التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

سورة الأعراف

في السورة صور عما كان عليه العرب من أفكار وعادات وعبادات وتقاليد. وعن مواقف العناد والمكابرة التي كان يقفها الجاحدون المكذبون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيها حملات على المشركين وتفنيد لتقاليدهم وعقائدهم. وتصوير لمصائر المؤمنين والكفار الأخروية تصويرا فيه الحثّ والتشويق والإرهاب والوعيد. وفيها تقريرات عن مشاهد قدرة الله في كونه ، للبرهنة على البعث وربوبية الله ووحدانيته. وفيها قصة آدم وإبليس بتوسع أكثر مما جاء في السورة السابقة ، كما فيها قصص عن الأنبياء والأمم السابقة ، وعن رسالة موسى لفرعون وبني إسرائيل بإسهاب أكثر مما مرّ في السور السابقة. وقد تخللها مواعظ ومبادئ وتلقينات جليلة.

وهي أولى السور التي تبتدئ بأكثر من حرف منفرد واحد. وهي أطول السور المكية بل هي ثالثة السور القرآنية طولا. والسلسلة القصصية فيها أطول السلاسل القصصية في السور الأخرى ، مما ينطوي فيه صورة من صور التطور الذي اقتضته حكمة التنزيل. وقد ينطوي فيه كذلك قرينة على صحة نزولها بعد السورة السابقة. وفصول السورة متساوقة منسجمة تلهم أنها نزلت فصولا متلاحقة ، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [١٦٣ ـ ١٧٠] مدنية وجمهور المفسرين يؤيدون ذلك. وأسلوب الآيات ومضمونها يلهمان صحة الرواية. وسياقها السابق واللاحق متساوق معها حيث يبدو في ذلك حكمة إضافتها إلى هذه السورة وفيه كذلك صورة من صور تأليف السور القرآنية.

٣٦١

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)) [١ الى ٩]

(١) حرج : ضيق وغمّ وقيل شكّ. وبعض المفسرين أولوا جملة (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) بمعنى لا يضق صدرك بتلاوته وتبليغه للناس وإنذارهم به. وهو الأوجه.

(٢) تذكرون : تتذكرون بمعنى تتعظون.

(٣) بأسنا : عذابنا وبلاؤنا.

(٤) بياتا : التبييت في اللغة الهجوم على قوم ليلا مفاجأة وهم غارون وغافلون. ومعنى الكلمة هنا في الليل وهم نائمون.

(٥) قائلون : من القيلولة. ومعنى الكلمة هنا وهم في قيلولة النهار.

(٦) دعواهم : بمعنى قولهم واعتذارهم.

(٧) ظالمين : هنا بمعنى مجرمين أو جائرين عن طريق الحق.

(٨) بآياتنا يظلمون : يقفون من آياتنا موقف الإجرام والتمرّد.

هذه السورة أولى السور التي تعددت حروف مطلعها المنفردة حيث كانت السور التي قبلها من ذوات الحروف المنفردة تبدأ بحرف واحد وهي (ن) و (ق) و (ص) وقد روى المفسرون أقوالا عديدة فيها منها أنها بمعنى أنا الله أفصل. ومنها أنها رموز إلى بعض أسماء الله أو أقسام ربانية ومنها أنها حروف متقطعة

٣٦٢

للاسترعاء والتنبيه. والقول الأخير هو ما رجحناه بالنسبة لمطالع السور المماثلة وما نرجحه بالنسبة لهذا المطلع. ولعلّ حكمة تعدد الحروف متصلة بطول السورة حيث هي أولى السور الطويلة المكية بل أطولها والله أعلم.

وهذه هي أول مرة يعقب الحروف المنفردة كلمة الكتاب بدلا من القرآن وبدون قسم. وقد علقنا على هذا الأمر ومداه في سياق سورة (ق) فنكتفي بهذا التنبيه.

