التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

تعليق على آية

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ

الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ...) إلخ

هذا ، وننبّه إلى وجوب الحذر من مخادعة اليهود لبسطاء المسلمين ودعواهم أن القرآن سجّل أن الله عزوجل جعل فلسطين إرثا لهم وكتبها لهم استنادا إلى هذه الآية وما يماثلها مثل آية سورة المائدة هذه : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)) فما جاء في هذه الآيات هو خاص بالزمن الذي تمّ فيه ذلك ونتيجة لما كان من استجابتهم لكلام الله وصبرهم على ما ذكرته الآية التي نحن في صددها بصراحة. وعلى ما هو متفق عليه عند المؤولين والمفسرين بدون خلاف. وبعبارة أخرى إن هذه العبارات القرآنية هي إيذان أو حكاية لموقف رباني مقابل موقف بني إسرائيل وهو الصبر. ولقد احتوى القرآن آيات بل فصولا كثيرة كثرة تغني عن التمثيل فيها إيذان رباني بتغير موقف الله إزاء بني إسرائيل بسبب تغير موقفهم. منها ما هو في صدد مواقفهم قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي زمن موسى عليه‌السلام وبعده. ومنها ما هو في صدد مواقفهم إزاء الرسالة النبوية (١) حيث يتبادر من ذلك أن الموقف الذي حكاه الله تعالى وآذنه في هذه العبارات ليس على سبيل التأبيد وأنه كان منوطا بموقف بني إسرائيل وأنه تغير بتغير هذا الموقف. وقد جاء هذا المعنى في آيات سورة إبراهيم هذه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ

__________________

(١) اقرأ آيات سورة البقرة [٤١ ـ ١٤٦] وآل عمران [٧١ ـ ١٢٠] والنساء [٤٣ ـ ٥٦ و ١٥٧ ـ ١٦١] والمائدة [١٢ ـ ٣٣ و ٤١ ـ ٤٥ و ٥١ ـ ٧٢] والأنعام [١٤٦] والأعراف [١٤٨ ـ ١٥٣ و ١٦١ ـ ١٦٩] والصف [٥] والجمعة [٥ ـ ٨] واقرأ كتابنا «القرآن واليهود» أيضا.

٤٤١

رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)) ولقد احتوى الإصحاح السادس والعشرين من سفر الأحبار أو اللاويين المتداول اليوم إنذارا ربانيا رهيبا لبني إسرائيل إذا هم انحرفوا عن وصايا الله وحدوده بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم الله إياه وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم عليهم هذا نصه : (وإن لم تسمعوا إليّ ولم تعملوا بجميع الوصايا فنبذتم رسومي وعافت أنفسكم أحكامي فلم تعملوا بجميع وصاياي ونقضتم عهدي فأنا أيضا أصنع بكم هذا. أسلّط عليكم رعبا وسلا وحمى تفني العينين وتتلف النفس. وتزرعون زرعكم باطلا فيأكله أعداؤكم. وأجعل وجهي ضدكم فتهزمون من وجوه أعدائكم. ويتسلّط عليكم مبغضوكم. وتفرون ولا طالب لكم. ثم إن لم تطيعوني بعد هذا زدتكم تأديبا على خطاياكم سبعة أضعاف ، فأحطم تماشخ عزكم. وأجعل سماءكم كالحديد. وأرضكم كالنحاس وتفرغ قواكم عبثا. ولا تخرج أرضكم إثاءها وشجر الأرض لا يخرج ثمره. وإن جربتم معي بالخلاف ولم تشاؤوا أن تسمعوا إليّ زدتكم سبعة أضعاف من الضربات على خطاياكم. وأطلقت عليكم وحش الصحراء فتثكلكم وتهلك بهائمكم وتقللكم فتوحش طرقكم. وإن لم تتأدبوا بهذا وجريتم بالخلاف جريت أنا أيضا معكم بالخلاف. وضربتكم سبعة أضعاف على خطاياكم. فأجلب عليكم سيفا منتقما نقمة العهد فتتجمعون إلى مدنكم وأبعث الوباء فيما بينكم وتسلمون إلى أيدي العدو. وإن لم تخضعوا لي بذلك وجريتم معي بالخلاف جريت أنا أيضا معكم بالخلاف ساخطا وأدبتكم سبعة أضعاف على خطاياكم فتأكلون لحوم بنيكم وبلحم بناتكم تقتاتون. وأدكّ مشارفكم وأحطم تماثيل شموسكم. وألقي جثثكم على جثث أوثانكم وتكرهكم نفسي. وأجعل مدنكم قفرا ، ومقادسكم موحشة ، ولا أشتمّ رائحة رضى منكم. وأترك الأرض بلقعا فينذهل لها أعداؤكم الذين يسكنونها وأبددكم فيما بين الأمم. وأجرّد وراءكم سيفا فتصير أرضكم خرابا ومدنكم قفرا وتسقطون ولا طالب. ويعثر الواحد بأخيه كمن يهرب من أمام السيف ولا طالب. ولا يكون لكم ثبات في وجوه أعدائكم وتبادون بين الأمم. وتأكلكم أرض أعدائكم).

