التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

سورة الشعراء

في السورة تقريع للكفار وحملة عليهم وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إزاء مواقفهم. وفيها سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأممهم ، فيها العبرة والموعظة والمثل والإنذار والتثبيت. وفيها بعض صور السيرة النبوية وبيئة النبي عليه‌السلام وعهده وبعض أقوال الكفار وعقائدهم.

وهي ثاني سورة من القرآن من حيث عدد الآيات. وفصولها مترابطة منسجمة وأواخر آياتها متوازنة. ومع أن أسلوبها مسجع بشكل ما فهو أقرب إلى الترسل المطلق مع التوازن.

وقد لحق أكثر فصولها لازمة مكررة مما يجعلها ذات خصوصية سبكية كسورة المرسلات وجملة فصول السورة تسوغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمت.

وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٩٧ و ٢٢٤ ـ ٢٢٧] مدنيات. وعدا الآية [٢٢٧] الآيات الأخرى منسجمة مع سياقها سبكا وموضوعا مما يحمل على الشك في صحة الرواية. أما الآية [٢٢٧] فإن مضومنها يؤيد صحة مدنيتها وقد ألحقت بالآيات [٢٢٤ ـ ٢٢٦] للمناسبة والاستدراك ؛ على ما سوف يأتي شرحه.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)

٢٤١

إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)) [١ الى ٩]

(١) المبين : الموضّح.

(٢) باخع نفسك : مهلك نفسك. وأصل البخع الذبح حتى يبلغ البخاع الذي هو عرق في العنق ، على ما جاء في الكشاف.

(٣) محدث : جديد.

(٤) زوج : صنف أو نوع.

تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة

تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل الأولين في (طسم) منها أنها اسم للقرآن. أو اسم لله تعالى ، أو قسم أقسمه الله بطوله وسنائه وملكه. وكما رجحنا بالنسبة للحروف المماثلة في مطالع السور نرجح هنا أنها جاءت لاسترعاء السمع ، وقد احتوت الآية التالية إشارة إلى آيات القرآن جريا على النظم القرآني في معظم السور المماثلة. وينطوي في الإشارة معنى التوكيد بالخطورة والتنويه. ووصف المبين فيها هو بسبيل بيان ما في القرآن من إبانة وتوضيح ووضوح. وقد تكرر هذا الوصف لآيات القرآن والقرآن. والوصف يحتمل أن يكون بقصد بيان وضوح المعاني والدلالات كما يحتمل أن يكون بقصد بيان ما احتوته الآيات القرآنية من تبيين لسبل الحق والرشاد والهدى. وكلا الاحتمالين وارد وصادق. بل إن الاحتمالين واردان وصادقان. ففي الآيات القرآنية وضوح من حيث المعاني والدلالات كما فيها بيان لسبل الحق والرشاد والهدى.

والآية الثالثة بسبيل تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يثيره جحود قومه في نفسه من غمّ

٢٤٢

وحزن. وأسلوبها ينطوي على العطف والتحبب. فلا ينبغي له أن يهلك نفسه غمّا وحزنا لعدم إيمانهم واستجابتهم إلى دعوته وتصديقهم بآيات الله وقرآنه. وقد يكون في الآية قرينة على صحة نزولها بعد سورة الواقعة التي ظللت فصولها تحكي تكذيبهم وجحودهم.

والآية الرابعة هي بسبيل التطمين من جهة وإنذار الكفار من جهة أخرى ؛ حيث تقرر أن الله تعالى لو أراد لأنزل عليهم آية من السماء فتظل أعناقهم خاضعة لها. ومن المفسرين من أول جملة (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) في الآية بأن الله لو أراد لأجبرهم على الإيمان بآية ينزلها عليهم من السماء (١). ومنهم من أولها بأن الله لو أراد لأنزل عليهم نازلة تذلّ لها أعناقهم (٢). ومع ما في القول الأول من وجاهة فإن الآيات التالية ترجح القول الثاني حيث احتوت وصف عناد الكفار واستهزائهم وأنذرتهم بعذاب الله وعقابه.

وفي الآية الخامسة تنديد بالكفار الذين كلما جاءهم قرآن جديد من الله أعرضوا عنه وكذبوه.

