التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أيّ العمل أحبّ إلى الله؟ قال : أدومه وإن قلّ» (١). وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال : «كنّا نبايع رسول الله على السمع والطاعة ويلقّننا فيما استطعتم» (٢). وحديث رواه النسائي والترمذي عن أميمة بنت رقيقة قالت : «كنّا نبايع رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف فقال فيما استطعتنّ وأطقتنّ فقلنا الله ورسوله أرحم بنا» (٣). وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ الله قد وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (٤).

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)) [٤٦ الى ٤٩]

(١) حجاب : ستار أو حاجز أو سور.

(٢) الأعراف : جمع عرف. وهو كل مرتفع ومنه عرف الديك وعرف الفرس لارتفاع ريش رأس الديك وشعر الفرس وهو هنا بمعنى شرفة السور العالية.

(٣) سيماهم : علاماتهم المميزة.

ذكر المفسرون قولين في ضمير (وَبَيْنَهُما). أحدهما أنه عائد إلى أهل الجنة وأهل النار. وثانيهما أنه عائد إلى الجنة والنار. وكلا القولين وارد لأن الجنة والنار وأهلهما ذكروا في الآيات السابقة. وذكر المفسرون أن الحجاب هو سور مضروب

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) التاج ج ٣ ص ٣٨ و ٣٩.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) التاج ج ١ ص ٢٩.

٤٠١

بين الجنة والنار وأهلهما والأعراف هي شرفاته. وعلى كل حال فالآيات معطوفة على ما سبقها واستمرار في السياق كما هو المتبادر.

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في ماهية أصحاب الأعراف وفي الذين تحكي الآيتان [٤٦ و ٤٧] مواقفهم وأقوالهم. وقد رويت أحاديث نبوية في صدد ذلك أيضا. منها حديث رواه الطبري يذكر «أن رجلا من بني النضير أخبر عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله عن أصحاب الأعراف فقال هم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة». وقد أورد ابن كثير من طرق أخرى حديثين بصيغتين مقاربتين للحديث الذي رواه الطبري. وروى حديثا آخر عن جابر بن عبد الله : «أن رسول الله سئل عمن استوت حسناته وسيئاته فقال أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون». أما الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل مثل ابن عباس والسدي ومجاهد والضحاك وأبي مجلز فمنها أن أصحاب الأعراف هم أطفال المشركين أو أطفال المؤمنين ، أو أهل الفترة ، أو أناس استوت حسناتهم وسيئاتهم ، أو أناس تجاوزت بهم حسناتهم عن النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة. وهم آخر من يغفر الله لهم ويؤذن لهم بدخول الجنة. بعد أن يأمرهم بالاغتسال والتطهّر من نهر الحياة حتى تتلألأ أبدانهم. ومنها أنهم جماعة العلماء والفقهاء من الأمم يطلعون على الناس ويخاطبونهم. ومنها أنهم الأنبياء أو خزنة الجنة والنار أو كتّاب أعمال الناس من الملائكة. ورووا في مدى جملة (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أن سيما المؤمنين تكون نضرة وبياضا وسيما الكافرين سواد بشرة ووجوه وزرقة عيون. وروى الطبرسي المفسّر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر أن أصحاب الأعراف هم آل محمد. لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه. ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه. وروى إلى هذا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه وهم قسيم الجنة والنار وأورد في ذلك حديثا جاء فيه : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي يا عليّ كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوما

٤٠٢

إلى الجنة وآخرين إلى النار». وحديثا ثانيا جاء فيه : «أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه عن أصحاب الأعراف فقال له ويحك يا ابن الكواء هم نحن. نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» ورواية أخرى بصيغة و «قيل إن الأعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة والعباس وعليّ وجعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه» ثم عزا هذا إلى الضحاك عن ابن عباس وقال رواه الثعلبي بالإسناد إلى تفسيره. وقد روى الطبري هذه الروايات بالإضافة إلى روايات أخرى مماثلة للروايات السابقة.

