التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

تعالى ، فهو العزيز القوي الذي لا يعجزه شيء ولا يناله نائل ، وهو مع ذلك الغفور للناس إذا ما تابوا إليه وأنابوا.

والآيتان ليستا منقطعتي الصلة بالسياق ، وهما فصل مماثل للفصول السابقة التي احتوت تقريرات عن مشاهد قدرة الله وعظمة كونه ، وتخللها دعوة وعظة وتدعيم.

ويلحظ بالإضافة إلى ما قلناه أن الآيات تنطوي على تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجميع ما خلق الله متنوع مختلف ، ومن ذلك الناس ، فلا غرو أن يكون بينهم الجاهل والأحمق والمعاند والمكابر والمستكبر والعالم والواعي والراضخ للحق والمستجيب إلى دعوة الهدى ، ولا موجب ـ والحال هذه ـ لغمه وحزنه من موقف الأولين ، وفي موقف الآخرين الذين استجابوا إليه الغناء ، فالعلماء الواعون هم الذين يدركون معاني دعوته ويستجيبون إليها ويخشون الله عزوجل. وفي الآيات التالية ما يؤيد ذلك.

تعليق على جملة

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وتلقينها

وجملة (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) تتضمن بذاتها تنويها بالعلماء ودعوة إلى اتخاذهم قدوة وأسوة. وتتضمن بالإضافة إلى ذلك تحميلهم من التبعات والمسئوليات الخاصة والعامة ما لا تتحمله الطبقات الأخرى ، وتنبيههم إلى ما عليهم من واجبات وتبعات خاصة وعامة أيضا. ومن جملة ذلك إدراك الحقيقة الإلهية الكبرى وخشيتها وتقواها والتبشير بها أكثر من غيرهم. ومضاعفة مسؤولياتهم عن التقصير في ذلك. وفي كل هذا تلقين جليل وخطير مستمر المدى على مدى الأجيال كما هو واضح.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن التنويه الذي تضمنته الجملة بالعلماء مصروف بنوع خاص إلى الذين يؤديهم علمهم وإدراكهم إلى معرفة الله تعالى وخشيته وتقواه.

١٢١

ولقد أورد المفسرون أقوالا عديدة في تأويل كلمة (العلماء) منها أنهم الذين يعرفون أن الله على كل شيء قدير ، ويعرفون ما أحلّه وما حرّمه. ومنها أن العلم ليس بكثرة الرواية ـ ، وإنما هو نور يجعله الله في القلب. ومنها أن العالم من صدق قوله فعله. ومنها أن العلماء ثلاثة ، عالم بالله عالم بأمر الله ، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله. وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. وإن المقصود في الآية هو الأول. ويتبادر لنا أن هذه التعريفات غير كافية ، وغير محكمة. فالكلمة في الجملة مطلقة وهي في معرض التنبيه إلى مظاهر خلق الله ونواميس كونه وما فيها من دقة وإبداع ونظام وتنوع ، بحيث يمكن أن تشمل كل من يتصف بعلم يساعده على إدراك ذلك ودلالة على وجود الله وقدرته. ويدخل في ذلك طبقة العلماء في العلوم الدينية والدنيوية على السواء. بل ويمكن أن يدخل فيه طبقة العقلاء والنبهاء والمستنيرين والواعين ، ولو لم يكن أفرادها متعمقين في العلم ، فإن جميع هؤلاء من الذين في قدرتهم إدراك ذلك سواء أمن ناحية القابلية العقلية أم من ناحية الوقوف والاطلاع ، أم من ناحية القدرة على إعمال الفكر والقياس والنفوذ إلى الحقائق المشاهدة وآثارها والقائمة براهينها في مختلف مظاهر الكون فيدركون من خلال ذلك الحقيقة الإلهية الكبرى ويخشعون لها ويؤمنون بها ويتقونها.

ولقد تكرر في القرآن أولا الإشارة إلى العلماء وما يؤهلهم علمهم له من إدراك تلك الحقائق ومشاهد قدرة الله في الكون وحكمة الأمثال التي يضربها الله في القرآن كما ترى في الأمثلة التالية :

١ ـ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ..) العنكبوت [٤٣].

٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ..) الروم [٢٢].

ولقد تكرر ثانيا جملة آيات لقوم يتفكرون ويعقلون ويسمعون ويتذكرون ويتدبرون ويعلمون في معرض ذكر آيات الله ومشاهد قدرته وإبداعه في الكون.

١٢٢

وهذا كثير جدا وتغني كثرته عن التمثيل (١).

