التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

القرآني. ويتبادر لنا أنها استهدفت فيما استهدفته سلك عيسى عليه‌السلام في سلك غيره من الأنبياء الذين كانوا أيضا من قبله مظهر عناية الله ورحمته وحفاوته ، بحيث انطوى فيها تقرير بأن عناية الله بعيسى عليه‌السلام ليست شيئا خاصّا به ولا بدعا. فتكون والحالة هذه متصلة بالسياق السابق. ولقد تكرر الأمر «اذكر» في قصة مريم ثم في قصص السلسلة حيث يكون هذا قرينة على ذلك فضلا عن وحدة النظم.

وقد احتوت السلسلة تنويها بإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم‌السلام. وعبارتها واضحة لا تحتاج هي الأخرى إلى أداء آخر.

وقد عممت الآية الأخيرة التنويه بحيث شمل المذكورين وغيرهم من أنبياء الله الذين كانوا مظهر هداية الله واصطفائه. وذكرت كيف كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله يخرّون ساجدين له ، باكين من خشيته ، كأنما أرادت أن تقول إن هذا الفناء في الله تعالى والإخلاص له من أسباب ما نالوه من عناية الله وتنويهه ؛ وكأنما أرادت أن تقول كذلك إن هذه الدرجة يستطيع أن ينالها عند الله تعالى من يحذون حذو هؤلاء في الفناء والإخلاص ، وأن تهيب بالسامعين إلى التأسي بهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى. ويلحظ أن كل حلقة في السلسلة قد احتوت إشارة إلى ما كان من إخلاص النبي الذي ذكر فيها الله تعالى. وهذا من دعائم وعلائم الهدف الذي استهدفته السلسلة والذي نبهنا عليه.

ولعل في الآية الأخيرة التي جاء فيها جملة (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) إشارة إلى الذين هداهم الله واجتباهم فصدّقوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وساروا على طريقة الأنبياء السابقين وصاروا مثلهم ، إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيّا. وقد سلكتهم في صف أنبياء الله. وفي هذا ما فيه من تطييب قلب وتسكين روع وتشجيع وتثبيت وتنويه كما هو واضح.

ويمكن أن يلمح في السلسلة جميعها بالإضافة إلى ما قلناه قصد الإشارة إلى

١٦١

أنه إذا كان الكفار يقفون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته هذا الموقف ويغفلون عن الحق ويصرون على الضلال فإن لله عبادا صالحين إلى درجة النبوة يعبدونه ويخضعون له ويتفانون في الإخلاص له وينبذون آباءهم وأقوامهم في سبيله ، وإذا تتلى عليهم آياته خرّوا ساجدين باكين من خشيته.

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأخيرة [٥٨] مدنية. ويلحظ أنها متصلة بالسياق اتصالا تامّا سبكا وموضوعا ، وهذا ما يجعلنا نشكّ في الرواية.

ويلحظ أن جمع إبراهيم وإسحق ويعقوب في الآيات وانفراد إسماعيل عنهم عليهم‌السلام جاء أقوى مما جاء في سورة ص. ومع ذلك فإن التعليل الذي خطر لنا لهذا الجمع والانفراد وأوردناه في سياق سورة ص يمكن أن يظل واردا. ولقد روى بعضهم (١) أن إسماعيل المذكور هو غير إسماعيل بن ابراهيم. غير أنه ليس هناك خبر وثيق ما عن نبّى اسمه إسماعيل غير إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام. ولذلك نعتقد أنه هو المقصود في الآيات ، والله تعالى أعلم.

تعليق على مغزى التفصيل في قصة

إبراهيم عليه‌السلام

ويلحظ شيء من التفصيل في موقف إبراهيم عليه‌السلام من أبيه. ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن ما ورد في القرآن ـ هنا وفي السور الأخرى ـ من قصص إبراهيم عليه‌السلام مع أبيه وقومه ـ وقد تكرر ذلك بأساليب متنوعة في سور عديدة ـ لم يرد في سفر التكوين المتداول اليوم الذي احتوى إصحاحات عديدة فيها ترجمة حياة إبراهيم وأخباره وأولاده وذريته إلى آخر عهد يعقوب

__________________

(١) روى هذا المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي عبد الله في سياق يبدو عليه التكلف والهوى الحزبي. ومما جاء في الرواية أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام مات في حياة أبيه. وسفر التكوين المتداول الذي هو أصل المعارف القديمة عن إبراهيم وحياته وذريته يذكر أن إسماعيل عاش بعد أبيه ..

١٦٢

ويوسف عليهما‌السلام. ونحن نعتقد أن هذه القصص قد وردت في أسفار وقراطيس كانت متداولة بين أيدي اليهود في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانفقدت.

وفي كتب التفسير بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الأخبار من أهل القرنين الأول والثاني في صدد ولادة إبراهيم وتوحيده ربه وتمرده على عبادة الأصنام ، وما كان بينه وبين أبيه وقومه والملك نمرود من مواقف. ومفارقته لقومه قد يكون فيها بعض الإغراب ، ولكنها تدل على أن قصص إبراهيم في نطاق ما جاء في القرآن ومنها ما لم يذكر في سفر التكوين مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره.

ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة الأعلى أن العرب أو العدنانيين سكان الحجاز منهم كانوا يتداولون بينهم تقليد نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم عليه‌السلام وأن ذلك مما أشير إليه إشارة تأييدية في آيات سورة البقرة [١٢٤ ـ ١٢٩] وآية الحج [٧٨] التي أوردناها في ذلك السياق. فالذي يتبادر لنا أن ما جاء في هذه السلسلة والسور الأخرى من ذلك قد استهدف فيما استهدف لفت نظر السامعين من العرب إلى ما كان من استنكار أبيهم الأكبر من أبيه ما يستنكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهله وقومه. والهتاف بهم بأن فخر الانتساب إلى إبراهيم لا يكون في محلّه إلا إذا ساروا على طريقته فنبذوا عبادة الأصنام وتصامموا عن وسوسة الشيطان.

تعليق على شخصية إدريس عليه‌السلام

وإدريس عليه‌السلام يذكر هنا لأول مرة. وقد ذكر مرة ثانية في سورة الأنبياء في آية واحدة مع إسماعيل وذي الكفل عليهما‌السلام.

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدده. من ذلك أنه من أجداد نوح عليه‌السلام. وأن اسمه أخنوخ. وهذا الاسم ورد في الإصحاح الخامس من سفر التكوين المتداول بصفة جد من أجداد نوح. ولقد جاء عنه في هذا الإصحاح (وعاش أخنوخ خمسمائة وستين سنة. وسلك مع الله. وإن الله أخذه) وقد يكون في هذا ما يفيد أنه كان نبيا وأن الله رفعه. وبعبارة ثانية قد يكون في تطابق مع ما جاء في الآية [٥٧] من سلسلة الآيات. ويكون ذلك مما كان

١٦٣

متداولا في أوساط الكتابيين ، ومما كان يعرفه السامعون من العرب أو بعضهم.

ومما قاله المفسرون دون عزو إلى مصدر أن أخنوخ سمي إدريسا لكثرة دراسته لكتب الله. وأنه أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس الثياب المخيطة. وكان الناس قبله يلبسون الجلود. وأنه أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار. وأول من نظر في علم النجوم والحساب ، وأنه أنزل عليه ثلاثون صحيفة.

ونحن نرجح أن اسم (إدريس) كان الاسم المتداول قبل الإسلام لنبي من الأنبياء. وقد يكون أخنوخ المذكور في سفر التكوين. وقد يكون ما ذكر عنه من كثرة دراسته وعلومه مما كان متداولا عنه. وكلمة (إدريس) كما يبدو عربية الجذر والصيغة وهذا ما قاله اللغوي المشهور ابن منظور في لسان العرب فيكون العرب قبل الإسلام هم الذين أطلقوا الاسم على هذا النبي بسبب ما سمعوا من صفاته.

وفي صدد رفعه إلى السماء روى الطبري عن أبي هريرة وعن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رآه ليلة المعراج في السماء الرابعة. وروى عن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة ومات فيها. وعن مجاهد أنه رفع كما رفع عيسى ولم يمت. وقال الطبري تعقيبا على ذلك أن حياته وموته مختلف فيهما. ومع ذلك فالمفسرون يوردون أقوالا أخرى عن معنى جملة (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) منها أن المكان العلي هو في الجنة في اليوم الآخر. ومنها أن الجملة تعني علوّ الرتبة والشأن مطلقا أو في الدنيا. حيث يبدو من القائلين أنهم لم يأخذوا بما روي من أمر رفعه إلى السماء ووجوده فيها.

وإلى هذا ففي الطبري في صدد رفعه إلى السماء رواية طويلة مروية عن كعب الأحبار فيها كثير من الخيال والمفارقة. فلم نر طائلا في إيرادها ولا سيما أنها لا تتصل بموضوع السلسلة وهدفها.

ومهما يكن من أمر فنبوّة إدريس عليه‌السلام وكرامته وشفعته عند الله مما هو وارد في القرآن. واسمه مما يدل على أنه كان معروفا قبل الإسلام كنبي من أنبياء الله في أوساط العرب. وأن الهدف من ذكره في سلسلة الأنبياء هو نفس الهدف

١٦٤

الذي استهدف في إيراد هذه السلسلة والذي شرحناه قبل ، وأن الأولى الوقف عند ذلك بدون تزيد ولا تخمين. والله تعالى أعلم.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)) [٥٩ الى ٦٣]

(١) يلقون غيا : بعض المؤولين أولوا الجملة بمعنى الخسران والشرّ. وروى بعضهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا يذكر أن (غيا) بئر في جهنّم فيه صديد. وهذا الحديث لم يرد في الصحاح (١).

(٢) لا يظلمون شيئا : لا يبخسون ولا ينقص من عملهم الصالح شيء حيث يوفون جزاء جميع أعمالهم.