٤٤٢

ولقد انحرفوا انحرافات خطيرة جدا في العقيدة والسلوك والأخلاق في زمن موسى عليه‌السلام وبعده فنفذ الله وعيده فيهم وسلّط عليهم من ضربهم الضربات القاصمة واستولى على بلادهم ودمّر مدنهم ومعابدهم وشتتهم في أنحاء الأرض عبيدا أذلة على ما ذكرته أسفارهم وكتب التاريخ القديمة ثم آيات قرآنية عديدة في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف والجمعة. ولقد ظلّ انحرافهم مستمرا إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانت منهم تجاهه مواقف وتصرفات كثيرة فيها انحراف ديني وأخلاقي واجتماعي خطير على ما حكته آيات قرآنية كثيرة في السور المذكورة فكان نتيجة لذلك أن ضرب الله عليهم الذلّة والمسكنة وأن باءوا بغضبه وأن آلى على نفسه أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب على ما جاء في آيات عديدة في السور المذكورة. ومن واجب المسلمين أن يعتقدوا أن الله محقق وعيده فيهم. وأنهم فقدوا ما منحهم الله إياه وكتبه لهم مما جاء في الآيات بسبب ذلك الانحراف وأن ما جاء في الآيات قد كان والحالة هذه لزمن مضى وانقضى.

ونحن نعرف أن اليهود يتمسكون أيضا بما ورد في سفر التكوين وغيره من الأسفار من وعد الله بتمليك إبراهيم وإسحق ويعقوب وأنسالهم هذه الأرض إلى الأبد. وهذه الأسفار ليست هي المنزلة من الله تعالى وقد كتبت بعد موسى عليه‌السلام بمدة ما بأقلام مختلفة. وطرأ عليها كثير من التحريف والتشويه. وتأثرت بالوقائع التي جرت لبني إسرائيل بعد موسى على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل فلا تكون حجة يستطيع أن يحاجّ اليهود بها المسلمين بل وغيرهم.

تعليق على جملة

(رَبِّ الْعالَمِينَ) في الآيات

وهذه الجملة الواردة في هذه الحلقة مرة بلسان موسى عليه‌السلام ومرة بلسان بني إسرائيل في الآيتين [١٠٤ و ١٢١] تتحمل تعليقا هاما. فالأسفار المتداولة اليوم التي كانت متداولة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمكتوبة بأقلام كتّاب

٤٤٣

مختلفين متعددين بعد موسى عليه‌السلام على ما سوف نشرحه بعد قليل وصفت الله عزوجل بربّ إسرائيل وإله إسرائيل ووصفت بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار الذي وعدهم بأن يجعل غيرهم من الشعوب عبيدا لهم وأباح لهم دماءهم وأموالهم وبلادهم وأمرهم بإبادتهم تعالى الله وتنزّه عن ذلك حتى أنهم رفضوا أن يشاركهم جماعة دانت بالدين اليهودي من غير جنسهم في بناء معبد أورشليم حينما سمح لهم كورش ملك الفرس بذلك وقالوا هذا معبد ربنا ونحن الذين نبنيه وحدنا. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت أن تأتي الجملة في مقامها عن لسانهم وعن لسان موسى عليه‌السلام لتكون تصحيحا لتحريف لا شك فيه أدّى إلى رسوخ ذلك في أذهان بني إسرائيل وتقريرا لحقيقة الأمر بكون الله تعالى رب العالمين جميعا وليس ربّ إسرائيل وإلههم وحسب (١). اتساقا مع الوصف الذي ما فتئ القرآن يصف به الله تعالى منذ أوّله على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة. والذي نعتقده أن وصف الله تعالى بربّ العالمين هو الذي لا بد من أن يكون موسى وهارون قد ذكراه لفرعون وقومهم وأن هذا الوصف لا بد من أن يكون واردا في سفر الشريعة الذي كتبه موسى عليه‌السلام ووضعه في تابوت العهد والذي احتوى ما أوحاه الله إليه من مبادئ وأحكام وشرائع ووصايا والذي انفقد ولم يصل إلينا. وأن الديدن الإسرائيلي المتمثل بوصف الله تعالى بربّ إسرائيل وإله إسرائيل وبوصف بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار الذي يقف دائما معهم ضدّ شعوب الأرض هو تحريف متصل بسيرتهم وجبلتهم.

