التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلّى لي كلّ شيء وعرفت فقال يا محمد قلت لبّيك ربّ قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفّارات قال ما هنّ قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال فبم؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام. قال سل قل اللهمّ إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبّ المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة قوم فتوفّني غير مفتون. أسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ عمل يقرّب إلى حبّك. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّها حقّ فادرسوها ثمّ تعلّموها» (١). وقد أوردنا بعض هذا الحديث الذي وصف ابن كثير بأنه حديث المنام المشهور في سياق تفسير آيات سورة النجم الأولى. وقد رأينا إيراده بجميع نصّه هنا لأن المفسرين أوردوه في سياق الآيات التي نحن في صددها. ولأن فيه صورة رائعة لاستغراق النبي في عبادة ربّه حتى يراه ويتحاور معه. وصورة رائعة كذلك لحياته مع أصحابه ومسارعته إلى إبلاغهم كل ما يقع له ولو كان رؤيا منام على اعتبارها حقا يجب إبلاغها إليهم. وما في المحاورة والوعاء من التلقينات والفوائد.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (١) (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي (٢) إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٣) (٨٣) قالَ

__________________

(١) هذا النص من التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢٠٤ وقد روى هذا الحديث بطرقه المحدّث المفسّر البغوي مع فرق يسير في الصيغة. وأورده ابن كثير بعينه عزوا إلى الإمام أحمد الذي رواه كذلك بطرقه عن معاذ.

٣٤١

فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)) [٧١ ـ ٨٥].

(١) رجيم : مرجوم بالحجارة ، والمقصد مطرود بقوة.

(٢) أنظرني : أخّرني وأمهلني.

(٣) المخلصين : الذين أخلصوا من الغواية واهتدوا إلى الله والتزموا حدوده.

احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرّد إبليس على هذا الأمر ، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف «إذ» الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعلّ الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين ، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.

ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة ، وقد ذكرناه بصراحة لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه ، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)).

تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة

له وتمرّد إبليس وتلقيناتها

وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان

٣٤٢

والحوار والتلقين والتوجيه ، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله ، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر ، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرّد على أوامره من جريمة منكرة ، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس ، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الذين يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.

ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى ، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.

وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.

ولعلّ مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في إطاعة أمر الله واستجابة دعوته. وثانيهما تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا

٣٤٣

إلّا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضرّ والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)) وآية سورة النساء هذه : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢)) وآيات سورة الأنبياء هذه : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)).

وهذا التوجيه يؤدي إلى التساؤل عما إذا كان العرب يعرفون ما يرمز إليه تعبير إبليس وعما إذا كانوا يعرفون كذلك قصة آدم والملائكة وإبليس. لأن استحكام الحجة عليهم والتأثر بالعظة والعبرة منوطان بذلك على ما قررناه في المناسبات السابقة.

وللإجابة على النقطة الأولى ينبغي أن نبحث في كلمة إبليس. فهناك من يقول إنها معربة من كلمة ديابوليس اليونانية التي كانت ترمز إلى الشيطان الموسوس (١). وهناك من يقول إنها عربية الجذر والاشتقاق والصيغة وإنها من جذر (أبلس) بمعنى يئس وعلى صيغة إفعيل مثل إزميل. وفي القرآن ورد اشتقاق من هذا الجذر بهذا المعنى في آيات سورة الروم هذه : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ

__________________

(١) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٣٠٩ وبعدها.