وقد قال المفسرون في تأويل الآية السادسة إنها بسبيل إنذار الكفار ووعيدهم بالعقاب على استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها. وقد خطر لبالنا احتمال انطوائها على بشرى وتطمين من الله تعالى للنبي عليه‌السلام استلهاما من ألفاظها واستئناسا بآيات أخرى ، حيث تقرر أن الدعوة المحمدية التي يستهزئون بها ستنتصر ، ويرون أعلام ذلك ويسمعون أنباءه. ومن الآيات التي يمكن أن يستأنس بها على هذا التأويل آية سورة ص هذه (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨).

وفي الآية السابعة سؤال استنكاري وتنديدي عمّا إذا كانوا لم يروا ما أنبته الله تعالى من الأرض من أصناف النباتات الكريمة ؛ مما فيه برهان على ربوبيته وعظمته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في ابن كثير مثلا.

(٢) انظر تفسيرها في الطبري مثلا.

٢٤٣

وفي الآية الثامنة تعقيب على هذا السؤال بأن في ذلك الحجة الدامغة برغم أن أكثرهم لا يؤمنون.

أما الآية التاسعة فهي موجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عودا على بدء بسبيل تسليته. فربّه هو العزيز القاهر الذي لا يعجزه شيء ، والرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء. وكأنما انطوت على تقرير كونه قادرا على سحق الكفار وإخضاعهم غير أن حكمته ورحمته اقتضتا عدم التعجيل بذلك وإفساح رحمته لهم لعلهم يرعوون. ولقد ارعوت أكثريتهم الساحقة حقّا بعد أن هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وأيده الله ونصره.

وقد غدت الآيتان لازمة لمعظم فصول السورة حيث تكررتا عقب كل فصل لنفس القصد والهدف. وفي ذلك أيضا صورة من صور النظم القرآني التي تكررت في بعض سور أخرى.

ولقد أورد الزمخشري في كشافه والمفسر الشيعي الطبرسي في تفسيره في سياق تفسير الآيات رواية عن ابن عباس مفادها أن بعض هذه الآيات وخاصة (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) في بني هاشم وبني أمية حيث انطوت على البشرى للأولين ضد الآخرين ، والتكلف وأثر الحزبية السياسية المتأخرة كثيرا عن عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهران في الرواية. ولا نرتاب في أنها مكذوبة على ابن عباس رضي الله عنه. ولا سيما إن الآيات نزلت قبل أن يؤمن من عشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأقربين إلّا أفراد قلائل جدّا ، كما أن أسلوبها مماثل للأساليب المتكررة في صدد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار الكفار. ومن المؤسف أن أصحاب الأهواء وخاصة شيعة العلويين ومفسريهم أكثروا من رواية مثل هذه الروايات وتأويل كثير من الآيات بما يتفق مع أهوائهم برغم ما يكون في التأويل من مفارقة ومباينة للوقائع وفحوى الآيات وسياقها ومناسبتها.

تعليق على كلمة «محدث» في الآيات

ويقف علماء الكلام عند كلمة (محدث) فيتخذها بعضهم دليلا على حدوث القرآن ويؤولها بعضهم بما يجعل هذا الاستدلال في غير محلّه لأنه يؤدي في رأيهم

٢٤٤

إلى القول بأن القرآن حادث ومخلوق وهو كلام الله والكلام من صفات الله القديمة بقدمه التي لا يصح عليها حدوث وخلق.

والكلمة في مقامها واضحة الدلالة على أنها قصدت معنى (آيات جديدة النزول من القرآن) ولا تقتضي إثارة المعنى الذي أريد الجدل حوله. وقد أرجأنا شرح الخلاف الكلامي في صدد خلق القرآن وعدم خلقه إلى سورة التوبة التي فيها آية تفيد أن القرآن كلام الله لأن المناسبة فيها قائمة أكثر.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ

٢٤٥

مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)) [١٠ الى ٦٨]

(١) وتلك نعمة تمنها علي أن عبّدت بني إسرائيل : أوّل بعض المفسرين الآية بأنها تعني قول موسى : هل هذه نعمة تمنها عليّ مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل. وأوّلها بعضهم بأنها تعني قول موسى : إن استعبادك لبني إسرائيل كان نعمة عليّ لأنه جعلني أفرّ فرعاني الله وجعلني من المرسلين. ونحن نختار الأول.