(٣) بالغيب : هذه الكلمة تكررت في القرآن في مثل هذا المقام وفي مقام التنويه بالمؤمنين الذين يؤمنون بالغيب والذين يخشون ربهم بالغيب. وقال المفسرون إن معناها في مقامها هنا (التي وعدهم الله بها وإخبارا بأمر مغيب عنهم) وإن معناها في المقام الثاني (الذين صدقوا بالأمور المغيبة عنهم التي أخبرهم بها القرآن) وكل هذا وجيه (٢).

(٤) إنه كان وعده مأتيا : إن وعده آت ونافذ لا ريب فيه.

في الآيات إشارة تأنيبية إلى الذين خلفوا النبيين وخالفوا طريقتهم فضلّوا عن طريق الهدى وأضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. ووعيد رباني لهم بأنهم سوف

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير.

(٢) انظر تفسيرها وتفسير آية البقرة [٣] وآية الأنبياء [٤٩] في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والكشاف.

١٦٥

يلقون سوء عاقبة ضلالهم وانحرافهم وخسرانا وعذابا. وقد استثني الذين يرعوون عن ضلالهم ويتوبون إلى الله فيؤمنون ويعملون العمل الصالح. ووعد هؤلاء بالجنة ووفاء جزاء أعمالهم لهم بدون نقص وبخس ما حيث يجري عليهم رزقهم باستمرار. ولا يسمعون فيها لغوا وكل ما يسمعونه التحية والسلام. وانتهت الآيات بتقرير كون هذه الجنة هي مصير الأتقياء من عباد الله.

تعليق على الآية

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) والآيات الثلاث التالية لها

روى الطبرسي أن الآية الأخيرة منها نزلت ردا على أحد زعماء المشركين الذي قال لو كانت الجنة التي يذكرها محمد حقا لكانت أولى بي من أولئك الصعاليك الذين آمنوا به. والآية معطوفة على الآيات السابقة لها ومنسجمة معها كل الانسجام. والمتبادر أن الآيات جميعها جاءت معقبة على الآيات السابقة لها وأنها متصلة بها هدفا وموضوعا. وهذا لا ينفي أن يكون صدر من الزعيم المشرك ما روي عنه. ولقد روي عن ابن عباس والسدي أن الآية الأولى عنت اليهود. وروي عن الأوزاعي أنها في حق الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها أو أن هذا ما تعنيه جملة (أَضاعُوا الصَّلاةَ) وروي عن مجاهد أنها في حقّ جماعة في آخر الزمان يتركون الصلاة وينزون على بعضهم في الأزقة كالحيوانات (١).

ويتبادر لنا أن هذه الأقوال من قبيل الاجتهاد والتطبيق ، وأن روح الآية تلهم أنها عامة الشمول وبسبيل النعي على كل من بدّل وحرّف وانحرف عن طريقة الأنبياء والصالحين من أخلافهم وقصروا في عبادة الله تعالى وأوغلوا في الشهوات وإنذارهم. والاستثناء الوارد في الآية الثانية قرينة على ذلك وهو بسبيل دعوة السامعين إلى الله تعالى ، والإهابة بالمنحرفين إلى التوبة والرجوع إلى الله وعمل الصالحات وتشويقهم بأسعد مصير في الآخرة.

__________________

(١) انظر تفسير ابن عباس رواية الكلبي وتفسير ابن كثير.

١٦٦

ووصف حياة الجنة شيق جدا يبعث الاغتباط في المؤمنين الصالحين ويحفز على الرغبة فيها بالإرعواء والتوبة إلى الله وهو ما استهدفته الآيات فيما استهدفته كما هو المتبادر. وكل ذلك مستمر المدى والتلقين كما هو المتبادر أيضا.

ويلفت النظر إلى التلازم بين إضاعة الصلوات واتباع الشهوات. مما يمكن أن يفيد أن اتباع الشهوات هو نتيجة لإهمال عبادة الله وذكره. وقد جاء هذا المعنى بصراحة أكثر في آية سورة العنكبوت هذه (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥) والتوبة التي ورد بها الاستثناء في الآيات تشمل على ما هو المتبادر من الكافرين والمقصرين في طاعة الله والمتبعين للشهوات معا على ما يفيده فحوى الآية. وفيها تدعيم لمبدأ التوبة المحكم الذي شرحناه ونوهنا به في سياق سورة البروج.

ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم والإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله يقول «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ومنافق وفاجر» وروى عن أبي سعيد معقبا على الحديث «المؤمن يؤمن به والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به» وأورد كذلك حديثا آخر عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إني أخاف على أمتي اثنتين القرآن واللين. أما اللين فيتبعون الزيف والشهوات ويتركون الصلاة وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين». فإن صح الحديثان فليسا تفسيرا للآية الأولى وإنما فيهما نبوءة نبوية بما يمكن أن يظهر من بين المسلمين من فئات تنطبق عليهم. وأنهما استهدفا على ما هو المتبادر التنبيه والتحذير. والله أعلم.

١٦٧

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)) [٦٤ الى ٦٥]

(١) هل تعلم له سميّا : السؤال إنكاري يتضمن النفي حيث يسأل السامع سؤال من يعرف أن جوابه بالنفي عما إذا كان يعلم أو يستطيع أن يذكر مماثلا ونظيرا له بالاسم والقدرة والعظمة والربوبية الشاملة.

