التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) [١٧٧]. وقد جعل الله في الزكاة نصيبا لعتق الرقاب كذلك كما جاء في آية سورة التوبة هذه : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [٦٠] وآية سورة محمد هذه : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [٤] تكاد تكون منطوية على إلغاء الأسر حيث تأمر بإطلاق سراح الأسرى بالفداء أو بالمنّ بدون فداء. وإذا كان هناك مأثورات نبوية تجيز استرقاق الأسرى وقتلهم فالمستفاد منها أن النبي فعل ذلك في ظروف خاصة وكان أكثر ما فعل الطريقتين القرآنيتين على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن الوسائل التي جعلتها الشريعة الإسلامية وسيلة إلى تحرير الرقاب ولادة الأمة من سيدها فإنها تسمى أم ولد وتصبح معتقة بعد وفاة سيدها ولا يصح عليها بيع ولا هبة. وقد روى أحمد وابن ماجه حديثا في ذلك جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّما امرأة ولدت من سيّدها فهي معتقة عن دبر منه» (١). وكذلك العبد الذي يعلن سيده عتقه بعد موته فيسمى المدبر ولا يصح عليه بيع ولا هبة ويكون معتقا حال وفاة سيده على ما ذكره الفقهاء استنادا إلى الآثار (٢).

وهناك أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على عتق الرقاب. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّما رجل أعتق

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٥٠.

(٢) هناك حديث رواه الخمسة فيه حادث يدل على أن هذه الوسيلة مما كان جاريا ومأذونا به جاء فيه : «إن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها له ثم قال النبي في رواية أبي داود إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فيها فضل فعلى عياله فإن كان فيها فضل فعلى ذي قرابته». ص ٢٤٩ وما فعله النبي ليس منعا وإنما كان مراعاة لحالة مالك الغلام فإن النبي لا يمكن أن يمنع هذه المكرمة التي حضّ عليها القرآن وحضّ عليها هو في أحاديث كثيرة كما هو آت.

٢٦١

امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» (١). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي ذرّ جاء فيه : «أنّ أبا ذرّ سأل النبي أي الرقاب أفضل فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» (٢). وحديث رواه أبو داود والترمذي أن رسول الله قال : «أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإنّ الله جاعل وقاء كلّ عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار وأيّما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإنّ الله جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار» (٣). وحديث رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع قال : «أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال أعتقوا عنه يعتق الله بكلّ عضو منه عضوا من النار» (٤). وحديث رواه الإمام أحمد عن البرّاء بن عازب قال : «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة وفكّ الرقبة. فقال يا رسول الله أو ليستا واحدة؟ قال : لا. إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة أن تعين في عتقها» (٥). وحديث رواه الطبري بطرقه عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار» (٦). حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الأمر في كلّ شأن.

وهناك إلى هذا أحاديث نبوية عديدة توجب إحسان معاملة الأرقاء طالما احتفظوا بصفتهم من ذلك حديث رواه مسلم عن عبادة بن الوليد قال : «خرجت أنا وأبي فلقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه غلام وعلى أبي اليسر بردة ومعافريّ وعلى غلامه بردة ومعافريّ فقلت له يا عمّي لو أنك أخذت بردة غلامك

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٤٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

٢٦٢

وأعطيته معافريّك وأخذت معافريّه وأعطيته بردتك فكان عليك حلّة وعليه حلّة (١). فمسح رأسي وقال : اللهمّ بارك فيه يا ابن أخي بصر عيناي هاتان وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي هذا وأشار إلى مناط قلبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون عليّ من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة» (٢). وحديث رواه الترمذي عن أبي مسعود قال : «كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود مرّتين لله أقدر عليك منك عليه. فالتفتّ فإذا هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله هو حرّ لوجه الله. قال : أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار» (٣). وحديث رواه الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت ، فأعاد الكلام فصمت ، فلما كان في الثالثة قال : في كلّ يوم سبعين مرّة» (٤). وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي ذرّ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق الله» (٥). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لطم مملوكه أو ضربه فكفّارته أن يعتقه» (٦). حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر أيضا. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في الموضوعين غير واردة في الكتب الخمسة فاكتفينا بما أوردناه نقلا عن هذه الكتب.