وفي سورة النساء آيتان مهمتان في هذا الباب وهما : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)) حيث كانوا يقولون على ما رواه الرواة في سياق الآيتين إنهم أحباب الله وشعبه المختار ويمحو ما يرتكبونه من ذنوب وإنهم أولياء الله.

__________________

(١) انظر مثلا الإصحاح (٣٤) من سفر الخروج والإصحاحات (١٤ و ٣١) من سفر العدد والإصحاحات (٧ و ٢٠) من سفر التثنية والإصحاح (٤) من سفر عزرا.

٤٤٤

وهذا مما حكته عنهم آيات أخرى مثل آية البقرة هذه : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤)) وآية سورة الجمعة هذه : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦)) وآية سورة المائدة هذه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [١٨] وكانوا ينسبون ذلك إلى الله عزوجل فجاءت آيات النساء تعلن كذبهم وافتراءهم على الله في ذلك.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها

٤٤٥

غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ

٤٤٦

وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)) [١٣٨ الى ١٦٢]

(١) يعكفون : يقيمون ويواظبون : والكلمة في جملتها بمعنى يتعبدون.

(٢) تجهلون : بمعنى تخطئون ولا تعملون الحق والصواب.

(٣) متبر : خاسر وهالك.

(٤) يسومونكم : يذيقونكم.

(٥) يستحيون نساءكم : يبقون نساءكم أحياء دون الذكور.

(٦) ليمقاتنا : لموعدنا الذي وقّتنا له وقته.

(٧) صعقا : مصعوقا أو مغمى عليه.

(٨) سبيل الغي : سبيل الغواية والضلال.

(٩) حبطت : بطلت وضاعت.

(١٠) خوار : صوت البقر.

(١١) لما سقط في أيديهم : لما شعروا بالندم بسبب ذنبهم.

(١٢) أسفا : حزينا أو مشتدّ الغضب.

(١٣) يرهبون : يخشون ويخافون.

(١٤) اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا : تأويلها اختار موسى من قومه

٤٤٧

سبعين رجلا لميقات مضروب من الله لهم.

(١٥) السفهاء : هنا بمعنى الجاهلين أو قليلي الفهم والعقل.

(١٦) فتنتك : امتحانك وابتلاؤك.

(١٧) هدنا إليك : رجعنا وتبنا إليك.

(١٨) الأمي : نسبة إلى أمة في قول وإلى أمّ في قول على ما جاء في كتب التفسير واللغة. وقد استعمل جمعها (الأميين) في القرآن حكاية بني إسرائيل في معنى غيرهم من الأمم كما جاء في آية سورة آل عمران هذه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [٧٥] واستعمل جمعها في معنى غير أهل الكتاب كما جاء في آية سورة آل عمران هذه : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) [٢٠] واستعمل جمعها للدلالة على عدم إحسان الكتابة والقراءة كما جاء في آية سورة البقرة هذه : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [٧٨] واستعمل جمعها للدلالة على العرب كما جاء في آية سورة الجمعة هذه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٢] والمتبادر أن الكلمة هنا هي من هذا المعنى الأخير. وربما أطلق هذا المعنى على العرب لأنهم غير أهل الكتاب.

(١٩) الخبائث : ضد كل ما هو طيب حلال.

(٢٠) إصرهم : الشدّة التي تثقلهم.

(٢١) الأغلال : القيود.

(٢٢) عزّروه : وقّروه وأيدوه.

(٢٣) يعدلون : يسلكون سبيل العدل فيعطون الحق ولا يأخذون إلّا الحق.

(٢٤) قطعناهم : قسمناهم أو فرقناهم.

(٢٥) أسباطا : جمع سبط. والسبط في اللغة الشجر. ويطلق على الجماعة التي من أب واحد أو شجرة واحدة في النسب. والكلمة في مقامها تعني القبائل

٤٤٨

المنحدرة من أبناء يعقوب الاثني عشر وهم على ما جاء في الإصحاح (٤٦) من سفر التكوين : راؤيين البكر ثم شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وجاد ودان وأشير ونفتالي ويوسف وبنيامين. وقد صارت ذرية كل واحد منهم سبطا تسمى باسمه فيقال سبط راؤيين وسبط شمعون وهكذا على ما هو مبثوث في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة.

