التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

الله تعالى بشهيد من كل أمة ثم يقال للمشركين الكافرين هاتوا برهانكم على صواب ما كنتم عليه فتلزمهم الحجة ويتحققون أن الحق لله تعالى ويغيب عنهم ما كانوا يقولونه ويفترونه.

وكلمة الشهيد في الآية الثانية تعني نبيّ كل أمة ورسولها على ما اتفق عليه المفسرون وما هو المتبادر منها. والآية تصور موقفا شبيها بالموقف القضائي زيادة في الإفحام والإلزام وقوة الحجة. وقد تكرر هذا مرارا في آيات مكية ومدنية منها آية سورة الزمر هذه (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩) وآية سورة النساء هذه (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١).

والمتبادر أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إثارة الفزع والخوف في قلوب الكفار المشركين وحملهم على الارعواء كما هو شأن الآيات المماثلة.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)

٣٤١

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)) [٧٦ الى ٨٤]

(١) بغى عليهم : ظلمهم ، وقد تكون بمعنى استكبر عليهم أو تسلط عليهم.

(٢) لتنوء بالعصبة أولي القوة : إن الجماعة القوية لا تكاد تطيق حملها أو تكاد ترزح تحتها. والقصد من الجملة تصوير عظمة الثروة والكنوز.

تعليق على قصة

قارون وما فيها من عبر وتلقينات

احتوت الآيات قصة قارون وعاقبته. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.

ولم نطلع على رواية تذكر مناسبة خاصة لنزول هذا الفصل عقب الآيات السابقة. ويبدو لنا أن المناسبة قائمة بينه وبين موضوع الآيات السابقة وخاصة الآيات [٥٧ ـ ٦١]. ففي هذه الآيات ذكر ما كان يهمّ أهل مكة من أسباب الرزق والأمن ، وخوفهم من فقدها إذا اتبعوا الهدى الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأشير فيها إلى ما كان من اغترار أمم كثيرة بما تيسّر لها من وسائل الرزق وسعة العيش وبطرها وهلاكها ، وذكر فيها كذلك أن ما عند الله خير وأبقى من متاع الحياة الدنيا وزينتها ، فجاء هذا الفصل استطراديّا ليقصّ قصة فيها من المثل والعبرة ما يتسق مع فحوى تلك الآيات وهدفها.

ونرجح أن سامعي القرآن أو بعضهم كانوا يعرفون قصة قارون. وأسلوب الآيات التقريري وحكمة إيراد القصة المتناسبة في موضوعها مع الآيات السابقة يقويان هذا الترجيح. وآيات القصة في حدّ ذاتها تحتوي مواعظ وعبرا عديدة. بحيث يبدو من كل ذلك أن الفصل متصل بالسياق وغير غريب عنه ، وأن هدف

٣٤٢

القصة التي احتواها هو العبرة والتذكير وضرب المثل كسائر القصص القرآنية.

والآيتان الأخيرتان جاءتا معقبتين على القصة على ما هو المتبادر ، فالنجاة في الآخرة والعاقبة السعيدة إنما هما للذين لا يريدون فسادا وعلوّا في الأرض ، والذين يتقون غضب الله ونقمته ؛ ومن يقدم بين يديه الحسنات والأعمال الصالحة يكافأ عليها بما هو خير منها ومن يقدم السيئات فلا يكافأ إلّا بما كان يعمل. وهذا التعقيب متسق مع الأهداف التي تستهدفها القصص القرآنية ومع التعقيبات التي تعقبها على ما مرّت أمثلة عديدة منها.