ومطلع السورة الذي يتألف من مجموعة الآيات [١ ـ ٩] قوي استهدف فيما هو المتبادر تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار الكفار والتنويه بالمؤمنين : فلا موجب لضيق صدره مما يوحى إليه من آيات الكتاب لينذر به الناس. وليكون بنوع خاص ذكرى وهدى للمؤمنين به. وليهتف بالناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وأن ينبذوا ما يتخذونه من دونه من أولياء لأنه لا يفعل هذا إلّا من غفل عن الحقيقة والحق ولم يترو في أمره. وليس هؤلاء بمعجزي الله سبحانه. فلقد أهلك كثيرا من أمثالهم بما كان يصبّه عليهم من بلاء عذاب يأتيهم وهم غافلون في نوم الليل والنهار فما يكون منهم إلّا الاعتراف بانحرافهم وإجرامهم دون أن ينفعهم ذلك. ولسوف يحشر الله الناس جميعا يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم التي يخبرهم عنها لأنه لم يكن غائبا عنهم وكان عليما محيطا بكل ما كانوا يعملون ولسوف توزن أعمالهم بالحق والعدل. وسيشهد الرسل الذين أرسلهم الله إليهم هذا الحساب ويسألون بدورهم عن مواقف أممهم منهم فمن كان مؤمنا صالح العمل ثقلت موازينه فأفلح ونجا ومن كان كافرا آثما خفّت موازينه فخسر نفسه.

ومن شأن هذا التثبيت بهذا الأسلوب القوي النافذ أن يبثّ الطمأنينة في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وأن يهدئ روعهم ويضاعف قوتهم على الصبر.

ولقد تكرر في القرآن نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاستشعار بضيق الصدر من تبليغ آيات الله. ومن ذلك ما جاء في آية سورة هود هذه : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ

٣٦٣

وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)) وقد احتوت الآية تثبيتا مثل التثبيت الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها.

ولقد حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها ما كان من مواقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوية الجريئة في مواجهة طواغيت الكفار كما حكت آيات عديدة ما كان من عمق إيمانه برسالته واستغراقه فيها مثل آية سورة الأنعام هذه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)) وآية سورة الأحقاف هذه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)). حيث يتبادر من ذلك أن ذلك ليس بسبيل بيان كون صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضيق فعلا بتبليغ القرآن للناس لأنه قد بلغ المرتبة التي خلصت نفسه بها من كل تردد أو نفاد صبر أو ضيق صدر بإعلان ما يوحى إليه أو شبهة في علوّ كلمة الله في النهاية. وإنما كان يعتلج في نفسه همّ وحزن دائمان بسبب وقوف الزعماء موقف العناد والمناوأة والصدّ ، وانكماش أكثرية الناس عن دعوته نتيجة لذلك ، على شدّة حرصه على هدايتهم فكانت حكمة التنزيل تقتضي موالاته بالتثبيت والتهوين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (ق) والعبارة هنا من هذا الباب.

ولقد سبق الكلام عن مدى تعبير الموازين وثقلها وخفتها في سياق تفسير سورة القارعة فلا حاجة إلى الإعادة. وإنما نذكر في مناسبة ورود جملة (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ما ينطوي في الجملة من الإشارة إلى العدل الرباني في محاسبة الناس ونيل كل واحد نصيبه الحق بالعدل ، وقد تكررت هذه الجملة في سورة أخرى.

وتعبير (وَما كُنَّا غائِبِينَ) قد يقوّي توجيهنا في سورة (ق) في صدد تعابير القرناء والشهداء وكتّاب الأعمال عن أيمان الناس وشمائلهم وكونها تعابير أسلوبية للتقريب والتمثيل وكون علم المحيط وقدرته الشاملة في غنى عن ذلك.

٣٦٤

وتعبير (أَوْلِياءَ) مصروف كما هو المتبادر إلى الشركاء الذين كان العرب يشركونهم مع الله في الدعاء والاستنصار والعبادة.

وقد تكرر وروده كثيرا مفردا وجمعا بهذا المعنى وبمعنى الحامي والنصير.

والمقطع الأخير من الآية الثالثة يحتوي تسفيها لاتخاذ أولياء غير الله وإشارة إلى ما في ذلك من سخف وقلة بصيرة. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الذي لا يسمح بالاتجاه إلى أي قوة أو شخص أو رمز أو نصير أو ولي غير الله في أي شيء من خصائص الربوبية الشاملة الواحدة المنحصرة في الله عزوجل من نفع وضرر ومنع ومنح وحماية وشفاعة.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ

٣٦٥

وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)). [١٠ ـ ٢٥]

(١) معايش : أسباب العيش.

(٢) ما منعك ألّا تسجد : أوّل بعض المفسرين (مَنَعَكَ) بمعنى اضطرك وحينئذ يستقيم المعنى وقال آخرون إن لا زائدة وإن تقدير الجملة هو ما منعك أن تسجد.

(٣) اهبط : بمعنى انزل أو اخرج.

(٤) من الصاغرين : من الذليلين الحقيرين.