(٢٦) إذ استسقاه : إذ طلبوا منه الماء.

(٢٧) انبجست : انفجرت.

(٢٨) المنّ : صمغ نباتي حلو المذاق ، والسلوى : نوع من الطير ، على ما وصف في سفر الخروج.

(٢٩) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون : بمعنى أنهم بأعمالهم الأثيمة وتبديلهم كلام الله لم يضرونا ولكن أضرّوا بأنفسهم وظلموها.

(٣٠) قولوا حطّة : أوّلها المؤولون في قولين : منهما أنها بمعنى اطلبوا من الله حطّ ذنوبكم أو اخضعوا لله وطأطئوا له.

(٣١) ادخلوا الباب سجدا : كناية عن الأمر بالاستشعار بالذلة والخضوع إلى الله والسجود له مقابل ما أفاضه عليهم من نعم.

تعليق على محتويات الحلقة الثانية

من السلسلة وما فيها من تلقينات

وهذه حلقة ثانية من السلسلة. احتوت ما كان بين موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل من مواقف وأحداث وما كان من مناجاة موسى عليه‌السلام مع ربّه وتنزيل الألواح عليه وتجلّيه له في الجبل وما كان من معجزات له ولإسرائيل وما كان من هؤلاء في حياته من انحراف وتعجيز وتبديل لكلام الله وما كان من نقمة الله وغضبه عليهم.

وقصد العظة والتذكير وضرب المثل واضح في هذه الحلقة وضوحها في

٤٤٩

سابقتها وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. ومعظم ما جاء فيها متسق إجمالا مع ما ترويه أسفار الخروج والعدد والتثنية من أسفار العهد القديم التي تؤرخ حقبة موسى وما بلّغه موسى عن ربّه لبني إسرائيل وسيرة بني إسرائيل في عهده. بما في ذلك ما ورد إجمالا في الآيات من ميقات موسى أربعين يوما وطلب موسى من ربّه أن يراه وقول الله له إنه لا يستطيع رؤيته وتجلّي الله على جبل سيناء وارتجافه ارتجافا شديدا وإنزال الله على موسى الألواح والشرائع والوصايا واتخاذ قوم موسى العجل وغضب موسى وإلقائه الألواح حتى انكسرت ومعاتبة موسى لهرون وضرب الله الشعب لاتخاذهم العجل وتظليل الغمام عليهم في النهار لوقايتهم من الشمس. وإنزال المنّ والسلوى والأول مثل بزر الكزبرة ولونه كلون المقل وطعمه بعد الطبخ كطعم قطائف بزيت ، والثاني نوع من الطير لأنهم تذمروا من المنّ وحده وطلبوا لحما. وتفجير عيون الماء بضرب العصا ومحاولتهم رؤية الله ونهيه لهم عن ذلك واختيار موسى سبعين رجلا وأخذهم معه إلى الجبل وإنزال الله على طائفة من بني إسرائيل عذابا من السماء ...

والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا أو كان منهم من يعرف أشياء كثيرة مما احتوته الأسفار في صدد هذه الحلقة أيضا فكان ذلك مما دعم هذا القصد أيضا. وكما فعل المفسرون في سياق الحلقة السابقة فعلوا في سياق هذه الحلقة حيث أوردوا روايات فيها تفصيلات كثيرة في صدد ما جاء فيها من أحداث ومعجزات وصور ومواقف ، معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم وعلماء الأخبار من عرب ويهود مسلمين. منها ما هو متطابق ومتسق مع ما ورد في أسفار العهد القديم ومنها ما ليس كذلك وفي بعضها ما فيه مبالغة وإغراب. وتدلّ على كل حال على أن محتويات هذه الحلقة أيضا مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الحواشي والشروح. ولم نر ضرورة إلى إيراد شيء مما ذكروه أو التعليق على ما في الحلقة من أحداث لذاتها ، لأن ذلك لا يتّصل بهدف القصة القرآنية الذي هو التذكير والتمثيل بما يعرفه السامعون. وهو ما فعلناه في سياق الحلقة السابقة حيث رأينا ذلك هو الأولى والأصوب.

٤٥٠

وقد يكون مباينة بين ما جاء في آيات هذه الحلقة وما جاء في الأسفار المتداولة وقد يكون بعض ما جاء في الآيات لم يرد فيها مثل المحاورة المحكية بين موسى وقومه حين ما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ومثل القرية التي أمروا بسكناها ودخول بابها ساجدين وقولهم حطة. وما قلناه في هذا الصدد في سياق الحلقة السابقة يصح قوله هنا. وكذلك ما قلناه في سياق تلك الحلقة في صدد المعجزات التي ذكرت فيها يصح قوله هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار.