__________________

(١) المعافري ثوب أو رداء يصنع في مكان في اليمن اسمه معافر أو اسم صانعيه قبيلة معافر وكانت صنعته مشهورة بالجودة. ويظهر من العبارة أن كلا من السيد والغلام كانا يلبسان رداء ومعافريا غير متشاكلين فاقترح على السيد أن يتشاكل اللباس.

(٢) التاج ج ٥ ص ١٠ ـ ١٢.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) ج ٢ ص ٢٥٢.

٢٦٣

وورود الحثّ على فكّ الرقاب في سورة مبكرة في النزول بالأسلوب القوي الذي جاء في الآيات التي نحن بصددها يدلّ على أن الدعوة الإسلامية قد استهدفت منذ بدئها معالجة أمر الرقيق الذي كان موجودا واقعا على خير الوجوه وهو العتق والتحرير ؛ مما هو متسق مع أهداف هذه الدعوة من الخير والحق والعدل والفضائل الأخلاقية والاجتماعية والتسوية بين الناس والقضاء على الاستعلاء الطبقي والعنصري التي تضمنتها الآيات القرآنية منذ بدء التنزيل وفي مختلف أدواره.

تعليق على إعطاء الناس يوم القيامة

كتب أعمالهم باليمين والشمال

وعلى صحة تفسير (أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) بالذين يعطون كتب أعمالهم في الآخرة بيمينهم أو شمالهم نقول إن هذا الموضوع قد ورد في آيات عديدة بصيغ أصرح فجاء في سورة الإسراء : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) وفي سورة الحاقة : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢)) وفي سورة الانشقاق : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢)).

وهناك حديث يرويه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «يعرض

٢٦٤

الناس يوم القيامة ثلاث عرضات. فأمّا عرضتان فجدال ومعاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» (١). وحديث أورده ابن كثير في سياق تفسير آيات الإسراء المارّ ذكرها وأخرجه الحافظ البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس ما يمنع نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يرد في الكتب الخمسة جاء فيه : «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ويبيّض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة تتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهمّ آتنا بهذا وبارك لنا فيه فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه ويمدّ له في جسمه ويراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا اللهمّ لا تأتنا به. فيأتيهم فيقولون اللهمّ أخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكلّ رجل منكم مثل هذا».

وما دام ورد هذا في القرآن بصراحة فيجب الإيمان به ، وهو متصل بما اقتضته حكمة الله أن تكون عليه المشاهد الأخروية من مألوفات الدنيا على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ولعلّ من حكمة وروده بالأسلوب الذي جاء به التبشير والترغيب والترهيب والتحذير. وفي الأحاديث التي أوردناها ما يدعم ذلك والله تعالى أعلم.

ولقد كان العرب على ما روته روايات كثيرة يتشاءمون من الطير الذي يمرّ من جانب شمالهم إذا ما اعتزموا رحلة أو أمرا ويسمونه بالبارح ويلغون أو يترددون في تنفيذ ما اعتزموا عليه وإنهم كانوا يتفاءلون بالطير الذي يمر من جانب يمينهم ويسمونه بالسانح ويمضون في تنفيذ ما اعتزموا عليه برغبة وشوق. ولقد روى مسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» (٢). وروى الأربعة عن عمر بن أبي سلمة قال : «كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٤١.

(٢) التاج ج ٣ ص ١٠٦ و ١٠٨.

٢٦٥

الصحفة فقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا غلام سمّ الله وكل بيمينك مما يليك فما زالت تلك طعمتي بعد» (١). فلعل إعطاء الكفار المجرمين كتبهم بشمالهم كعلامة على الشؤم الذي ألمّ بهم وإعطاء المؤمنين كتبهم بيمينهم كعلامة على اليمن الذي ألمّ بهم متصل بهذه الصورة الدنيوية اتساقا مع حكمة الله التي نوّهنا بها. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٠٦ ـ ١٠٨.