(٥) فبما أغويتني : قيل إنها بمعنى فبما أنك خيبتني من رحمتك وقيل إنها بمعنى فبما أنك امتحنتني بالسجود وقيل إنها بمعنى فبما أنك أهلكتني. والجملة هي حكاية لقول إبليس وقيل إنها تعبّر عن عقيدة إبليس بأن الله أغواه وأضلّه.

(٦) مذؤوما : من الذأم وقيل معناه اللعنة كما قيل معناه العيب والعار.

(٧) مدحورا : مبعدا ومطرودا.

(٨) قاسمهما : أقسم لهما.

(٩) دلّاهما : أمالهما.

(١٠) بغرور : بالتغرير والخداع.

(١١) يخصفان : يرقعان أو يلصقان.

الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتذكير وتنديد كما هو المتبادر. فالآيات السابقة احتوت دعوة إلى اتباع ما أنزل الله وتنويها بالمؤمنين وإنذارا للكافرين في الدنيا والآخرة فجاءت هذه الآيات تذكر المدعوين بنعمة الله عليهم وتمكينهم في الأرض وتيسير وسائل العيش لهم ثم بما جبلهم الله عليه من حسن الخلق والتكوين ، وتندّد بهم على ما يبدو منهم تجاه ذلك من جحود وقلة شكر لله وعدم الاستجابة لدعوته.

ثم تستطرد إلى قصة آدم وإبليس بسبيل التذكير والعظة والتمثيل. فالفئة

٣٦٦

الصالحة الخيرة وهم الملائكة قد أطاعوا أمر الله ، والفئة الخبيثة الشريرة وهي إبليس قد تمرّد عليه فلعنه الله وطرده من رحمته. وأدّى ذلك إلى أن يتسلّط على ذرية آدم وزوجته ليغويهما كما غوي. ولقد روى الطبري في صدد جملة (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أنها موجهة لبني آدم وأن خلقهم وتصويرهم يعنيان ما كان من ذلك في صلب آدم ورحم حواء. ولقد نقل ابن كثير هذا التأويل. ولكنه رجّح أن يكون الضميران عائدان إلى آدم بالذات لأن الكلام في صدده وأن استعمال الجمع المخاطب هو بسبب كونه أبا البشر الذين يوجه إليهم الخطاب. ومع ضآلة الفرق في التأويلين بوجه عام فإننا نرى ترجيح ابن كثير في محله. ونرى في الوقت نفسه أن الآية التي جاءت فيها هذه الجملة والتي قبلها قد جاءتا بمثابة تمهيد للخطاب والقصة. وأن فيهما قرينة جديدة على كون قصد العظة والتنبيه للذين يوجه إليهم القرآن هو الجوهري في القصة.

تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة

والقصة هنا أكثر إسهابا منها في السورة السابقة. ولعل من السامعين من طلب الاستزادة فاقتضت حكمة التنزيل هذا الإسهاب. أو لعلّ ذلك كان بسبب استمرار الكفار في جحودهم وعنادهم. وربما كان ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة (ص).

وقصد الموعظة والتمثيل والترغيب والترهيب ظاهر في الآيات وفي الآيات التي جاءت بعدها أكثر منه في السورة السابقة. ولعل ذلك متصل بالحكمة التي خمناها في الإسهاب الذي جاء في هذه السورة.

ولقد توسّع المفسرون فيما جاء جديدا في القصة توسعا بلغ بعضهم فيه حدّ الإغراب وبخاصة في الماهيات والماديات والأشكال مما لا طائل من ورائه ولا تقتضيه العبارة ولا هدف القصة وغير مستند إلى أحاديث نبوية صحيحة ومن جملة ما قالوه مثلا أن الجنة التي كان آدم وإبليس فيها كانت في السماء واستدلوا على

٣٦٧

ذلك بكلمات (فَاهْبِطْ مِنْها) [الأعراف : ١٣] و (اهْبِطُوا مِنْها) [البقرة : ٣٨](وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)) (١). ومع ما قلناه في سياق السورة السابقة من أنه لا طائل في بحث ذاتية القصة لأنها ليست الهدف فإن هذه الكلمات لا تقتضي أن تكون قد قصدت الإشارة إلى أن الجنة في السماء كما هو المتبادر. وفي آيات القصة الواردة في سورة البقرة آية تفيد أن الله قد خلق آدم ليكون خليفة في الأرض وهي : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)).