واسم قارون يرد هنا لأول مرة. ويرد بصراحة أنه من قوم موسى. وذكر مرتين أخريين في سياق ذكر فرعون وهامان وليس لقارون ذكر في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. ولقد أورد المفسرون بيانات كثيرة عن قارون وثروته ومعرفته سرّ تحويل المعادن الخسيسة إلى الذهب. ودسائسه على موسى عليه‌السلام وكفره وبغيه. وجنسيته وهويته ، وكيفية الخسف الذي حلّ به ، منه ما هو معزوّ إلى صحابة وتابعين بأسمائهم ومنه ما ليس معزوا إلى أحد. وفيها كثير من الإغراب كما هو ملموح (١). ولم نر طائلا في إيرادها لأنها غير متصلة بهدف القصة. وتدل مع ذلك على أن قصة قارون وشخصيته وثروته لم تكن مجهولة في أوساط العرب في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته. وما دام القرآن يذكر أنه من قوم موسى فالذي نعتقده أن قصصه على النحو الوارد موجزا في القرآن مما كان متداولا عند اليهود وواردا في بعض أسفارهم وقراطيسهم التي لم تصل إلينا. وقد تسرب ذلك إلى العرب من هذا الطريق. ولقد قصد بما ورد من القصة في القرآن التمثيل والموعظة وهذا إنما يتحقق إذا كان السامعون يعرفون ما يسمعون من القصص كليا أو جزئيا على ما شرحناه في المسائل المماثلة. ولقد قيل إن اسم قارون هو اسم معروف لملك أو أمير غني من ملوك آسيا الصغرى (الأناضول) أو (بلاد الروم) كما كانت تدعى سابقا وهو قيروس أو قيرسوس أو ما يشبه ذلك. ولسنا نرى في هذا ما

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

٣٤٣

ينقض ما قررناه فقد يكون اسم قارون معربا لاسم قريب منه كان في زمن موسى ومن قومه. وكان ذا غنى وفساد. والأسماء تتجانس تقليدا واقتباسا. وقد يكون ذلك الملك الآسيوي متأخرا عن عهد موسى ويكون اسمه هو المقتبس. وإطلاق الاسم على هذا للتشابه بين صفاته وثروته وبين قارون موسى والله تعالى أعلم.

أما ما احتوته آيات القصة من الموعظة والعبرة والحكم الأخلاقية فهو :

١ ـ إن الله لا يحب الفرحين المغترين بأموالهم.

٢ ـ إن من واجب الذين أنعم الله عليهم بالثراء ألّا يجحدوا يد الله عليهم ويبطروا وأن يذكروا دائما أن الله قد أهلك من هم أكثر قوة ومالا منهم حينما جحدوا وبطروا.

٣ ـ إن من واجبهم أيضا أن يسلكوا سبيل القصد ، وأن يذكروا أنه إذا كان لهم أن يتمتعوا بما تيسّر لهم من أسباب العيش والدعة فإن من واجبهم أن يساعدوا الآخرين ويحسنوا إليهم كما أحسن الله إليهم وأنه ليس لهم أن يستعملوا ما يسّره الله لهم في الفساد والبغي ، وأن يذكروا مفاجآت الأحداث وغضب الله وأن يشكروا الله شكرا عمليّا بالاعتراف بفضله وربوبيته والتقرب إليه بصالح الأعمال ، وألّا ينسوا يوم الجزاء الأخروي الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما فعل.

٤ ـ إنه لا ينبغي لمن لم يتيسر لهم الثراء ألّا تشرد أعينهم إليه ليحصلوا عليه بأي طريق كان ولو بالبغي والفساد ،

وعليهم أن يتحلوا بالقناعة والصبر ولا ينحرفوا عن الطريق القويم المشروع ، وأن يتيقنوا أن ثواب الإيمان والعمل الصالح خير وأبقى وأنه لا يصل إلى هذه الغاية المثلى إلا الصابرون.

٥ ـ إن الذين أوتوا العلم قاموا بواجبهم فنبهوا الذين تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون إلى ما هو خير من ذلك وهو ابتغاء ثواب الله بالإيمان والعمل الصالح.

٦ ـ إن الله قد عاقب قارون على بطره وجحوده وبغيه وفساده ، وأدرك الذين

٣٤٤

كانوا يتمنون أن يكون لهم ما كان له أن بسطة الرزق ليست خيرا دائما وأن فيها محكّا لأخلاق الناس وامتحانا لنوازعهم وكثيرا ما تكون عليهم نقمة وشرّا وأن الكافرين لا يفلحون قط.

٧ ـ إن الله قد ضمن للمتقين الذين يتحاشون الفساد والتجبر في الأرض أحسن العواقب في الآخرة.

وطبيعي أن هذه الحكم مستمرة المدى والشمول. وفيها من التشجيع على الفضيلة والبرّ وتقبيح الرذيلة والبغي والبطر والجحود وبثّ الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين والارتفاع بهم إلى الأفق الأعلى من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ما هو جليل رائع.

وجملة (لِلْمُتَّقِينَ) في آخر الآية [٨٣] في مقامها مناسبة جديدة لتكرار ما نبهنا عليه من مغزى التقوى التي هي أهم مظاهر الإيمان.

ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث التي تندد بالتعالي والبطر والتجبر في مناسبة آيات قصة قارون. ونكتفي من ذلك بما ورد في كتب الصحاح ، منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما رجل يمشي قد أعجبته جبّته وبرداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» (١). وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنّ الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطرا» (٢) حيث ينطوي في الأحاديث صور من التعليق والتطبيق النبوي للآيات القرآنية على سبيل الموعظة والتعليم والتحذير.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٤٧.

(٢) المصدر نفسه.

٣٤٥

فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)) [٨٥ الى ٨٨]

(١) فرض عليك القرآن : أنزله عليك وأوجب عليك إبلاغه والسير وفقه.

(٢) لا يصدّنك : لا تدعهم يصرفونك.

الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالذي أنزل عليه القرآن وأوجب عليه إبلاغه والسير وفقه رادّه ومعيده ، وعليه أن يعلن للناس أن ربّه هو الأعلم والحكم بينه وبين الكفار في من هو على الحق والهدى ومن هو على الضلال الشديد ، وأنه ما كان ليأمل أن ينزل عليه الكتاب ، وأن الله تعالى لم يختره وينزله عليه إلّا رحمة منه وفضلا ، وأن عليه ألّا يكون نصيرا للكافرين على نفسه ، وألّا يدعهم يصرفونه عن أوامر ربّه وآياته بعد أن أنزلت عليه متأثرا بمواقف اللجاج التي يقفونها إزاءه ، وأن يدعو إلى ربه وحده ولا يسلك سبيل المشركين وألا يدعو مع الله إلها آخر ، فليس من إله غيره قط ، وكل شيء هالك إلّا وجهه ، وله الحكم والقضاء على خلقه ، وهو مرجعهم أولا وآخرا.

تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره لجملة (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) منها أنها بمعنى رادك إلى الجنة. ومنها أنها بمعنى رادك إلى الموت. ومنها أنها بمعنى رادك إلى يوم القيامة. ومنها أنها بمعنى رادك إلى مكة ، وقد رويت رواية تفيد أن الآية التي فيها الجملة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة في منزل يقال له الجحفة حيث حزّ في نفسه أن يخرج من وطنه على الوجه الذي خرج به فأنزل الله عليه الآية لتطمينه وتسليته وتوكيد كون الله عزوجل راده إلى مكة ثانية. وهذه الرواية قد تقوي إن صحت التأويل الأخير.

٣٤٦

وتنبه على أن هذه الرواية رويت عن ابن عباس الذي روي عنه أيضا كون الجملة بمعنى «رادك إلى يوم القيامة» (١).

وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث. ويلحظ أن الشطر التالي من الآية التي فيها الجملة يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلن بأن ربه هو الأعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال. وهذا يعني أن النبي كان في موقف حجاجي مع الكفار. وبين الآية والآيات التالية لها ترابط ، ولهذا نشك في نزول الآية لحدتها أو نزولها في طريق الجحفة والنبي خارج إلى المدينة مهاجرا ، ونرجح أن الآيات جميعها في صدد الموقف الحجاجي وأن الجملة تعني أن الله تعالى باعثه هو والكفار يوم القيامة وأنه سيحكم حينئذ بينه وبينهم وهو الأعلم بالمهتدي والضال منهم. وقد انطوى فيها هدف التطمين والتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومثل هذه الجملة ورد في آيات عديدة في مواقف الحجاج بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار مثل سورة الأنعام [١١٧] والنحل [١٢٥] والقلم [٧].

ولم يرو المفسرون روايات في سبب نزول الآيات التالية لآية الأولى ، وقد رووا عن ابن عباس أن الخطاب فيها وإن كان موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو لأمته ، ومع أن هذا وارد ووجيه من ناحية ما احتوته الآيات من أوامر عليها طابع الشمول والتلقين المستمر ، وهذا هو المقصود من قول ابن عباس المروي كما هو المتبادر. فإن الذي يتبادر لنا من روح الآيات وفحواها أنها موجهة إلى النبي في مناسبة الموقف الذي بينه وبين الكفار الذي كان في صدد مبادئ الدعوة. وكان الكفار فيه أحيانا يحاولون مساومته وزحزحته عن شىء ما منها ، وأنه بدا منه شىء ما من المسايرة رغبة في هدايتهم التي كان شديد الحرص عليها وبخاصة زعمائهم وإزالة العقبات القائمة في سبيل الدعوة. فنزلت الآيات لتنبهه إلى ما كان من فضل الله عليه ورحمته به في إنزال الكتاب عليه واختصاصه برسالة الله وتثبّته وتلقّنه خطورة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي. ورواية نزول الآية في الجحفة رواها المصحف الذي اعتمدناه أيضا.