(٢) حاشرين : سوّاقين أو جامعين للسحرة.

(٣) يأفكون : يفترون.

(٤) لا ضير : لا نرى في ما تقول ضررا وخطرا علينا لأننا منقلبون إلى ربنا.

(٥) أسر بعبادي : أخرج بهم ليلا. والسرى هو السير في الليل.

(٦) شرذمة : جماعة قليلة.

٢٤٦

(٧) حاذرون : بمعنى متحذرين ومتيقظين لشرهم. وقرئت حادرون بمعنى الأقوياء بجمعنا.

(٨) مشرقين : وقت شروق الشمس. ولعلّها بمعنى نحو الشرق لأن القصة تلهم أن بني إسرائيل ساروا في طريق الشرق.

(٩) مدركون : سيلحق بنا ويوصل إلينا.

(١٠) الطود : الجبل.

(١١) أزلفنا : قرّبنا. وهي كناية عن «أنجينا».

تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة

الآيات أولى حلقات سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأقوامهم اقتضت حكمة التنزيل تكرارها في هذه السورة. وقد جاءت عقب الآيات التي نددت بالمكذبين المستهزئين وأنذرتهم ، جريا على الأسلوب القرآني وبقصد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وتثبيتهم بما كان من الأقوام السابقة تجاه أنبيائهم من مواقف مماثلة لمواقف الكفار. فهي والحال هذه متصلة بالسياق.

وقد احتوت هذه الحلقة قصة إرسال الله تعالى موسى عليه‌السلام إلى فرعون ومعجزة العصا واليد البيضاء والمناظرة بين موسى عليه‌السلام والسحرة وتغلبه عليهم وخروج بني إسرائيل بقيادته ونجاتهم وإغراق فرعون. وعبارتها واضحة ، ومعظم ما جاء فيها ورد في سورتي طه والأعراف مع بعض زيادة أو نقص في الأسلوب اقتضتهما حكمة التنزيل.

والجديد في الآيات تخوف موسى عليه‌السلام من القتل لذنب صدر منه وتذكير فرعون له به. وفي سورة القصص إيضاح لذلك ، حيث حكت بعض آياتها استصراخ رجل عبراني لموسى عليه‌السلام على عدوّ له فقتله ثم هرب إلى مدين خوفا. وقد ورد هذا في الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

ولحوق اللازمة بهذه الحلقة دليل على أنها كمثيلاتها قد نزلت للتذكير

٢٤٧

وضرب المثل والتسلية. لأن ضمير الآية الأولى في اللازمة راجع إلى الكفار بالدعوة المحمدية.

ولقد احتوت الآيات حكاية تهديد فرعون لموسى عليه‌السلام بالسجن ونعته إياه بالجنون. وفي هذا شيء من المماثلة بين موقف فرعون وأقواله وبين موقف كفار العرب وأقوالهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث انطوى في ذلك التسلية والتطمين أيضا. فقد نصر الله موسى عليه‌السلام على فرعون مع قوته وجبروته مع تهديده ومنعته ، وأغرقه مع قومه وهو القادر على أن يفعل ذلك مع كفار العرب.

ولقد أورد المفسرون على هامش هذه الحلقة بيانات كثيرة معزوة إلى علماء التابعين. منها ما هو تكرار لما أورده في سياق سورتي الأعراف وطه. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في أسفار العهد القديم الأربعة التي تؤرخ رسالة موسى وعهده والمتداولة اليوم. ومنها غير المتطابق ولم نر ضرورة لمجاراتهم لأننا أوردنا في السور السابقة ما رأينا فيه الكفاية والفائدة من ذلك. ولقد جاء ما أوردوه في نطاق ما احتوته الآيات حيث ينطوي في هذا تدعيم لما قلناه من أن ما جاء في القرآن من جزئيات الحلقة كان المتداول في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس لهذا مصدر إلا اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس.

