التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

العظة والتذكير والمثل والتدعيم كما قلنا آنفا. وهذا ما يجعلنا في الوقت نفسه نتوقف عن إيراد ما جاء في روايات المفسرين من بيانات زائدة عن ما جاء في القرآن قد لا يخلو كثير منها من غلوّ وخيال. ولا سيما ليس فيها ما هو ثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو وحده المصدر الوحيد الوثيق باستثناء حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه قصة من قصص سليمان التي لم تذكر أيضا في الآيات ولا في الأسفار حيث روي عن أبي هريرة أنه قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سليمان بن داود عليه‌السلام لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلّهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».

ولقد روى هذا الحديث المفسر البغوي بطرقه عن أبي هريرة ورواه عنه البخاري أيضا على ما ذكره الذهبي (١) وأورده البغوي والذهبي على اعتبار أن له صلة بالآيات : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)). ولسنا نرى صلة بين فحوى الحديث والآيات. ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما رواية طويلة في سياق هذه الآيات أيضا عن وهب بن منبه أحد رواة الأخبار التابعين مختلفة في الصيغ متفقة في المدى خلاصتها أن سليمان صنع لإحدى زوجاته صنما على شكل أبيها فجازاه الله على ذلك بأن جعل شيطانا اسمه صخر على صورته وكان سليمان حينما يذهب لحاجته يسلم خاتمه لخادمة له فجاء الشيطان وأخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان وأخذ يتصرف بالملك كما يشاء ويطيعه الجميع. وعاد سليمان إلى الخادمة فأنكرته وأنكره الناس ولبث منكورا مقهورا حائرا أربعين يوما حتى أدرك خطيئته وكون ما جرى له عقوبة من الله فندم واستغفر الله وذلّت نفسه فتاب الله عليه وجعل الشيطان يلقي بالخاتم في البحر ويطير والتقم الخاتم سمكة صادها صياد

__________________

(١) انظر كتاب التفسير والمفسرون ج ١ ص ١٨١.

٣٢١

واشتراها منه سليمان ولما فتحها وجد الخاتم فسجد لله شاكرا وعاد إلى ملكه. وهذا تأويل الفتنة التي فتن الله بها سليمان والجسد الذي ألقاه على كرسيه. ونعتقد أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن مصدرها اليهود. والله تعالى أعلم.

تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان

من رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عفريتا من الجنّ

ومن رؤيته إبليس أيضا

لقد روى البخاري في فصل التفسير في صحيحه في سياق فصل قصة سليمان عليه‌السلام عن أبي هريرة قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن عفريتا من الجنّ تفلّت البارحة يقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلّكم فذكرت دعوة أخي سليمان (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥] فرددته خاسئا» (١). وقد أورد ابن كثير في سياق ذلك وبعد الحديث الذي أوردناه آنفا حديثا آخر عزوا إلى صحيح مسلم ومرويا عن أبي الدرداء قال : «قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي فسمعناه يقول أعوذ بالله منك ثم قال ألعنك بلعنة الله ثلاثا ثم بسط يده كأنه يتناول شيئا فلمّا فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال إنّ عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التّامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لو لا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة». وقد أورد نصا مقاربا لهذا النص أخرجه الإمام أحمد أيضا.

ونقف حائرين أمام هذه الأحاديث. ففي سورة الأعراف هذه الآية عن الشيطان الذي جاء في سياق طويل مرادفا لإبليس : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩٧.

٣٢٢

تَرَوْنَهُمْ) [٢٧] وإبليس في الوقت نفسه من الجنّ على ما جاء في آية سورة الكهف هذه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...) [٥٠] وإلى هذا فالقرآن ذكر في موضعين خبر استماع بعض طوائف الجنّ للقرآن من لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسلوب يفيد أن النبي لم ير المستمعين ولم يشعر بهم وإنما علم الخبر من القرآن كما ترى في آية سورة الأحقاف هذه : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)) وآيات سورة الجن هذه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢)) فإذا صحّت الأحاديث فيكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استثني من آية الأعراف وأنه رأى عفريت الجنّ وإبليس بالقوة التي اختصّه الله بها والتي كان يرى بها الملائكة أيضا. والله أعلم. (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ (١) بِنُصْبٍ (٢) وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ (٣) هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤) (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً (٥) فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ (٦) إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)) [٤١ ـ ٤٤].

(١) الشيطان : هنا مرادف لإبليس ومفهومه.

(٢) نصب : شقاء أو بلاء أو مرض.

(٣) اركض برجلك : اضرب برجلك الأرض.