٣٤٧

المهمة التي انتدب إليها ، وما توجبه من الثبات والصبر وعدم المسايرة في أي عمل أو قول يمكن أن يكون فيه أي تساهل في أساس الدعوة إلى الله وحده وفي الأسس المحكمة التي انطوت عليها الآيات القرآنية ، وتهيب به ألا يكون منه فتور في الدعوة بسبب مواقف اللجاج أو المساومة التي يقفها الكفار.

ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض الزعماء المعتدلين الذين كانوا يعتقدون بصدق دعوته ويخافون عواقب اتّباعه ، على ما حكته الآية [٥٧] ؛ ولعل ما كان من أخذ ورد بينهم وبينهم وبنيه هو في صدد الكعبة وتقاليدها حيث يرجّح هذا ما حكته عنهم الآية نفسها من مخاوف.

وهذا الذي نخمّن انطواءه في الآيات قد ذكر صراحة في آيات سورة الإسراء هذه (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤) ومن الجدير بالتنبيه أن سورة الإسراء هذه قد نزلت بعد سورة القصص ؛ حيث ينطوي في هذا صحة تخميننا وصوابه إن شاء الله. ومحاولات الكفار زحزحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست جديدة بل بدأت من أوائل عهد الدعوة ، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة القلم.

على أن من الواجب أن ننبه إلى أنه لا ينبغي التوهم من ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مرّ عليه دور كان فيه مترددا في إيمانه بالله وحده أو ميّالا إلى مسايرة الكفار في زحزحته عن مبادئ الدعوة وأسسها. فهذا يناقض العصمة النبوية في هذا الصدد الذي يجب الإيمان بها ، والتقريرات القرآنية التي مرّت أمثلة عديدة منها تجعله من هذه النواحي فوق كل مظنة ووهم ؛ وتصف استغراقه في الله والمهمة التي انتدب إليها بأروع الصفات وأقواها ، وكل ما كان من أمر أن رغبته الشديدة في هدايتهم وحرصه القوي على نجاح الدعوة وانتشارها وشدة العقبات التي كانت تقوم في طريقها بسبب موقف كفار قريش ، وبخاصة زعمائهم كان يجعله يفكر في مسايرتهم في أمور شكلية وثانوية مما كان غير الأولى في علم الله سبحانه ، فكان وحي الله

٣٤٨

ينزل مبينا ما هو الأولى في علمه ، على ما شرحناه في سياق سورة عبس وغيرها.

وعلى هذا فالآيات ليست منقطعة عن مواضيع السورة كما هو واضح ، وبالإضافة إلى ذلك فإنها متصلة بالآيتين السابقتين لها مباشرة حيث يبدو أنها جاءت معقّبة عليهما ، ولقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة ومنهية إنهاء حاسما للمواقف التي كانت بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزعماء الكفار والتي حكتها آيات عديدة منها.

دلالة قرآنية

على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا قبل هبوط الوحي عليه.

هذا وفي ما احتوته الآية الثانية صراحة قطعية بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يدري من أمر نبوته شيئا قبل هبوط الوحي عليه ، وفي ذلك نفي قرآني صريح لما يتزيده المتزيدون في هذا الصدد ، ويتوسعون فيه من ذكر الأعلام والإشارات ويوردونه من الروايات ويخمنونه من التخمينات. سواء أكان ذلك في ظروف ولادته ونشأته أم قبل ذلك بآماد بعيدة أو قبل نزول الوحي عليه. وفي سورة يونس آية صريحة أخرى في ذلك جاءت جوابا على تحدي الكفار بالإتيان بقرآن غير القرآن الذي يتلوه عليهم وهي (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦).

هذا ، وفي مناسبة ورود كلمة (وَجْهَهُ) بالنسبة لله تعالى نذكر القارئ بتعليقنا على ما في القرآن من صفات وأعضاء وحركات منسوبة إلى الله عزوجل في سياق سورة الفجر حيث نبهنا إلى ما في ذلك من مقاصد. والموقف الذي يجب أن يقفه المسلم وقارئ القرآن من مثل هذه الألفاظ. ونكتفي بهذه الإشارة عن الإعادة.