ومن الجديد في الحلقة تهديد فرعون لموسى عليه‌السلام بالسجن ونعته إياه بالجنون. والمتبادر أن ذلك مما كان متداولا وقد استهدف ذكره ما نبهنا عليه أيضا من تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطمينه. ومن الجديد كذلك ما جاء في الآيات [٥٧ ـ ٥٩] حيث قد تفيد أن الله تعالى أورث بني إسرائيل كنوز فرعون وقومه وجناتهم ويجوز أن يكون هذا من مدى تعبير آية الأعراف التي ذكرت أن الله أورث بني إسرائيل مشارق الأرض التي بارك فيها ومغاربها. وقد كانت في نطاق سلطان فراعنة مصر قبل أن يخرج بنو إسرائيل من مصر. ولقد علقنا على هذا الإرث في سياق آية سورة الأعراف فلا حاجة إلى الإعادة.

ولقد روى الحسن العسكري المفسر الشيعي في تفسيره للآيات [٤٩ ـ ٥٠]

٢٤٨

من سورة البقرة في صدد اجتياز بني إسرائيل البحر رواية عجيبة غريبة تثير التعجب في قارئها لتسويغ مفسري الشيعة لصنع مثل هذه الروايات وحشو كتبهم بها ويكشف شدة استغراقهم في حزبيتهم حتى جعلتهم لا يرون في الهراء عيبا. وقد رأينا أن نوردها هنا بمناسبة هذه السلسلة التي ورد فيها خبر ذلك الاجتياز. وقد جاء في الرواية «أن موسى لما انتهى إلى البحر أوحى الله إليه أن قل لبني إسرائيل جددوا توحيدي وأسروا بقلوبكم ذكر محمد سيد عبيدي وإمائي وأعيدوا على أنفسكم الولاية لعلي أخي محمد وآله الطيبين وقولوا اللهم بجاههم جوزنا على متن هذا الماء فإن الماء يتحول لكم أرضا. وترد بنو إسرائيل في تصديق ذلك حتى جرب الأمر طالب بن يوحنا فتحقق. وحينئذ طلب بنو إسرائيل أن يكون لكل سبط طريقهم الخاص وأن تكون جدران كل طريق شفافة حتى يرى بعضهم بعضا أثناء الاجتياز فكان الله يأمر موسى بأن يقول لهم توسلوا إلي بجاههم حتى أحقق لكم مطالبكم. فكانوا يتوسلون وحقق لهم ما طلبوه (١).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ

__________________

(١) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٣.

٢٤٩

وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)) [٦٩ الى ١٠٤]

(١) عاكفين : مقيمين على عبادتهم.

(٢) حكما : فهما وحكمة.

(٣) ينتصرون : يدفعون عن أنفسهم أو ينقذون أنفسهم.

(٤) كبكبوا : من الكب بمعنى ألقوا وقذفوا.

(٥) يختصمون : يتجادلون.

(٦) إذ نسويكم : إذ نجعلكم سواء أو مساوين.

(٧) صديق حميم : صديق شديد الصداقة.

تعليق على قصة إبراهيم وأبيه وقومه في السورة

هذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت حكاية ما كان بين إبراهيم عليه‌السلام وأبيه وقومه ومصيرهم في الآخرة ، وعبارتها واضحة. وبعض ما جاء فيها جاء في سورة مريم التي سبق تفسيرها مع بعض زيادة ونقص في الفحوى والأسلوب اقتضتهما حكمة التنزيل التي اقتضت تكرار إيراد القصة لمناسبة جديدة. وقد علقنا على القصة وأوردنا بعض البيانات التي رواها المفسرون عن علماء الأخبار واستدللنا بها على أن قصص إبراهيم المماثلة التي لم ترد في سفر التكوين كانت متداولة في عصر النبي وبيئته. ولم يورد المفسرون في سياق هذه الحلقة بيانات جديدة يحسن إيرادها أو إيجازها.

وفي القصة شيء جديد وهو أن المحاورة لم تقتصر هنا على إبراهيم عليه‌السلام وأبيه بل اشترك فيها قوم إبراهيم مع بيان كونهم كانوا يعبدون الأصنام. وقد

٢٥٠

ذكر هذا أيضا في الروايات التي يرويها المفسرون عن علماء الأخبار على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة مريم.

