ولم نطلع نحن أيضا على مثل هذا الحديث. وما دام في القرآن نصوص صريحة بأن الله لا يعذب إلّا بعد أن يرسل رسلا ومنذرين ويكفر الناس بهم وأن الله لا يكلف نفسا إلّا وسعها ويدخل في مدى هذا التكليف الرباني الذي يترتب عليه الثواب والعقاب والذي إنما يكون بالنسبة للراشدين العاقلين الذين تبلغهم رسالات الله بواسطة رسله فإننا نرى الأولى أن يوقف في هذه المسألة عند هذه النصوص من الوجهة الكلامية. ونرى في الوقت نفسه أن في إثارتها في نطاق وسياق الآية تكلفا لا ضرورة له ولا طائل منه ، والله تعالى أعلم.

مذهب السلف الصالح

في فهم القرآن وأسباب انفتاح باب الجدل والكلام حوله

ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة ـ ويصح أن يذكر في كل مناسبة مماثلة سابقة ولا حقة ـ أن السلف الإسلامي الأول رضي الله عنه كان يأخذ القرآن بمفهومه

٣٦٨

المتبادر الذي كان يعيش في جوه ، ولا يحمّله غير ما يحمل ولا يحاول التخمين والتزيّد ولا يثير الإشكالات والفروض بسبيلها ، وكل ما كان من ذلك قد كان بعد أن اشتدت الفتن والخلافات السياسية ومزجها أهلها بالدين واستغلوا نصوص القرآن وأوّلوها وفق أهوائهم ، ثم ترجمت كتب المنطق والفلسفة اليونانية وولع بها بعض المسلمين وصاروا يطبقونها على النصوص القرآنية واندست بينهم عناصر مريبة ، فتفاقم الخطب وانفتح باب الجدل والكلام على مصراعيه ؛ حتى كادوا يقفون عند كل آية ويتجادلون فيها ، فأدى ذلك إلى شيء كثير من البلبلة والتشويش في سياق تفسير القرآن وتأويل آياته مما هو مبثوث في كتب علماء الكلام والشيعة وفرقها المتعددة.

وأفضل خطة لنظر القرآن وفهمه هي خطة ذلك السلف الصالح التي نوهنا بها أولا ، وتأويل القرآن بالقرآن ثانيا.

والمتدبر في القرآن يرى معجزة باهرة فيه ، حيث يجد في مكان ما تفسيرا وتأويلا وحلّا لعبارة ما في مكان آخر قد تثير في نفسه إشكالا أو وهما ، بل وإنه كثيرا ما يجد ذلك في نفس الآية التي فيها العبارة أو في سياقها القريب السابق أو اللاحق. وهذا مصداق قول الله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [٨٢] النساء.

وقد مرّت أمثلة كثيرة من ذلك في المناسبات السابقة ونبهنا إليها.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)) [١٦ الى ١٧]

(١) أمرنا : تعددت قراءة الكلمة كما تعدد تأويلها ، فقرئت آمرنا بمعنى أكثرنا أي أكثرنا عدد المترفين. وأمّرنا بمعنى جعلناهم أمراء وسادة ، وأمرنا بمعنى طلبنا

٣٦٩

منهم ، وأوّل بعضهم جملة (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) [١٦] بمعنى أمرناهم بالطاعة ففسقوا بسبب ترفهم وانحرافهم. وأوّلها بعضهم بمعنى أغدقنا عليهم نعمنا فبطروا وفسقوا ، ونفى المفسرون أن يكون معناها أمرناهم بالفسق لأن الله لا يأمر بالفحشاء على ما جاء في آية سورة الأعراف [٢٨] والنفي سديد وحق.

(٢) مترفيها : الكلمة هنا كناية عن الزعماء والوجهاء والأثرياء لأنهم هم الذين تيسّر لهم أن يحيوا حياة الترف والنعيم.

(٣) فسقوا : عصوا وتمردوا.