ولقد علقنا في السورة السابقة تعليقا مسهبا على القصة وأشخاصها ونبهنا إلى وجوب الوقوف فيها عند ما وقف عنده القرآن لأنه ليس هناك أحاديث نبوية صحيحة فيها زيادة عن ذلك كما نبهنا إلى الأهداف الجوهرية في القصة المتبادرة من عباراتها وإلى مواضع العبرة والعظة فيها فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أن فيما جاء جديدا في الآيات التي نحن في صددها عبرا أخرى تستحق التنويه. كالإشارة إلى ما توطد من عداء بين آدم وإبليس للتنبيه إلى ما في متابعة إبليس من جرم مضاعف لأنه عدو. وهذا ما نبهت إليه الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات. وقد ذكرت ذلك أيضا آيات في سور أخرى منها آية الكهف هذه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)). وكالإشارة إلى أسلوب الخديعة والتغرير الذي اصطنعه إبليس مع آدم وحواء وما كان له من نتائج أليمة للتنبيه إلى وجوب التروّي في الإصغاء إلى الوسوسة والإغواء وأساليب الغواية وعدم الاندفاع بما فيها من تزويق وبهرجة.

__________________

(١) انظر تفسير آيات القصة في سورتي البقرة والأعراف في تفسير ابن كثير والخازن.

٣٦٨

تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه

وبمناسبة التنديد بقلّة شكر بني آدم لله عزوجل في الآية [١٠] وبقول إبليس من أنه سوف يوسوس لبني آدم حتى يمنع أكثرهم عن شكر الله في الآية [١٧] من الآيات التي نحن في صددها نقول إن القرآن قد احتوى آيات كثيرة في سورة مكية ومدنية فيها أمر بالشكر لله والحث عليه والوعد بزيادة نعمة الله للشاكرين والدعاء لله بأن يوفق الداعي إلى شكره واعتبار عدم الشكر جحودا لله وفضله وعنوانا للكفر به وتقرير كون الله شاكرا من شكره مسبغا عليه نعمته ورعايته مجزيه عليه بأحسن الجزاء. والإيذان مع ذلك بأن الله غني عن الناس وعن شكرهم وأن الشاكر إنما يشكر لنفسه من حيث إنّ في الشكر اعترافا بالله وفضله ونعمته وتقربا إليه للازدياد من هذا الفضل والنعمة. من ذلك على سبيل التمثيل هذه الآيات :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : ١٧٢].

٢ ـ (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران : ١٢٣].

٣ ـ (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤].

٤ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧].

٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان : ١٢].

٦ ـ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ...) [الزمر : ٧].

٧ ـ (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن : ١٧].

حيث تدلّ هذه الآيات التي لها أمثال كثيرة في السور المكية والمدنية على ما

٣٦٩

أعاره القرآن لموضوع الشكر لله من عناية واهتمام.

ولقد رويت أحاديث نبوية في هذا الصدد متساوقة في المدى والتلقين مع الآيات القرآنية. منها حديث رواه الترمذي عن ثوبان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما سئل أي المال خير فنتخذه : «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» (١). وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لا يشكر الله لا يشكر الناس» (٢). وحديث رواه الإمامان المذكوران أيضا عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ومن لم يجد فليثن فإنّ من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر» (٣).

وللشيخ مصطفى المراغي كلمة جديرة بالإيراد في هذا السياق حيث قال إن كلمة الشكر من جوامع الكلم تنتظم كل خير وتشمل كل ما يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه. وإن الشكر لله على ما أنعم به على الإنسان من مال أو علم يطهّر النفوس ويقرّبها من الله ويوجّه إرادتها إلى الوجهة الصالحة في إنفاق النعم في وجوهها المشروعة. ويبث فيها الأمل والرجاء والطمأنينة إلى وعد الله بالزيادة والرعاية وحسن الجزاء.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)) [٢٦ ـ ٢٧]

(١) لباسا يواري سوآتكم وريشا : إشارة إلى ما يسّره الله للناس من وسائل

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١١٦.

(٢) التاج ج ٥ ص ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) انظر المصدر نفسه.

٣٧٠

اللباس. وقيل إن الريش هو المال أو ما يستر به أو ما يتزين به ، ويتبادر لنا أنه إشارة إلى أصواف الأنعام وأشعارها وأوبارها التي تصنع منها الثياب.

(٢) لباس التقوى : الأرجح أنه تعبير مجازي يقصد به أن التزام سبيل التقوى أو العمل الذي فيه تقوى أو الدعوة التي أنزلها الله في القرآن هو خير من كل شيء.