٣٤٤

كافِرِينَ (١٣)) وفي آيات سورة الزخرف هذه : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)) وقد أنكر الزمخشري عروبة الكلمة وقال إنها أعجمية معرّبة واستدلّ على ذلك بامتناعها عن الصرف. غير أن ابن منظور صاحب لسان العرب ومفسرين آخرين رجحوا عروبتها. ونحن نرجّح ذلك ما دام هناك جذر عربي فصيح وقرآني يمكن أن ترجع إليه الكلمة. ومما لا ريب فيه أن الكلمة كانت متداولة على لسان العرب قبل الإسلام. وتبعا لترجيح عروبتها الفصحى يمكن أن يقال إنها نعت لا اسم وأنها نعت ذمّ وأن العرب كانوا يفهمون هذه الدلالة. ولقد ذكرنا في التعليق على كلمة الشيطان في سياق سورة التكوير أن كلمة الشيطان التي هي أيضا نعت ذمّ وتشنيع وردت في القرآن مرادفة لكلمة إبليس وأنها كانت مفهومة الدلالة عند العرب من حيث إنها كانت تطلق فيما تطلق عليه على العنصر الخفي الشرير الذي يوسوس للناس ويغويهم. وهذا يعني أن العرب كانوا يرادفون بين الشيطان وإبليس ويعرفون أن إبليس هو اسم آخر للشيطان الذي يوسوس للناس ويغويهم. ولقد قلنا في التعليق السابق الذكر إنهم يمكن أن يكونوا عرفوا دور الشيطان من أهل الكتاب. وهذا ينسحب على كلمة إبليس التي كان الكتابيون يرادفون بدورهم بينها وبين الشيطان (١).

وأما بالنسبة للنقطة الثانية فنقول : إن سفر التكوين من أسفار العهد القديم المتداول في أيدي الكتابيين قد ذكر القصة ، وملخص ما جاء فيه (٢) (أن الله خلق آدم من تراب وسوّاه ونفخ فيه نسمة الحياة ، ثم خلق حواء من ضلعه وأسكنهما في جنة أنشأها لهما في عدن شرقا ، وأباح لهما الأكل من كل شجرة إلّا شجرة معرفة الخير والشرّ فنهاهما عن أكل ثمرها ، ولكن الحية التي كانت أحيل جميع الحيوانات أغوت حواء وأغرتها بالأكل من هذه الشجرة قائلة لها : لن تموتا إذا أكلتما منها كما قال لكما الله ، وإن الله عالم أنكما في يوم تأكلان منها تتفتح

__________________

(١) انظر مثلا الفصل العشرين من رؤيا يوحنا وهو من الأسفار الملحقة بالأناجيل.

(٢) الإصحاحان الثاني والثالث.

٣٤٥

أعينكما وتصيران كالآلهة وتعرفان الخير والشر. فأكلت حواء وأعطت بعلها فأكل. فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان فخاطا من ورق التين مآزر. وسمعا صوت الربّ وهو يتمشى في الجنة فاختبآ من وجهه فنادى الرب آدم أين أنت؟ قال : إني سمعت صوتك فخشيت لأني عريان فاختبأت. قال فمن أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : إن المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت. فسأل الربّ المرأة فقالت أغوتني الحية ، فغضب عليهما ربهما وأخرجهما من الجنة ليكدا ويتعبا في الأرض ويعرقا في سبيل أكل خبزهما بعد أن صنع لهما أقمصة من جلد ، ولعن الحية وآذنها بعداوة دائمة ضارية بينها وبين ذرية آدم وحواء ، وأنذر حواء بمشقة الحمل والولادة وآلامهما إلخ ...).

وهذا الملخص يتسق مع ما جاء عن القصة في سورة الأعراف بشيء من التباين حيث ذكر في الآيات إبليس بدلا من الحية (١) وذكر فيها أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وتمرد إبليس والحوار بينه وبين الله وبينه وبين آدم وحواء وهو ما لم يرد في سفر التكوين كما ترى في هذه الآيات : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ

__________________

(١) في تفسير الخازن لآيات القصة في سورة الأعراف أن إبليس اتخذ الحيّة مطيّة للدخول إلى الجنة بعد طرده وتمكّن بذلك من إغواء آدم وحواء. وفي تفسير البغوي لآيات القصة في سورة الأعراف أيضا أن حواء قالت إن الحيّة أغوتها وإن الحية قالت إن إبليس أمرها. وفي الإصحاح العشرين من سفر رؤيا القديس يوحنا أحد حواريي المسيح عليه‌السلام هذه العبارة : (فقبض الملاك على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيده). وهذا السفر من أسفار العهد الجديد المتداولة اليوم. والنص يفيد أن الكتابيين كانوا يتداولون قبل البعثة النبوية أن الذي أغرى آدم وحواء هو إبليس. وهذا متطابق مع ما جاء في القرآن. ولعلهم كانوا يتداولون أن إبليس تمثّل لهما على صورة التنين أو الحية.