٢٦٦

سورة الطارق

في السورة توكيد للبعث وتدليل عليه بقدرة الله على خلق الإنسان للمرة الأولى. وإنذار للسامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم. ووعيد للكفار وتطمين للنبي عليه‌السلام. وأسلوبها عامّ مطلق.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)) [١ الى ١٠]

(١) الطارق : الذي يجيء ليلا.

(٢) الثاقب : الخارق أو النافذ أو المتوهج الضياء. والنجم الثاقب هو النجم الذي يخرق بضوئه الظلمات. والجملة بدل بياني للطارق. وقال بعض المفسرين إنه زحل وبعضهم إنه الثريا وبعضهم إنه الشهاب المنقض.

(٣) لما : قرئت بالتخفيف وبالتشديد. وفي حالة التخفيف تكون جملة (لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) بمعنى لعليها حافظ وفي حالة التشديد تكون بمعنى إلا وقد تكرر ورودها في القرآن بالمعنى الأخير.

(٤) الصلب والترائب : قال بعض المفسرين إنها مخرج ماء الرجل والمرأة الجنسي وإن الصلب للرجل والترائب للمرأة ، وقالوا إن الصلب والترائب للرجل فقط وإن الترائب هي التي أسفل الصلب وتعددت الأقوال في مكان الصلب

٢٦٧

والترائب في جسم الإنسان فقيل إن الصلب هو الظهر والترائب هي الصدر وقيل إن الترائب ما بين المنكبين والصدر ، وقيل إنها أسفل من التراقي وقيل إنها فوق الثديين بل وقيل إنها أطراف الرجل يداه ورجلاه وعيناه ومنخزه ... والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا يعرفون معنى الكلمات ومواضعها من الجسم وهي على كل حال تعني مخرج الماء الجنسي الذي يتكوّن منه الجنين.

(٥) تبلى : تختبر وتظهر وتنكشف.

(٦) السرائر : جمع سريرة وهي طوية الإنسان.

في الآيات الأربع الأولى قسم بالسماء والنجم الثاقب الطارق بالليل ذي الخطورة بين النجوم بأن كل نفس عليها رقيب وحافظ يحصيان عملها ويرقبانه.

وفي الآيات الأربع التالية تدليل على قدرة الله تعالى على بعث الإنسان لمحاسبته على عمله. فالله الذي خلقه من ماء يندفق من بين الصلب والترائب قادر على إعادة خلقه. وجملة (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) قد تفيد أن ما ذكر مما كان يعرفه السامعون ويتصورونه. وبذلك تستحكم الحجة عليهم. أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا خبر ما يكون من أمر الإنسان يوم البعث. ففي ذلك اليوم تظهر أعمال الناس وتنكشف سرائرهم ويواجهون الله عزوجل منفردين لا قوة تدفع عنهم ولا ناصر ينصرهم.

وقد انطوى في الآيتين الأخيرتين أن الناس ليس لهم في الآخرة إلّا أعمالهم المحصاة فمن كانت أعماله صالحة نجا ومن كانت أعماله سيئة هلك. وقد تضمنتا نتيجة لذلك إنذارا للسامعين ليتقوا هول ذلك اليوم بالاستجابة إلى دعوة الله والإيمان به وعمل الأعمال الصالحة واجتناب الأعمال السيئة.

ولقد تعددت الأقوال في المقصود من كلمة (حافِظٌ) فقيل إنه الله عزوجل الذي هو الرقيب على كل نفس المحصي عليها عملها وأوردوا للتدليل على ذلك آية سورة الأحزاب هذه : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)) (١) وقيل إنه الملك

__________________

(١) تفسير القاسمي.