وبدء هذه الحلقة بجملة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) التي يعود الضمير فيها إلى الكفار كما هو المتبادر وانتهاؤها باللازمة التي يعود ضميرها إلى الكفار أيضا دليل على أن القصد من إيرادها هو التذكير وضرب المثل.

والآيات [٩٠ ـ ١٠٢] جاءت بمثابة تعقيب على قصة إبراهيم وأقواله ودعائه. موجهة لسامعي القرآن على ما هو المتبادر منها. فالجنة تهيأ للمتقين والجحيم للغاوين الذين يسألون على سبيل التحدي والتبكيت عن شركائهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله وعمّا إذا كانوا يمكنهم أن ينصروهم ثم يكبون جميعهم في جهنم فيأخذون بالتلاوم وإظهار الندم على ما فرط منهم والحسرة على فقدهم أي شفيع وصديق. وتمني العودة لتلافي أمرهم. وأسلوبها قوي نافذ من شأنه أن يثير الطمأنينة والغبطة في المتقين والفزع والهلع والندم في الكفار. وهو ما استهدفته كما هو المتبادر. والأسلوب الذي حكيت به قوة إخلاص إبراهيم عليه‌السلام لله تعالى واعتماده عليه وحده ودعواته التي وجهها إليه قوي نافذ أيضا.

ولقد كان كفار العرب يتخذون لهم أصناما يعكفون عليها ويقيمون طقوسهم عندها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة النجم. ولقد كان فريق من العرب يعتقدون أنهم يمتون بالنبوّة إلى إبراهيم عليه‌السلام على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعلى. فالمتبادر أن الآيات استهدفت كما استهدفت آيات سورة مريم تذكيرهم بعقيدة التوحيد والإخلاص لله تعالى التي كان عليها جدّهم وجعله كل اعتماده على الله في كل شأن ومطلب وأمل في حياته وبعثه. وما كان من تقريعه لأبيه وقومه على عبادتهم الأصنام وتقريره عدم نفعهم وضرهم وكونه عدوا لهم بقصد إحكام الحجة عليهم وحملهم على الارعواء وسلوك طريق جدهم الذي يدعو إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد روى البخاري في سياق الآية (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) حديثا عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ إبراهيم عليه‌السلام يرى أباه يوم القيامة عليه

٢٥١

الغبرة والقترة فيقول يا ربّ إنّك وعدتني ألّا تخزني يوم يبعثون فيقول الله إنّي حرّمت الجنّة على الكافرين» وروى مسلم عن عائشة «قالت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرّحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه. قال لا ينفعه. إنّه لم يقل ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين» (١) حيث ينطوي في الحديثين توضيح نبوي لمدى بعض الآيات التي نحن في صددها يتسق مع التقريرات القرآنية المحكمة بأن مصير الكفار النار ولا يغني عنهم عمل ولا قرابة.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)) [١٠٥ الى ١٢٢]

(١) الأرذلون : كناية عن الطبقة الدنيا من الفقراء والصعاليك.

(٢) افتح : بمعنى احكم أو اقض.

(٣) الفلك المشحون : السفينة المملوءة.

تعليق على قصة نوح

وهذه حلقة ثالثة من سلسلة القصص احتوت قصة رسالة نوح عليه‌السلام لقومه. والقصة هنا أوسع شيئا مما جاء في سورة الأعراف والقمر مما اقتضته

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٧٤ والمتبادر أن ابن جدعان ظلّ جاحدا لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات على جحوده فحبط ما عمل على ما جاء في آية سورة الكهف [١٠٥].

٢٥٢

حكمة التنزيل. وقد علقنا على قصة نوح سابقا بما يغني عن التكرار. ومن الجديد فيها قول نوح عليه‌السلام لقومه إنه لا يسأل قومه على رسالته إليهم أجرا وإن أجره على ربّ العالمين ، وإنه رسول أمين إليهم ، ووصف قوم نوح الجماعة التي آمنت برسالته بأراذلهم وتهديدهم إياه بالرجم إن لم ينته. ولم يرد هذا في الإصحاحات (٦ و ٧ و ٨) من سفر التكوين التي وردت فيها قصة نوح. ولكن هذا لا يمنع أن ذلك كان متداولا عن طريق اليهود في عصر النبي عليه‌السلام وبيئته وأن يكون واردا في أسفار وقراطيس أخرى في أيديهم ، لأن العبرة إنما تتحقق بذلك. والعبرة هي التماثل بين ما قاله نوح عليه‌السلام لقومه وما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول مثل ذلك كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة ص (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٨٧) والتماثل كذلك بين ما قاله قوم نوح عن المؤمنين وما قاله كفار العرب عن الذين آمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة الأنعام هذه (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) وفي ذلك تطمين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين كما هو واضح.