٣٤٦

خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)).

ومع المباينة التي بين الآيات وسفر التكوين فإن التوافق الكبير بينهما يجعلنا نميل إلى القول إن القصة كما وردت في هذه السورة وغيرها من السور لم تكن غريبة عن السامعين لأن أسلوبها تذكيري يلهم أنه بسبيل التذكير بشيء غير غريب. لأن العبرة القرآنية إنما تتحقق بذلك. ونعتقد أن الكتابيين كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتداولون أسفارا وقراطيس لم تصل إلينا فيها شروح وحواش متّسقة مع ما ورد في القرآن من القصة.

وأن العرب في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره عرفوها عن طريقهم بحيث يمكن أن يقال إن المخاطبين بالقرآن لأول مرة كانوا يعرفون قصة آدم وإبليس وتمرّد إبليس على الله وطرده من رحمته ودوره في إغواء الناس فاقتضت حكمة التنزيل أن تتلى عليهم لأول مرة في هذه السورة ثم تتكرر بأساليب متنوعة لما انطوى فيها من تلقينات ومواعظ وعبر وأهداف على النحو الذي شرحناه. وهكذا يصدق ما قلناه

٣٤٧

في تعليقنا على القصص القرآنية في سورة القلم من أن سامعي هذه القصص من العرب كانوا يعرفونها على هذه القصة أيضا.

وفي كتب التفسير (١) روايات كثيرة عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول من ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وسعيد بن جبير وابن زيد وغيرهم في سياق هذه الآيات وآيات السور الأخرى التي وردت فيها القصة. كما أن في هذه الكتب أقوالا كثيرة للمفسرين أنفسهم في كيفية خلقة آدم والطينة التي جبل منها ونفخ الله من روحه فيه وخلق زوجته منه والجنة التي أسكنهما فيها والشجرة الممنوعة إلخ معظمها تخمينية واجتهادية فيها السمين والغثّ والمتسق مع ما ورد في القصة في القرآن وسفر التكوين وغير المتسق. وفي بعضها كثير من الإغراب أيضا. ومثل هذا يقال في ما رووه وقالوه في صدد إبليس وماهيته وذريته وأسمائهم وأشكالهم وتفريخهم وأدوارهم. ولم نر طائلا في إيرادها لأنها ليست من أهداف القصة ولكنها تدلّ كما قلنا على أن القصة كانت مما يتداوله أهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته وليس لذلك مصدر إلّا الكتابيون فيهما. ولقد انجرّ بعضهم إلى بحوث علمية بسبيل التوفيق. ومنهم من رأى في القصة رموزا ومعاني تمثيلية. ومنهم من حاول أن يرى صلة بين خلود روح الإنسان بخاصة وبين تعبير نفخ الله من روحه في الإنسان الأول الذي خلقه من طين وصار أبا البشر. ومنهم من حاول أن يوفق بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى الواردة في صدد نشأة الكون والخلق ثم بينها وبين النظريات العلمية القائمة على ناموس التطور والاصطفاء والنشوء والبقاء أو نشوء جميع الأحياء من نبات وحيوان على مختلف المستويات من التراب والماء مما لا نرى طائلا ولا محلا له كذلك في مجال القصة وأهدافها.

ومن غريب ما عزي إلى ابن عباس وبعض التابعين مثل قتادة والضحاك أن إبليس كان من الملائكة بل كان من أشرافهم وكان خازنا للسماء وللجنة. وأنه لو

__________________

(١) انظر تفسير آيات القصة في هذه السورة والسور الأخرى في كتب الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والقرطبي والنسفي والخازن ورشيد رضا والقاسمي والطنطاوي جوهري.