٢٦٨

الموكل بإحصاء أعمال الناس (١). وقيل إنه حافظ يحرس الناس من الآفات وأوردوا للتدليل على ذلك آية سورة الرعد هذه : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (٢) [١١] والقول الأخير غريب فيما هو المتبادر. وروح السياق يلهم أن المقصود هو إيذان السامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم لمحاسبتهم عليها في الآخرة.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)) [١١ الى ١٧]

(١) ذات الرجع : ذات السحاب الممطر أو ذات المطر لأنه يرجع مرة بعد مرة أو ترجع بالرزق كل عام.

(٢) ذات الصدع : التي تتصدع أي تتشقق عن النبات.

(٣) قول فصل : قول جدّ.

(٤) يكيدون كيدا : الكيد هو تدبير السوء والعداء.

(٥) مهل : في الكلمة معنى الإنذار أي اطلب منهم الانتظار ليروا مصداق الوعيد.

(٦) أمهلهم : اتركهم لأجل ما أو لمهلة ما.

(٧) رويدا : زمنا قليلا.

وفي هذه الآيات قسم آخر بتوكيد صحة ما يسمعه الناس من نذر قرآنية وجدّها وبعدها عن الهزل والعبث وإشارة إلى مواقف الكيد والمناوأة التي يقفها الكفار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعطيل والأذى والإعراض ، وتوكيد بأن الله عزوجل

__________________

(١) الطبري.

(٢) ابن كثير.

٢٦٩

سيقابلهم على كيدهم بكيد أيضا وأمر للنبي عليه‌السلام بأن يتوعدهم وينذرهم وينتظر قليلا فلن يلبث أن يرى هو ويروا هم تحقيق الوعد ومصداق الإنذار.

والمتبادر أن القصد من كيد الله هو انتقامه وعذابه. وأن استعمال الكلمة هو من قبيل مقابلة الشيء بمثله. وهو استعمال أسلوبي مألوف. وقد تكرر في القرآن.

وفي الآيات إشارة إلى مواقف الكفار الكيدية بوجه عام وإنذار لهم وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت له. وهي غير منفصلة عن الشطر الأول من السورة حيث يبدو بينهما ترابط وانسجام.

ولقد قال المفسرون إن الأمر بالتمهيل قد نسخ بآيات القتال والسيف. وقد علقنا على مثل هذا التعبير في مناسبات سابقة. والقول يصدق هنا بالنسبة لمن ظلّ على كفره ومواقفه العدائية والعدوانية كما قلنا قبل.

٢٧٠

سورة القمر

في السورة إشارة إلى آية انشقاق القمر وحملة على الكفار لمكابرتهم وتكذيبهم لآيات الله. وتذكير لهم بأمثالهم المكذبين السابقين. والسورة ذات خصوصية فنية نثرية. وفصولها مترابطة تامة الانسجام والتوازن. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٤٤ ـ ٤٦] مدنيات وانسجامها التام مع الآيات الأخرى يسوغ التوقف في صحة الرواية.

ولقد روى بعض المفسرين ومنهم ابن كثير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن الآية [٤٦] نزلت وهي جارية تلعب وقد يكون في هذا قرينة مؤيدة لنزولها في مكة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥)) [١ ـ ٥]

(١) آية : علامة أو بينة أو معجزة.

(٢) مستمر : إما من الاستمرار ، وتكون الجملة في معنى أنه مظهر من مظاهر السحر المتكررة المستمرة. وإما من المرور بمعنى الذهاب والانقضاء ، فتكون الجملة في معنى أنه مظهر سحري لا يلبث أن يمر وينقضي وكلا الاحتمالين

٢٧١

وجيه. وبعض المفسرين قالوا بالإضافة إلى هذا : إن المعنى كلام قوي شديد.

(٣) وكل أمر مستقر : الجملة إنذارية بمعنى أن لكل أمر مصيرا يستقر عنده. وهذا ما يكون من شأن المكذبين. وبعض المفسرين أضاف إلى هذا قولا آخر وهو أن كل شيء سوف يستقر ويثبت سواء كان حقا أو باطلا ، وخيرا أو شرا. فهم يقولون إنه سحر ويكذبونه وسوف تظهر الحقيقة وتستقر ...