(٤) مغتسل بارد وشراب : ماء بارد للشرب والاغتسال.

(٥) ضغثا : حزمة من القشّ.

(٦) لا تحنث : لئلا تحنث بيمينك أو قسمك.

وهذه حلقة ثالثة من السلسلة. وهي استمرار للسياق والموضوع والهدف على ما ذكرناه سابقا. والخطاب في الآية الأولى موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما وجّه إليه في

٣٢٣

أول السلسلة. وهناك أمر له بالصبر على ما يقول الكفار وهنا أمر له بالتذكر بما وقع لأيوب وما كان منه. والخطاب يحتمل أن يتضمن أمر ذكر ذلك للمسلمين أو للسامعين وتذكيرهم به بطبيعة الحال. وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

وهذه أول مرة يرد فيها اسم أيوب عليه‌السلام. وقد تكرر وروده بعد ذلك. ومن أسفار العهد القديم سفر خاص به احتوى قصته مفصلة. وهي متفقة مع الإشارات المقتضبة الواردة عنه في الآيات القرآنية مع الفارق في الأسلوب من حيث إنها في السفر قصة وسيرة وفي الآيات لم تقصد لذاتها وإنما قصد منها العظة والعبرة والذكرى.

وملخص القصة في السفر أن أيوب كان نبيا وكان صاحب مال وافر وأنعام وأولاد وأهل ، متمتعا برفاه العيش ورغد الحياة. وكان يقوم بواجب الشكر لله على نعمه. وأن حوارا جرى بين الله والشيطان في صدده فقال هذا لله إن أيوب إنما يشكره على نعمه وإنه لن يلبث أن يجحده لو سلبها منه.

فأخذ الله يمتحنه ببلاء بعد بلاء باقتراح من الشيطان إلى أن هلك أولاده ومواشيه وأمواله بكوارث ساحقة متلاحقة ، ثم ابتلي بأمراض في جسمه وقروح في جسده. وحاول الشيطان إغواءه وتغيير قلبه وروحه فأخفق وثبت أيوب في الامتحان وظلّ متمسكا بالصبر والإنابة والخضوع لله لا يدعو إلا الله للتفريج عنه. وحينئذ شمله الله برحمته ونعمته ثانية فأنبط الله له ماء كان له في شربه والاغتسال به البرء والشفاء ، وردّ عليه ما فقده من مال ومواش وولد ، ومنحه المزيد من نعمته. ولقد كانت امرأته تقوم على خدمته بإخلاص غير أنها كانت أحيانا تظهر التذمر والتألم مما حلّ بهم من بلاء ومصائب ، فاعتبر أيوب عليه‌السلام ذلك منها تمردا على الله ، فأقسم أن يجلدها مائة جلدة إن شفاه الله. فأوحى الله إليه بأن يضربها مرة واحدة بحزمة من القش فيها مئة عود فلا يحنث بيمينه بسبب ما كان منها من إخلاص وحسن وفاء هي الأخرى.

٣٢٤

والمرجح أن قصة أيوب عليه‌السلام مما كان متداولا وغير مجهول من السامعين فاكتفت الآيات بالإشارة إليها باقتضاب متّسق معها ، لأن الهدف منها فيها هو الموعظة والتذكير والدعوة إلى التأسّي والاعتبار.

ولقد أسهب المفسرون في قصته كثيرا (١). وفيما ذكروه ما هو متطابق مع قصته في السفر ومنها الزائد الذي يمكن أن يكون مما هو متداول على هامش القصة حسب العادة ولا يبعد أن يكون مما ورد في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وقد اكتفينا بتلخيص القصة لأنها لم ترد في القرآن لذاتها.

التلقينات المنطوية في قصة أيوب عليه‌السلام

ولقد احتوت الآيات عظة وعبرة وتلقينات بليغة فيها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين في ظروف الدعوة كما فيها تلقين مستمر المدى في كل ظرف.

فإذا كان أناس من خلق الله كفروا وتكبّروا وشاقوا واعتزوا بالمال والولد فهناك عباد الله مخلصون كل الإخلاص له في حالتي قوّتهم وضعفهم وفقرهم وغناهم وصحتهم ومرضهم مثل أيوب الذي كان واسع الثروة متمتعا برغد الحياة فشكر ولم تبطره النعمة ، ولما ابتلي بالمحن الشديدة صبر ولم تسخطه النقمة فاستحقّ المزيد من منح الله وعنايته وتداركه بالفرج واليسر بعد الضيق والعسر ، وإن من واجب المسلمين التمسّك بالله والإخلاص له والشكر له في حال اليسر والصبر في حال العسر.