٣٤٨

لم يكن من الملائكة لما أمر بالسجود لأن الله أمر الملائكة بالسجود فسجدوا وتمرد إبليس. أي أمر معهم بالسجود لأنه منهم وعزي إليهم إزاء آية الكهف التي تصف إبليس بأنه من الجنّ وهي : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...) [٥٠] أن الجنّ الذين منهم إبليس هم قبيلة من الملائكة مع أن في سورة سبأ آية جمعت بين الجنّ والملائكة كخلقين مختلفين بل متعاكسين وهي : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)) ومع أن القرآن جمع إبليس مع الجنّ في أصل الخلقة حيث قرر في الآيات التي نحن في صددها وأمثالها أن إبليس خلق من نار وقرر في آيات عديدة أن الجنّ خلقوا من النار أيضا مثل آية سورة الرحمن هذه : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥)) وآية سورة الحجر هذه (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)) في حين أن هناك حديثا رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة ذكر فيه أنّ الله خلق الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار (١).

ونلاحظ أولا : أن القرآن في صدد ماهية إبليس قد قرر بعض التقريرات التي منها أنه كان من الجنّ كما جاء في آية سورة الكهف التي أوردناها آنفا. مع تقرير أن الجنّ خلقوا من النار كما جاء في آيات سورتي الحجر والرحمن التي أوردناها وغيرها. وحكى قول إبليس أنه هو نفسه خلق من نار كما جاء في آيات قصته التي نحن في صددها وفي السور الأخرى. وقد ذكره بمفرده كما في آيات القصة وأحيانا هو وذريته كما في آية سورة الكهف المذكورة آنفا وأحيانا هو وجنوده كما في آية سورة الشعراء هذه : (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)) وذكر الشيطان مرادفا له بصيغة المفرد كما في آية سورة الأعراف [١١] التي أوردناها آنفا ، وبصيغة الجمع كما في نفس الآية ، وذكره هو وقبيله كما في نفس الآية. وعزا إلى إبليس والشيطان وفروعهما إغواء الناس وإضلالهم وتزيينهم لهم الفساد والكفر والإثم كما ورد في

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢٦٩.

٣٤٩

الآيات التي أوردناها وكثير غيرها وحكى ما جرى من حوار في صدد ذلك بين الله تعالى وإبليس وبين إبليس وآدم ، ووقف عند هذا الحدّ.

وثانيا : أن القرآن في صدد ماهية آدم وخلقه كرر ما قرره في الآيات التي نحن في صددها بشيء من الخلاف الأسلوبي ، وذكر مع ذلك في بعض الآيات خلق الإنسان من طين بدون ذكر آدم وسجود الملائكة كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣)) ووقف عند هذا الحد.

وثالثا : أن القرآن أورد كل ما أورده في صدد آدم وإبليس بأسلوب التذكير والعظة لا بأسلوب تقرير واقعة لذاتها. وتكرار القصة مع تنوّع صيغتها وسياقها في كل مرة وردت فيها مما يدل على ذلك فضلا عن الأسلوب. فالأولى ـ فيما نرى من وجهة التفسير القرآني ـ الوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن أو اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه في صددها بدون تزيد ولا تخمين مع الإيمان بما احتوته الآيات القرآنية من صور وعدم التورط في تخمين الكيفيات التي لم تقتض حكمة التنزيل بيانها ومع ملاحظة أن هذه القصة هي مثل سائر القصص من قسم القرآن الثاني الذي سميناه بالوسائل ، والذي يمكن أن يدخل في نطاق المتشابهات اللاتي ذكرت في آية سورة آل عمران مقابل الآيات المحكمات اللاتي هن أمّ الكتاب والتي ليست الإحاطة بماهيتها من الضرورات الدينية وأن هدفها هو التدعيم والعبرة والعظة ، وأنه ليس في التخمين والتزيد طائل كما أنهما لا ينسجمان مع الهدف القرآني ، ونرى في الوقت نفسه أن ما نقله المفسرون من الروايات دليل على أن أشياء كثيرة حول آدم وإبليس كانت متداولة في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده ، منها ما مصدره أسفار العهد القديم ومنها ما كان يتناقله الكتابيون على هامشها من شروح وحواش من الجائز أن تكون وردت في قراطيس كانت عندهم ولم تصل إلينا وبكلمة أخرى إن هذه القصة كانت معلومة عند السامعين ، فأوحى الله بها في القرآن استهدافا للعظة والإنذار والتدعيم.