تبدو هاتان الآيتان معترضتين في السياق. وكأنهما لا ارتباط بينهما وبين ما سبقهما وما لحقهما. ومن جهة أخرى فإن صيغتهما صيغة خطاب موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير الله كأن أشخاصا غير الله يخاطبونه. وعبارتهما واضحة. وهما في صدد تقرير انحصار الأمر والعلم والتصرف في كل شيء في الله تعالى ربّ السموات والأرض وما بينهما الذي لا مثيل له ولا نظير في عظمته وقدرته وربوبيته الشاملة ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثانيتهما بالثبات في عبادته والخضوع له.

تعليق على آية

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)

لقد تعددت الأحاديث والروايات التي يرويها المفسرون في صدد هذه الآيات (١) منها حديث عن ابن عباس رواه البخاري والترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل «ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا فنزلت» ومنها حديث عن مجاهد جاء فيه «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل لقد رثت عليّ حتّى ظنّ المشركون كلّ ظنّ. فنزلت» وحديث عن قتادة جاء فيه «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل حينما جاء بعد انحباس ما جئت حتّى اشتقت إليك فنزلت». ومما رواه المفسرون أن احتباس جبريل كان ثنتي

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والكشاف.

١٦٨

عشرة ليلة وفي رواية خمسا وأربعين. كما رووا أن الاحتباس كان عند ما سأله الكفار بإيعاز من اليهود عن أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح فقال النبي لهم غدا أجيبكم ولم يقل إن شاء الله. ومع كل هذه الأحاديث والروايات فكان رواية عن مسلم رواها الطبرسي أن الآيتين حكاية لقول المتقين الذين ذكروا في الآيات السابقة حينما ينزلون منازلهم وباستثناء الحديث الذي يرويه البخاري والترمذي فالأحاديث الأخرى من المراسيل.

والعبارة القرآنية لا تتسق فيما يبدو مع القول بأن الآيتين حكاية لأقوال المتقين حينما ينزلون منازلهم في الجنة وهي أكثر اتساقا مع الأحاديث والروايات التي تذكر أنها حكاية لقول جبريل. مع ما يلحظ مع ذلك أن صيغة المتكلم في الآية صيغة جمع في حين أن الأحاديث والروايات تذكر جبريل وحده الذي سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل عليه بالآية. ولما كان من الحقائق الإيمانية أن جميع ما في القرآن صادر من الله عزوجل وأن الملك الذي يبلغه ليس إلّا واسطة فقد خرّج المفسرون الكلام الصادر ظاهرا عن الملك بصيغة الجمع على أنه تبليغ رباني عن لسان الملك أو الملائكة.

ويلحظ أن هناك آيات عديدة يكون فيها الكلام موجها من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة ولم يسبق بأمر له بقول ذلك كما جاء في آيات سورة هود هذه (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) وفي آية سورة الأنعام هذه (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤) وأن هناك آيات يكون الكلام فيها صادرا في الظاهر عن غير الله كما جاء في آيات سورة الصافات هذه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) وقد خرّجت هذه الآيات بمثل التخريج الذي خرجت به الآيات التي نحن في صددها.

ولما كان سرّ الوحي القرآني مما لا تدرك ماهيته فالأولى أن يوقف في هذه

١٦٩

المسألة الإيمانية الغيبية وأمثالها عند ما وقف عنده القرآن من ناحيتها الذاتية وكنهها وأن يقال آمنّا به كل من عند ربّنا.

وهذا لا يمنع من القول إن هاتين الآيتين وأمثالهما صورة من صور الوحي القرآني تبدوا أولا في صيغة الجمع وثانيا في حكاية كلام مباشر عن الملائكة حينا وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينا. ولعل مما يمكن أن يضاف إلى هذا أن الآيات التي تجمع الروايات على أنها كانت جوابا على تساؤل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تكون نزلت بعد نزول الآيات السابقة لها ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتدوينها فور نزولها بعدها ولو لم يكن بينها ارتباط بحيث يصح أن تشبه بآيات سورة القيامة [١٦ ـ ١٩] من ناحية فورية النزول والتدوين والمناسبة وعدم الارتباط بما سبقها وبما لحقها على ما شرحناه في سياقها.

ومما يرد على البال أن يكون ذكر الأنبياء وما حظوا به من عناية ربانية وذكر مريم وظهور الملك لها كان هو المناسبة القريبة للتساؤل عن كيفية نزول الملائكة بأوامر الله فأوحى بهاتين الآيتين عن لسانهم بعد أن تم سياق الكلام في الآيات السابقة. وإذا صح هذا فإنه يوجد ترابطا بين الآيتين وبين السياق السابق كما هو واضح ، وإن كان يتناقض مع الروايات المروية عن سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل عليه‌السلام. على أن الاختلاف في روايات النزول مما يسوغ التوقف في الروايات الواردة من حيث الأصل ، والله تعالى أعلم.