وليس من شيء من هذه الروايات والأحاديث واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أخذ الطبري وتابعه آخرون بالأحاديث النبوية التي تذكر أنهم جماعة غزوا وعصوا آباءهم برغم عدم اتصافها بالصحة وغرابة طرقها. وهذا في حين أن عبارة الآيات تلهم بقوة أن أصحاب الأعراف يعرفون جميع الخلق وأنهم في موقف الشهود العدول عليهم الذين يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. وكون ذلك من مهمتهم. وهذا يقتضي أن يكونوا الأنبياء أو الملائكة كتّاب أعمال الناس. وفي القرآن آيات عديدة يمكن أن يكون فيها تأييد لذلك. نكتفي بما جاء في سورة الزمر منها : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣)).

وتبعا لترجيحنا يكون الضمير في الآية [٤٧] عائد إلى أهل الجنة الذين تلهم

٤٠٣

العبارة أنهم منتظرون أمر الله بدخولها وهم طامعون آملون في ذلك.

وقد ذكرنا ما ذكرناه من قبيل التعليق على الروايات واستلهام العبارة القرآنية دون قصد إلى شرح المشاهد الأخروية التي نقول في صددها إن الإيمان بما احتوته الآيات من ذلك واجب تبعا لوجوبه بالنسبة لكل المشاهد والصور التي يذكرها القرآن مع وجوب الوقوف عند ما ذكره القرآن دون تخمين ولا تزيد ما دام ليس هناك أحاديث نبوية صحيحة. وهي وحدها التي يمكن أن يستند إليها في المسائل المغيّبة التي منها المشاهد الأخروية. ويتبادر لنا من فحوى الآيات ومقامها وروحها أنها هدفت أيضا إلى بثّ الطمأنينة والغبطة في نفوس المؤمنين الصالحين والفزع والخوف في نفوس الكافرين الآثمين مع تبكيتهم. وأنها جاءت مطلقة لتكون عامة البشرى والإنذار والتنويه والتبكيت ومستمرة التلقين أيضا.

وفي الآية [٤٩] صورة لما كان ينظر الكفار وخاصة زعماءهم من نظرة الاستكبار والاستهانة إلى الذين استجابوا للدعوة النبوية. وهو ما حكته آيات السورة السابقة وآيات عديدة أخرى أوردنا أمثلة منها في سياق السورة المذكورة.

ونقول تعليقا على الروايات التي ينفرد بها الطبرسي إن طابع الهوى والوضع الشيعي بارز عليها. وإن هذا ديدن رواة الشيعة ومفسريهم الذين يروون الروايات المماثلة في سياق آيات كثيرة جدا بسبيل تأييد أهوائهم دون أسناد صحيحة ووثيقة ودون مبالاة بعدم التساوق الذي يكون ظاهرا بكل قوة بين الروايات والآيات نصا وروحا وسياقا على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. ويلحظ هذا في الروايات المروية هنا. فالآيات في صدد جميع أهل الجنة وجميع أهل النار. ومع ذلك فهي تحصر الموقف على محبّي علي وأبنائه وذريته ومبغضيهم وتجعل الجنة والنار رهنا به وتجعل عليا وبعض ذريته أصحاب القول الفصل فمن أحبّهم أدخلوه الجنة ومن أبغضهم أدخلوه النار! وننبّه على أن الطبرسي من أكثرهم اعتدالا ...

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ

٤٠٤

قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)).

(١) ينظرون : ينتظرون.

(٢) تأويله : أصل اشتقاق الكلمة من آل يؤول بمعنى صار أمره أو عاقبته إلى كذا. وقد جاءت في القرآن بمعان عديدة ولكنها لا تخرج عن نطاق معنى آل.

حيث جاءت بمعنى مصداق الشيء الذي ظهر أو تحقيقه أو عاقبته أو تفسيره أو مصيره أو تعبيره أو مداه أو بيان ما استتر من سحره أو كونه أحسن عاقبة. وهي هنا بمعنى مصداقه أو تحقيقه أو عاقبته. وتستعمل الكلمة في صدد تفسير القرآن. والفرق بينها وبين التفسير أن التفسير هو للغة والألفاظ والتأويل هو للمعاني المحتملة التي يقدم قرينة ما على أنها أكثر ورودا من معنى اللفظ اللغوي.