٣٥٠

أما ما جاء في هذه الآيات وغيرها من دور إبليس والشيطان وأعوانهما في إغراء الناس وإغوائهم ، ومن صراحة القرآن بموافقة الله عزوجل على قيامه بهذا الدور كما جاء في آيات أخرى منها آيات سورة الإسراء هذه التي جاء فيها ذلك بصراحة : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)) فيمكن أن يقال في صدده إن من واجب المسلم الإيمان به ما دام القرآن قد أخبر به دون تورط كذلك في التخمين ومع الإيمان بأن لذلك حكمة يمكن أن تكون قصد تقرير كون الناس معروضين للاختبار وأنهم بعد أن يكون الطريق قد وضح لهم بواسطة رسل الله يصبحون مدعووين لاختيار ما فيه الصلاح والخير والحق. فالذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وبرئوا من الهوى والعناد يستجيبون ولا يتأثرون بوسوسة الشيطان. وهم الذين قالت الآيات إنهم المخلصون الذين ليس لإبليس سلطان عليهم. أما الذين خبثت نياتهم وغلظت قلوبهم وتغلّب عليهم الهوى والعناد فهم الذين لا يستجيبون لداعى الله ويتأثرون بوسوسة الشيطان وهم أتباع إبليس الذين قالت الآيات إن الله سيملأ بهم جهنم. ويندمج في هذا تقرير القرآن لمعنى كون الناس غير واقعين في أمر محتم عليهم منذ الأزل ليس لهم منه مناص. لأنهم لو كانوا كذلك لما كان مجال لامتحان الله وتسلّط إبليس عليهم بالوسوسة والإغراء. ولما كان محل للقول إنّ عباد الله الصالحين المخلصين لن يتأثروا بالوسوسة والإغراء لأن تأثير أولئك وعدم تأثّر هؤلاء إنما يكون معقولا بسبب الاختيار وحرية الإرادة والاستجابة سلبا وإيجابا. وبعبارة أخرى قصد الإنذار والتنبيه والتحذير والتطمين والبشرى.

ولقد ذكر المفسرون أقوالا في صدد أسباب شمول الخطاب الرباني بالسجود لإبليس مع أن الخطاب موجه للملائكة وفي صدد الأمر بطرد إبليس من الجنة مع آدم وزوجته وإهباطهم إلى الأرض ليكون بعضهم عدوا لبعض ، ثم في صدد ما ورد

٣٥١

في القرآن من كون الله قد قصد في الأصل بخلق آدم وزوجته أن يجعل في الأرض خليفة مما هو متناقض في الظاهر مع ما تفيده الآيات من أن هبوطهما من الجنة إلى الأرض كان عقوبة لهما ، ومن محاورة الله مع الملائكة حول ذلك ومن تعليم آدم الأسماء كلها إلخ كما جاء في آيات سورة البقرة هذه : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)) وجلّ الأقوال في نطاق التخمين.

هذا ، ولقد أورد مؤلف كتاب التاج في فصل التفسير وفي سياق آيات القصة نفسها في سورة البقرة بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال : «أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال خلق الله عزوجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس وخلق آدم عليه‌السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة» (١).

وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ثم قال اذهب فسلّم على أولئك من الملائكة واستمع ما يحيونك وهي تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله. فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن» (٢). وفي رواية الترمذي : «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فقال له ربّه رحمك الله يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة فقل السلام عليكم قالوا وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربّه فقال إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر أيّهما شئت

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) المصدر نفسه.

٣٥٢

قال اخترت يمين ربّي وكلتا يديه يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته قال يا ربّ ما هؤلاء؟ قال هؤلاء ذريتك. فإذا كلّ إنسان مكتوب عمره بين عينيه» (١). وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيّب» (٢).

وقد يكون هناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث وردت في كتب التفسير أو كتب الحديث الأخرى. ولسنا نرى فيها نقضا لشرحنا وتعليقاتنا المتقدمة وبخاصة لما تبادر لنا من أهداف القصة. ونقول فيما جاء فيها من أمور مغيّبة وماهيات إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الأمر ويقف عنده ولو لم يدرك حكمته ومداه ويفوض الأمر إلى الله ورسوله كما هو الشأن بالنسبة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة في شؤون أخرى مماثلة مرّت أمثلة لها وسيأتي أمثلة عديدة لها. ولا سيما إن هذه المسألة وأمثالها ليست من أركان الدين المحكمة التي يجب على المسلم معرفتها والعمل بها. ويكفي أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث الثابت فيها والله تعالى أعلم.