وتعبير (وَجْهَهُ) لله سبحانه من المواضيع الجدلية بين علماء الكلام من حيث ماهيته وكيفية تأويله ، وهذا يقع بالنسبة إلى سائر الألفاظ والصفات والحركات التي تنسب إلى الله سبحانه الأعضاء والجوارح والحواس مثل يد الله

٣٤٩

وقبضته ويمينه ونفسه وسمعه وأبصاره وروحه ونزوله واستوائه إلخ.

وروح التعبير هنا يفيد أن المقصود به ذات الله تعالى ، ولا يحمل جدلا فيما نعتقد ، والمتبادر أنه أريد بكل ما ذكر في القرآن من كل ذلك وصف الله سبحانه بكل صفة على أكمل ما يكون مما يقتضي أن يكون الله سميع لكل ما من طبيعته أن يسمع ، ويبصر لكل ما من طبيعته أن يبصر ، وعليم بكل شيء ومدرك لكل شيء ومحيط بكل شيء وقادر على كل شيء وموجود في كل مكان .. إلخ وقد استعملت الألفاظ في معرض الدلالة على ذلك لأن القرآن يخاطب الناس بلغتهم والمعاني التي يفهمون ماهيتها ومداها. ومع ذلك فإن هناك مذهبا سليما ووجيها يرى أصحابه التسليم بكل ما جاء من ذلك وعدم حمله على غير ظاهره وعدم البحث في الوقت نفسه في الماهيات والكيفيات وتفويض الأمر لله تعالى فيما أراد منه مع تنزيهه سبحانه عن الجسمانية والجهة والحدود والحاجة إلى أي شيء والمماثلة لخلقه في أي شيء عملا بضابط قرآني محكم جاء في آية سورة الشورى هذه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) والله تعالى أعلم.

٣٥٠

سورة الإسراء

في السورة إشارة إلى حادث الإسراء النبوي ، ومجموعة من الوصايا والأوامر والنواهي والحكم الدينية والأخلاقية والاجتماعية ، وفيها استطرادات إلى أحداث بني إسرائيل التاريخية وإلى قصة آدم وإبليس وقصة موسى وفرعون في معرض التمثيل والموعظة ، وفيها حكاية لمواقف الكفار وعقائدهم وأقوالهم وتعجيزاتهم ومناقشتهم فيها وتسفيههم ، وإشارة إلى محاولات الكفار لزحزحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بعض ما يدعو إليه ومساومته ، وإلى بعض أزماته ، وتسليته من جهة ، ومعاتبته من جهة ثانية ، وحكاية لموقف بعض علماء الكتابيين وإيمانهم بالقرآن ، وإشادة بالقرآن في مواضع عديدة ، وتنويه بما فيه من حق وهدى وروحانية وشفاء وإعجاز ، وفصولها مترابطة وآياتها متوازنة ومتساوقة ؛ مما يمكن أن يلهم أن فصولها نزلت متلاحقة إلى أن تمت.

وقد روي أن الآيات [٢٦ و ٣٢ و ٣٣ و ٥٧ و ٧٣ ـ ٨٠] مدنيات وليست الروايات وثيقة السند من جهة وسياق الآيات ومضامينها وتوازنها وانسجامها مع ما سبقها ولحق بها يسوغ الشك في الرواية ويرجّح مكية الآيات ، وللسورة اسم آخر هو بني إسرائيل لأن فيها فصلا عنهم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)) [١]

(١) سبحان : أوجه الأقوال فيها أنها مصدر سبّح ، وهي هنا وفي كل موضع

٣٥١

مماثل بمعنى «تسبيحا لله» والتسبيح هو التقديس والتمجيد والثناء.

(٢) أسرى : من الأسراء وهو السير في الليل.

(٣) عبده : كناية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) المسجد : مكان السجود والعبادة مطلقا.

(٥) المسجد الحرام : مسجد مكة. والجملة تعني حين نزولها المصلى أو الفناء المعدّ لإقامة الصلاة والطقوس حول الكعبة.