روى الطبري عن مجاهد أن هاتين الآيتين والآيتين اللتين بعدهما نزلتا في قريش حيث كانوا في الجاهلية يطوفون عراة بقصد تحذيرهم وتنبيههم إلى وجوب الاحتشام والتزين وقبح التعري وأن الله قد أنزل لهم اللباس والرياش لتفادي ذلك.

والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ونرجح أنها من قبيل التطبيق بسبب ما روي في سياق آية أخرى تأتي بعد قليل. وأن الآيات جاءت معقبة على قصة آدم وإبليس لتستطرد إلى تذكير بني آدم بما أنعم الله عليهم من اللباس والرياش الذي يواري سوآتهم وإلى تحذيرهم من أن يفتنهم الشيطان الذي فتن أبويهم من قبل والذي يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم ، وإيذانهم بأن التزام تقوى الله وخشيته كما أمروا هو كل الخير لهم. وبأن الشياطين قد جعلوا أولياء للذين لا يؤمنون بالله ولا يلتزمون أوامره.

ويبدو فحوى الآيتين بهذا الشرح المستلهم منه قويّا نافذا كما تبدو صلتهما بالسياق السابق واضحة. والله تعالى أعلم.

تعليق على دلالة جملة

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)

وتعبير (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) قد استهدف فيما هو المتبادر شدّة التحذير والتنبيه. فلا يقولن أحد إني لا أرى الشيطان أو إني في نجوة منه ، فهو دائم الترصد للناس. وإذا كانوا لا يرونه فإنه يراهم هو وقبيله والعدو المتربص المختفي هو أشد نكاية من الظاهر. ولعله يندمج في هذه العبارة تقرير ما يتنازع الإنسان من عوامل الشر والميول الأثيمة في باطنه مما يحسّ به كل امرئ.

٣٧١

ولقد استدلّ بعضهم بهذه الجملة على أن بني آدم لا يمكن أن يروا الجن الذين منهم إبليس ومرادفه الشيطان كما ذكرت ذلك آية سورة الكهف [٥٠] التي أوردناها قبل قليل. بل قال بعضهم إن من قال إنهم يرون هو كافر لأنه بذلك يكذب القرآن وإن زعم رؤيتهم زور ومخرقة. وإلى هذا قال بعضهم إنه ليس في الآية تقرير صريح بأن رؤيتهم ممتنعة البتة وكل ما فيها أن الشيطان يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم وإن انتفاء رؤيته لنا في وقت ما لا يستلزم انتفاءها مطلقا. وبعضهم يستثني من ذلك الأنبياء ويساق في هذا المساق حديث رواه البخاري ومسلم في رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عفريتا. ويساق حديث رواه الإمام أحمد في رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبليس. والحديثان أوردناهما في سياق تعليقنا على قصة سليمان في سورة ص. ويساق كذلك ما ورد في القرآن من خبر تسخير الجن لسليمان في مختلف الأعمال وحبسه بعضهم مما ورد شيء منه في السورة المذكورة كذلك.

وتعليقا على ذلك نقول مرة أخرى :

أولا : إن القرآن ذكر استماع الجن للقرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين بأسلوب يدلّ دلالة قاطعة على أن النبي لم يرهم وإنما أعلم بذلك أو أمر بأن يقول إن الله أخبره بذلك على ما جاء في آيتي سورتي الأحقاف والجن اللتين أوردناهما في ذلك التعليق.

وثانيا : إنه لم يثبت ثبوتا يقينيا عيانيا أن بني آدم رأوا أو يرون الجنّ.

وثالثا : إزاء النص القرآني بالنسبة لسليمان وإزاء الحديث الصحيح بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمكن أن يقال إن الأنبياء يرونهم بالقوة التي امتازوا بها والتي كانوا يرون بها الملائكة أيضا.

وعلى كل حال فهذه المسألة تابعة لأصل وجود الجن الواجب الإيمان به لأنه ثابت بالنصّ القرآني مع ملاحظة ما نبهنا عليه من ذلك في سياق سورة الناس. والله تعالى أعلم.