وفي تحلّة اليمين التي أذن الله بها لأيوب حتى لا يحنث أو يضرب زوجته المخلصة دليل على أن الله يسمح لعباده أن يتوسلوا بوسيلة مشروعة تنقذهم مما قد يواجهونه من محرجات ومشاكل ويوقعهم في الإثم والضرر والخطر. وهذه النقطة

__________________

(١) انظر تفسير الآيات وتفسير آيات سورة الأنبياء [٨٢ ـ ٨٤] في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي مثلا.

٣٢٥

الأخيرة صارت مبدأ من مبادئ القران المقررة المتكررة بأساليب مختلفة كما يفهم من آية البقرة : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)) وآيات سورة المائدة هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)) وآيات سورة التحريم هذه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)). وقد روي أنه رفع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر شاب وجد على أمة يواقعها فقال لهم اضربوه حدّه فقالوا يا رسول الله إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مئة قتلته فقال فخذوا عثكالا فيه مئة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة وخلوا سبيله (١).

تعليق على توسّع بعض الفقهاء في تأويل

تحلّة اليمين التي يسّرها الله لأيوب

ولقد توسع بعضهم في الحكمة أو الرخصة الواردة في موضوع تحلة يمين أيوب عليه‌السلام وحاولوا أن يتخذوها دليلا على ما يسمونه بالحيل الشرعية على الإطلاق ، وأخذوا يضعون الحيل الشنيعة البشعة للتحلّل من كثير من الواجبات والالتزامات الشرعية من زكاة وربا وطلاق وعتاق وزنا وأيمان موجبة للعقود وأعمال متنوعة أخرى. وهناك فصول في كتب فقهية في ذلك. وسمعنا كثيرا من

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي والقاسمي. والعثكال بمعنى العنقود والشمراخ بمعنى العود. ويطلق عادة على عنقود النخل.

٣٢٦

ذلك ورأيناه بأنفسنا يقع بفتوى بعض المشايخ ، حيث كانوا يفتون بوضع مبلغ الزكاة الواجبة في زنبيل قمح أو أرز ويعطونه لفقير ويقولون له هذا وما فيه زكاة ما لنا فيأخذه ثم ينبري ابن الغني أو أخوه أو عامله فيشتري الزنبيل بما فيه بما يوازي ثمن القمح أو الأرز. وكثير من الذين يمارسون الربا يعمدون إلى حيلة مماثلة. وأدنى إمعان وتدبّر يكفي لإبراز ما في هذا التوسع من وهن سند وضعف منطق وجرأة على الله وقرآنه وحكمته وحدوده فأيوب عليه‌السلام قد أقسم على ضرب امرأته. وكان قسمه قد وقع منه في حال اضطراب وألم وفي حق شخص مخلص بريء. والأيمان على ارتكاب الإثم والضرر غير جائزة أصلا كما تلهمه روح آيات القرآن مثل آيات سورة البقرة هذه : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) ((٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٥٥)) ، وآية سورة النور هذه : (وَلا يَأْتَلِ) (٢) (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)) وعدم تنفيذها واجب محتم. وقد أقسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اجتناب زوجاته فعاتبه الله وأمره بالتحلّل من يمينه على ما جاء في آيات سورة التحريم التي أوردناها قبل وقد أقسم بعض أصحاب رسول الله على مجانبة اللذائذ المباحة فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالتحلّل من يمينهم على ما جاء في آيات سورة المائدة التي أوردناها قبل أيضا. فالقياس لا يمكن أن يطرد إلّا في المواقف المماثلة والإطلاق فيه يعني تعطيل شرائع الله وحدوده وحكمته في هذه الشرائع والحدود. وتصوير الله في صورة المتناقض العابث جلّ عن ذلك وتعالى. هذا عدا ما في ذلك من أضرار لا تقف عند حد في مصالح الناس وصلاتهم فيما بينهم وفي سلب ثقتهم في بعضهم ومن عدوان على حقوقهم وأموالهم وأعراضهم.

__________________

(١) أي لا تحلفوا بالله لتجعلوا يمينكم ذريعة إلى عدم البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس.

(٢) أي لا يحلف الأغنياء بعدم إعطاء أموالهم إلى أناس معينين من ذوي القربى والمساكين والمهاجرين.