هذا ، ويتراءى لنا فيما احتوته الآيتان من إعلان اعتراف الملائكة بحدودهم إزاء العزة الربانية وتقريرهم بإحاطة الله سبحانه بكل شيء وقدرته على كل شيء وعدم طروء ما يطروأ على البشر من غفلة ونسيان عليه ، ونفي أي مشابهة له في الأسماء والصفات والقدرة الشاملة ، وتوكيدهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوب التزام عبادته والخضوع له هدف تدعيمي للتقريرات القرآنية والدعوة الربانية في مختلف فصول القرآن في بيئة يتخذ غالب أهلها الملائكة أولياء وأربابا وشركاء قادرين على النفع والضرر. بل لعل الآيتين قد استهدفتا هذا الهدف بصورة رئيسية والله تعالى أعلم.

١٧٠

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)) [٦٦ الى ٧٢]

(١) جثيّا : جاثين على ركبهم كناية عن الخضوع والذل.

(٢) عتيّا : تمرّدا وتكبرا وعصيانا.

(٣) صليّا : إصلاء بالنار وإلزاما لها.

في الآية الأولى حكاية لتساؤل الإنسان تساؤل المستغرب أو المنكر عما إذا كان حقّا سيبعث حيا بعد موته؟ وفي الثانية ردّ على الجواب بصيغة التساؤل الإنكاري أيضا عما إذا كان هذا المنكر لا يذكر ولا يعترف بأن الله تعالى خلقه من العدم حتى يشك في قدرة الله على إحيائه بعد موته. أما الآيات التالية للآيتين فقد جاءت للاستطراد والتعقيب واحتوت إنذارا ووعيدا للكافرين المكذبين عامة ولأشدهم تمردا وعصيانا بصورة خاصة. فقد أقسم الله بعزته أنه سيحشرهم ومعهم شياطينهم وسيجمعهم حول جهنم أذلّاء صاغرين وأنه سيختص بالعذاب الأشد أشدهم عصيانا لله وتمردهم عليه. ولقد روى الطبرسي بدون ذكر راو أن الإنسان الذي حكت الآية الأولى قوله وردت الآية الثانية عليه هو أبيّ بن خلف أحد زعماء المشركين الأشداء في مناوأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكار البعث. والروايات محتملة ، لأنه ليس كل إنسان يقول هذا القول ، حتى تؤخذ العبارة على مداها المطلق.

والإنذار في الآيات قوي رهيب ، ولا سيما للفئات الأشد مناوأة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمردا على الله تعالى ، ومتناسب مع مواقفهم في معارضة الدعوة إلى الله تعالى وتعطيل رسالة رسوله فضلا عن كفرهم.

١٧١

والرواية تذكر موقفا للزعيم الكافر ولا تذكر أن الآيات نزلت بسببه. ولا يذكر المفسرون الآخرون مناسبة لنزولها. ويتبادر لنا أنها ليست منفصلة عن السياق السابق. ففي هذا السياق تنديد بالذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات فجاءت هذه الآيات لتذكر موقفا من مواقف هؤلاء الجحودين بالآخرة.

على أننا نلحظ من ناحية أخرى أن الآيات الآتية احتوت حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار مثلها بحيث يسوغ القول أيضا أن هذه الآيات بداية الشطر الثاني من السورة من حيث إن الشطر الأول تناول ذكر الأنبياء والتعقيب عليه ، في حين أن هذه الآيات وما بعدها تناولت أقوال ومواقف كفار العرب والتعقيب عليها. هذا مع التنبه أولا على أننا نرجح أن هذه الآيات وما بعدها لم تنزل منفصلة عن بعضها وفور صدور كل موقف وقول حكتهما عن الكافر وإنما احتوت عرضا لهذه المواقف والأقوال جملة واحدة ، لأن وحدة روي الفصول تلهم أنها نزلت متلاحقة. وثانيا : إن قولنا إن الآيات بداية لشطر ثان للسورة لا يعني أن الشطرين منفصلان عن بعضهما أيضا حيث يلمح التساوق بينهما من حيث إن الشطر الأول حكى قصص الأنبياء وأخلافهم والشطر الثاني حكى مواقف الكفار وقصصا متناسبة مع مواقف أولئك الأخلاف. ووحدة الروي إلى هذا جامعة بين الشطرين. ومع أن الإنذار الموجه لهذه الفئة بخاصة ولكفار العرب في زمن النبي بعامة فإن المتبادر أن ما احتوته الآيات من تقرير وتنديد وإنذار هو عام التوجيه مستمر المدى لكل متمرد على الله ورسالة رسوله ومناوئ لها وصادّ عنها وكافر بها. وقد استثني المتقون من المصير الرهيب المنذر به. ومع ما في هذا الاستثناء من تطمين وبشرى للذين استجابوا للدعوة النبوية في زمن النبي فهو كذلك عام مستمر المدى لكل مؤمن متّق.

ونقول هنا ما قلناه في مناسبة سابقة إن الآيات تسجل واقع الكفار وزعمائهم حين نزولها. وإن الإنذار الرهيب إنما يظل قائما بالنسبة لمن أصرّ ومات على كفره وتمرده منهم.