وما قلناه آنفا ينسحب على هذا. فالقصة وحواشيها إنما جاءت في معرض العظة وليس من طائل في التوسع ولا ضرورة. ولا يتصل بجوهر الهدف القرآني. والأولى أن يوقف منها عند ما وقف القرآن والإيمان به مع ملاحظة الهدف الذي استهدفه منها.

كذلك كانت هذه القصة وسيلة إلى الجدل والتشادّ والبحوث الكلامية والمذهبية سواء أكان فيما يتعلق بالإغواء والاختيار وتحتيم الجنة والنار على الناس منذ الأزل ، أم فيما يتعلق بتعبير يد الله وروحه الذي ورد في الآيات التي نحن بصددها وأمثالها ، أم في موضوع التفاضل بين الأنبياء والملائكة الذي لو حظ في

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٤.

(٢) المصدر نفسه.

٣٥٣

عبارة آيات البقرة [٣٠ ـ ٣٢] لأن آدم كان من الأنبياء حسب التقاليد الإسلامية. وكل هذا لا يدخل في نطاق الهدف القرآني للقصة فلا طائل من ورائه كما أن فيه تحميلا للعبارات القرآنية ما لا تتحمله.

تعليق على تعبير

(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)

وتعبير (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) في الآيات في صدد خلق آدم قد تكرر في القرآن فاستعمل في سياق خلق الإنسان الأول مطلقا في غير قصة آدم وإبليس كما جاء في آيات سورة السجدة : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)) واستعمل في سياق ذكر خلق عيسى كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)). وروح التعبير في مختلف المواضع تلهم قصد التدليل على قدرة الله وتقرير دبيب نسمة الحياة في الإنسان الأول وفي رحم أمّ المسيح بأمر الله وقدرته وإرادته. فالواجب الوقوف عند هذا الحد مع ملاحظة أن استنتاج وتقرير أي صلة حقيقية بين الله والإنسان عن طريق الروح بمفهومها الحرفي لا معنى له ، وليس مما تقتضيه أو تتحمله العبارات والتقريرات القرآنية المتنوعة ، وخاصة ضوابط الكنه الرباني في القرآن التي من أهمها جملة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) حيث يشمل هذا كل ما يتصل به وصفاته وكينونته مما لا سبيل لإدراكه بعقلنا الإنساني ومما لا تصح فيه أي مماثلة.

أما خلود الروح الإنسانية وبعث البشر بعد الموت وخلودهم في النعيم أو العذاب بعد البعث والحساب مما هو مبثوث تقريره في آيات القرآن التي مرّت أمثلة منها فلا يصح أن يجعل بينه وبين وهم كون الإنسان من روح الله تبعا للوهم الذي تثيره الجملة التي نحن في صددها أي صلة. ولا سيما إنه يرد على ذلك كون نسمة

٣٥٤

الحياة قدر مشترك ومتشابه بين أنواع الحيوان من إنسان وغير إنسان. وكل ما في الأمر أن حكمة الله تعالى قد جعلت الإنسان يمتاز على سائر الأحياء بالعقل المتكامل الذي يكون به مسؤولا عن كسبه ورتب على ذلك حكمة بعثه وحسابه وتخليده في النعيم والعذاب دون سائر الأحياء. والله تعالى أعلم.

تعليق على ما سجله الله تعالى في القرآن

من كرامة بني آدم في هذه القصة

هذا ، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)) وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)) ولعلّ من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف ، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حيث يمكن أن يقال إن هذا التطور الذي تمثّل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه.

٣٥٥

وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.