٣٢٧

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات التي تذكر حيلة بني إسرائيل على شريعة السبت في سورة الأعراف وهي الآيات [١٦٣ ـ ١٦٦] حديثا عن أبي هريرة وصف بأن رجاله ثقاة مشهورون وإسناده جيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل». وفي الفصل الذي عقده ابن القيم في الجزء الثالث من كتابه «أعلام الموقعين» على التنديد بالتحايل على أحكام الله أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم».

والشاهد من الحديث هو التبايع بالعينة. وقد روى ابن القيم عن ابن عباس توضيحا لذلك في رواية جاء فيها : «باع رجل من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فسأل ابن عباس عن ذلك فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة وهذا مما حرّم الله ورسوله وإن الله لا يخدع» (١). ومنها حديث رواه ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي على الناس زمان يستحلّون الربا بالبيع». وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي إسحق السبيعي عن امرأته جاء فيه : «إنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت لها أم ولد زيد إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة نسيئة واشتريته بستمائة نقدا فقالت أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله إلّا أن يتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت» (٢). وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولا مانع من صحتها. على أن هناك حديثا رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله اليهود لمّا حرّم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوها» (٣). وفي هذا

__________________

(١) نحن نعرف بالمشاهدة أن المرابين كانوا يكتبون سند الدين بأصل المبلغ ثم يكتبون فائدته بقيمة سلعة ما ويشتري تابعهم هذه السلعة بمبلغ تافه فيحتالون بذلك على أخذ الربا والمتبادر أن الرواية المروية عن ابن عباس لتوضيح التبايع بالعينة من هذا الباب.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٤ ص ١٠١.

٣٢٨

تحريم نبوي للحيل في إبطال شرائع الله تعالى.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (١) (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٢) (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)) [٤٥ ـ ٤٨].

(١) أولي الأيدي والأبصار : الأقوال متعددة في تأويل الجملة وأوجهها أنها بمعنى أولي القوة في العبادة والطاعة وأولي البصيرة في الدين والشريعة.

(٢) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار : أوجه الأقوال في تأويل الجملة أنها بمعنى إنا جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة فيهم وهي تذكرهم الدار الآخرة والعمل لها والزهد عن غيرها.

هاتان حلقتان أخريان من السلسلة. والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبعية بذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم إسماعيل واليسع وذي الكفل أنبياء الله الذين اصطفاهم ورفع أقدارهم وخصّهم ببرّه وتكريمه لما كانوا عليه من حسن الطاعة والبصيرة والعمل الصالح ، والآيات استمرار في السياق السابق وهدفها الدعوة إلى التأسّي بهم والاعتبار بما نالوه من حسن المآب والكرامة الربانية ، وهو هدف السلسلة عامة على ما نبهنا عليه.

تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات

وذكر إبراهيم عليه‌السلام ورد في سور سابقة ، أما الأسماء الأخرى فهذه هي المرة الأولى التي ترد. ثم تكررت في سور تالية. ولقد ذكر إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم‌السلام مرارا في سفر التكوين المتداول اليوم بشيء من الإسهاب. وقد ذكرنا لمحة عن إبراهيم عليه‌السلام في سورة الأعلى فنكتفي الآن بذلك لأن ذكره هنا جاء خاطفا. ومما جاء في هذا السفر عن إسحق ويعقوب وإسماعيل :

٣٢٩

١ ـ إن إسماعيل وإسحق هما من أبناء إبراهيم. وإن يعقوب هو ابن إسحق.

٢ ـ إن إسماعيل هو البكر وأمه مصرية اسمها هاجر. وإنه لما ولد غارت زوجة إبراهيم سارة وطلبت إبعاده مع أمه. وأمره وحي الله بتلبية طلبها ووعده بأنه سيجعل نسل ابنه أمة عظيمة. وأبعده إلى برية فاران حيث استقرّ وتزوج وصار له اثني عشر ولدا ونمت ذرياتهم نموا عظيما.

٣ ـ إن إسحق ولد لإبراهيم وسارة بعد شيخوختهما وببشارة ومعجزة ربانية. وكان موضع عناية الله ووعده بأن يجعل من نسله أمة كبيرة. وشاخ ومات ودفن في أرض كنعان.