وبعض المفسرين رووا في سياق الآيتين [٥٨ ـ ٥٩] في سورة البقرة المشابهتين تقريبا للآيتين [١٦١ ـ ١٦٢] أن القرية التي أمر بنو إسرائيل بسكناها هي أريحا أو قرية في جانب بيت المقدس. وأن الباب الذي أمروا أن يدخلوه سجّدا وأن يقولوا حطّة عند دخوله هو الباب المسمّى اليوم بباب حطة من أبواب حرم المسجد الأقصى. وليس لهذا سند وثيق. وليس من ضرورة للتكلّف. ولا بد من أن ذلك كان مفهوما واضحا في أذهان بني إسرائيل الذين يسمعون القرآن وواردا في أسفار كانت عندهم.

ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة البقرة التي تأتي في كتبهم مقدمة على سورة الأعراف أحاديث وروايات في مدى ما كان من تبديل بني إسرائيل لأوامر الله ومدى الرجز الذي أنزله الله عليهم. منها المعزوّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنها المعزو إلى بعض أصحابه وتابعيهم. منها حديث في مدى التبديل رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة» (١).

ومنها حديث عن ابن مسعود بدون عزو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قالوا : (هطا سمعاتا أزبة مزبا) (٢) وترجمتها بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٥.

(٢) النصان من تفسير ابن كثير. وقد ورد النص الأول بفرق يسير في كتب التفسير الأخرى.

٤٥١

ومنها قول آخر عن ابن مسعود أنهم قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة (١). وقد روى المفسرون ما رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة وعن النبي عن بعض التابعين بدون عزو إلى النبي مع زيادة في البيان وهو أنهم قالوا ذلك من قبيل التمرّد والاستهزاء. ورووا عن بعض التابعين أن الرجز هو طاعون سلّطه الله عليهم فأهلك منهم خلقا عظيما.

ولقد أورد رشيد رضا هذه الروايات وتوقف في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الأحاديث التي تروى في البيان والتفسير عن رسول الله وبخاصة في الأمور المغيّبة هي التي يصحّ أن تكون المعتمدة في هذه الأمور دون غيرها. ومما قاله فيه إن أبا هريرة لم يصرّح أنه سمع الحديث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك يعدّ مرفوعا وإن من رواته همام بن منبه وهو مثل أخيه وهب من أصحاب الغرائب في الإسرائيليات. والحق إن في الحديث شيئا غريبا وبخاصة هذا التوافق في الألفاظ العربية وهو قولهم حنطة مقابل أمرهم بأن يقولوا حطة. وبنو إسرائيل إنما كانوا يتكلمون العبرانية في زمن موسى الذي يحكي عنهم هذه المخالفة.

وعلى كل حال فالآيات صريحة الدلالة على أن الله أمرهم أمرا ففعلوا خلافه فأنزل عليهم رجزه جزاء على مخالفتهم وتمردهم.

ولا نشك في أن ماهية الأمر والمخالفة والرجز مما كان متداولا بين بني إسرائيل في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وواردا في بعض قراطيسهم وأن هذا مما تسرّب منهم إلى أهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله تعالى أعلم.

ومن مواضع العبرة في هذه الحلقة ما كان من انحراف بني إسرائيل منذ أوائل خروجهم من مصر مع موسى عليه‌السلام عن التوحيد إلى عبادة الأصنام والعجل وما كان من تعجيزهم له ونكثهم لعهد الله ومخالفتهم لوصاياه وتبديلهم أوامره بعكسها استهزاء وما كان من غضب الله عليهم وإنزاله عليهم الرجز حيث ينطوي في

__________________

(١) النصان من تفسير ابن كثير. وقد ورد النص الأول بفرق يسير في كتب التفسير الأخرى.

٤٥٢

هذا تقرير كون الله تعالى قد تفضّل عليهم لما صبروا وغضب عليهم لما انحرفوا وبدّلوا ودعوة للمسلمين إلى الاعتبار بهم.