٣٧٢

تعليق على جملة

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

ويتبادر لنا أن تعبير (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) هو أسلوبي من باب ما جرى عليه النظم القرآني أحيانا من نسبة كل أمر إلى الله عزوجل من حيث الأصل مع قيام القرينة على أن ذلك نتيجة لمسلك وأخلاق الذين لا يؤمنون. وقد قصد به التنديد بالكافرين ونسبة ما هم فيه من كفر وإثم إلى وسوسة الشياطين وإغراءاتهم كما قصد به تطمين المؤمنين بأنه لا سبيل للشياطين عليهم فأولياء الكفار هم الشياطين في حين أن الله عزوجل هو وليّ المؤمنين. وفي آيات قصة آدم وإبليس في سورتي الحجر والإسراء تقرير صريح لذلك حيث جاء في الأولى هذه الآية : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)) وفي الثانية هذه الآية : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)) ، وفي سورة النحل آيتان تؤيدان هذا القصد مع تأييدهما لأسلوبية التعبير وهما : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)) وفي إحدى الآيات التالية توكيد آخر حيث نسب فعل اتخاذ الشياطين أولياء إلى الكفار. فنحن ننزّه الله عزوجل عن أن يجعل الشياطين أولياء لأناس دون كسب وسبب منهم. وهو إنما يضلّ الظالمين والفاسقين ويهدي إليه من أناب ويثبت الذين آمنوا بالقول الثابت كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)) وآيات سورة البقرة هذه : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي

٣٧٣

الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)) وآيات سورة الرعد هذه : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)) والجملة التي نحن في صددها من هذا الباب. وفي سورة الزخرف آية فيها تفسير آخر مع تساوقها في المآل مع هذه الآيات وهي : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)) أي إن الشيطان إنما يسلط على الذي يتعامى عن ذكر الله ويصرّ على طريق الكفر والإثم.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)) [٢٨ ـ ٣٠]

(١) فاحشة : معنى الكلمة كل ما عظم قبحه. وقد روي عن ابن عباس (١) أن الكلمة هنا كناية عن عادة الطواف في حالة العري.

(٢) القسط : هنا بمعنى العدل والحق. والكلمة من الأضداد حيث وردت كلمة القاسطين بمعنى المنحرفين عن الحق.

(٣) أقيموا وجوهكم : وجهوا وجوهكم.

(٤) مسجد : وردت هذه الكلمة في آيات عديدة في معنى السجود والصلاة مطلقا وفي معنى مكان السجود والصلاة. ويجوز أنها هنا في المعنى الأول كما يجوز أن تكون في المعنى الثاني بل يجوز أن تكون في المعنيين والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وغيره.

٣٧٤

الآيات معطوفة على سابقاتها ، وضمائر الجمع الغائب وبخاصة في الآية الأولى عائدة إلى (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) المذكورين في آخر الآية السابقة بحيث يصح القول إن الآيات استمرار في السياق السابق.

وقد احتوت تنديدا بالكفار الذين كانوا يقولون عن الفاحشة حينما يفعلونها إنهم وجدوا آباءهم عليها وإن الله قد أمرهم بها افتراء على الله بدون علم وبينة. وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعلان بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء وإنما الذي أمر به هو العدل والاستقامة وتوجيه الوجوه في العبادة والسجود وأماكنهما إليه وحده بكل إخلاص ، وبأن الله سيعيدهم كما بدأهم وبأن الناس فريقان فريق هداهم الله وفريق حقّت عليهم الضلالة. لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويتوهمون مع ذلك أنهم مهتدون.

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون (١) لجملة (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) منها أن الله يعيد الناس يوم القيامة على حالتهم في الدنيا كافرهم كافر ومؤمنهم مؤمن ومنافقهم منافق. ومنها أن ذلك متصل بالمقدر الأزلي عليهم فمن قدر عليه أن يكون مؤمنا وسعيدا أو كافرا أو منافقا أو شقيا صار كذلك حينما يخرج إلى الدنيا مهما بدا في بعض الظروف غير ذلك. وقد أورد المفسرون في صدد هذين القولين بعض الأحاديث النبوية منها حديث رواه مسلم وابن ماجه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» (٢). وفي رواية أخرى : «تبعث كلّ نفس على ما كانت عليه» (٣). وحديث رواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فليعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

(٢) النصوص منقولة عن ابن كثير.

(٣) انظر المصدر نفسه.

٣٧٥

عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» (١). ومنها أنها بمعنى كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم. ومنها أنها بمعنى كما خلقكم عند خروجكم من الدنيا يعيدكم كذلك بعد الموت. أو كما خلقكم أولا يعيدكم ثانية. وأوردوا في صدد القول الثاني حديثا رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيها الناس إنّكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» وقرأ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)» [الأنبياء : ١٠٤] (٢). وقد رجّح الطبري أحد الأقوال الثلاثة الأخيرة واستبعد القولين الأولين واستأنس بآية سورة الأنبياء التي جاءت في الحديث النبوي الأخير. وفي هذا الصواب والسداد فيما هو المتبادر.