(٦) المسجد الأقصى : الأقصى بمعنى الأبعد. وقد قصد بالجملة مكان عبادة الله في بيت المقدس ، ونعت الأقصى للدلالة على البعد الشاسع بين مكة وبيت المقدس ، ثم صار تعبير «المسجد الأقصى» علما على مسجد بيت المقدس الإسلامي بعد الإسلام اقتباسا من الوصف القرآني. وكان قبل الإسلام مكان المعبد الذي بناه سليمان عليه‌السلام ، وكان خرابا حين نزول الآية.

(٧) الذي باركنا حوله : ضمير «حوله» راجع إلى المسجد الأقصى. والكلمة تعني بلاد فلسطين التي فيها المسجد ، وقد ذكرت آيات سورة الأعراف [١٣٧] وسورة الأنبياء [٧١] أن الله بارك فيها.

في الآية تقديس لله تعالى الذي أسرى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة مكان المسجد الحرام إلى مكان المسجد الأبعد في بيت المقدس الذي بارك الله حوله ليريه من آياته ودلائل عظمته ، وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.

لقد شرحنا بشيء من الإسهاب ما جاء ودار حول حادثي الإسراء والمعراج في سياق تفسير سورة النجم. فلم يبق ضرورة لتكرار شيء من ذلك ؛ إلّا القول في مناسبة هذه الآية إن حادث الإسراء النبوي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مذكور بصراحة في القرآن دون المعراج ، وإن روح الآية قد تلهم أنه كان بالجسد واليقظة. لأنه لو كان في المنام أو مشهدا روحانيا كما رجحنا أن يكون هذا بالنسبة للمعراج الذي تظاهرت الأحاديث في صدد وقوعه لما ظهرت حكمة ذكره والتنويه به بهذه القوة.

٣٥٢

وهناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح فيها ما قد يكون فيه تأييد لذلك. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لما كذّبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (١). وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال «قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قطّ فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به» (٢). وروى ابن كثير حديثا رواه البيهقي عن عروة عن عائشة قالت «لمّا أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدّث الناس بذلك فارتدّ ناس ممّن كانوا آمنوا به وصدّقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا هل بك في صاحبك يزعم أنّه أسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال أو قال ذلك قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا فتصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح. قال نعم إنّي لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك أصدّقه في خبر السّماء غدوة أو روحة». ومما رواه البغوي «أنّه كان لجماعة من قريش عير قادمة فسألوه هل لقيت منها شيئا قال نعم مررت على عير بني فلان وهي بالرّوحاء وقد أضلّوا بعيرا لهم وهم في طلبه. وفي رحالهم قدح ماء فعطشت فأخذته فشربته ثمّ وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ، قالوا هذه آية ، قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى فنفر عيرهما منّي فرمى بفلان فكسرت يده فسلوهما عن ذلك ، فقالوا هذه آية. وسأله جماعة عن عيرهم فقال مررت بها بالتّنعيم. قالوا فما عدّتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها فقال نعم هيئتها كذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشّمس. وقالوا وهذه آية ، ثمّ خرجوا يشتدّون نحو الثّنية وهم يقولون والله لقد

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٣٤.

(٢) المصدر نفسه والحجر هو مكان في فناء الكعبة.

٣٥٣

قصّ محمد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون حتّى تطلع الشّمس فيكذّبوه إذ قال قائل منهم والله هذه الشّمس قد طلعت فقال آخر هذه الله الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق. وفيها فلان وفلان كما قال». ويصح أن نذكر في هذا السياق والحديث المروي عن أم هانئ عمّة النبي الذي ذكرناه في سياق سورة النجم وجاء فيه «أنّه كان في بيتها فافتقدته في فراشه فلم تجده ، ثمّ وجدته في الصّباح فلمّا استيقظ أخبر بخبر إسرائه إلى المسجد الأقصى».

ومن الجدير بالتنبيه هنا أيضا أن الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح عن الإسراء والمعراج لا تقرن الإسراء بالمعراج. وهذا له مغزى مهم في صدد ما نحن بسبيله. ومن هذه الأحاديث التي أوردنا نصوصها آنفا عن أبي هريرة وجابر ما اقتصر على ذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقط.