٤ ـ إن يعقوب هو ابن إسحق وتؤام لأخ له اسمه عيسو الذي كان هو الأول في الولادة. وإن يعقوب اشترى بكورية أخيه بأكلة عدس واحتال على أبيه (١) حينما شاخ وعمي فقدم له نفسه باسم عيسو وحصل على بركته ودعائه بأن يجعل ذريته هي السيدة على ذرية أخيه وعلى سائر الأمم فصار موضع عناية الله وتجلّى له مرارا وسمّاه إسرائيل وصار له اثني عشر ولدا من أمهات عديدة. ونمت ذريتهم وصارت اثني عشر سبطا وانتسبوا إلى جدّهم الأكبر إسرائيل الذي صار اسما ليعقوب. ونكتفي الآن عنهم بهذه اللمحة لأنهم ذكروا هنا ذكرا خاطفا. وقد ذكروا في القرآن مرارا بتوسع أكثر وسنعود إلى ذكرهم بتوسع أكثر في المناسبات الآتية. وفي كتب التفسير (٢) روايات وبيانات مسهبة عنهم معزوة إلى العلماء من أصحاب رسول الله وتابعيهم حيث يفيد هذا أن ذكرهم كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة. وليس من مصدر لذلك إلّا الجاليات الكتابية والجاليات اليهودية بنوع خاص. أما اليسع فهو على الأرجح اليشاع أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ورد ذكره مرارا في سفر

__________________

(١) نحن ننقل ما ورد في السفر وموقفنا من أنبياء الله تعالى هو موقف المنزّه المكرّم في نطاق الأسلوب والمضمون القرآنيين.

(٢) انظر تفسير الآيات ثم تفسير آيات سورتي الأنعام والأنبياء في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي.

٣٣٠

الملوك الثاني في الطبعة البروتستانتية والرابع في الطبعة الكاثوليكية وذكر خبر نشاطه ومعجزاته المتعددة وتبليغاته لبني إسرائيل. وقد ذكر مرة أخرى في القرآن في سورة الأنعام في سلسلة الأنبياء بوصفه من ذرية إبراهيم مع إسماعيل ذكرا خاطفا كما ذكر هنا. ولم يرو عنه المفسرون فيما اطلعنا عليه شيئا كثيرا ، وعلى كل حال فإنه هو الآخر كان معروف الاسم والهوية في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة مثل الذين ذكروا في أسفار العهد القديم على ما هو المتبادر ومن طريق الجاليات اليهودية (١). وأما ذو الكفل فإن المفسرين رووا في صدده وشخصيته روايات متعددة منها أنه من أنبياء بني إسرائيل أو من رجالهم الصالحين أو أنه ملك عادل تكفل لنبيّ قومه بالعدل فسمّي ذا الكفل أو أنه شاب صالح تكفّل لنبيّ قومه بالصيام والصلاة وعدم الغضب فوفى بما تكفّل به فسمّي ذا الكفل أي ذا الحظ من ثواب الله أو ذا الثواب المضاعف لأن معنى الكفل هو الحظ أو الضعف. ومنها أن اسمه الحقيقي زكريا أو يوشع بن نون أو عدويا. ومنها أنه كان جبارا عاصيا تاب وأناب إلى الله فسمي باسمه (٢). وروى ابن كثير في صدده حديثا وصفه بالغريب رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال : «سمعت من رسول الله أكثر من مرة يقول كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورّع عن ذنب فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك هل أكرهتك؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملني عليه الحاجة ، قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ثم نزل عليها وقال اذهبي بالدنانير لك والله لا يعصي الكفل الله أبدا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل». وعلى كل حال فالذي نرجحه أن اسمه وشخصيته لم يكونا مجهولين عند سامعي القرآن وأهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة. ومن المحتمل كثيرا الذي يسوغه صيغة الاسم العربية أنه نبي عربي مثل هود وصالح وشعيب. والله أعلم.

__________________

(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

(٢) انظر المصدر نفسه.

٣٣١

تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل

بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع

إبراهيم وإسحق ويعقوب

ويلحظ أولا أن إسماعيل واليسع وذا الكفل قد ذكروا مجردين من تعبير «عبادنا» الذي استعمل في ذكر الأنبياء الآخرين. وثانيا أن إسماعيل لم يقرن بإبراهيم وإسحق ويعقوب مع أنه ابن إبراهيم مثل إسحق بل ابنه البكر كما قلنا قبل على ما ورد في سفر التكوين وقد تكرر هذا في آيات أخرى (١) مما جعل بعض الأغيار والباحثين يقولون إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرف بنوة إسماعيل لإبراهيم إلّا في العهد المدني حينما احتكّ باليهود ، فلم يذكر بنوته له إلا في الآيات المدنية. وهذا خطأ فاحش فأبوّة إبراهيم لإسماعيل وأبوّة إسماعيل للعدنانيين مما كان متداولا بل راسخا عند العرب قبل البعثة النبوية على ما هو المتواتر وعلى ما تلهمه آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة البقرة هذه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)) وهذا فضلا عن أن بنوة إسماعيل لإبراهيم قد ذكرت في آية مجمع على مكيتها وهي آية سورة إبراهيم هذه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ

__________________

(١) منها آية سورة الأنعام [٨٤] وهود [٧١] والأنبياء [٧٢] والعنكبوت [٢٧].