تعليق على جملة

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً)

وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الإشارة إلى مشهد من مشاهد الجدل قام بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار حول بعض التقاليد والطقوس التي كان يمارسها العرب اقتداء بآبائهم ويعتقدون أنها متصلة بأوامر الله وشريعته.

وقد قال المفسرون (٣) في سياق تفسير الآيات إن العرب كانوا يستحلون الطواف حول الكعبة في حالة العري وإن الآيات نزلت في تقبيح هذه العادة واعتبارها فاحشة منكرة. وروح الآيات تلهم صحة ذلك. ومما روي في معرض ذلك (٤) أن العرب كانوا حينما يريدون الطواف يخلعون ثيابهم العادية ويلبسون ثيابا أو مآزر خاصة حتى لا يطوفوا بالثياب التي قد يكونون اقترفوا بها ذنبا فإن لم

__________________

(١) النص منقول عن ابن كثير.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن.

(٤) انظر كتابنا عصر النبي عليه‌السلام وبيئته قبل البعثة ص ١٩٧ وما بعدها مع كتب التفسير السابقة الذكر.

٣٧٦

يجدوا هذه الثياب أو المآزر التي كان يؤجرها سدنة الكعبة الذين كانوا يسمون الأحماس للطائفين أو إذا لم يقدروا على دفع أجرتها خلعوا ثيابهم وطافوا عراة الرجال والنساء على السواء وكلّ ما كان من أمر النساء أنهن كن يضعن شيئا ما يسترن به مكان القبل. وكانوا يظنون أن ذلك من تقاليد الحج المتصلة بأمر الله والتي وضعها إبراهيم عليه‌السلام. فردّت عليهم الآيات ردا قويا متسقا مع المبادئ السامية التي يدعو القرآن إليها.

وقد احتوى الردّ تلقينات جليلة سواء في تنديدها بالتمسك بتقاليد الآباء مهما كان فيها من الفحش والباطل وسوء المظهر والذوق ؛ أم في تنديدها بعزو كل تقليد وعادة قديمة إلى الله بدون علم وبينة وبسبيل تقديس هذه العادات والتقاليد والتمسك بها. مع هتاف قوي بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء.

وكلمات فاحشة وفحشاء من ذوات المعاني العامة الشاملة حيث تشمل كل ما عظم قبحه من الرذائل الفردية والاجتماعية قولا وعملا مما نصّ عليه القرآن أو السنّة أو اعتبره جمهور المسلمين كذلك في كل ظرف ومكان بالاستئناس بالمبادئ العامة التي قررها القرآن والسنّة وقد جاءت هنا مطلقة للدلالة على هذا الشمول وبذلك يبرز مدى ما في الردّ القرآني من تلقين جليل.

تعليق على جملة

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)

وجملة (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) قد توهم أن الله تعالى يفعل ذلك بدون سبب من المهتدي والضالّ. غير أن بقية الآية تزيل هذا التوهم حيث احتوت تعليلا متسقا مع تقريرات القرآن المتكررة التي مرّت أمثلة منها وهو كونهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. وفي آية سورة يونس هذه : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)) توضيح يزيل بدوره ذلك التوهم. وهذا أيضا ملموح في آيات سورة البقرة [٢٦ ـ ٢٧] وسورة الرعد [٢٧] وسورة

٣٧٧

إبراهيم [٢٦] التي أوردناها سابقا أيضا. ولقد فرّع المؤولون والمفسرون عن هذه الجملة معاني أو أحكاما أخرى. فذهب الطبري إلى أن فيها دليلا على أن العذاب لا يقع فقط على الضالّ المعاند لربّه بل يقع على الضالّ الذي يظن أنه على هدى. وهناك من فرّق بين من تحرّى واجتهد وظنّ أنه على هدى وبين من انحرف دون تحرّ واجتهاد تقليدا لغيره. فذهب إلى أن الأول يكون معذورا وأن العذاب لا يكون إلّا على الثاني. وهناك من قال إنه لا يكون بعد الإسلام عذر لمن يضلّ عن مبادئ الإسلام ومما فيها من عقائد وأحكام صريحة وقطيعة بنصّ قرآني أو سنّة نبوية ثابتة لأنّ فهم هذا من متناول الجميع. وإن العذر إنما يكون للمجتهد فيما ليس فيه نصّ صريح وقاطع بل ويكون له أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ. ويتبادر لنا أن القول الأخير هو الأوجه الأسدّ. وهناك من قال إن الآية تدلّ على أن مجرد الظنّ والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين وفي هذا وجاهة وسداد أيضا (١). والله تعالى أعلم.