هذا ، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان (مأساة إبليس) فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم ، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله. فتمرّد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عزوجل. وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة ولكنه أصرّ على القول إنه ليس له في القرآن إلّا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس : (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً (٦٢)) وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ...) [١٠٠] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه ... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحقّ على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [٧٦ ـ ٨٥] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه

٣٥٦

لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل وإن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزّههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له. وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف إذ يجعل إبليس أشدّ حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه! ويجعله مؤمنا موحدا ضحّى بنفسه في سبيل عقيدته! رغما عن نصوص القرآن! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرّد على أمر الله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)) [الكهف] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيه فيما قلنا : «إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محلّ نقاش في هذه القصة. فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره. وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أمّ الكتاب وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلّا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ، ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه؟

٣٥٧

فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحقّ بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول إن ما سجّل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محلّه إلّا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية ، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلّا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد ويكون في ذلك في هذه الحالة تنطع وسوء أدب وذوق بالنسبة للعقائد الإسلامية برغم أنه ليس فيها ما يضير هذه العقائد.

وقد رأينا أن نسجل هذا الحديث في هذا المقام لما له من جملة بقصة آدم وإبليس ولما فيه من مواضع العبر لمن يتصدّى للجدال في العبارات القرآنية تعسفا وبدون علم ودراية فيه.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)) [٨٦ ـ ٨٨]

(١) المتكلف : الفضولي الذي يحمّل نفسه مهمة لم يحمّلها. وقال الزمخشري معنى الجملة ولست من المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله ويدعون ما ليس عندهم. وقال ابن كثير لا أبلّغ إلّا ما أمرت به بدون زيادة ولا نقص. وقال الطبري لست ممن يتكلّف تخرصه وافتراءه.

٣٥٨

الآيات متصلة بالسياق والموقف. وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بتوجيه الكلام للسامعين وبخاصة للكفار الذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآيات السابقة بتوجيه الكلام إليهم. وقد جاءت ختاما قويا للسورة واستهدفت توكيد الإنذار للكفار وتوكيد صدق الرسالة النبوية وإيذانا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو منتدب لأداء مهمة وليس مندفعا فيها بالفضول ولا متصنعا ولا زائدا ولا منقصا وليس متوخيا منها أجرا ولا منفعة ، وإن هذا الذي يبلغه عن الله هو ذكر للعالمين أجمع ولسوف يتحققون مصداقه ومداه. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته في الوقت نفسه.

التلقين المنطوي في جملة

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) وما روي في سياقها

وفي الأمر الرباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعلان بأنه ليس من المتكلفين تلقين تأديبي رفيع للمسلمين بأن لا يتصفوا بما ليس لهم علم وبأن لا يكونوا فضوليين فيما ليس فيه مصلحة وفائدة. ولقد روى الزمخشري في سياق الجملة حديثا مرفوعا رواه البيهقي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصف المتكلّف ونصّه : «للمتكلّف ثلاث علامات : ينازع من فوقه. ويتعاطى ما لا ينال. ويقول ما لا يعلم». وروى البخاري والترمذي في سياقها كذلك حديثا عن عبد الله بن مسعود جاء فيه : «يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به. ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم. قال الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١). وهذا يتساوق مع ذلك التلقين التأديبي الرفيع الذي انطوى في الجملة القرآنية.

تعليق على جملة

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري والبغوي وغيرهما من أهل التأويل

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩٨.

٣٥٩

في تأويل هذه الجملة حيث قيل إنها تعني يوم القيامة. أو عند الموت أو عند ما يغلبون في بدر وغيرها أو حين يظهر أمر الإسلام ويعلو. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أنه انطوى فيها تحد للجاحدين وإنذار لهم وبشرى ربانية بحسن مصير الدعوة الإسلامية إلى العاقبة المحمودة والنجاح التام الذي سوف يعلمون نبأه ويشهدون حقيقة. وهذه البشرى على هذا الوجه معجزة من معجزات القرآن التي تحققت بكل قوة وسطوع في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثير من السامعين ، ثم ظلت تتحقق إلى الآن وإلى ما شاء الله بمن انضوى إليها وما يزال ينضوي من المجموعات البشرية العظيمة المنتشرة في كل أطراف الدنيا على اختلاف الألوان والأجناس واللغات والمستويات والنحل والأديان.

وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) تأتي هنا للمرة الثانية حيث جاءت لأول مرة في سورة القلم بصيغة (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)) وقد علقنا على ما ينطوي في الجملة من مغزى خطير في صدد عموم الدعوة النبوية في سياق سورة القلم فنكتفي بهذه الإشارة.

٣٦٠