٣٣٢

الدُّعاءِ) (٣٩) وقد ذكرت آية أخرى أن إسماعيل من ذرية إبراهيم وهي آية سورة الأنعام هذه : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦)).

ونقول من قبيل المساجلة إن بنوّة إسماعيل لإبراهيم وبكريته مذكورتان في إصحاحات عديدة من سفر التكوين. وكان في مكة جاليات كتابية تتداول هذا السفر. وهذا يعني أن هذا الأمر لم يكن ليخفى في مكة قبل البعثة. فضلا عن أن اليهود لم يكونوا منقطعين عن مكة حيث كان منهم المقيم فيها والمتردد عليها ومنهم من آمن فيها برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ماذكرته آية سورة الأحقاف المكية هذه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)) فليس من الضروري أن يكون علم النبي بذلك قد تأخر حتى هاجر إلى المدينة.

ولعلّ قرن إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مقام واحد هنا وفي المواضع الأخرى قد قصد به الإشارة إلى كونهم هم أصل سلسلة أنبياء بني إسرائيل في حين لم يكن إسماعيل أصلا لها. ويؤيد هذا أن عيسو لم يذكر مع أنه الابن الأول لإسحق لأنه ليس أصلا لهذه السلسلة وأنه حينما اقتضت حكمة التنزيل وسياقه في مكة ذكر بنوّة إسماعيل مع بنوّة إسحق لإبراهيم ذكر ذلك كما جاء في آية سورة إبراهيم المكية الآنفة الذكر وقدم فيها إسماعيل لأنه البكر. أما مسألة ورود إسماعيل واليسع وذي الكفل بدون عبارة «عبادنا» دون الأنبياء السابقين فإن حكمة ذلك خافية علينا. مع التنبيه إلى أننا لا نرى في هذا المقام قرينة مؤيدة لقصد دلالة التفضيل. ولعلّ عطف الآية [٤٨] على ما سبقها ينطوي فيه معنى العطف على وصف عبادنا أيضا. والله أعلم.

٣٣٣

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ (١) أَتْرابٌ (٢) (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٣) (٥٤)) [٤٩ ـ ٥٤].

(١) قاصرات الطرف : الطرف بمعنى العين والبصر. وقد يكون معنى الجملة غاضّات الأبصار حياء وخفرا. ومما قيل في تأويلها إنهن قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجهن.

(٢) أتراب : جمع ترب. بمعنى متساو أو رفيق. وقيل إنها بمعنى متساوين في السنّ مع سنّ أزواجهن.

(٣) نفاد : انتهاء وجملة (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) بمعنى أنه لا ينقطع ولا ينتهي. الآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه. حيث احتوت تنبيها إلى أن ما تقدم ذكره هو للتذكير والاعتبار. ثم احتوت بشرى بما للمتقين في الآخرة من حسن المنزل والنعيم والفواكه والأتربة التي لا تنفد والنساء الخفرات اللائقات بهم الملازمات لهم المساويات في السنّ لهم في جنات عدن التي يأتي شرح مداها بعد قليل.

ومع ما احتوته الآيات من حقيقة نعيم الآخرة الإيمانية فإنها استهدفت فيما استهدفته على ما تلهمه روحها ومضمونها تطمين الصالحين المتقين وإثارة الرغبات فيما عند الله بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والدعوة إلى التأسي بعباد الله المخلصين الشاكرين الصابرين في كل حالاتهم.

تعليق على (جَنَّاتِ عَدْنٍ)

وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إنها وردت مرارا في آيات مكية ومدنية. وقد قيل إن عدن مصدر عدن بمعنى أقام إقامة دائمة. وتكون الجملة