(٤) مزدجر : فيه ما يحمل على الازدجار أي الكف عن المناوأة والتكذيب.

(٥) حكمة بالغة فما تغني النذر : هناك من حمل «فما» على النفي فيكون معنى الآية أن النذر والآيات لا تغني إذا لم يزدجر المكذبون بما جاءهم من الأنباء والهدى والحكمة في القرآن. وهناك من حملها على الاستفهام فيكون معنى الآية تقريعيا وتساؤلا عما تغني عنه الآيات والنذر إذا لم يزدجر الناس بما جاءهم في القرآن من الأنباء والهدى والحكمة البالغة. ومعظم المفسرين يجعلون جملة (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بدلا بيانيا من مزدجر (١). والحكمة هنا هي حكمة الله تعالى. وهي كل ما فيه الهدى والحق والإحكام.

في الآيات إيذان إنذاري باقتراب الساعة وقيام القيامة وانشقاق القمر. وتنديد بالكافرين المكذبين الذين إذا رأوا آية من آيات الله أنكروها وقالوا إنها سحر مألوف مستمر. وتقرير للواقع من أمرهم حيث كذبوا الرسول وما جاء به اتباعا للأهواء وإعراضا عن الحق عمدا. وإنذار بأن لكل أمر مستقرا ومصيرا حيث يظهر الحق من الباطل والهدى من الضلال ويستقر. وتقريع لهم على عدم ارعوائهم بينما جاءهم في القرآن من أنباء الأولين ومصائر المكذبين ومن أعلام الهدى والحق ما فيه العبرة التي تحمل على الازدجار والارعواء ، وما فيه الحكمة البالغة المقنعة لمن يريد أن يقنع وينجو من المصير الرهيب ، فإذا هم لم يزدجروا بذلك فلا تزجرهم الآيات والنذر.

__________________

(١) انظر معاني الكلمات في تفسير الطبري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والبغوي.

٢٧٢

وتعبير (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) في معنى توكيد اقترابها. واستعملت صيغة الماضي على سبيل التوكيد ، وقد تكرر ذلك في القرآن مثل ما جاء في آية سورة النحل هذه : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)) وفي آية سورة الأنبياء هذه (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)).

تعليق على انشقاق القمر

أما انشقاق القمر المذكور بصيغة الماضي فقد قيل فيه قولان : أحدهما وقوع الانشقاق فعلا كمعجزة أظهرها الله عزوجل على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجابة لتحدي الكفار ، وثانيهما توكيد وقوع الانشقاق عند قيام الساعة كعلامة من علاماتها أو أثر من آثارها.

ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة متنوعة الرتب والأسانيد (١) ، ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تفيد أن الانشقاق وقع فعلا بناء على تحدّي الكفار وأن آيات السورة الأولى نزلت لأن الكفار أصروا على كفرهم وقالوا إن محمدا سحر القمر أو سحر أعين الناس. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس بن مالك قال : «سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فانشقّ القمر بمكة فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) وحديث رواه كذلك الشيخان والترمذي عن عبد الله قال : «بينما نحن مع رسول الله بمنى انشقّ القمر فلقتين فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشهدوا» (٣). وللترمذي «انشقّ القمر على عهد النبي حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقالوا سحرنا محمد فقال بعضهم إن كان سحرنا لا يستطيع

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والنسفي والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي.

(٢) التاج ج ٤ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٣) المصدر نفسه.

٢٧٣

أن يسحر الناس كلّهم» (١). وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس فيه زيادة عن ما رواه الشيخان والترمذي حيث جاء فيه : «سأل أهل مكة النبيّ آية فانشقّ القمر بمكة مرتين فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٢). وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله قال : «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر» (٣). وحديث رواه البيهقي عن عبد الله قال : «انشقّ القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة. انظروا السّفّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال فسئل السفار قال : وقدموا من كل وجهة ، فقالوا رأيناه» (٤). وحديث رواه الطبراني عن ابن عباس قال : «كسف القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا سحر القمر فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إلى قوله (مُسْتَمِرٌّ) (٥).