تعليق على جملة

(فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

وهذه الجملة الواردة في الآية [١٤٠] تتحمل تعليقا وتنبيها كذلك. فالمتبادر الذي عليه جمهور المفسرين أن كلمة (الْعالَمِينَ) هنا تعني الزمن أو الظرف الذي خاطبهم موسى فيه بذلك في سياق تحذيرهم من الانحراف. وأن التفضيل هو ما كان من عناية الله تعالى بهم وإرساله موسى عليه‌السلام لهدايتهم وإنقاذهم. وصيرورتهم بذلك أفضل من غيرهم الذين كانوا منحرفين عن طريق الحق والهدى. ولقد انحرفوا بعد ذلك عن هذا الطريق ففقدوا هذه المزيّة التي كانت سبب تفضيلهم واستحقوا غضب الله ولعنته ونكاله على ما شرحناه في التعليق على آية (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا).

ونذكر في مناسبة الآية (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) في السلسلة أن مفسري الشيعة يشبهون الذين بايعوا أبا بكر رضي الله عنه في السقيفة بأصحاب العجل ويقولون إنهم سينالهم غضب الله بسبب افترائهم وافتئاتهم على حقّ علي في الإمامة كما وعد الله أصحاب العجل بمثل ذلك (١) والعياذ بالله من هذا الكفر البواح الذي يؤدي إليه الهوى الحزبي.

تعليق على جملة

(لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي)

ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وساقوا الكلام حول إمكان وعدم

__________________

(١) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٧٤.

٤٥٣

إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة وأوردوا أقوال المذاهب الإسلامية في ذلك. ولقد علّقنا على هذا الموضوع بما فيه الكفاية في سياق سورة القيامة فلا نرى ضرورة للإعادة. وإذا كان من شيء يمكن قوله هنا فهو إن العبارة حكاية لمحاورة بين الله تعالى وموسى وقد وردت في الإصحاح (٣٣) من سفر الخروج. وقد ورد خبر تجلّي الله على جبل سيناء وارتجافه رجفانا شديدا في الإصحاح (١٩) من هذا السفر. وإن في أخذها مستقلة وبناء حكم عليها إثباتا ونفيا تجوّزا وإخراجا لها من مقامها. والله أعلم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [١٦٤] من سورة النساء حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كلّم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء». وحديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال : «إنّ الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها. فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الربّ عزوجل». وحديثا أخرجه كذلك ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : «إن الله لما كلّم موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الذي كلّمه يوم ناداه فقال له موسى يا ربّ هذا كلامك الذي كلمتني به قال لا يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان. ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن قال لا أستطيعه قالوا فشبه لنا قال ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه وليس به». وحديثا أخرجه عبد الرزاق عن كعب قال : «إن الله لما كلّم موسى كلّمه بالألسنة كلّها سوى كلامه فقال موسى يا ربّ هذا كلامك قال لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال يا ربّ فهل من خلقك يشبه كلامك قال لا وأشدّ خلقي شبها بكلامي أشدّ ما تسمعون من الصواعق». وقد نبّه ابن كثير على ضعف أسناد هذه الأحاديث وقال بالنسبة للأخير إنها مما يحكى عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغثّ والسمين. ويتبادر لنا أن هذا القول يصحّ أن يقال بالنسبة للأحاديث الأخرى حيث نرجح أنها من روايات مسلمي اليهود. والله تعالى أعلم.

٤٥٤

تعليق على الآيتين

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) إلخ

وتلقيناتهما

في السلسلة آيتان تبدوان من جهة غير متصلتين بموضوع السلسلة ومن جهة منسجمتين في نظمهما وهما الآيتان [١٤٦ و ١٤٧] ولقد روى المفسرون وقالوا إنهما تتمة لكلام الله تعالى لموسى عليه‌السلام كما رووا وقالوا إنهما خطاب لسامعي القرآن. والاحتمالان واردان وقد رجّح الطبري القول الثاني. وعلى هذا الترجيح تكونان استطراديتين ليكون فيهما بالمناسبة إنذار لسامعي القرآن. على أن إطلاق العبارة فيهما تجعل هذا الإنذار للسامعين واردا سواء أصحّ القول الثاني أم الأول.

والإنذار في الآيتين شديد عنيف للذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ويقفون مواقف الفساد والعناد والبغي والصدّ عن آيات الله. والذين يرون الحق واضحا فلا يعترفون به ويرون سبيل الرشد بيّنا فلا يسيرون فيه. ثم يسيرون في سبيل الغيّ والضلال عن علم وقصد. وإطلاق العبارة يجعل محتوى الآيتين شاملا لكل من يتّصف بهذه الصفات ويقف مثل هذا الموقف في كل ظرف ومكان وكونهم لا يمكن أن يكونوا موضع رضاء الله وتوفيقه. وبذلك تكونان مستمد تلقين بليغ مستمر المدى. ولقد تكررت الآيات المكيّة والمدنيّة في ذمّ المستكبرين والتنديد بهم على ما سوف يأتي بعد حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر عناية حكمة التنزيل بتوكيد التنبيه على هذا الأمر بسبيل حمل المسلمين على تجنّب هذا الخلق المذموم.