١٧٢

واختصاص الذين اتقوا بالنجاة ذو مغزى كبير سواء في تطمين هذه الفئة وبثّ الاغتباط فيها أم في الحث على التقوى التي هي أبرز مظاهر الإيمان. لأنها تجعل المؤمن مراقبا لله في جميع أعماله وتعصمه من الوقوع في الأمم على ما شرحناه في سياق سورة العلق.

تعليق على جملة

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)

لقد تعددت الأحاديث والروايات والتأويلات في كتب التفسير في صدد هذه الجملة.

ففي معنى كلمة (الورود) إنها بمعنى الدخول وإن الضمير في كلمة (واردها) يرجع إلى جهنم. أو إنها بمعنى المرور عليها دون الدخول فيها.

وفي مدى جملة (وَإِنْ مِنْكُمْ) إنها خطاب لجميع الناس أبرارهم وفجارهم. ومؤمنيهم وكافريهم ، وقد استدل القائلون بدخول جميع الناس جهنم بالآية [٧٢] آخر الآيات التي نحن في صددها ، وبأحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الطبري عن حفصة قالت «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية. قالت فقلت يا رسول الله أليس الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). فقال رسول الله أفلم تسمعيه يقول (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)» وهذا الحديث لم يرد في كتب الصحاح. وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون من بابه لم ترد كذلك في هذه الكتب. وهناك قولان متناقضان معزوان إلى ابن عباس : واحد مؤيد للقول السابق ، وواحد يفيد أن الخطاب في (منكم) للكفار ومنكري البعث. وأن المؤمنين لا يردون النار. وأورد بعض المفسرين اعتراضا على القول الأول بآية سورة الأنبياء هذه (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (١٠٢) وأجابوا على الاعتراض بأن القصد يمكن أن يكون ذلك وهم في الجنة أو يمكن أن يكون القصد من ذلك أن

١٧٣

النار تكون عليهم حينما يردونها بردا وسلاما.

وهناك أحاديث عديدة نبوية تفيد أن الناس جميعهم يمرون على صراط فوق جهنّم يهوي فيها من يستحقها وينجو المتقون. من هذه الأحاديث ما لم يرد في كتب الصحاح ومنها الوارد في هذه الكتب. ومما ورد في هذه الكتب حديثان طويلان في الشفاعة ، روى واحدا الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «ثمّ يضرب الصّراط بين ظهراني جهنّم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمّته ، ولا يتكلم أحد يومئذ إلا الرسل. وكلام الرسل اللهمّ سلّم اللهمّ سلّم» (١). وروى ثانيهما مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمرّ أوّلكم كالبرق. ثم كمرّ الريح. ثم كمرّ الطير. وتجري بالرجال أعمالهم ، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا. قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة تأخذ من أمر الله بأخذه. فمخدوش ناج ومكدوس في النار» (٢).

ولقد صوب الطبري تأويل الورود في الآية بالمرور على الصراط فوق النار فيسقط الظالمون وينجو المتقون بناء على هذه الأحاديث.

والمستفاد من أحاديث الشفاعة المشار إليها أن الذين في قلوبهم إيمان لا يخلدون في النار إذا ارتكبوا آثاما. فهم يسقطون فيها عن الصراط ليقضوا مدة عذابهم ثم يخرجون إلى الجنة بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يخلد في النار من الساقطين فيها إلا الكفار.

ومهما يكن من أمر فالإيمان واجب بما جاء في القرآن وبما صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشاهد الأخروية. مع تكرار القول أنها من المتشابهات التي يجب إيكال تأويلها إلى الله تعالى واستشفاف ما في ذكرها بالأسلوب الوارد من حكمة. والملموح من الآيات والأحاديث أن من هذه الحكمة الترهيب للكفار والآثمين

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٤٢ ـ ٣٥٠.

(٢) المصدر نفسه.

١٧٤

والترغيب للمؤمنين المتقين وحفز الأولين على الارعواء عن كفرهم آثامهم ، والآخرين على الاستكثار من الأعمال الصالحة المنجية واجتناب الآثام.

ولسنا نرى هذا مانعا من القول بالنسبة للعبارة القرآنية ذاتها إن القول المعزو إلى ابن عباس بأنها خطاب للكفار لا يخلو من وجاهة. قد يؤيدها مجموع الآيات روحا ونصا. ولا سيما أن الآيات الثلاث الأخيرة قد جاءت بمثابة تعقيب استطرادي على الآيتين اللتين تحكيان قول الزعيم المشرك وتردان عليه. والله تعالى أعلم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)) [٧٣ الى ٧٤]

(١) النديّ : مجلس القوم ومجتمعهم.

(٢) أحسن أثاثا : أحسن متاعا.

(٣) رئيا : منظرا وهيئة وحالا.

في الآية الأولى حكاية لموقف آخر من مواقف الكفار حيث كانوا حينما تتلى عليهم آيات القرآن يبدون استكبارا وزهوا وخيلاء على المسلمين الذين كانت غالبيتهم ضعفاء وفقراء ، ويسألونهم سؤال المعتدّ المزهوّ عن الأفضل مركزا ، والأحسن حياة ومقاما ومجتمعا من الفريقين.