٣٣٤

حينئذ بمعنى جنات الخلود. وقيل إنها علم على نوع خاص من الجنات الأخروية. وقيل إن عدن بمعنى الكرم والبستان في السريانية. وقيل إنها بمعنى وسط الجنة. وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الأحاديث الصحيحة وليس هناك مأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها. وقد ذكرت (عدن) مرتين في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداول اليوم. حيث جاء ذكرها في هذه العبارة : (وغرس الربّ الإله جنة عدن شرقا وجعل هناك الإنسان الذي جبله) الإصحاح (٢). وفي هذه العبارة من نفس الإصحاح أيضا : (وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها وأمر الربّ الإله الإنسان قائلا من جميع شجر الجنة تأكل وأما شجرة معرفة الخير والشر فإنك لا تأكل منها. إنك يوم تأكل منها تموت موتا) والعبارة تقتضي أن تكون الكلمة علما على بقعة ما في الكون أو الأرض. ولقد عرف من آثار السبئيين النقشية في اليمن الذين وجدوا وحكموا قبل المسيح بأكثر من ألف سنة وامتدّ زمنهم إلى الميلاد المسيحي أنه كان في جنوب اليمن منطقة اسمها (أدنت) كان فيها نتيجة لنظام الريّ الذي اهتمّ له السبئيون وكان من مظاهره خزانات أو سدود كثيرة للماء من جملتها سدّ مأرب العظيم بساتين وارفة وحقول فيحاء (١). ومعلوم أنه يوجد اليوم منطقة ومدينة باسم عدن في أقصى الساحل اليمني الجنوبي الغربي يمتد إلى آماد بعيدة في التاريخ ولا يبعد أن تكون منطقة (أدنت) هي هذه المنطقة. وأن كلمة عدن الفصحى التي تطلق عليها اليوم متطورة من كلمة أدنت والتقارب اللفظي شديد بينهما. هذا مع التنبيه على أن فحوى الآيات القرآنية التي وردت فيها يفيد أن المقصود من الكلمة جنة أو جنات أخروية. ومن المحتمل كثيرا أن تكون أوصاف جنات منطقة أدنت اليمنية مشهورة متداولة عند العرب قبل البعثة فاقتضت حكمة الله تعالى تسمية جنات الآخرة أو بعضها باسمها جريا على النظم القرآني في وصف مشاهد الآخرة بالمألوفات الدنيوية على ما ذكرناه قبل وتبشير المؤمنين الصالحين بذلك للترغيب والتطمين. والإيمان واجب على كل حال بما ورد في القرآن وبكونه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٢ ص ١٣٠.

٣٣٥

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (١) (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ (٢) وَغَسَّاقٌ (٣) (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٤) (٥٨)) [٥٥ ـ ٥٨].

(١) المهاد : ما يفرش تحت الإنسان.

(٢) حميم : الماء الشديد الحرارة.

(٣) غساق : الصديد النتن ، وقيل إنه الشديد الظلمة ، وقيل الشديد البرودة.

وقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنّ دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» حيث يؤيد هذا المعنى الأول للكلمة.

(٤) أزواج : أصناف ، والآية (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) بمعنى أنواع أخرى من مثل أشكال هذا العذاب.

والآيات استطرادية إلى ذكر مآل الطاغين بالمقابلة لمآل المتقين على ما جرى عليه النظم القرآني. وهي بذلك متصلة بالسياق على ما هو المتبادر.

والوصف فيها قوي رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الطغاة الجاحدين ليرعووا والرغبة في قلوب الصالحين المتقين. وهي على هذا مستمرة التلقين كما هو الظاهر. والوصف مستمد من مشاهد الحياة للتقريب والتمثيل والتأثير على ما ذكرناه من المناسبات المماثلة السابقة.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ (١) مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٢) (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا (٣) أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٤) (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)) [٥٩ ـ ٦٤].

(١) الاقتحام : الاجتياز بقوة ، أو الدخول بشدة وقوة.

٣٣٦

(٢) ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدّهم من الأشرار : الآية تلهم أن معنى الأشرار فيها سقط المتاع أو المستضعفون ، أو الضالون ، وهو ما كان الكفار ينعتون به المؤمنين بالرسالة النبوية الذين كان كثير منهم في مبادئ الدعوة من الفقراء والمستضعفين.

(٣) أتخذناهم سخريا : قرئت أتخذناهم على أنها استفهام من الكفار وقرئت على أنها إخبار. وقرئت سخريا بكسر السين على معنى السخرية وبضمّ السين على معنى التسخير وكلا المعنيين لكلمة سخريا محتمل ووجيه. أما اتخذناهم فإن قراءتها على الإخبار أكثر اتساقا مع السياق ، وكلمة سخريا قرينة على ذلك حيث تكون الجملة تتمة لكلام الكفار ، ما لنا لا نرى الجماعات الذين كنا نعدهم من الأشرار وكنا نتخذهم سخريا أو خدما مسخّرين لخدمتنا.

(٤) أم زاغت عنهم الأبصار : هل لم نرهم معنا لأن أبصارنا زاغت عنهم؟. الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيء الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى (١). وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا.