تعليق على آية

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) إلخ وتلقيناتها

في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى إنما يهلك الأمة أو البلدة ويدمرها بفسق زعمائها ومترفيها ووجهائها وأثريائها إذا ما اغتروا بما صار لهم من مال وجاه فكفروا بنعمة الله وانحرفوا عن طريق الحق والفضيلة ؛ وبأن الله قد أهلك على هذا الوجه كثيرا من الأمم والمدن من بعد نوح ، وهو الأخبر الأبصر بذنوب عباده وما يستحقون عليها من عذاب وعقاب.

والآيات متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وتعقيب كما هو المتبادر ، ويتبادر لنا أنها تنطوي على إنذار للكفار الذين هم موضوع الكلام وبخاصة لزعمائهم الذين حكت آيات كثيرة ـ مرت أمثلة عديدة منها ـ أنهم كانوا مغترين بقوتهم وأموالهم وأن ذلك جعلهم يقفون موقف المناوأة للدعوة النبوية التي خافوا منها على جاههم وزعامتهم وأموالهم. أما الإنذار لسائر الكفار المنطوي في جملة (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) فهو في تنبيههم إلى أن نكال الله وتدميره لا يقتصر على المترفين الفاسقين ذوي الحكم والنفوذ بل سوف يشملهم أيضا إذا ظلوا يطيعونهم ويستجيبون إليهم ولا يستجيبون إلى دعوة الله تعالى. والكفار السامعون كانوا يعرفون أنباء نكال الله في الأمم السابقة على ما شرحناه في مناسبات سابقة فلزمتهم الحجة. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى.

٣٧٠

وليس من محل للتوهم بما جاء عليه أسلوب الآية. والظن بأن الله عزوجل يدمر قرية ما اعتباطا بدون سبب منها بأمر مترفيها أن يفسقوا فيها ليحل عليها القول كما ذهب إلى ذلك بعض الملحدين (١). ويمنع هذا الظن الآية التي سبقت الآية والآيات التالية منعا حاسما كما يمنعه آيات كثيرة منها (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) هود [١١٧] و (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) القصص [٥٩].

ومع ما في هذا الشرح من تلقين مستمر المدى. ومع صواب تخريجات المؤولين لمدى الآية التي أوردناها في شرح العبارة سابقا فإنه يتبادر لنا أن الآية تنطوي على تقرير ناموس من النواميس التي أقام الله عليها المجتمعات البشرية. وهو أن المترفين إذا صار لهم الأمر في بلد ما وفسقوا فيها وسكت أهل البلد عليهم استحقوا الدمار والهلاك منهم.

وهذا وارد في آية سورة الأنفال هذه (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [٢٥] حيث توجب على المجتمع أن يمنعوا الفتنة فإن لم يفعلوا لا تقتصر عاقبتها على مشعليها فقط بل تصيب الجميع لأنهم قصروا في منعها. وفي هذا المعنى حديث رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال «سمعت رسول الله يقول إنّ الناس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم بعقاب».

وقد يكون في الآية إلى هذا قصد التقرير بأن من النواميس التي أقام الله المجتمعات عليها أن يكون القائمون على المجتمع النافذون الحاكمون فيه صالحين أحيانا وفاسقين أحيانا فإذا ما تولاه الأخيرون صار أمره إلى الدمار والفساد. وقصد التقرير بأن للزعماء تأثيرا في حالة أممهم صلاحا وفسادا على اعتبار أنهم يتأثرون بهم ويقلدونهم. وقصد التنبيه إلى عظم مسؤولية هذه الطبقة وخطورة الدور الذي تقوم فيه في أممهم وبلادهم والتنويه بواجب الجمهور تجاههم فيؤيدونهم إذا كانوا صالحين ويقفون في وجههم إذا كانوا فاسقين. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر كتاب نقد الفكر الديني لصادق العظم.