ولقد أورد البغوي عن الحسن البصري في صدد ورود كلمة (الْمُرْسَلِينَ) في هذه الحلقة والحلقات التالية مع أن الكلام عن رسول واحد أنه قال في تأويل ذلك إن الآخر جاء بما جاء به الأول فإذا كذبوا واحدا فقد كذبوا الرسل أجمعين. وعلى كل حال فالعبارة أسلوبية ، لا تتحمل توقفا ولا تحتاج إلى تخريج كما هو المتبادر.

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ

٢٥٣

بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)) [١٢٣ الى ١٤٠]

(١) ريع : المكان المرتفع أو الطريق.

(٢) آية : هذه الكلمة بمعنى بناء ولعلها بمعنى حصن أو قلعة أو برج.

(٣) تعبثون : تلهون بما لا يجدي.

(٤) مصانع : قيل إنها بمعنى القصور وقيل إنها بمعنى صهاريج الماء والثاني هو الأرجح لاشتهار اليمن ـ بلاد عاد وهود ـ بسدود الماء الصغيرة والكبيرة. والكلمة تستعمل إلى اليوم في بلاد الشام وغيرها بمعنى بئر الماء أو حوض الماء.

(٥) إن هذا إلّا خلق الأولين : أوّلها بعضهم بمعنى إن ما نحن فيه هو دين الأولين وتقاليدهم. وأوّلها بعضهم بمعنى أن ما تقوله هو ما قاله أناس قبلك أو هو أساطير الأولين.

تعليق على قصة هود

وهذه حلقة رابعة من السلسلة احتوت قصة رسالة هود عليه‌السلام إلى قومه عاد. وقد ذكرت هذه القصة في سور سابقة وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. وجاءت هنا مع بعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا تذكير هود عليه‌السلام قومه بما يسّره الله لهم من أسباب الثروة والرفاه ، وبما كانوا ينشئونه بسبيل ذلك من سدود ومنشات ، وقوله لهم إني لا أسألكم عليه أجرا ، وقول قومه له إنّ ما تقوله وتنذر به شيء مسبوق به ولن نؤمن به ، فاستحقوا بذلك عذاب الله. والعبرة في هذا ما كان بين أقوال هود وقومه وأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٥٤

وكفار العرب من تماثل ، حيث ينطوي في ذلك تسلية وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار للكفار.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)) [١٤١ الى ١٥٩]

(١) طلعها هضيم : ثمرها سهل الهضم ، ولعل ذلك كناية عن النضج والجودة أو الليونة.

(٢) فارهين : حاذقين أو معتدّين أو متبطّرين.

(٣) المسحّرين : المسحورين.

تعليق على قصة صالح

وهذه حلقة خامسة من السلسلة احتوت قصة رسالة صالح عليه‌السلام لقومه ثمود. وقد ذكرت القصة في سور سابقة علقنا عليها بما يغني عن التكرار. وجاءت هنا كذلك مع بعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا قول صالح عليه‌السلام لقومه إنه لا يريد منهم أجرا وقولهم له إنه بشر مثلهم وإنه من المسحورين. والعبرة في ذلك ما انطوى فيه من تماثل بين هود وقومه وبين

٢٥٥

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه مما فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار للكفار.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)) [١٦٠ الى ١٧٥]

(١) عادون : معتدون.

(٢) من القالين : من الهاجرين أو التاركين. مشتقة من قلا بمعنى ترك وهجر.