الآيات معطوفة على ما سبقها واستمرار للسياق كما هو المتبادر. وفيها مشهد مما سوف يكون دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وتعقيب تبكيتي للكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا واغترّوا بالحياة الدنيا. برغم ما جاءهم من كتاب فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيته وآمن. ثم صورة لما سيكون من ندمهم واعترافهم وتمنّيهم الرجوع ويأسهم من شفعائهم. وهي قوية لاذعة.

ونقول هنا ما قلناه في صدد الآيات السابقة إن من الواجب الإيمان بما احتوته من مشهد. وإن من المتبادر أن من الحكمة المتوخاة فيها إثارة الفزع والخوف والندم في السامعين الكفار وحملهم على الارعواء قبل أن تصدمهم حقيقة

٤٠٥

الآخرة ومصيرهم الرهيب فيها ويندموا ولات ساعة مندم. وقد جاءت مطلقة لتكون مستمرة المدى والتلقين.

والآية [٥١] بخاصة احتوت تلقينا جليلا بتقبيح الذين يتخذون الدين هزؤا ولعبا ويغترون بما يكونون عليه من مال وقوة في الحياة ؛ فيسوقهم هذا إلى عدم المبالاة بالعواقب واقتراف الإثم والبغي والاستكبار وعدم الانصياع إلى دعوة الحق وكلمة الحق.

والآية [٥٢] وهي تقرر أن كتاب الله هو رحمة وهدى للمؤمنين تقرر ضمنا أن الاستكبار عن دعوة الله وجحودها إنما يأتيان من أناس خبثت نواياهم وساءت طواياهم ، وتغلّب الهوى والعناد عليهم فأعميا بصائرهم ، وأن هؤلاء هم الذين لا يرون في كتاب الله الهدى وطريق الحق ، في حين أن الذين طابت سرائرهم ورغبوا في الحق وبرئوا من الهوى والعناد يؤمنون ويرون في كتاب الله رحمة وهدى. وفي هذا وذاك تنديد بالكافرين من جهة وتنويه بالمؤمنين من جهة وعزو الاهتداء والضلال لحسن النية وصدق الرغبة وخبث الطوية وتغلّب الهوى وكونهما مظهرا لذلك من جهة أخرى. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى.

هذا ، ولقد قال المفسرون في جملة (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) إن الله لا يشذّ عنه شيء ولا يتّصف بالنسيان وإن المقصد أن الله يعاملهم كالمنسيّ أو يتركهم في العذاب لا يسمع لهم استغاثة ولا يتداركهم برحمة. ومع وجاهة هذا التخريج فيمكن أن يقال أيضا إن العبارة أسلوبية لمقابلة العمل بمثله مما تكرر كثيرا ومنه (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤].

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ

٤٠٦

الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))[٥٤ الى ٥٨]

(١) يغشى الليل النهار : يغطي بالليل النهار ويدخله عليه.

(٢) يطلبه حثيثا : حثيثا بمعنى سريعا أو متواليا ويطلبه أي يجري وراءه ليدركه.

(٣) تضرعا : تذللا.

(٤) خفية : سرا وبدون إعلان.

(٥) المعتدين : هنا بمعنى المتجاوزين الحد.

(٦) أقلت : حملت.

(٧) نكدا : النكد العسر الممتنع عن إعطاء الخير.

الآيات استمرار للسياق السابق ومتصلة به على ما هو المتبادر وقد جاءت بعد بيان مصائر المؤمنين والكافرين في الآخرة لتخاطب الناس عودا على بدء وتلفت نظرهم إلى مظاهر ربوبية الله في الكون العظيم ومطلق تصرفه ، وتذكرهم بنعمة الله ، وتبشّر المحسنين الصالحين برحمته الواسعة ، وتدلّل على استحقاقه وحده للعبودية والخضوع والدعاء وتبرهن على قدرته على إحياء الناس بعد الموت. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأسلوبها تقريري رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومع أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى السامعين فإنه عام التوجيه. وقد احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء في تعليمها آداب دعاء الله وعبادته تضرعا وخفية وخوفا وطمعا بدون إعلان ولا صخب ، أم في نهيها

٤٠٧

عن الفساد في الأرض ، أم في تأميلها المحسنين الذين يقومون بواجباتهم ، أم في التفكير في آلاء الله وعظمة كونه والاستشعار بعظيم قدرته ومطلق تصرفه ، وتحرير النفس من كل ما عداه.