٣٧١

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)) [١٨ الى ٢١]

(١) العاجلة : كناية عن الدنيا وزينتها.

(٢) مدحورا : مطرودا ومبعدا.

(٣) محظورا : ممنوعا.

في الآيات تقرير رباني بأن الله يمكن أن يحقق أمل من يشاء من الذين يرغبون في متاع الحياة الدنيا وزينتها فقط دون اهتمام بالعواقب ؛ ولكن مصير هؤلاء في الآخرة إلى جهنم يدخلونها مذمومين مطرودين من رحمة الله. أما الذين يفكرون في الآخرة ويحسبون حسابها ويفضلون ما فيها من خير دائم على متاع الحياة القصيرة فيؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة فإن سعيهم عند الله مشكور ومثاب عليه. وفيها تقرير رباني كذلك بأن ما يتمتع به هؤلاء وهؤلاء في الدنيا هو من فضل الله الذي يمدهم به على ما فيه من تفاضل وتفاوت ، وبأن هذا التفاوت والتفاضل في الآخرة أعظم وأكبر.

والآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وسياق أيضا. والمتبادر أنه انطوى فيها تحذير وإنذار للكفار وتطمين للمؤمنين ، فإذا كان الكفار وبخاصة زعماؤهم المترفون قد حظوا بالمال والجاه وشغلوا بهما عن الآخرة فسوف يكون مصيرهم إلى جهنم مذمومين مدحورين. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم بذلك قد أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها وسوف تكون منزلتهم عند الله هي الفضلى والكبرى.

٣٧٢

وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألا يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء أن ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألّا يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح.

وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس.

وجملة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [١١٢] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ

٣٧٣

كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

(١) مخذولا : لا نصير له ولا مؤيد.

(٢) واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة : واخفض لهما جناحك متذللا من فرط رحمتك بهم.

(٣) الأوابين : التائبين الراجعين إلى الله.

(٤) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا :

بمعنى إذا لم تستطع مساعدتهم فورا وتأخرت في ذلك انتظارا ليسر تنتظره من الله فعليك أن تطيّب قلوبهم بالقول.

(٥) مغلولة إلى عنقك : مقيدة. والجملة كناية عن شدة الإمساك والتقتير.

(٦) محسورا : أصل الحسر بمعنى الكشف. والحسرة هي انكشاف ما كان مانعا من الغمّ. وقيل إن الحسر هو الكلال والعجز. والكلمة على كل حال بمعنى فناء جميع ما في اليد والعجز والحسرة بعد ذلك.

(٧) يبسط : يوسع.

(٨) يقدر : يضيق ويقتر ولعلّ معناها اللغوي هو أن الرزق أحيانا يكون بحساب وقدر محدود. وفي القرآن آيات تذكر مقابل ذلك أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

٣٧٤

(٩) الإملاق : الفقر والعجز عن الإعالة.

(١٠) خطأ : ذنبا وإثما.

(١١) إنه كان منصورا : إن له حق النصر والقصاص وليس له الإسراف في الانتقام.

(١٢) القسطاس المستقيم : الميزان المضبوط السليم من الغش.

(١٣) أحسن تأويلا : هنا بمعنى أحسن عاقبة ، من الأيلولة.

(١٤) ولا تقف ما ليس لك به علم : من القيافة وهي تتبع الأثر. ومعنى الجملة لا تتدخل فيما ليس لك به علم وشأن.

الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه‌السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم ، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.

تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة

والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق ، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.

٣٧٥

وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين ، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه ، وهي من هذه الناحية ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته ، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة ، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء ، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.

ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام ، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع. لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.

تعليق على الآية

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إلخ

هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزوجل على بسط الرزق وتقتيره لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.

وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله تعالى أعلم قصد الإشارة إلى النظام

٣٧٦

الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.

وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلَّا ...) وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [٣٧] وسورة سبأ [٣٦] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.