حيث ينطوي في كل هذا تساوق مع ما انطوى في سياق الجملة التي نحن في صددها ، وتدعيم للتقرير الذي قررناه في مداها ، والتلقين الخطير المستمر الذي ينطوي فيها.

وهناك أحاديث نبوية صحيحة عديدة فيها تنويه بالعلم وحثّ عليه وتنويه بالعلماء وفضلهم ومسؤولياتهم ، يصح أن يساق في هذا المقام ، من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن معاوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدّين». وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه «ومن سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإنّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورّثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظّ وافر» (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ

__________________

(١) اقرأ مثلا : آيات الرعد [٢ و ٣] والنحل [١١ و ١٢] والنمل [٥٩ ـ ٦٥] والروم [٢١ ـ ٢٥].

(٢) انظر التاج ج ١ ص ٥٣ ـ ٥٤ وهناك أحاديث أخرى في هذه الصفحات فاكتفينا بما أوردناه.

١٢٣

شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)) [٢٩ الى ٣٥]

(١) لن تبور : لن تكسد.

(٢) ظالم لنفسه : جان ومجرم في حق نفسه ومهلكها بإثمه وكفره وعصيانه.

(٣) مقتصد : كناية عن الذين يكتفون باليسير من الطاعات ولا يجتهدون فيها اجتهادا كبيرا.

(٤) الحزن : هنا بمعنى خوف العاقبة وشرّ المصير.

(٥) دار المقامة : دار الإقامة والخلود.

(٦) نصب ولغوب : النصب بمعنى التعب بفتح النون وضمها. واللغوب بمعنى الإعياء من التعب.

عبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وهي متصلة بالسياق كما هو المتبادر وصلتها بالآية السابقة لها خاصة واضحة في التناسب بين العلماء وبين الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ، فكأنّما جاءت لتنوّه بالعلماء الذين هم جديرون بخوف الله ، وتذكر أعمالهم الناتجة عن ذلك.

والآيات قوية نافذة فيما احتوته من تنويه وبشرى ، من شأنهما أن يستوليا على النفس ويغمراها بأقوى الاغتباط ويدفعاها إلى التزام الفضائل.

ومما يتبادر أن تكون الآيتان الأولى والثانية في صدد وصف الذين استجابوا للدعوة النبوية واستغرقوا في واجباتهم نحو الله. وبهذا يمكن أن يقوى معنى التسلية الذي نبهنا إليه في سياق الآيات السابقة ويتأيد.

كذلك فإن في الآية [٣١] هدفا ملحوظا في التسلية والتثبيت حيث احتوت توكيدا موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ما أنزل إليه من الكتاب هو الحق وهو مصدّق لما قبله من كتب منزلة ومتطابق معها. وفي هذا ما يطمئن نفسه ويجعله لا يعبأ بمواقف

١٢٤

المكذبين والجاحدين ، ويكل أمرهم إلى الله الذي هو الخبير البصير بعباده ، القادر على مقابلتهم بما يستحقون.

تعليق على جملة

(أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وتلقينها

وأكثر المفسرين على أن جملة (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) تعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن جملة (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) تحتمل أن يكون المقصود بها المنافق أو الذي لم يستجب إلى الدعوة أو الذي اجترح السيئات من المسلمين. وأن جملة (مُقْتَصِدٌ) تعني الذي لا يجتهد اجتهادا كبيرا في الطاعات والأعمال الصالحة ، ويكتفي باليسير منها. وأن جملة (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) هم أقوياء الإيمان المجتهدون اجتهادا كبيرا في الطاعات والأعمال الصالحة. وقال بعض المفسرين إن الطبقات الثلاث هي نفس ما عنتها آيات سورة الواقعة وهي (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). وأن المقتصدين هم أصحاب الميمنة ، الذين هم يدخلون الجنة وتكون درجتهم دون درجة السابقين. وأن أصحاب المشأمة هم الكفار (١). وروح الآيات تلهم رجحان قول من قال : إن تعبير (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) يعني المسلمين الذين يجترحون السيئات لأن جملة (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) تشملهم جميعا كما هو المتبادر. ولقد ذكر (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) في الآية [٣٦] التي تأتي بعد هذه الآيات حيث ينطوي في ذلك قرينة على صحة ما قلناه وضرورة استبعاد (الكافرين) بالنسبة لجملة (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ). وهناك أحاديث يرويها المفسرون مؤيدة لهذا أيضا. منها حديث يرويه الطبري بطرقه عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر هذه الآية فيقول فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا. وأما الظالم نفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن فذلك قوله حكاية على

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن.