وهناك أحاديث نبوية يتساوق تلقينها مع التلقين القرآني في صدد ذمّ الكبر والمستكبرين والتحذير من ذلك رأينا إيرادها في هذه المناسبة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بأهل الجنة. كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كلّ

٤٥٥

عتلّ جوّاظ مستكبر» (١). وحديث رواه أبو داود ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» (٢). وحديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء» (٣). وحديث رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذرّ في صور الرجال يغشاهم الذلّ من كلّ مكان» (٤).

هذا ، والشطر الثاني من الآية الأولى يزيل ما يمكن أن يرد من توهّم في كون عبارة (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) الواردة في شطرها الأول تعني أن الله عزوجل يسدّ الباب دون اهتداء الناس بآياته. فهو قد أنزل آياته ليتدبّرها الناس ويهتدوا بها فلا يصحّ فرض عكس ذلك. والعبارة هي بسبيل التنديد بالمتكبرين المنحرفين وإعلان كونهم سيكونون محرومين من رضاء الله بسبب تكبرهم وانحرافهم. ومن قبيل (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) إلخ في آيات البقرة هذه : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)) ومن قبيل عبارة (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) في آية سورة إبراهيم هذه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)) وعبارة (وَالظَّالِمُونَ ما

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه.

٤٥٦

لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) في آية سورة الشورى هذه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)).

تعليق على جملة

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ)

هذه الجملة جاءت في سياق ما كان من أخذ الله بعض رؤساء بني إسرائيل بالرجفة على لسان موسى عليه‌السلام. ومع أنها كما هو ظاهر حكاية لقول موسى فإن بعضهم وقفوا عندها وتوهموا أن فيها ما يفيد أن الله تعالى يضع الناس في مواقف لا مناص لهم منها ثم يؤاخذهم عليها ويعاقبهم بها كما جاء في بيت الشعر الذي يكرّر في كثير من المناسبات المماثلة :

ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له

إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

وقد اعتاد بعضهم أن يسوقوا الجملة في الاحتجاج بها على تقدير الله الأزلي على أناس بأعيانهم الهدى والضلال بزعمهم وبدون ما سبب منهم. ولقد علّقنا على هذا المعنى في مناسبات سابقة بما فيه المقنع في رأينا وتنزيه الله عزوجل عن العبث ونقض حكمته في دعوة الناس إليه بواسطة رسله وترتيب الثواب والعقاب عليهم حسب مواقفهم من هذه الدعوة وسلوكهم نحو الله والناس.

ونقول هنا بمناسبة العبارة إن الإمعان فيها يجعل التوهم الذي يرد منها في غير محله. فهي أولا : حكاية لقول موسى كما قلنا وليست تقريرا قرآنيا مباشرا. وثانيا : إن معنى (فِتْنَتُكَ) وبخاصة في مقامها ليس هو الإغواء والإضلال والافتتان وإنما هو الاختبار والامتحان. وهذا ما قرّره الطبري وغيره. فالله يختبر إيمان الناس وأخلاقهم ببعض الأمور فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويكلفهم بأشياء. فمن كان ضعيف الإيمان والصبر ضلّ وغوى. ومن كان قويا في ذلك ظلّ على هداه ونفذ أوامر الله. وهذا المعنى ملموح في آيات سورتي البقرة وإبراهيم التي أوردناها في التعليق السابق. والعبارة قد وردت على لسان موسى عليه‌السلام

٤٥٧

في هذا المعنى. فالوفد الإسرائيلي الذي سمع كلام الله تعالى طمع ، فقال لموسى عليه‌السلام : أرنا الله جهرة كما ذكر ذلك في آية سورة البقرة هذه التي ذكرت أن الله أخذهم بالصاعقة : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)) وهذا نفس الشيء الذي حكته الآية التي جاءت فيها العبارة ـ وليس بين الصاعقة والرجفة تناقض ـ لأنهم أظهروا ضعفهم أمام الاختبار الرباني وتجاوزوا الحدود في طلبهم وطمعهم. على أن في الآية التي وردت فيها هذه العبارة بالذات ما يزيل أي توهم حيث احتوت تقريرا ربانيا بأن الله سيكتب رحمته التي وسعت كل شيء للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. حيث ينطوي في ذلك أن الضلال والهدى إنما يجري بسنّة الله عزوجل على الناس حسب مكتسباتهم واختيارهم وسجاياهم.