صور من تقاليد العرب وعاداتهم

ولقد احتوت الآية [٣١] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق ؛ والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧) وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٥٩) على ما سوف نشرحه بعد.

واحتوت الآية [٣٣] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل وإنما يقتلون غيره من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام ، لا سيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق. حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة

٣٧٧

جاهلية ظالمة وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) على محمل آخر أيضا حيث قالوا إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لولي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.

تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

(١) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات. مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.

(٢) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله. في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألّا يعترف بحق الله وحق الغير ، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) في الآية [٢٤] قد نسخت باية سورة التوبة هذه (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا

٣٧٨

معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.

(٣) إلى استعمال كلمة (حَقَّهُ) في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة للرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.

(٤) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السواد الأعظم من خلق الله مرتكسين في الحرمان والجوع والمرض. وتقرير كون ذلك من وساوس الشياطين المؤدية إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.

(٥) إلى ما في جملة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥) من تقرير كون نيات الناس وأخلاقهم هي المقياس لتصرف الله عزوجل نحوهم بالرحمة والنقمة مما قررته آيات عديدة بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها ومما فيه حثّ على الصلاح وتحميل الناس مسؤولية ما يقع عليهم.

(٦) إلى التعليم الرباني الجميل في حالة تعذر مساعدة المحتاج فورا وهو التصرف معه بالحسنى وتطييب خاطره وبعث الأمل فيه إلى فرصة أخرى ييسر الله فيها من رحمته ما يساعد على مساعدته.

(٧) إلى الأسلوب اللاذع القوي في النهي عن الخيلاء والزهو والكبر والغرور. فمهما بلغ المرء من أمر فهو إنسان كسائر الناس! ولن يخرق الأرض

٣٧٩

بقدمه ولن يطاول الجبال برأسه. وأحرى به أن يعرف حده ويقف عنده وأن يعترف للآخرين بإنسانيتهم المماثلة لإنسانيته.

(٨) إلى الأمر بالوفاء بالعهد والتنبيه إلى أن الإنسان مسؤول عن عهده أمام الله. ولقد تكرر هذا الأمر بأساليب مختلفة في القرآن المكي ثم المدني. ووصل الأمر في ذلك إلى أن نزلت آية تأمر المسلمين بالوفاء بعهودهم مع الكفار حتى لو استصرخهم عليهم مسلمون تحت سلطانهم على ما جاء في آية سورة الأنفال هذه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (٧٢)

(٩) إلى أن الوصايا قد انصبت على النهي عن كل ما فيه شذوذ عن توحيد الله عزوجل وعقوق للوالدين ، وعدوان على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم وظلم للضعفاء (ويمثلهم فيها اليتامى) وغدر ونكث للعهود ، أو الذي فيه إسراف وتبذير وخيلاء. وهذا يلحظ في سلسلة سورة الفرقان حيث يؤيد هذا ما قلناه في سياق تفسير الآيات [٣١ ـ ٣٣] من سورة الأعراف وهو أن القرآن قد جرى على خطة بيان المحظورات وحسب ، وأباح ما عداها مما ليس فيه شرك وإثم وإسراف وبغي وغدر وظلم.

ويلفت النظر بخاصة إلى ما تضمنته الآيات مما يصح أن يسمى حكمة التشريع من بيان نفع ما أمرت بفعله وضرر ما نهت عنه وفي هذا خطاب للعقل وتنبيه للضمير. وهو ما تكرر كثيرا في الأوامر والنواهي القرآنية.

ولقد علقنا في مناسبة سابقة على ما أعارته حكمة التنزيل لحق اليتيم وماله وحالته من عناية وأوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك فلم نر ضرورة إلى التكرار بمناسبة ما جاء في الآيات من التنبيه على وجوب رعاية مال اليتيم.

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه السلسلة أحاديث نبوية مختلفة الرتب في

٣٨٠