١٢٥

لسان السابقين (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [٣٤]. وقد روى البغوي هذا الحديث بفرق في آخره وهو «وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهمّ ، ثم يدخل الجنة فيقول الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور». ومنها حديث يرويه الطبري بطرقه عن أبي سعيد الخدري قال : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية فقال هؤلاء كلهم في الجنة». وحديث يرويه البغوي وابن كثير عن أسامة بن زيد قال : «تلا رسول الله الآية فقال كلهم من هذه الأمة». وحديث يرويه البغوي عن أبي عثمان النهدي قال : «سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر هذه الآية فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابقنا سابق ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له».

ويلحظ أن مصير الظالم لنفسه ومصير المقتصد ظل مسكوتا عنهما في الآيات. ويتبادر إلى الذهن أن حكمة ذلك قصد تركيز الثناء والتنويه بالسابقين في الخيرات ، وإفهام الناس وبخاصة المسلمين أنه لا ينبغي لمسلم أن يكون مقتصدا في القيام بواجباته نحو الله والناس ، فضلا عن أنه لا يجوز لمسلم أن يجترح السيئات ، وأن الخير كل الخير والفضل كل الفضل في السابقين في الخيرات الذين يجتهدون في القيام بواجباتهم على أحسن وجه وأوسعه وأفضله. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى.

على أن في شمول جملة (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) للصنفين الآخرين على ما ذكرنا وذكره غيرنا من المفسرين استلهاما من فحوى الآية يظل الباب مفتوحا لهما ، لكيفّ الظالم لنفسه عن سيئاته ويتوب إلى الله تعالى ، ويبدل المقتصد خطته ، ويبذل الصنفان جهدهما للّحوق بالسابقين. والبشرى والتنويه اللذان انطويا في الآية بالنسبة للسابقين مما يثير في الصنفين ذلك. ولعل ذلك مما استهدفته الجملة القرآنية.

وجملة (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) تنطوي على تنويه عظيم بالأمة الإسلامية ، وأذان بأنها قد استقر عليها الاصطفاء ، وإرث كتاب الله

١٢٦

نهائيّا ، وأن دينها قد أصبح الدين الحق للناس جميعا ، وأن القرآن قد أصبح هو المستقر والمرجع والهادي العام لجميع البشر وقد أيدت هذا آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [٢٨] ومنها آية سورة النور هذه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [٥٥] وآيات سورة المائدة هذه (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦) وآية سورة المائدة هذه (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ...) (١) [٤٨].

وفي كل ذلك ما فيه من تلقين وحضّ وتنبيه وتحميل تبعات جسام ، كما هو واضح.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)) [٣٦ الى ٣٧]

(١) يصطرخون : بمعنى يستغيثون.

(٢) نعمّركم : نطيل من أعماركم.

__________________

(١) أوّل المفسرون كلمة المهيمن بالرقيب والشهيد والحاكم والقائم بالأمر.

١٢٧

في هذه الآيات ذكر لمصير الكافرين بالمقابلة لذكر المؤمنين في الآيات السابقة ، جريا على الأسلوب القرآني. فهي والحال هذه استمرار للسياق. وفيها قرينة على أن الطبقات الثلاث التي ذكرت في الآيات السابقة هي من المؤمنين.

وقد احتوت وصفا لما سوف يكون الكفار فيه من عذاب شديد دائم لا يموتون منه فيستريحون ولا يخفف منه شيء ؛ ولما سوف يشعرون به من الندم على ما فرطوا ، ويتمنون على الله ويستغيثون به ليخرجهم منها ، ويعيدهم ثانية إلى الدنيا ليصلحوا حالهم فيقال لهم : لقد منحتم الفرصة الكافية بطول العمر ودعوة الرسل وإنذارهم فأضعتموها فليس للظالمين أمثالكم من مهرب ولا نصير.

والآيات في بابها قوية نافذة كسابقاتها ، من شأنها أن تثير الخوف والفزع في النفوس وتحمل السامعين على الارعواء ، وهو مما استهدفته على ما هو المتبادر.