ومع أن هناك كما قلنا قبل من قال إن جملة (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إنما عنت أنه سوف ينشق (٦). فإن جمهور المفسرين وأهل السنّة يأخذون بالأحاديث الواردة وبظاهر الآية ويقررون أن الانشقاق وقع فعلا كمعجزة نبوية بناء على طلب المشركين. ومنهم من نسب إنكار ذلك إلى أهل البدع والأهواء. وهناك من قال إن هذا لو وقع لكان متواترا وعرفه أهل الأرض كلهم ولم يختصّ أهل مكة برؤيته. وقد فنّد المثبتون هذه الأقوال بحجج وأقوال متنوعة. ولقد قال بعض أهل السنّة

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٢) النصوص من ابن كثير. وهناك صيغ أخرى لهذه الأخبار فيها بعض الزيادة والنقص فاكتفينا بما نقلناه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) روى المفسر الطبرسي هذا القول عن الحسن وعثمان بن عطاء عن أبيه وهما من علماء التابعين.

٢٧٤

والحديث إن هذا الحادث متواتر غير أن هناك من العلماء من ردّ على ذلك وقال إنه لم يتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا القرآن (١).

والحق إن الآية الثانية قوية التأييد لما عليه هذا الجمهور. لأنها من الصعب أن تصرف إلى معنى آخر. وهذا فضلا عن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح وبخاصة إن بينها حديثا صحيحا مرويا عن شاهد عيان هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومع ذلك فإنه يلحظ أولا أن السور التي سبقت هذه السورة لم تحتو إلّا مرة واحدة احتمالا بوقوع تحدّ من المشركين وهو ما تضمنته آية سورة المدثر هذه : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)) واكتفت بالإعلان بأن القرآن أو الدعوة تذكرة فمن شاء ذكره كما جاء في سورة المدثر بعد هذه الآية : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥)) دون الاستجابة إلى تحديهم. وثانيا أن السور التي نزلت بعد سورة القمر لم تشر صراحة ولا ضمنا إلى حادث انشقاق القمر كمعجزة جوابا على تحدّي المشركين على عظيم خطورته وعلى كثرة تحدّي المشركين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانوا كلما تحدّوه بالإتيان بمعجزة أو آية ردّ عليهم القرآن بأن الآيات عند الله وأن النبي بشر يتبع ما يوحى إليه. وأن القرآن هو المعجزة البالغة ويقف عند ذلك ، وبأنهم لن يؤمنوا بأية آية لأن طلبهم هو من قبيل التعجيز والسخرية والتعنّت وليس فيه إخلاص وحسن نية ورغبة صادقة في الاقتناع مما أوردنا نصوصه وعلقنا عليه في سياق سورة المدثر تعليقا يغني عن التكرار. وثالثا إن حكمة التنزيل حينما اقتضت أن يعلل عدم الاستجابة إلى تحدي المشركين لم يذكروا بموقفهم من معجزة انشقاق القمر وذكروا بمواقف الأمم السابقة المكذبة لمعجزات أنبيائهم وبخاصة بموقف قوم ثمود من معجزة الناقة التي أتى بها إليهم نبيهم كما جاء في آية سورة الإسراء هذه التي هي ذات خطورة عظيمة في صدد توكيد عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار المتكرر في الوقت نفسه : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والخازن والقاسمي.

٢٧٥

نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (٥٩)) مع أن المتبادر أن التذكير بموقفهم من معجزة انشقاق القمر يكون أقوى وأشد إفحاما. ورابعا إن رواة أحاديث الانشقاق باستثناء عبد الله بن مسعود هم من أبناء العهد المدني. ويكون حديث ابن مسعود حديث آحاد.