ومع ذلك فإن الحديثين اللذين يرويهما البخاري عن مالك بن صعصعة وشريك بن عبد الله واللذين أشرنا إليهما في التعليق المسهب في سورة النجم واللذين يذكران أن الحادث كان في أثناء النوم أو بين اليقظة والنوم مع شقّ بطن النبي وغسله وحشوه والحديث المروي عن عائشة بأن النبي لم يفارق فراشه ليلة الإسراء والحديث المروي عن معاوية بأن الإسراء والمعراج كان في المنام كل هذا يجعل احتمال الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أيضا مشهدا روحانيا واردا كذلك. ولا سيما إن هناك حديثا يرويه الطبري بطرقه عن أبي هريرة يذكر فيه فيما يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرى أثناء مسراه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو راكب على البراق ومع جبريل جماعات من الناس في أشكال وحالات متنوعة في العذاب بسبب آثام وذنوب اقترفوها وأنه رأى فيما رأى أثناء هذا المسرى أيضا الجنة والنار وسمع كلاما لكل منهما. وفي هذه السورة آية أشير فيها إلى حادث الإسراء على قول أكثر أهل التأويل بكلمة (الرؤيا) وهي هذه (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [٦٠] ومع أن أهل التأويل قالوا إن كلمة الرؤيا تطلق على الرؤيا العيانية أيضا. إلا أنها في القرآن لم ترد إلا في معنى الرؤيا

٣٥٤

المنامية فقط كما يستفاد من آيات سورة الصافات [١٠٢ ـ ١٠٩] وسورة يوسف [٤ ـ ٥ و ٤٣ و ١٠٠] وسورة الفتح [٢٧] وإن كان من الواجب أن نقول أيضا إن روح آية الإسراء تلهم أن الرؤيا كانت عيانية لأنها لو لم تكن كذلك لما ظهر سبب لفتنة الناس بها إذا كانت الكلمة تعني الإسراء.

ويبقى بعد ذلك كله الحديثان الصحيحان اللذان يرويهما جابر وأبو هريرة وفيهما ما كان من سؤال قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صفة بيت المقدس ووصفه لهم مما فيه تأييد للرؤيا العيانية وبالتالي لكون الإسراء بالجسد واليقظة حتى ولو أغفلنا الحديث الطويل الذي يرويه البغوي والذي فيه مثل ذلك بتفصيل أوفى على أنه لن يفوتنا أن نذكّر ثانية بأن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح وغيرها يرويها أناس من أهل العهد المدني وأنه لم يرو شيئا منها أناس من أهل العهد المكي الذين يفرض أنهم كانوا شهود خبر الحادث والذين يفرض أن يكونوا هم الأولى في رواية خبره.

ومهما يكن من أمر فإن روح الآية ومضمونها يلهمان أن الحادث كان تكريما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصد اطلاعه على بعض آيات الله ومشاهد ملكوته أولا. وأنه حادث خاص بمدركات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر به غيره ثانيا. وأنه ليس من قبيل المعجزات التي تظهر على يد الرسل لأجل إثبات صلتهم بالله أو يثبت بها صلتهم بالله. والأولى أن يوقف من ماهيته وكيفيته موقف التحفظ مثل سائر مدركات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الروحانية الخاصة على ما نبهنا عليه في سياق سورة العلق والتكوير والنجم والقيامة دون تزيد ولا تخمين مع واجب الإيمان به كحقيقة إيمانية ما دام قد ذكر وقوعه صراحة في القرآن وإن لم يدرك كنهه مثل الإيمان بالوحي وسائر مدركات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخاصة التي وردت فيها نصوص صريحة في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة ومع التسليم بقدرة الله تعالى على كل شيء. والله تعالى أعلم.

ويظل هذا الحادث من الأحداث التي يصح الحفاوة بها من قبل المسلمين مثل ليلة القدر ما دام قد حظي بحفاوة القرآن مثلها. ولا سيما أن ذلك أدى إلى

٣٥٥

الارتباط الوثيق بين المسلمين والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. وغدت هذه البقاع بالنسبة للمسلمين من البقاع المقدسة المرتبطة بقرآنهم ورسولهم.

ولقد رويت أحاديث نبوية في فضل المسجد الأقصى والعناية به ستأتي نصوصها بعد قليل. وفيها نبوءة نبوية بما صار من أمر المسجد الأقصى الذي لم يكن قائما في حياته ، مما فيه تدعيم من جهة وإيجاب على المسلمين بتكريمه والاحتفاظ به والدفاع عنه من جهة أخرى.

تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى

والتعبيران يأتيان هنا لأول مرة. وقد تكرر الأول مرارا ، والثاني يذكره للمرة الأولى والوحيدة.