وسامعو القرآن كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما والمدبّر للأكوان والمتصرّف فيها على ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الزخرف هذه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)) وآية سورة يونس هذه : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)) وآيات سورة المؤمنون هذه :

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)) بحيث تستحكم الحجة على السامعين بما أرادته الآيات من التدليل على استحقاق الله وحده للخضوع والدعاء وقدرته على إحياء الناس بعد الموت.

والمتبادر أن تعبير (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) هو تعبير أسلوبي إذ الفساد ليس أصلا وإنما يكون طارئا ومستأنفا. والجملة بسبيل تشديد خطر البغي والفساد فإذا كان الفساد في أصله قبيحا محظورا فهو بعد الصلاح أشدّ قبحا وآكد خطرا لأنه هدم للصلاح القائم وإقامة الفساد مكانه. ولعلّ الجملة تتضمن التنويه بالرسالة النبوية التي جاءت بالإصلاح بعد الفساد والتنديد بالذين يقفون منها موقف الهادم لها وإتاحة الاستمرار للفساد أو استئنافه.

وتبدأ بعد هذه الآيات سلسلة طويلة في قصص الأنبياء مع أقوامهم. وهكذا تكون هذه الآيات وبخاصة الأخيرة منها قد جاءت خاتمة قوية للفصل الطويل الذي ابتدأ من أول السورة.

٤٠٨

تعليق على الآية

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) إلخ

وما فيها من تلقين واستطراد إلى موضوع الدعاء في

القرآن والحديث وما في ذلك من دلالة على إعارة

الكتاب والسنّة لهذا الأمر من عناية ومدى هذه العناية

والأمر بالدعاء خفية قد تكرر في القرآن كما جاء في آية سورة الأعراف هذه أيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)) وآية سورة الإسراء هذه : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)). وواضح أن هذا هو بسبيل التهذيب النفسي وتقرير كونه أدلّ على الإخلاص لله في الدعاء والعبادة وأبعد عن تهمة المظاهرة والرياء.

ولقد أورد ابن كثير حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : «رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائب. إن الذي تدعون سميع قريب». وروى الترمذي حديثا عن أبي أمامة قال : «قيل يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة». وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني شأن سائر الأمور.

استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه

ونستطرد إلى ذكر الدعاء لله بصورة عامة فنقول إن في القرآن آيات كثيرة في الحثّ على الدعاء لله تعالى وفي كل ظرف وفي التنويه به ، ووعد رباني بالاستجابة لمن يدعوه. وإيذان بأنه قريب إليه كما ترى في الآيات التالية :

١ ـ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : ١٨٦].

٤٠٩

٢ ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨].

٣ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء : ٩٠].

٤ ـ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [النمل : ٦٢].

٥ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة : ١٦].

٦ ـ (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [غافر : ١٤].

٧ ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠].

حيث يبدو من هذه الأمثلة ما اقتضته حكمة التنزيل من إعارة العناية لهذا الأمر. وإذا لاحظنا أن الدعاء في الإنسان يكاد يكون فطريا لأنه لا يكاد يجد نفسه في مأزق أو ضيق أو كرب أو أمام صعوبة إلّا وسارع إلى دعاء الله ، تبينت لنا تلك الحكمة حيث ينطوي فيها علاج روحي لكثير من مشاكل النفس والحياة. فإذا ما أفضى الإنسان المحزون والمكروب والذي يواجه المشاق والمصاعب إلى ربّه ما يعانيه وطلب منه العون فإنه يشعر بطمأنينة ونفحة روحية تنشله مما هو فيه أو تخفّف عنه وتبثّ فيه الأمل والرجاء إذا كان ذلك مترافقا مع الإيمان والاعتقاد بأن الله سامع له قريب إليه مجيب لدعائه. وهذا فضلا عما ينطوي في الدعاء لله من وسيلة إلى ذكر الله ثم في إثارة الشعور بتقوى الله بصالح الأعمال واجتناب السيئات. وفي هذا ما فيه من وسيلة إلى تقويم أخلاق المسلم.