وكل هذه الملاحظات قد تبرر الميل إلى الأخذ بتأويل من أوّل عبارة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) بأنها في صدد المستقبل أو عند قيام القيامة حيث تتبدل نواميس الكون على ما ذكرته آيات عديدة مرّت أمثلة منها في المناسبات السابقة ومن ذلك في صدد القمر في سورة القيامة : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)).

وقد يدعم هذا الحديث النبوي الصحيح الذي أوردناه في سياق تعليقنا في سورة المدثر وهو : «ما من نبيّ إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ» والذي ينطوي فيه تقرير اقتضاء حكمة الله تعالى أن لا يظهر على يد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة خارقة اكتفاء بالوحي الرباني الذي فيه الهدى والبينات والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

ومع كل ذلك تظل الآية (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) التي جاءت عقب آية (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قوية الدلالة ويصعب صرفها إلى معنى آخر كما قلنا. وتظل صحة الأحاديث الواردة في حدوث المعجزة واردة. وللتوفيق بين الأمرين قد يمكن أن يقال إن حكمة الله اقتضت أن يظهر هذه الآية في أول العهد المكي فلما كذّبها الكفار وقالوا إنها سحر اقتضت حكمة الله أن يكون ذلك الموقف السلبي المنطوي في الآيات التي نزلت بعد هذه السورة. والله تعالى أعلم.

وننبّه على نقطة هامة وهي أننا لا نعني أن هذا التأويل يمكن أن يكون في معنى تقرير استحالة انشقاق القمر كمعجزة ربانية ، إذا ما شاء الله ذلك. فخرق النواميس الكونية المعروفة وهو ما تعنيه المعجزة في نطاق قدرة الله تعالى على

٢٧٦

الوجه الذي تشاءه حكمته. وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سورة المدثر شرحا يغني عن التكرار.

هذا ، وفيما تضمنته الآيات من التقريع على اتباع الأهواء وإنكار الحق والمراء فيه ، وعدم الاعتبار بالأحداث الزاجرة والاقتناع بالحق الذي يؤيده الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، والاستمرار في الغي والغواية تلقينات مستمرة المدى سواء أكانت في تقبيح اتباع الهوى والمراء في الحق والحقيقة ، أم في العناد والمكابرة وعدم الازدجار بالأنباء الزاجرة بقطع النظر عما يكون في ذلك من ضرر وخطأ وصدم للحقيقة والحق ، وتعطيل للمصلحة وتنافر مع المنطق ، أم في إيجاب الابتعاد عن ذلك واتباع الحق أم في التسليم بما تقوم عليه الحجة وتقصده الحكمة القرآنية.

تعليق على موضوع اقتراب الساعة

وخبر اقتراب الساعة المنطوي في الآية الأولى من السورة ليس الوحيد في القرآن فقد تكرر بأساليب متنوعة مثل آية سورة الأنبياء هذه : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [١] وآية سورة النحل هذه : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [١]. ولقد رويت في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة أيضا منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبّابة والوسطى» (١). وحديث رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلّا شفّ يسير فقال : والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلّا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه. وما نرى من الشمس إلّا يسيرا» (٢). وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال : «كنّا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال ما

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٠١.

(٢) النصوص من تفسير ابن كثير.

٢٧٧

أعماركم في أعمار من مضى إلّا كما بقي من النهار فيما مضى» (١). وحديث رواه الإمام أحمد عن بهز قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال أمّا بعد فإنّ الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها. وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنّم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا. والله لتملؤنّه. أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصرعي الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتينّ عليه يوم وهو كظيظ الزّحام» (٢).

وهذا أمر مغيّب لا مجال للتخمين والتزيد فيه. والإيمان بما جاء في الآيات والأحاديث الثابتة واجب مع الوقوف عند ذلك. وقد يلمح من الحديث الأخير أن الحكمة من الإيذان بذلك هي حثّ الناس على تقوى الله وصالح الأعمال. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهناك أحاديث عديدة أخرى في علامات الساعة وأشراطها سنوردها ونعلّق عليها في مناسبات أكثر ملاءمة إن شاء الله.