وكلمة مسجد قد جاءت في سورة الأعراف لأول مرة ، وشرحنا مداها في القرآن مما يغني عن التكرار ، والمسجد الحرام كان يعني حين نزول الآية الكعبة والساحة التي حولها التي كان يقام فيها الطقوس والصلاة. وكان العرب يفعلون ذلك قبل البعثة على ما تفيده آية سورة الأنفال هذه (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [٢٥] ولقد كان مداها يتسع حتى يشمل منطقة مكة على ما تلهم آية سورة البقرة هذه (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [١٩١] وهذه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [٢١٧] ولقد ورد هذا التعبير في أحاديث عديدة منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد الأقصى» (١) ثم صار يطلق إطلاقا تطبيقيا على الساحة والأواوين المحيطة ببناء الكعبة الشريفة. وكلمة الحرام تعني المحرّم فيه العدوان والواجب الإحرام على ما شرحناه في سياق سورة قريش بما يغني عن الإعادة.

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٢٠٩.

٣٥٦

وكلمة (الأقصى) بمعنى الأبعد أو البعيد جدا. وتعبير (المسجد الأقصى) عنى فيه نزول الآية مكان معبد بيت المقدس الذي أنشأه سليمان على الأرجح على ما شرحناه في سياق سورة ص. وكان المعبد حينئذ خرابا فأطلق التعبير عليه على اعتبار ما كان. وقد ذكر هذا التعبير في أحاديث نبوية وهو على ما هو عليه من خراب ، من ذلك الحديث الذي أوردناه قبل. ومن ذلك حديث رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه عن أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ووجبت له الجنة» (١) وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت «قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ائتوه فصلّوا فيه فإن لم تأتوه وتصلّوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله» (٢).

وأول من بنى مسجدا في ساحته هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على أرجح الروايات وإطلاق المسلمين التعبير على هذا المسجد هو إطلاق تطبيقي للتعبير القرآني النبوي على ما هو المتبادر. ولما لم يكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء لمسجد في هذه الساحة فيكون ذكره في الأحاديث على اعتبار ما كان وعلى اعتبار ما سوف يكون ، وفي حديث ميمونة خاصة كشف نبوي بما سوف يكون ، والله تعالى أعلم.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٢١٠.

(٢) المصدر نفسه.

٣٥٧

نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)) [٢ الى ٨]

(١) ذرية من حملنا مع نوح : ذرية منصوبة على النداء تقديرها يا ذرية من حملنا مع نوح والمفسرون يروون عن أهل التأويل أن المقصود بالنداء بني إسرائيل على اعتبار أنهم من ذرية نوح. وهذا متبادر من فحوى الجملة وروحها.

(٢) قضينا : هنا بمعنى حكمنا أو أخبرنا أو قدرنا.

(٣) في الكتاب : أكثر المفسرين يفسرون الكتاب بالتوراة المنزلة على موسى أي أن الله أخبرهم فيها بما يكون من أمرهم وما يكون منه تجاه ذلك. والقاسمي في محاسن التأويل يقول إن الكتاب هنا بمعنى اللوح المحفوظ ويتبادر لنا أنها بمعنى علم الله وحكمه ، والله تعالى أعلم.

(٤) ولتعلنّ علوا كبيرا : ولتتكبرنّ تكبرا كبيرا. والقصد من ذلك الإشارة إلى ما سوف يكون منهم من بغي واستكبار.

(٥) وعد أولاهما : وعد عقاب أولاهما.

(٦) جاسوا : تخللوا أو توغلوا أو اخترقوا.

(٧) أكثر نفيرا : أكثر عددا أو جندا.

(٨) ليسوؤوا وجوهكم : ليجعلوا المساءة بادية على وجوهكم من الحزن والقهر.

(٩) ليتبروا ما علوا : ليدمروا ما أنشئوه ورفعوه عاليا.

تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة

في أول هذه السورة

في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني

٣٥٨

إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم ، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :

١ ـ فالله تعالى قد أتى موسى عليه‌السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا ، ولا سيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.

٢ ـ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا ، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم ، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.

٣ ـ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا ، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا ، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.

ولقد قال المفسرون (١) إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.

والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والخازن مثلا.

٣٥٩

فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.

ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم جماعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية «يهوذا» التي عاصمتها أورشليم (بيت المقدس) كذلك ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرتا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول ، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم ، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة السلوقية فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا (١).

__________________

(١) انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦.

٣٦٠