وهناك أحاديث نبوية عديدة في هذا الموضوع منها حديث رواه الترمذي

٤١٠

والإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» (١). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لم يسأل الله يغضب عليه» (٢). وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدعاء مخّ العبادة» (٣). وحديث رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر» (٤). وعن ابن عمر قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا يعطى أحبّ إليه من أن يسأل العافية» (٥). وعن ابن عمر أيضا قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء» (٦). وعن سلمان قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ولا يزيد في العمر إلّا البرّ» (٧). وعن عبد الله قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلوا الله من فضله فإنّ الله عزوجل يحبّ أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» (٨).

وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقلنّ أحدكم اللهمّ اغفر لي إن شئت اللهمّ ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة فإنّه لا مكره له» (٩). وحديث رواه البخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول دعوت فلم يستجب لي» (١٠). وحديث رواه

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٠٠.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه ص ١٠٠ ـ ١٠١.

(٥) انظر المصدر نفسه.

(٦) انظر المصدر نفسه.

(٧) انظر المصدر نفسه.

(٨) انظر المصدر نفسه.

(٩) انظر المصدر نفسه ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(١٠) انظر المصدر نفسه.

٤١١

الترمذي والحاكم عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (١). وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه : «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» (٢).

وينطوي في الأحاديث تلقينات نبوية متساوقة مع التلقين القرآني وتأديب نبوي في صدد الدعاء بوجه عام.

وهناك صيغ كثيرة في الدعاء في مختلف الظروف مأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نكتفي بواحدة منها وصفت بأنها من جوامع الدعاء رواها الثلاثة عن أنس قال : «كان أكثر دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» (٣).

تعليق على الآية

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

إن جملة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) تأتي هنا لثاني مرة. وقد جاءت للمرة الأولى في سورة (ق) التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار.

وكلمة (الْعَرْشِ) وردت في السور التي سبق تفسيرها أكثر من مرة. وعلّقنا على مدى الكلمة في سورة التكوير بما يغني عن التكرار كذلك.

أما جملة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فإنها تأتي هنا للمرة الأولى. وقد تكررت

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) التاج ج ٤ ص ١٦٣.

(٣) التاج ج ٥ ص ١٠٨. وانظر الصيغ الأخرى في الصفحات ١٠٣ وما بعدها.

٤١٢

بعد ذلك. وقد تعددت الأقوال في مداها فممّا قاله البغوي أن المعتزلة أوّلت الاستواء بالاستيلاء وأن أهل السنة قالوا إن الاستواء على العرش سنّة لله تعالى بلا كيف ويجب على المسلم الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عزوجل. وروى أن رجلا سأل الإمام مالك بن أنس عن الجملة فأطرق رأسه مليا وعلاه الرجفاء ثم قال له الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وما أظنك إلّا ضالا ثم أمر به فأخرج. ومما قاله ابن كثير إن للناس في هذا الأمر مقالات كثيرة جدا. وإن خير مسلك هو مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرار الجملة كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ، ولا تعطيل. وأن الظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وإن بعض الأئمة ومنهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قالوا من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه ، ومن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عنه النقائص فقد سلك سبيل الهدى. وهذا يفيد أن من المقالات ما كان يذهب أصحابه إلى أخذ العبارة بظاهرها بدون تأويل ولو أدّى ذلك إلى اعتبار الله تعالى وعرشه مادة وكون الله تعالى يجلس على عرشه كجلوس الملوك على الأسرة والعروش المادية. وروى الطبرسي عن الحسن أن استوى بمعنى استقرّ ملكه واستقام بعد خلقه السموات والأرض. وقال إن ذلك هو على المتعارف من كلام العرب حيث يقولون استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته وشلّ عرشه إذا اختلّت. ومما قاله السيد رشيد رضا إن حقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء أو اعتداله. ويستعمل على الأكثر في المجاز فيقال استوى على الدابة وعلى السرير وعلى الفراش ويكون بمعنى التملّك. ثم استطرد إلى القول إن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الله على العرش على علمهم بتنزّهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق إذ كانوا يفهمون أن استواءه على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات

٤١٣

والأرض له وانفراده بتدبيره. وإن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق. وفي تفسير القاسمي فصل طويل جدا بلغت صفحاته خمسا وخمسين ولعلّه أطول فصل عقده على أي موضوع. وفي هذا الفصل أقوال ومذاهب مختلف الجماعات والفرق الإسلامية من أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح والمعتزلة والمشبّهة والظاهرية. ومناقشات وردود على هؤلاء خاصة منه ومن علماء وأئمة أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح الذين يلتزم أقوالهم التي لخصها ابن كثير والبغوي ورشيد رضا وأوردناها قبل قليل بسبيل تفنيد ما يمكن أن تؤدي إليه أقوالهم من مناقضة لما ينبغي أن يكون لله من صفات مبرأة من شوائب الجسمانية والمشابهة لخلقه أو الحلول أو التحديد في جهة ما. واهتم فيما اهتم لتفنيد تفسير المعتزلة لكلمة (اسْتَوى) بمعنى استولى من حيث أن ذلك يؤدي إلى معنى استيلاء الله على عرشه بعد أن لم يكن مستوليا عليه مما هو مناف لأزليته وأزلية صفاته التي منها ملك كل شيء مع أن المتبادر لنا أن مقصودهم هو نفي الاستواء المادي على العرش المادي وصرف الكلمة إلى معنى مجازي. ولا يعقل أن يكونوا أرادوا القول إن الله استولى على العرش بعد أن لم يكن مستوليا عليه بالمعنى الحرفي. وإن من الممكن أن لا تكون (ثُمَ) في مقام الترتيب الزمني ويمكن أن تكون في مقام العطف فيكون معنى الجملة إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وإنه استوى على العرش.

ويبدو من الإمعان في ما نقلناه عن البغوي وابن كثير والطبرسي ورشيد رضا واتجاه جمال القاسمي أنهم متساوقون فيما قالوه واستندوا إليه وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح وأهل السنّة والجماعة. وملخّصه أن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن والتفويض لعلم الله في ما أراده من التعبير مع تنزيهه عن الحدود والحلول والجسمانية والمشابهة. ونحن نرى في هذا الوجاهة والسداد. وننوّه بخاصة بوجاهة ما ذكره رشيد رضا من أن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الربّ تعالى على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر

٤١٤

وغيرهم من الخلق وأنهم كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وإذا كان من شيء يصحّ قوله بالإضافة إلى هو فهو وجوب ملاحظة كون العبارة القرآنية هنا وفي أي مكان آخر في القرآن قد جاءت في معرض التدليل على عظمة الله وشمول قدرته وملكه وتقرير كونه الخالق المدبّر المتصرّف الوحيد فيه واستحقاقه بسبب ذلك وحده للعبادة والخضوع. وإن ما شغله هذا الموضوع من حيز ليس بسبب العبارة ولكن بسبب ما لمح من مساسها بالصفات الإلهية التي كانت من أهم أسباب تعدد المذاهب الكلامية في الإسلام تأثرا بالفلسفة اليونانية التي أخذت تنتشر في القرن الثاني وبعده وأساليبها وبما كان من انقسامات وخلافات سياسية على ما ألمعنا إليه في تعليقنا على موضوع القدر في سياق تفسير سورة (ق) وعلى ما يدلّ عليه عدم انشغال أصحاب رسول الله بهذه المسألة وأمثالها. والله تعالى أعلم.

تعليق على دلالة الآية

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً)

وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن الآية [٥٨] تنطوي على مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة التي تؤتي ثمرا طيبا والكافر بالأرض السبخة الرديئة التي يكون ثمرها رديئا. والاستنباط سديد وجيه. وفي الآية على ضوئه تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا لدعوة الله ورغبوا في الحق والهدى وتنديد بالكافرين الذين ناوأوها وتصامموا عن صوت الحق وتعاموا عن النور والهدى عنادا ومكابرة. وروح الآية تتحمل تعديلا للتشبيه وهو تشبيه ذوي النفوس الطيبة بالأرض الطيبة وذوي النفوس الخبيثة بالأرض الخبيثة. وبهذا التعديل يمكن تعليل كل موقف لكل فئة وفرد من الهدى والحق إذا ظهرت معالمهما واضحة في كل وقت ومكان وعلى كل مدى ويكون المثل القرآني به من الحكم العامة المستمرة المدى. وهذا ما أردناه حينما نعلل آيات الضلال والهدى والكفر والإيمان بأن الناس الذين يصرون على كفرهم وعنادهم وضلالهم رغم ظهور معالم