تعليق على قصة لوط

وهذه حلقة سادسة من السلسلة. وقد احتوت قصة لوط عليه‌السلام وقومه. وقد ذكرت هذه القصة في سور سابقة. وجاءت هنا ببعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا قول لوط عليه‌السلام لقومه إنه لا يريد منهم أجرا مما فيه تماثل وعبرة كذلك.

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)

٢٥٦

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)) [١٧٦ الى ١٩١]

(١) أصحاب الأيكة : أصحاب الحرجة.

(٢) المخسرين : المنقصين.

(٣) القسطاس : الميزان.

(٤) المستقيم : المضبوط السليم.

(٥) كسفا : قطعا.

(٦) عذاب يوم الظلة : قال المفسرون إن الحرّ اشتد عليهم فرأوا سحابا فتسارعوا إليه فصار عليهم كالظلة فلما اجتمعوا تحته التهب بالنار فأحرقتهم (١).

تعليق على قصة شعيب

وهذه حلقة سابعة من السلسلة. وقد احتوت قصة رسالة شعيب عليه‌السلام إلى أصحاب الأيكة. وقد ذكرت قصة شعيب مع قومه في سور سابقة. وجاءت هنا بشيء من الاختلاف اقتضته حكمة التنزيل. ولقد ورد في سورة الأعراف اسم مدين كوصف لقوم شعيب عليه‌السلام بينما ورد هنا اسم أصحاب الأيكة. وقد قال بعض المفسرين (٢) إن أصحاب الأيكة هم قوم آخرون غير مدين ، واستدلوا على ذلك بعدم وصف شعيب عليه‌السلام بوصف أخيهم هنا كما وصف نوح وهود وصالح لوط عليهم‌السلام ثم بوصف شعيب عليه‌السلام بأخيهم في سورة الأعراف بالنسبة لقوم مدين.

__________________

(١) ذكر ذلك جملة من المفسرين منهم ابن كثير الذي عزى التأويل أو التفصيل لابن عباس رضي الله عنه ، انظر أيضا تفسير الكشاف وتفسير الخازن.

(٢) انظر تفسير البغوي.

٢٥٧

ومع أننا لا نرى طائلا في الأمر لأن القصة لم ترد للتاريخ ، فإن مما يلحظ أن ما قاله شعيب لأصحاب الأيكة ، هو تقريبا ما ذكر من أقواله في سورة الأعراف لقومه أهل مدين ، وإن أهل مدين وأصحاب الأيكة لم يرد ذكرهما في سلسلة واحدة أو سياق واحد في القرآن ، مما يلهم أنهم شيء واحد. وهذا رأي فريق من المفسرين أيضا. أما عدم وصف شعيب عليه‌السلام بوصف أخيهم هنا ، فإن حكمته غابت عنا. ولقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا «القرآن المجيد» واستلهمنا منه فورية تدوين الفصول القرآنية عند نزولها.

والجديد في قصة شعيب عليه‌السلام ذكر قوله لقومه إنه لا يطلب منهم أجرا وقولهم له إنه ليس إلّا بشرا مثلهم وإنهم ليظنونه كاذبا ومسحورا ، وتحديهم له بإسقاط كسف عليهم من السماء. وفي هذا تماثل بين أقوال شعيب عليه‌السلام وقومه وأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه مما فيه تسلية وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار للكفار.

تعليق عام على القصص

هذا ، ويلحظ بوجه عام أولا أن في تكرار حكاية أقوال الأنبياء بأنهم رسل أمناء لأقوامهم وبأنهم لا يسألونهم أجرا وإنما أجرهم على الله ومماثلة ذلك لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله لقومه مرة بعد أخرى مما مرّت أمثلة منه في سور الفرقان وص والقلم ومنه آية سورة سبأ هذه (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤٧) حجة مفحة للكفار العرب على إخلاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجرده عن كل مطلب دنيوي كما كان شأن الأنبياء السابقين من قبله ، ومما لا يصدر إلّا من الأنبياء الذين اصطفاهم الله لمهمة الدعوة إليه والإنذار والتبشير والذين امتلأت قلوبهم بالإيمان الذي أغناهم عن كل مطلب دنيوي ، وجعلهم يقومون بأعظم الأعباء ويتحملون أفدح المشاق ، مطمئنّة قلوبهم قريرة عيونهم ، كل سعادتهم وأمانيّهم أن تنجح دعوتهم وأن يكونوا الوسيلة إلى نجاة أممهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وثانيا أن في تكرار تذكير العرب بقوة الأمم السابقة وكثرة أموالهم وتمكناهم تقوية لإنذار كفار العرب الذين حكت آيات عديدة تبجحهم بما