وقد ردت الآية الثانية ردّا إنذاريّا قويّا عليهم ؛ فلقد أهلك الله قبلهم كثيرا من الأمم والأجيال الذين كانوا أحسن منظرا وأكثر مالا ومتاعا منهم ؛ كأنما تريد أن تقول لهم إن الله الذي قدر على هؤلاء هو قادر عليكم وإن ما تتبجحون وتزهون به ليس برادّ عنكم قدر الله وعذابه.

١٧٥

والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها في حكاية موقف الكفار وأقوالهم وفي وحدة السبك والروي. ولم نطّلع على رواية تذكر مناسبة نزول هذه الآيات. ونرجح مع ذلك أن الآية الأولى تحكي موقفا تجادل فيه بعض الكفار مع بعض المسلمين ، فقال الكفار ما حكته الآية على سبيل التفاخر والتبجح وردت الثانية عليهم بردها القوي.

وواضح من هذا أن الكفار والمؤمنين في مكة كانوا يختلطون وكان يقع بينهم نتيجة لذلك مشادّات ومناظرات ومماحكات ومفاخرات متنوعة ؛ مما حكته آيات عديدة أخرى.

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)) [٧٥ الى ٧٦]

(١) فليمدد له الرحمن مدّا : فليتمتع في الحياة ما شاء الرحمن له أن يتمتع.

(٢) مردّا : عاقبة.

الآيات استمرار للسياق كما هو المتبادر. والمتبادر كذلك أن الآية الأولى احتوت ردّا آخر على تبجح الكفار المحكي عنهم في الآيات السابقة وتحديا حيث أمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم على سبيل التحدي : ليمدد الله تعالى من كان منا ومنكم في الضلالة وليجعله يتمتع بما شاء له أن يتمتع ، وحينما يحل وقت تحقيق وعيد الله للضالين بالعذاب الدنيوي أو الأخروي سيرون من هو شرّ مكانا ومنزلة ومن هو أضعف جندا وناصرا. وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة منها آيات سورة سبأ هذه (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)

١٧٦

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (٢٦). وواضح من روح الآية أنه انطوى في التحدي يقين بأن الكفار هم الضالون الذين سوف يكونون شرّا مكانا وأضعف جندا ، وأن هذا هو ما أشعرهم به التحدي ؛ حيث ينطوي في ذلك تنديد وإنذار لاذعان. أما الآية الثانية فهي تعقيب على الأولى وتوكيد لما انطوى فيها. فالكفار هم الذين ارتكسوا في الضلالة ، دون المؤمنين الذين يكونون موضع رحمة الله فيزدادون بإيمانهم بآيات الله المتجددة وبأعمالهم الصالحة المتجددة هدى على هدى.

وقد انطوت الفقرة الأخيرة منها على تحريض قوي على صالح الأعمال بأسلوب مطلق ، كأنما تهتف بالناس جميعهم أن كل شيء إلى زوال إلا العمل الصالح ، فهو الباقي كل البقاء النافع كل النفع. وفي هذا ما فيه من نداء وتلقين مستمري المدى.

تعليق على جملة

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ)

ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم أقوالا عديدة في مدى هذه الجملة (١). منها أنها في معنى الأعمال الصالحة وطاعة الله إطلاقا ، ويدخل في ذلك الحج والصلاة والزكاة والجهاد إلخ. ومنها أنها في معنى الصلوات المكتوبة وحسب. ومنها أنها ذكر الله وتسبيحه وحمده. ورووا في صدد القول الأخير أحاديث عديدة منها الوارد في كتب الصحاح ومنها غير الوارد. فمن غير الوارد في هذه الكتب حديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «استكثروا من الباقيات الصّالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال التّكبير والتّهليل والتّسبيح والحمد ولا قوّة إلّا بالله» ومنها حديث عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنّ قول لا إله إلّا الله والحمد لله وسبحان الله تحطّ الخطايا كما تحطّ ورق هذه الشّجرة الرّيح. خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ. هنّ

__________________

(١) انظر تفسيرها وتفسير مثيلتها في سورة الكهف في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

١٧٧

الباقيات الصّالحات ، وهنّ من كنوز الجنّة» (١) ومما ورد في كتب الصحاح حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي قال «أكثر من قول لا حول ولا قوّة إلّا بالله فإنّها كنز من كنوز الجنّة» (٢) وننبه على أن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح لا تذكر الصيغ التي وردت فيها أنها الباقيات الصالحات أو هي منها.

ومهما يكن من أمر فإن الأسلوب المطلق الذي جاءت به الجملة يسوّغ القول إنها تعني كل عمل صالح مع القول إن تسبيح الله وحده وتكبيره من جملة ذلك.