٤١٥

الحق والهدى إنما يصدرون عن سوء نية وخبث طوية فيؤذن الله بأنه لن يسعدهم ولن يهديهم ولن يوفقهم وأنهم حقّت عليهم الضلالة وباؤوا بخزي الله ونقمته وسخطه. وإن الذين ينضوون إلى الحق والهدى ويصدقونهما إنما يصدرون عن حسن نية وطيب طوية ورغبة في الإيمان والهدى والحق. فيؤذن الله بأنه كتب لهم السعادة والنجاة واستحقوا رحمته ورضوانه مما تكرر بيانه في مناسبات سابقة. والله أعلم.

ولقد أورد البغوي وابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا و

أصاب منها طائفة أخرى هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (١). والحديث متساوق مع الاستنباط وموضح للمثل القرآني كما هو المتبادر.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)) [٥٩ ـ ٦٤]

. (١) الملأ : الأشراف والسادة. وقيل الرجال دون النساء وقيل إن معنى

__________________

(١) روى البغوي هذا الحديث بطرقه وهو من أئمة الحديث وعزا ابن كثير الحديث إلى مسلم والنسائي.

٤١٦

الكلمة جمهور الناس أو معظمهم. وروح الآية هنا وفي آيات أخرى تلهم أن المقصود من الكلمة زعماء القوم وكبراؤهم.

(٢) ضلالة : هنا بمعنى الشذوذ والبعد عن المنطق والعقل.

(٣) عمين : قيل إنها جمع أعمى كما قيل إنها جمع عم والفرق أن الأعمى أعمى البصر والعمي هو أعمى البصيرة.

هذه حلقة من سلسلة طويلة استغرقت أكثر من نصف السورة وقد جاءت عقب فصول احتوت إنذارا وتنديدا بالكفار وتنويها وثناء على المؤمنين وصورا لمصائر الفريقين وبراهين على عظمة الله وقدرته وشمول ملكه ودعوة إليه وحده ، جريا على الأسلوب القرآني في إيراد القصص بعد مثل هذا السياق على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. فالسلسلة والحالة هذه متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد وتمثيل وتذكير وعظة.

ولقد أشير إلى تكذيب الأقوام الذين ذكرتهم حلقات السلسلة إشارة خاطفة في سورة «ص» السابقة لهذه السورة ، حيث يمكن أن يقال إن حكمة التنزيل اقتضت الإسهاب الذي جاءت عليه القصص هنا بعد تلك الإشارة الخاطفة. إما لتوكيد الإنذار والتمثيل والتذكير وإما بناء على تحدّ أو استزادة من السامعين. ومن الممكن والحال هذه أن يكون ذلك من قرائن صحة ترتيب نزول سورة الأعراف بعد سورة «ص».

ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة القلم الحكمة الربانية في تكرار القصص في كل مناسبة مماثلة وبأساليب متنوعة حسب اقتضاء حكمة التنزيل. وتكرار القصص هنا متصل بتلك الحكمة.

ولقد احتوت هذه الحلقة قصة رسالة نوح عليه‌السلام إلى قومه. وعبارتها واضحة. ولقد ذكرت قصة نوح في السور السابقة وعلقنا عليها بما اقتضى وليس في الحلقة جديد يستدعي تعليقا جديدا. وسنعلّق في آخر السلسلة تعليقا عاما على ما تضمنته من مقاصد وتلقينات وعبر.

٤١٧

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)) [٦٥ الى ٧٢]

(١) سفاهة : هنا بمعنى الجهل أو لوثة العقل.

(٢) ذكر : تذكير وبلاغ ودعوة.

(٣) آلاء الله : نعم الله.

(٤) نذر : نترك أو نتخلى.