ولقد وقف المفسرون عند جملة (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وأوردوا بعض الأقوال والأحاديث في مدى ذلك. منها أنها خطاب موجه لكل من بلغ العشرين من عمره أو الأربعين أو الستين. ومن ذلك حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة». وفي رواية «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر». وفي رواية «لقد أعذر الله إلى صاحب الستين والسبعين». وعلّل الذين قالوا أربعين سنة بأن عقل الإنسان يصل إلى نهاية نضجه فيها. والأحاديث المعزوة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا بالنسبة لأسلوب الآية أنها تضمنت معنى التبكيت والتنديد لأن الكفار قد أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم في الدنيا ليتذكروا ويرعووا. أما بالنسبة لمسألة العمر الذي يكون فيه الإعذار الرباني ملزما فهو بلوغ الإنسان سنّ الرشد الذي يستطيع فيه التمييز بين الحقّ والباطل والهدى والضلال ، وتبلغه معالم ذلك بواسطة رسول من الله أو كتاب رباني وسنة نبوية ، ثم لا يتبع الحق والهدى. والله تعالى أعلم.

١٢٨

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)) [٣٨ الى ٣٩]

(١) خلائف : قيل إن الكلمة جمع خليفة وإنها إما بمعنى كون الله جعل آدم وذريته خلفاء في الأرض ، كما جاء في آية سورة البقرة [٣٠] وما بعدها. وإما بمعنى أن أمة تخلف أمة وجيلا يخلف جيلا بالتوالي.

(٢) مقتا : غضبا وسخطا وبعدا.

المتبادر أن الآيات جاءت تعقيبية على سابقاتها حيث وجه الخطاب فيها للناس جميعا. فالله يعلم كل سرّ وجهر في السموات والأرض ويعلم كل خطرة من خطرات النفوس ومكنونات الصدور. وجعل السامعين للقرآن خلائف لمن سبقهم من الأجيال مما هو سنة من سنن الكون في جعل البشر خلائف يخلف بعضهم بعضا. فمن كفر منهم فإثم كفره وتبعته عليه وحسب ، والكفر إنما يؤدي بصاحبه إلى زيادة من مقت الله وزيادة من الخسران.

تعليق على جملة

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)

والفصل على هذا استمرار للسياق. وهو قوي نافذ الأسلوب كالفصول التي سبقته. وهو من الفصول الصريحة في تقرير كون الإنسان إنما يكفر باختياره ، وإن ما يصيبه من شرّ وخسارة ومقت إنما هو بسبب اختياره الكفر ونتيجة له ، واختيار الكافر الكفر واختيار المؤمن الإيمان إنما يقعان بما أودعه الله في الإنسان من العقل وقوة التمييز بين الكفر والإيمان ، والإقدار على اختيار أحدهما. وبهذا يصبح الجدل الكلامي في أثر إرادة الله تعالى ومشيئته في مفردات أعمال الناس وعدمه في غير محله ، فإرادة الله وحكمته اقتضتا أن يكون الإنسان قادرا على التمييز والاختيار

١٢٩

بصورة عامة ، فاختياره للهدى والضلال والخير والشرّ والحقّ والباطل هو من كسبه ونتيجة للحكمة والإرادة الربانية ، وإذا كان هناك آيات يمكن أن تورد على هذا الرأي أو ذاك فالحق هو تأويلها في نطاق ما نقرره ؛ لأنه هو المتسق مع روح القرآن عامة ومع حكمة إرسال الرسل وتبشير المؤمنين وإثابتهم ، وإنذار الكافرين والمجرمين وتعذيبهم ؛ ولا يصح أن يستنبط من القرآن ما يكون متناقضا. والمتدبر في القرآن يرى أنه ما من آية قد تثير إشكالا وجدلا إلّا يمكن أن يوجد لها تأويل في آية أخرى يزيل ذلك الإشكال ويجعل مبادئ القرآن وتقريراته متساوقة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)) [٤٠ الى ٤١]

(١) إن يعد : بمعنى لا يعد.

(٢) أن تزولا : لئلا تزولا وتسقطا.

(٣) ولئن زالتا : بمعنى ولو زالتا.

(٤) إن أمسكهما : بمعنى لا يمسكهما.

في الآية الأولى أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال المشركين عما خلقه شركاؤهم من الأرض ، وعن أي شيء لهم شركة في السموات ، وعما إذا كان لديهم كتاب منزل من الله فيه دليل على صحة ما هم عليه من دين وعقائد يجعلهم على ثقة وبينة من أمرهم. ثم تنتهي بتقرير أن كل ما هم عليه وكل ما يقوله بعضهم لبعض ليس إلّا كذبا وخداعا وتغريرا. وهذه النهاية بمثابة جواب على السؤال وبيان حقيقة الأمر في حال المشركين. وأسلوب الآية قوي لاذع في تحدي المشركين وإفحامهم وتسفيههم وتقرير الواقع من أمرهم.