شرح لكلمة (الحكمة) ومعانيها

في القرآن

وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه السورة نذكر أن هذه الكلمة تكررت كثيرا في مناسبات متنوعة. وأصل الكلمة من «حكم» بمعنى فصل وقضى وبتّ وضبط. وقد جاءت في القرآن وفي اللغة العربية بالتالي لتعبر عن معان عديدة أخرى وإن لم تبتعد عن هذا الأصل حيث صارت تعبر عن كل قول وفعل وشيء يكون فيه صواب وسداد وحق وهدى وبرّ ومعروف وضبط وإتقان. ويكون بعيدا عن الطيش والرعونة والغلظة والجفاء والبغي والضرر والباطل. وفي سورتي

__________________

(١) النص من تفسير ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

٢٧٨

الإسراء ولقمان وسلسلتان من الآيات فيها وصايا وأوامر ونواه إيمانية وأخلاقية واجتماعية وسلوكية رائعة إحداهما من الله تعالى مباشرة وثانيتهما على لسان لقمان. وكلتاهما وصفتا بالحكمة. حيث جاء في آخر سلسلة الإسراء (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) [٣٩] وفي أول سلسلة سورة لقمان (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [١٢] وكل ما في هاتين السلسلتين هو في نطاق المعاني المذكورة. وفي سورة النحل جاءت الكلمة في معرض رسم خطة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعوة إلى سبيل الله كما ترى في هذه الآية : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [١٢٥] حيث يفيد هذا النصّ أن الحكمة هي البعد عن الجفاء والغلظة واللجاج والتزام العقل والمنطق وحسن العرض والنية. وهو ما يتصل بالمعاني المذكورة أيضا.

وهناك آيات تذكر ما آتاه الله سبحانه لأنبيائه من الحكمة وإرسالهم للناس بها وتعليمهم إياها للناس إلى جانب كلمة الكتاب حيث يفيد هذا أن الحكمة التي أوتيها أنبياء الله هي ما ألهمهم إياه من قول وفعل متصفين بالصفات المذكورة آنفا بالإضافة إلى ما احتوته كتب الله المنزلة عليهم من مثل ذلك كما ترى في الآيات التالية :

١ ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٥١].

٢ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٤٨].

٣ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١].

٤ ـ (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء :

١١٣].

وفي سورة البقرة تنويه بمن يؤتيه الله الحكمة كما ترى في هذه الآية : (يُؤْتِي

٢٧٩

الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)) والمتبادر أن الكلمة هنا تعني الأقوال والأفعال المتّصفة بتلك الصفات.

ومن هنا يصح أن تسمّى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القولية والفعلية حكمة وأن يقال إنها ما عني بها في آية البقرة [١٥١] وأمثالها. ونكتفي الآن بما تقدم على أن نعود إلى بيانات وشروح أخرى في مناسبات آتية.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)) [٦ الى ٨]

(١) نكر : لا يعرف مثيل له.

(٢) الأجداث : القبور.

(٣) مهطعين : مسرعين.

الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتسلية وإنذار. فهي تأمر النبي عليه‌السلام بعدم الأبوه بتكذيب المكذبين والانصراف عنهم. ثم تصف ما سوف يلقونه في يوم القيامة حيث يدعوهم منادي الله فيخرجون من قبورهم مسرعين كالجراد المنتشر كثرة واضطرابا وأبصارهم خاشعة من الخوف والفزع وشدّة الهول الذي لا مثيل له ، وحيث يتيقنون أن يومهم يوم عسير جدا.

والمتبادر أن وصف الذي سوف يلقاه المكذبون في الآخرة قد استهدف ـ فيما استهدف ـ إثارة الرعب في قلوب المعاندين والمكذبين وحملهم على الارعواء.

وتعبير (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لا يعني كما هو المتبادر أن يدع إنذار الناس

٢٨٠