تعليق على (مَسْجِدٍ)

وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه الآيات إنها تأتي في القرآن في معنى السجود والصلاة إطلاقا كما تأتي في معنى أماكنهما إطلاقا. غير أنها صارت علما على أماكن عبادة المسلمين ولا تطلق على أماكن غيرهم.

ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة فيها حثّ على بناء المساجد والتنويه بمنشئيها وحثّ على غشيانها وما يجب على المسلمين إزاءها من آداب ، من ذلك حديث رواه الخمسة إلّا أبا داود عن عثمان قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من بنى مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنّة وفي رواية بيتا في الجنة» (٢).

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير رشيد رضا والقاسمي.

(٢) هذا الحديث والأحاديث التالية له منقولة من الجزء الأول من كتاب التاج ص ٢٠٥ وما بعدها.

٣٧٨

وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح» وحديث عنه رواه الخمسة إلّا أبا داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه. الإمام العادل وشابّ نشأ في عبادة ربّه ورجل قلبه معلّق بالمساجد ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدّق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه». وروى أبو داود ومسلم عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا». وحديث رواه مسلم والنسائي والترمذي عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تطهّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنّور التامّ يوم القيامة» وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قلت يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال : المساجد». وحديث رواه الخمسة عن أبي قتادة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» وحديث رواه الأربعة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البزاق في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنها». ولمسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيّئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النّخاعة تكون في المسجد لا تدفن». روى الثلاثة عن أنس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى نخامة في القبلة فحكّها بيده ورئي منه كراهية لذلك وشدّته عليه وقال إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه فلا يبزقنّ في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه. ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا». ويجب أن يلحظ القارئ أن أرضية مسجد رسول الله الذي كانت الآداب المذكورة في شأنه كانت ترابية يصحّ دفن البزاق فيها وأن هذا لا يقاس عليه بالنسبة لأرضية المساجد اليوم. وأن يلحظ أن ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بردائه هو تنزيه لأرض المسجد وحينما لا يكون مع المرء

٣٧٩

منديل يبزق فيه. وروى البخاري عن السائب بن يزيد : «أن عمر قال لرجلين من أهل الطائف رفعا صوتيهما في المسجد لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا». وروى الثلاثة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصاله بكفّه لا يعقر مسلما». وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكل البصل والثوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وفي رواية من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته. وفي رواية من أكل من هذه البقلة فلا يقربنّ مساجدنا حتى يذهب ريحها». وروى الترمذي والنسائي : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والاشتراء فيه وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة». وننبه على أن هناك روايات متواترة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده من مختلف الأنحاء والملل. وكان منهم من يخطب أو يلقي شعرا بين يديه فيه. ويتفاوض معهم ويكتب لهم رسائل وعهودا. وقد أسر أمير بني حنيفة فجعله في خيمة فيه. وجرح زعيم بني الأوس فضرب له فيه خيمة وأمر ممرضة من المسلمين بمداواته. وجاء وفد من نصارى نجران فتناظر معه في المسجد وأقام في خيمة نصبها له فيه وكان يعقد فيه مجالس قضائه ومشاوراته ووعظه. وكان أصحابه يأتون إلى المسجد في غير أوقات الصلاة فيتحلقون عليه فيه أو على بعضهم ، بل كان منهم من يضطجع أو ينام فيه. وكان فيه صفّة يقيم عليها فقراء وغرباء المسلمين إقامة دائمة (١). وكان في ناحية من فنائه صف بيوت

__________________

(١) في سيرة ابن هشام وفي طبقات ابن سعد وهما من أقدم أو أقدم مما وصل إلينا من كتب سيرة رسول الله روايات كثيرة في كل ذلك يبدو عليها طابع الصحة. وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال : «بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد». التاج ج ١ ص ٢١٤. وروى الخمسة عن عباد بن تميم عن عمه «أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا رجله على الأخرى» ص ٢١٤. وروى البخاري والترمذي : «أن ابن عمر وهو شاب أعزب لا أهل له كان ينام في

٣٨٠