١٣٠

أما الآية الثانية فقد قررت أن الله وحده هو الذي يمسك السموات والأرض من الزوال والسقوط والفناء ، وحينما يريد ذلك لن يستطيع أحد أن يحول دونه. وإنه مع ذلك يحلم على عباده فلا يعجل عليهم بالنقمة رغما عمّا يصدر منهم من موجباتها ، وإنه لغفور تتسع مغفرته لذنوبهم إذا ما استغفروه وتابوا إليه. والمتبادر أن الآية الثانية تتمّة للأولى في صدد ما احتوته من تحدّ للمشركين لتوكيد تصرف الله عزوجل المطلق في السموات والأرض خلقا وإبقاء وزوالا دون ما شريك ولا معارض ولا مانع.

ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لهاتين الآيتين اللتين وجه الخطاب في أولاهما إلى المشركين بصيغة الضمير المخاطب ؛ مما يسوغ القول إن الأمر بسؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين وتحديهم كان أسلوبيا لحكاية حال المشركين وتوكيد وهن موقفهم ، وليس في صدد موقف حجاجي وجاهي كما قد يوهم الضمير المخاطب. وقد تكرر هذا الأسلوب في مواضع كثيرة من القرآن. والجملة التي جاءت بمثابة جواب في الآية الأولى نفسها قد تدل على ذلك. وقد ورد الضمير فيها بصيغة الغائب.

وعلى هذا فإن الآيتين متصلتان بما سبقهما ، وبخاصة بالسابقات القريبات التي احتوت وصف سوء مصير الكفار وإنذارهم وما ينالهم من مقت وخسارة من جرّاء كفرهم.

تلقين جملة

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) في مقامها

ولقد احتوت الفقرات الأخيرة من الآية الثانية تلقينا جليلا فيما انطوى في صفتي الحلم والغفران الربانيتين من المعنى العظيم ، وبخاصة في مقام ورودهما على ما شرحناه. ولقد تكرر هذا في مناسبات كثيرة وبأساليب متنوعة منها ما سبق ونبهنا إليه ؛ مما يؤكد ويؤيد ما شرحناه في سياق سورة البروج من أن منح فرصة الصلاح والإصلاح والإنابة إلى الله تعالى للمذنب والمقصر والجاحد بالتوبة من

١٣١

المبادئ المحكمة التي شغلت حيزا مهمّا في التنزيل القرآني والدعوة الإسلامية.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣)) [٤٢ الى ٤٣]

احتوت الآيات حكاية الأيمان المغلظة التي كان المشركون يحلفونها قبل البعثة النبوية بأنهم لو جاءهم نذير لا تبعوه ، ولكانوا به أهدى من الأمم الأخرى ، وما كان من أمرهم حينما جاءهم النذير وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ازدادوا كفرا ونفورا. وذكرت أن سبب الموقف الناكث الذي وقفوه هو استكبارهم عن اتباع النذير الذي جاءهم ، ورغبة في معاكسته والكيد له ؛ ثم عقبت على ذلك منددة منذرة. فالمكر السيء لن يضر غير أصحابه. وإن الناكثين الماكرين في موقفهم كأنما ينتظرون ويستعجلون سنة الله التي قد خلت في الأولين بإهلاك المكذبين لرسل الله الماكرين بهم مكر السوء ؛ وإن سنة الله لن تتبدل معهم ولن تتحول عنهم.

ولا يروي المفسرون رواية ما عن مناسبة نزول الآيتين. وهما معطوفتان على ما سبقهما. والمتبادر أن ضمير الغائب فيهما عائد إلى الكافرين والمشركين موضوع الكلام في الآيات السابقة ، بحيث يمكن القول إن الآيتين غير منفصلتين عن السياق. وإنهما احتوتا تذكيرا بالأيمان التي كان هؤلاء يحلفونها ، وتنديدا بموقفهم الذي وقفوه حينما جاءهم النذير الذي كانوا يتمنون مجيئه.

تعليق على جملة

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)

وما بعدها في الآيتين [٤٢ و ٤٣] وما يتصل بذلك من صور وملابسات

والمتبادر أن جملة (إِحْدَى الْأُمَمِ) في الآية الأولى هم اليهود والنصارى

١٣٢

على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا) (١) (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧).