ونقول من جهة أخرى إن المتبادر على ضوء الآيات والأحاديث أن الخطايا التي يمكن أن يكفرها التسبيح والتهليل وذكر الله هي التي تكون من نوع الهفوات واللمم دون الآثام والفواحش والكبائر والبغي. وهناك حديث رواه مسلم عن عثمان بن عفان قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلّا كانت كفّارة لما قبلها من الذّنوب ما لم يأت كبيرة». حيث يصح أن يكون ذلك ضابطا والله أعلم.

ويتبادر لنا كذلك أن من الحكمة المنطوية في الأحاديث النبوية جعل المؤمنين يكثرون من ذكر الله تعالى لما يؤدي ذلك إليه من مراقبتهم الله ووقوفهم عند حدود أوامره ونواهيه ، وابتغائهم الوسيلة إلى رضائه. وفي ذلك ما فيه من أسباب الخير والفوائد الجليلة ، والله تعالى أعلم.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)) [٧٧ الى ٨٠]

(١) أطلع الغيب : هل اطلع على الغيب وعلم علمه.

__________________

(١) في كتب التفسير أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث.

(٢) التاج ج ٥ ص ٩٠ وهناك أحاديث أخرى في كتب الصحاح من باب هذا الحديث.

١٧٨

(٢) ونرثه ما يقول : نرث ما له من مال وولد لأنه سيهلك والله هو الباقي.

في الآيات صورة لموقف لأحد الكفار حيث قال بصيغة التأكيد إنه سيكون له المال والولد. فردت عليه متسائلة تساؤلا استنكاريّا عما إذا كان اطلع على الغيب أم أخذ من الله عهدا حتى يقول ما يقول ؛ ثم هتفت مكذّبة قوله بقوة وحسم ، وقررت أن الله سيسجل عليه قوله ويجعل عذابه ممدودا غير منقطع. وسيهلك دون ماله وولده ويبقى الله تعالى. وسيأتي إليه يوم القيامة فردا مجردا من كل شيء.

ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا جاء فيه «قال خبّاب كنت قينا بمكة ـ أي حدّاد أو صانع سيوف ـ فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت والله لا أكفر حتى يميتك الله ثم يبعثك. قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فنزلت الآيات» (١).

والذي يتبادر لنا أن الآيات فصل مماثل للفصول السابقة. واستمرار للسياق بسبيل حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بهم والرد عليهم. ويجوز أن يكون الحادث المروي قد وقع قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل أن يشار إليه ، وقد جاء التنديد قويّا مترافقا بإنذار شديد متناسب مع القول المنسوب إلى الكافر ، وجاء بأسلوب مطلق ليكون التنديد والإنذار مستمري التوجيه إلى كل جاحد متمرد على ما هو المتبادر.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٦ وفي تفسير الطبري أحاديث أخرى من باب هذا الحديث بعضها يذكر العاص وبعضها يذكر رجالا من المشركين بدون أسماء.

١٧٩

الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)) [٨١ الى ٨٧]

(١) ضدّا : عدوا وشرّا وبلاء أو خلافا وعونا عليهم.

(٢) أزّا : الأزّ هو الإزعاج والهزّ أو الإغراء بشدة. والكلمة في الآية بمعنى أن الشياطين يجرّون الكفار إليهم جرّا ويحركونهم أو يسيّرونهم أو يغرونهم بشدة ليسقطوهم في الشرك والضلال.

(٣) إنما نعدّ لهم عدا : بمعنى إنما نمهلهم ونحصي عليهم أعمالهم.

(٤) وفدا : أوّلها المؤولون بمعنى ركبانا. والمتبادر أن القصد من التعبير هو أنهم يأتون إلى الله مكرمين كما تكون الوفود التي تفد على الملوك فتحاط بالعناية والترحيب.

في الآيات تقريع وتبكيت للكافرين وإنذار لهم وخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبيل التثبيت والتطمين : فلقد اتخذ الكفار آلهة غير الله للانتصار والاعتزاز بهم ولكنهم سوف يتنصلون منهم وينكرون عبادتهم ويقفون منهم موقف الضد والعداء والخلاف والخذلان. ولقد كان من أمرهم أن اختاروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد ، فتركهم الله للشياطين يجرونهم بقوة إلى الارتكاس فيما يزينونه لهم من طرق الغواية والضلال. وليس من موجب للاستعجال في أمرهم ؛ فإذا كان الله تعالى لا يعجل بعذابهم فليس ذلك عن إهمال وإنما هو إمهال يحصي خلاله عليهم أنفاسهم وأعمالهم ليحاسبهم عليها في اليوم الذي يفد فيه المتقون على الله تعالى محاطين بالرعاية والتكريم بينما يساق المجرمون فيه إلى جهنم عطاشا متعبين ، وتكون لهم المقام الذي ينزلون والمنهل الذي يردون ؛ ولن تنفع الشفاعة يومئذ ، إلّا الذين عاهدوا الله من قبل على الإيمان والخضوع ووفوا بعهده.

والآيات غير منقطعة عن السياق السابق كما هو المتبادر ، وإنما فيها انتقال من الخاص إلى العام. فالفصول السابقة حكت مواقف وأقوالا خاصة للكفار فأتبعت بهذه

١٨٠