(٥) رجس : جاءت الكلمة في القرآن بمعان عديدة منها النجس المادي أو المعنوي والخزي والضلالة والغواية والانحراف وانغلاق الذهن والصد عن الهدى والغضب أو العذاب الرباني. وهنا بأحد المعنيين الأخيرين.

(٦) وقطعنا دابر القوم : بمعنى استأصلناهم.

وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة رسالة هود عليه‌السلام إلى قوم عاد. وعبارتها واضحة. وقد أشير إليها في سور سابقة وذكرنا في مناسباتها ما اقتضى من تعريف بهود عليه‌السلام وقومه عاد. ولقد تكررت في سور آتية مرارا وفيها بيانات أخرى غير ما ورد في هذه الحلقة. وفي الطبري والبغوي وغيرهما

٤١٨

سياق طويل عنهم على هامش هذه الحلقة معزو إلى السدي وابن زيد وابن وهب وغيرهم من علماء الصدر الأول حيث يفيد هذا أن سامعي القرآن من أهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يتداولون أخبارهم جيلا عن جيل. ومما ذكروه أنهم كان لهم صنم اسمه صداء أو صمود وصنم آخر اسمه الهباء. وأن السماء أمسكت عنهم بسبب كفرهم حتى جهدوا وذهبوا إلى الاستغاثة عند الكعبة ثم رجعوا فظهرت لهم سحابة ظنوها الغيث وإذا فيها العذاب الذي جاءهم كريح شديدة مدمرة أهلكتهم ونجى الله هودا والذين آمنوا معه. ومما ذكروه أن بلادهم هي أرض الشجر من بلاد اليمن مما يلي حضرموت إلى عمان أو أنها الأحقاف التي هي أيضا في القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب والأحقاف ذكرت في القرآن في سورة الأحقاف وفيها آيات تذكر ما وقع عليهم من عذاب (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمن خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)) و (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)).

ولم نر ضرورة لإيراد ما أورده المفسرون من بيانات مسهبة أخرى لا تخلو من مبالغة وخيال لأن ذلك غير متصل بأهداف القصة. ومن جملة ذلك مثلا ما يفيد أن عادا كانوا يتكلمون باللغة العربية الفصحى مع أن هذه اللغة إنما استقرّت على شكلها قبل البعثة بمدة غير طويلة وعاد إنما كانوا ألفين أو أكثر من السنين.

ولقد تعددت رواياتهم في صدد معنى ومدى جملة (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) منها أنها بمعنى زادكم من نعمه من بين خلقه. ومنها أنه زادهم على غيرهم نسبيّا في طول الأجسام وقوتها. ومنها أن قاماتهم كانت طويلة جدا حتى كان منهم من هو في مائة ذراع أو سبعين أو ستين وأقصرهم في اثنتي عشرة ذراعا.

والمتبادر أن التعبير متصل بالهدف القرآني فهو من جهة حكاية لتذكير هود قومه بنعمة الله عليهم دعما لدعوته. ومن جهة تنبيه لسامعي القرآن إلى أن من

٤١٩

الذين كانوا قبلهم من كان أعظم منهم أجساما وأشدّ قوة فأخذهم الله بكفرهم وإنهم لن يعجزوه. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مثل آية سورة غافر هذه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)) وآية سورة «ق» هذه : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)).

ولقد تكون زيادة بسطة أجسام عاد مما كان متداولا بين سامعي القرآن فذكر ذلك لتدعيم الموعظة والهدف القرآني. غير أن الجملة القرآنية لا تقتضي أن تكون أجسام قوم عاد خارقة للعادة. ولقد استعمل التعبير في القرآن في صدد وصف طالوت الذي اختاره نبي بني إسرائيل ملكا في آية سورة البقرة هذه : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)) ولقد ذكرت قصة اصطفاء النبي لطالوت في سفر صموئيل الأول (١) ووصف طالوت (شاؤول) بأنه من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. وليس هذا خارقا للعادة. وهذا كله يجعل أحد القولين الأولين عن مدى الجملة هو الأكثر ورودا واتساقا مع حقائق الأمور.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا

__________________

(١) الإصحاحان الثامن والتاسع.

٤٢٠