والآيتان [٦٢ ـ ٦٣] احتوتا حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخّرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار ـ وخاصة زعماءهم ـ وتعاظمهم على المؤمنين لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء

__________________

(١) آيات سورة الأعراف [٣٨ ـ ٣٩] وسورة إبراهيم [٢١] وسورة سبأ [٣١ ـ ٣٣] مثلا.

لاجز الثاني من التفسير الحديث* ٢٢

٣٣٧

والمستضعفين وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آيات سورة الأنعام هذه : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) (١) (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)) وآيات سورة الكهف هذه : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)) ومثل آية سورة البقرة هذه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)) ومثل آيات سورة المطففين هذه : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)).

ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء ، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان.

ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) يقولون ذلك القول بأسلوب الهازئ المتنقص.

٣٣٨

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى (١) إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٢) (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)) [٦٥ ـ ٧٠].

(١) الملأ الأعلى : كناية عن الله وملائكته على ما يلهمه سياق الآيات التالية لها.

(٢) يختصمون : يتجادلون ويتحاورون.

في هذه الآيات أمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيذان الناس بأنه ليس إلا نذيرا يحذر الناس من شرّ المصير إذا تمسكوا بالضلال ، وينبههم إلى ما فيه خيرهم وهداهم ، ويدعوهم إلى الإقرار بأن لا إله إلّا الله ربّ السموات والأرض وما بينهما القوي القادر القهار الغفار. وبالهتاف بالناس وتنبيههم إلى خطورة مهمته ودعوته وشدّة خطلهم بالإعراض عنها ، مقررا بأمر الله بأنه لم يكن له علم بما في الملأ الأعلى وما يكون بين يدي الله من جدل ومحاورات وخصومات ، وكل أمره هو أن الله يوحي إليه بذلك لينذر الناس به. فيقوم بتبليغ ما يوحي الله به إليه.

ولقد قال بعض المفسرين (١) إن الآية [٦٩] هي في صدد ما كان من أمر تكليف الله الملائكة بالسجود لآدم وتمرد إبليس مما هو مذكور في الآيات التالية لها. ومع أن هذا ليس بعيد الاحتمال وتكون الآية المذكورة وما بعدها حينئذ تمهيدا لذكر تلك القصة فإننا لا نراه يقلّل من وجاهة التأويل الذي ذهبنا إليه ، ولا سيما قد استعملت كلمة من مصدرها قبل وهي (تخاصم) أهل النار.

تعليق على ما في آيات (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ...)

وما بعدها من دلالة ومدى

والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وهي والحال هذه متصلة بالسياق ، حيث جاءت على أثر بيان مصائر المتقين والطاغين داعية منذرة ، مبينة

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري والزمخشري وابن كثير مثلا.

٣٣٩

لمهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخطورتها العظيمة. وفيها صورة قوية للمقصد الرباني في إرسال الرسل. وفيها تنديد قوي لأولئك الذين يعرضون عما يدعون إليه من توحيد الله سبحانه والخضوع له ونبذ كل شريك معه. وفيها توكيد لما تكرر في القرآن من أن مهمة النبي هي الإنذار والدعوة وتبليغ ما يوحى إليه.

ولعلّه مما يندمج في هذا أن للناس عقولا وقابليات وقوى اختيارية ، لا يحتاجون معها في واقع الأمر إلّا إلى الدعوة والتنبيه والتوضيح والتحديد. فإن لم يستجيبوا بعد ذلك فلا يبقى على الله للناس حجة بعد الرسل الذين أنيط بهم ذلك ، على اعتبار أن العقل مهما بلغ يظلّ عاجزا عن الوصول إلى معرفة كل واجب وتبين كل حد من واجبات الله وحدوده ، ويظلّ هناك بعض الغوامض فيما يجب وما لا يجب ، وما يجوز وما لا يجوز.

والآيات بعد تنطوي على صورة رائعة نافذة لخلوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغراقه في الله ووحيه وعمق إيمانه وشعوره بصدق رسالته ، ونزول وحي الله عليه وإعلان ما أمره الله بإعلانه من ذلك.

استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ)

لقد روى الترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : «احتبس عنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نترايا عين الشمس فخرج سريعا فثوّب بالصلاة فصلّى وتجوّز في صلاته فلمّا سلّم دعا بصوته قال لنا على مصافّكم كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال أما إنّي سأحدّثكم ما حبسني عنكم الغداة. إني قمت من الليل فتوضّأت وصلّيت ما قدّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربّي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبّيك ربّ قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثا فرأيته وضع كفّه بين

٣٤٠