ويفهم من الآية الأولى من آيتي فاطر اللتين نحن في صددهما أن العرب أو الفريق المستنير منهم مكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من خلاف ونزاع وتشادّ وتكذيب بعض لبعض بل وقتال ، فيعجبون من ذلك ويقسمون بأنهم لو جاءهم نذير أو بعث فيهم نبي مثل ما جاء هؤلاء لاتبعوه واهتدوا بهداه وغدوا أهدى من أي منهما.

وفي القرآن آيات عديدة تحكي واقع خلاف الطوائف اليهودية والنصرانية وتشادّها وقتالها قبل البعثة الإسلامية وفي أثنائها. من ذلك آية سورة البقرة هذه (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣) وآية سورة البقرة هذه (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣) ومنها آية آل عمران هذه : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) ومنها آيات سورة المائدة هذه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُ

__________________

(١) لئلا تقولوا.

١٣٣

الْمُحْسِنِينَ) (١) ((١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤).

وليس من ريب في أن العرب أو فريقا منهم من أهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره وفي ظرف بعثته كانوا يعرفون ما حكته الآيات عن حالة اليهود والنصارى. لأنهم كانوا على صلة وثيقة بهم من حيث كان منهم جماعات في مكة والمدينة. وكانوا يلتقون بكثير منهم أيضا في بلاد الشام والعراق ومصر واليمن التي كانوا يصلون إليها في رحلاتهم الصيفية والشتوية. وأن ذلك كان يثير في أنفسهم العجب. وهذا ما يفسره ما حكته آيات الأنعام التي أوردناها آنفا والتي تتضمن ما كان من اعتذارهم من أن الكتب السماوية المنزلة على طائفتين من قبلهم أي اليهود والنصارى كانت بلغة غير لغتهم ، فلم يتسن لهم دراستها. ومن أنهم لو أنزل عليهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى منهم. وما حكته آية فاطر التي نحن في صددها من حلفهم الأيمان المؤكدة بأنهم لو جاءهم نذير منهم ليكونن أهدى منهم بأسلوب فيه معنى التعجب والانتقاد.

وواضح أن هذا يدل على أن فريقا من مستكبري العرب قد وصلوا إلى طور شعروا فيه بأن ما عليه العرب من عقائد وتقاليد دينية باطل وضلال فأنفوا منها ونزّهوا أنفسهم عنها ، وأنفوا من النصرانية واليهودية لما كان عليه أهلهما من نزاع وخلاف وتهاتر وقتال وشيع وأحزاب ، فأدّاهم ذلك إلى ما حكته الآيات عنهم.

وهناك روايات عديدة تذكر أسماء عدد غير يسير من هؤلاء المستنيرين وأنفتهم من عقائد وتقاليد قومهم وانصرافهم عنها ، وتنصّر بعضهم وتهوّد بعضهم وأنفة بعضهم عن التهود والتنصر أيضا ، وبحثهم عن ملة إبراهيم الحنيفية التوحيدية الخالصة وادعاء بعضهم أنهم عليها (٢). كما أن هناك روايات تفيد أن اليهود كانوا

__________________

(١) هذه الآية في حق اليهود كما تدل عليه الآية التي قبلها.

(٢) انظر كتابنا عصر النبي عليه‌السلام وبيئته قبل البعثة ص ٣٩٦ ـ ٤٣٤.

١٣٤

يذكرون للعرب أن نبيا عربيا سيبعث وكتابا عربيا سينزل وأنهم سيكونون حزبه (١) ، مما انطوى على ذلك قرينة قوية في آية سورة البقرة هذه (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩) وهذه (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) (٢) بل ومما انطوى على ذلك قرينة قوية في آية سورة الأعراف هذه (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧) التي يمكن أن تلهم أن اليهود والنصارى معا في الحجاز ومكة كانوا يتحدثون عن نبي عربي أمّيّ يبعث ، ويذكرون صفاته التي يجدونها في التوراة والإنجيل ، فكان العرب أو الفريق المستنير منهم ينتظرون تحقق ذلك ويقسمون بأنهم سيكونون حينئذ أهدى به من النصارى واليهود.

والآيات التي تذكر إيمان من آمن من اليهود والنصارى وفرحهم بما نزل من القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهادتهم بأنه منزل بالحق من الله تعالى وكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، والتي أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف المذكورة آنفا مما يدعم ذلك.

وبذلك كله استحكمت حجة آيات سورتي فاطر والأنعام الدامغة القوية على كفار العرب وبخاصة الفريق المستنير الذي كان يقود حركة الصدّ والمناوأة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته لأن ما كانوا ينتظرونه ويتمنونه قد تحقق ، وحقّ عليهم التنديد القوي الذي احتوته ؛ لأنهم نكثوا أيمانهم وخالفوا أقوالهم ووقفوا مواقف الظلم والبغي.