٢٥٨

لهم من قوة ومال وبنين مثل آية سورة سبأ هذه (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٥) ومثل آيات سورة الهمزة هذه (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣) فالله الذي لم يعجزه أولئك وهم أقوى منهم وأكثر أموالا وأولادا فأهلكم لا يعجزه هؤلاء من باب أولى. وثالثا أن القصص القرآنية المتكرر ورودها تحتوي في كل مرة تفاصيل وعبر ومواعظ جديدة حيث ينطوي في هذا صورة من صور التنويع في الأسلوب والنظم القرآني في المناسبات المختلفة بسبيل استكمال نواحي المقارنة والمماثلة وإحكام الحجة وتحقيق الهدف الجوهري من القصص وهو العظة والتذكير والتمثيل والإنذار والتسلية والتطمين والتثبيت.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧)) [١٩٢ الى ١٩٧]

(١) الروح الأمين : جبريل عليه‌السلام على ما يجمع عليه المفسرون.

(٢) زبر الأولين : كتب الرسل الأولين المنزلة من الله.

(٣) آية : هنا بمعنى برهان أو علامة.

تعليق على آيات

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) وما بعدها إلى آخر آية

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)

جاءت هذه الآيات بمثابة التعقيب على سلسلة القصص وهي متصلة بالسياق من هذه الناحية. وقد احتوت توكيدا بأن القرآن الذي يتلوه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي يحتوي هذه القصص وغيرها من مبادئ الدعوة والإنذار والتبشير هو تنزيل من الله تعالى أنزله على قلب نبيه بواسطة الروح الأمين لينذر به الناس ، وأنه أنزله بلسان عربي

٢٥٩

مبين واضح ومفهوم لئلا يكون حجة للعرب الذين هم أول المخاطبين به بعدم الفهم والعجز عن الإدراك ، وإنه فيما احتواه من مبادئ وأهداف وتدعيمات متطابق مع ما في الكتب المنزلة الأولى. وقد انتهت الآيات بسؤال استنكاري يتضمن التقرير الإيجابي عما إذا لم يكن للكافرين برهان على أنه كذلك فيما كان من علم علماء بني إسرائيل بأمره وشهادتهم على صحته.

ولقد احتوى القرآن المكي فضلا عن المدني آيات كثيرة حكت ما كان من شهادة أهل الكتاب وأهل العلم بصحة وصدق القرآن ونزوله من عند الله وإيمانهم به وصحة وصدق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوصافه التي يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل وكونهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. وقد أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة وخاصة في مناسبة تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧] مما يجعل الحجة التي تضمنتها الآية الأخيرة [١٩٧] دامغة.

كذلك فإن هذه الآية والآيات التي تستشهد أهل العلم وأهل الكتاب على صحة صلة القرآن بالله تعالى وصحة رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة تلهم أن العرب كانوا يثقون في علم أهل الكتاب وعلماء بني إسرائيل واطلاعهم فاستحكمتهم الآيات بالحجة والإفحام والتنديد حيث يظلون مكابرين معاندين بالرغم من شهادة هؤلاء الذين يزكونهم ويثقون بهم. ومن المحتمل جدّا أن يكون بعض علماء بني إسرائيل قد شهدوا شهادتهم في مجلس علني حضره فريق من المسلمين وآخر من الكفار.

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [١٩٧] مدنية وذكر ذلك الزمخشري في مطلع تفسير السورة أيضا. وقال المفسرون إنها تعني علماء بني إسرائيل الذين أسلموا في المدينة كعبد الله بن سلام (١). ونلاحظ أن الآية منسجمة كل الانسجام سبكا وموضوعا وسياقا مع ما قبلها وما بعدها. ومحتوية إفحاما جدليّا إزاء عناد الكفار الذي كان مسرحه الأول مكة لا المدينة ، وفي سياق آيات لا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي والخازن.

٢٦٠