تعليق على جملة

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) إلخ من الآية [١٥٦]

وهذه الجملة تتحمل تعليقا خاصا. والمتبادر من نظم الكلام أنها جواب من الله عزوجل إلى موسى الذي حكى أول الآية مناجاته لله وطلبه أن يكتب له ولقومه في الدنيا حسنة وفي الآخرة وإعلانه أنهم هادوا إليه. غير أنها شاملة المدى كما يبدو من التمعّن فيها لقوم موسى ومن بعدهم وهي بسبيل تقرير وعد الله تعالى بأن يتغمّد برحمته التي وسعت كل شيء الذين يتّصفون بالصفات المذكورة فيها التي فيها جميع أسباب الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. وينطوي في الآية دعوة الناس جميعهم إلى الاتصاف بها لينالوا رحمة الله الواسعة وتوفيقه وعنايته.

وفي الشطر الثاني تخصيص لما جاء مطلقا في الشطر الأول. فرحمة الله إنما ينالها المتّصفون بتلك الصفات وحسب. وهذا الشطر يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من عبارة (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) بكون الله تعالى يصيب بعذابه من يشاء من الناس بدون سبب منهم حيث يقتضي من الجواب الرباني أن يكون العذاب

٤٥٨

من نصيب الذين لا يتّصفون بالصفات المذكورة. وهذا هو المتّسق مع التقريرات القرآنية التي مرّت أمثلة عديدة منها.

وهذا وذاك يجعل الاتكاء على هذه الآية بسبيل تأييد المذاهب والخلافات الكلامية بين الجبر والاختيار في غير محله. ويجعل أيضا ما يفعله بعض المسلمين من اقتطاع جملة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) والتبشير بها إطلاقا غير سليم لأنها جزء من آية بل من سياق يفيد أن الله إنما يكتب رحمته للذين يتّصفون بالصفات المذكورة فيها. ويفعل هذا بعض المسلمين في غير هذه الجملة أيضا. والحق يوجب على المسلم أن يستوعب كل الآية بتمامها ومع السياق السابق واللاحق لها حتى لا يحمّل العبارات القرآنية غير ما تحمله أو أكثر مما تحمله.

ولقد أورد ابن كثير بضعة أحاديث نبوية رواها الإمام أحمد في سياق هذه الآية. منها حديث عن جندب بن عبد الله البجلي قال : «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلّى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد ذلك أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهمّ ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتقولون هذا أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ قالوا : بلى ، قال : لقد حظرت رحمة واسعة. إن الله عزوجل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها. وأخّر عنده تسعا وتسعين رحمة. أتقولون هو أضلّ أم بعيره». وحديث عن سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لله عزوجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق. وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخّر تسعا وتسعين إلى يوم القيامة». ولقد روى شيئا من هذه الأحاديث الشيخان والترمذي بشيء من الفرق حيث رووا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (١). ورووا عنه أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٤٣.

٤٥٩

واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» (١).

ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث التبشير والتطمين بسعة رحمة الله لخلقه في الدنيا والآخرة.

تعليق على ذكر

(الزَّكاةَ) في الآية [١٥٦]

وهذه هي المرة الأولى التي ترد فيها كلمة (الزَّكاةَ) بصيغتها الاصطلاحية في آية مكيّة. وقد وردت قبل بهذه الصيغة في آية مدنية وهي الآية الأخيرة من سورة المزمل. ووردت بصيغة (مَنْ تَزَكَّى) في إحدى آيات سورة الأعلى. ولقد علّقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يمكن أن يقال هنا أن صيغة الآية قد تفيد معنى الحثّ على إيتاء الزكاة والتنويه بمن يؤتونها. وقد تفيد معنى أن أناسا من الذين آمنوا كانوا يؤتون الزكاة فعلا. ونحن نرجّح أن الآية احتوت المعنيين. ونرى فيها تدعيما لما قلناه في التعليق الذي كتبناه في تفسير سورة المزمل من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فرض على الميسورين من المسلمين أداء شيء من أموالهم باسم زكاة منذ عهد مبكر. والله أعلم.

تعليق على الآية

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً

عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) والآية التالية لها وما

فيهما من خطورة ودلالة في صدد الرسالة المحمدية

وفي هذه الحلقة آيتان في صدد الدعوة إلى تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباعه وشمول دعوته وتنويه بالذين اتبعوه وهما الآيتان [١٥٧ ـ ١٥٨].

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٤٣.

٤٦٠