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) انظر تفسير الآيتين أيضا في الطبري وابن كثير ورشيد رضا وغيرهم حيث روى المفسرون في سياقهما روايات تطابق ما ذكرناه.

١٣٥

سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة والتكذيب ،

مع أنهم كانوا يتمنون بعثة نبي منهم بكتاب بلغتهم

والآية الثانية من آيتي سورة فاطر التي نحن في صددها تتضمن السبب الذي حدا إلى نكث من نكث أيمانه من هذا الفريق ، حينما تحقق ما انتظروا وبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب عربي مبين ؛ وهو الاستكبار عن شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث فيهم الذي أداهم إلى الوقوف منه موقف التصامم والمناوأة والكيد والبغي والمكر السيء. والمتبادر أنهم من طبقة الزعماء والأغنياء ، وفي ذلك الظرف قلّ أن ينبه نابه من غير هذه الطبقة ، فأنفوا أن يتبعوا النبي الذي لم يكن من طبقتهم. ولعل منهم من حسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاختصاصه دونهم بالرسالة ، فأعمى الهوى بصيرته ، وكان مثله كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، على ما جاء في آية سورة الأعراف [١٧٥] التي روى المفسرون في سياقها اسمين من أسماء نابهي العرب الذين كبر عليهم اختصاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دونهم ، وهما أمية بن الصلت وأبو عامر الراهب على ما شرحناه في سياق الآية المذكورة. وفي آيات سورة ص هذه (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨). وفي سورة الزخرف آية من هذا الباب فيها صراحة أكثر بالنسبة للموضوع وهي هذه (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١) أي أنهم استغربوا واستكبروا أن يكون النبي الذي ينزل عليه القرآن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لم يكن معدودا من طبقة الزعماء ، وقالوا كان ينبغي أن ينزل القرآن على عظيم من عظام مكة أو الطائف.

ولقد كان بنو أمية أكثر بروزا من بني هاشم في مكة وكانت لهم قيادة الحرب فحسبوا حساب استعلاء بني هاشم عليهم إذا نجحت دعوة النبي الهاشمي فحفزهم ذلك إلى مناوأته. ولقد أثر عن عمرو بن هشام المخزومي الذي يكنى في الإسلام

١٣٦

بأبي جهل أن مثل هذا الحساب هو الذي جعله يقف موقف العداء والمناوأة الشديد الذي وقفه (١).

فكل هذا يفسر ما كثرت حكايته في القرآن من مواقف العناد والجدل والمكابرة والتأليب والتكذيب والتحدي والأذى والتهم الباطلة التي وقفها الزعماء والنبهاء الذين لم يكونوا أو لم يكن أكثرهم أغبياء وضعفاء الإدراك على ما تلهمه نصوص القرآن (٢) ، وما كثرت حكايته كذلك من الحملات الشديدة التي نزلت فيهم مما لا تكاد تخلو منه سورة مكية ، ومما مرّ منه أمثلة كثيرة في السور السابقة ، وأوردنا منه كثيرا من سور أخرى في سياق تفسير هذه السور ، فنكتفي بذلك دون إيراد نصوص أخرى لأن الأمثلة مبثوثة في مختلف السور القرآنية وبنوع خاص في المكية منها. وفي القرآن إلى هذا آيات تذكر ما كان من أثر تأليب الزعماء للسواد الأعظم ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته حتى جعلوهم ينقبضون عنه مما كان من أسباب حكاية تلك المواقف والحملات. من ذلك آيات سورة سبأ هذه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣) وآيات سورة الأحزاب هذه (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا

__________________

(١) روى ابن كثير في سياق تفسير الآيات [٣٣ ـ ٣٦] من سورة الأنعام أن أبا جهل قال : «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا. وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذا. والله لا نؤمن به ولا نصدقه».

(٢) اقرأ الباب الثالث في حياة العرب العقلية في كتابنا عصر النبي عليه‌السلام وبيئته قبل البعثة ص ٢٣٧ ـ ٣١٦

.

١٣٧

الرَّسُولَا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧).

ولقد كانت هذه المواقف الاستكبارية الناكثة الماكرة المؤذية المعجزة المتحدية المكابرة مما يحزّ في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويثير فيه الألم والحسرات فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الآيات التي تضمنت تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطمينه والتهوين عليه مما مرّ منه أمثله كثيرة في هذه السورة وما قبلها.

تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب الموعود

وممّا تلهمه الآية الثانية التي نحن في صددها أي الآية [٤٣] من سورة فاطر أن المشركين كانوا يتحدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال العذاب وتعجيله عليهم بأسلوب المستهر الساخر. فأكدت الآية لهم عدم تبدل سنة الله التي خلت في من قبلهم توكيد يتضمن الإنذار. والآيتان التاليتان تتضمنان تدعيما لهذا التوكيد مما ينطوي فيه صحة الاستلهام. واستعجال الكفار العذاب الموعود بالأسلوب الساخر الجاحد قد حكي عنهم في آيات كثيرة منها آيات الأنبياء هذه (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) ومنها آية سورة الحج هذه (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) ومنها آيات سورة العنكبوت هذه (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥).

تلقين الآيات المستمر ضد المتكبرين عن الحق الماكرين بدعاته

هذا ، ومع خصوصية الموقف وزمنه فإن ما في الآيات من تنديد بالذين يستكبرون على ما يعلمون أنه الحق ويكابرون فيه ويصدون عنه وينكثون بعهدهم

١٣٨

في صدده بباعث الحسد والكبر وقصد المكر والكيد يمكن أن يكون تلقينا مستمر المدى ضد هذه الأخلاق وضد المتصفين بها كما هو المتبادر.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)) [٤٤ الى ٤٥]

تساءلت الآية الأولى عما إذا كان الكفار لم يطوفوا في الأرض ولم يروا آثار عذاب الله في مساكن الأقوام السابقة ، ثم قررت أن أولئك الأقوام كانوا مع ذلك أشد قوة من هؤلاء الكفار فما أعجزوا الله لأنه لا يمكن أن يعجزه شيء في السموات والأرض ، وهو العليم المحيط بكل شيء والقادر على كل شيء.

أما الآية الثانية فقد قررت سنة من سنن الله تعالى وحكمة من حكمه. فلو أن الله تعالى آخذ الناس بكل شيء كسبوه واجترحوه مؤاخذة عاجلة لما بقي على ظهر الأرض من يدبّ عليها ؛ لأن الناس مقصّرون دائما عن القيام بواجباتهم نحوه ولا يفتأون يجترحون ما يستوجب المؤاخذة والعذاب. ولكن الله يمهلهم إلى الآجال المعينة في علمه ، فإذا ما جاءت أنزل بهم ما يستحقون ، وهو البصير بكل ما يستحقون ، لأنه المطلع على كل أمر من أمور عباده.

وصلة الآيتين بالسياق وبخاصة بالآيتين السابقتين لهما مباشرة واضحة. وفيهما توكيد وتدعيم لما احتوته الآية السابقة لهما مباشرة على ما نبهنا عليه.

والمتبادر أن السؤال الذي بدأت به الآية الأولى استنكاري ، وروح الآية تلهم أن المشركين قد طوفوا في مختلف البلاد ، ورأوا آثار الأمم السابقة أو بعضها ، وعرفوا أن ما حلّ بها كان عذابا ربانيّا بسبب انحرافاتهم وآثامهم وتكذيبهم لرسلهم. وبذلك تستحكم الحجة عليهم. وفي القرآن آيات عديدة تدل على ذلك

١٣٩

منها آية سورة الفرقان هذه (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٤٠) وآية سورة العنكبوت هذه (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)).

حكمة الله المنطوية في جملة

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وتلقينها

ولعل مما انطوى في جملة (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) تقرير أن حكمة الله تعالى اقتضت اختبار الناس ومنحهم الفرص التي يختارون فيها ما تدفعهم إليه قابلياتهم ومواهبهم ومداركهم المودعة فيهم من طريق وعمل ، وعدم التعجيل في مؤاخذتهم لتكون لهم كذلك الفرصة للصلاح والإصلاح. والآية [٣٧] من السورة احتوت تأييدا لهذا المعنى حيث خاطب الله تعالى الظالمين الذين حكت الآية ما سوف يطلبونه من العودة لإصلاح حالهم بأنهم قد أعطوا الفرصة الكافية ، وعمروا العمر الذي يمكن أن يتذكر فيه من أراد أن يتذكر ورغب في الحق والهدى. وفي هذا ما فيه من تدعيم لفكرة كون الصلاح والإصلاح من المبادئ القرآنية المحكمة التي شغلت جزءا مهمّا في القرآن. وقد شرحنا ذلك أيضا في نبذة فكرة التوبة في الإسلام في سياق تفسير سورة البروج.

١٤٠