التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

وأسلوب الآيات قد جاء مطلقا فيكون ما احتوته مستمر المدى والتلقين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني بسبيل ذلك مما مرت منه أمثلة عديدة. ولا يتعارض هذا مع ما يمكن أن يصح من نزولها أو نزول بعضها في مناسبة حادث وقع من بعض الأشخاص ، فكثير من آيات القرآن وفصوله نزلت في مناسبات معينة بأسلوب مطلق ليكون مستمر المدى والتلقين.

مدى وتلقينات آيات السورة

ومن تلقينات السورة الرئيسية تقريرها لكون جحود الإنسان للآخرة هو الذي يشجعه على اقتراف الآثام في الدنيا وعلى قسوة القلب إزاء الضعفاء واليتامى والمساكين ، إذا أمن الجزاء والمقابلة ، وفي هذا توكيد لتقريرات قرآنية سابقة ، ولحكمة الله التي جعلت للحياة الدنيا تتمة في حياة أخرى لجزاء كل امرئ بما عمل. كما أن فيه مظهرا من مظاهر حكمة التنزيل في تكرار الإنذار بالحياة الأخرى وجعل الإيمان بها ركنا من أركان الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة.

وتخصيص اليتيم والمسكين بالذكر لا يعني كما هو المتبادر أن قهر الأول وحرمان الثاني هما عنوان التكذيب بالآخرة وجزائها حصرا. فهذا أسلوب من أساليب القرآن وهناك آيات قرآنية كثيرة منها مما سبق تذكر آثاما أخرى عامة وخاصة يقترفها الإنسان نتيجة لجحوده ذلك. وقد يعني تخصيص ذلك بالذكر هنا قصد التنويه بخطورة أمر اليتيم والمسكين. وهو ما تكرر كثيرا في القرآن وقد سبق منه أمثلة عديدة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.

وفي التنديد بالمصلين اللاهية قلوبهم عن صلاتهم تنبيه لوجوب تذكر المصلي الله ، وإفراغ قلبه له حينما يقف أمامه متعبدا ، وتقرير ضمني بأنه بذلك فقط يتأثر بصلاته تأثرا يبعث فيه السكينة والطمأنينة ويرتفع به إلى أفق الروحانية العلوية كما هو مجرب عند كل من يفعل ذلك حقا. ويوقظ فيه الضمير فيبتعد عن الفحشاء والمنكر ويندفع نحو الخير والصلاح. وكل هذا من مقاصد الصلاة بالإضافة إلى

٢١

كونها واجب العبادة ومظهر الخضوع لله على ما شرحناه في سياق سورة العلق. أما اللاهون فلا يتأثرون ذلك التأثير الباعث الموقظ الوازع الدافع فتكون صلاتهم عملا آليا لا روح فيها ولا حياة ويكون القصد منها الرياء والخداع ولا تكون بعد مقبولة عند الله.

وجملة (يُراؤُنَ) [٦] جاءت مطلقة لتنعى الرياء على الإنسان إطلاقا سواء أكان يرائي في صلاته أم في أي موقف وعمل آخر. وتتضمن بناء على ذلك تنديدا بخطورة خلق الرياء وبشاعته حيث يكون المتخلق به أمام الله مخادعا وأمام الناس كاذبا مضللا ساخرا ، وتنبيها إلى ما في انتشار هذا الخلق في مجتمع من المجتمعات من الشر العام.

ولقد تكرر النعي القرآني على هذا الخلق والنهي عنه كما جاء في سورة البقرة هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)) وآية سورة النساء هذه : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)) وآية سورة الأنفال هذه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)) وآية سورة النساء هذه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً (١٤٢)).

ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذمّ الرياء والمرائين منها حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعوّذوا بالله من جبّ الحزن قالوا يا رسول الله وما جبّ الحزن؟ قال : واد في جهنّم تتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم ألف مرة. قيل يا رسول الله من يدخله قال القرّاء المراءون بأعمالهم» (١). وحديث رواه

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٥٠.

٢٢

البغوي بطرقه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء». وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله الله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإنّ الله أغنى الشركاء عن الشرك» (١). ولمسلم عن أبي هريرة حديث آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشّرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (٢).

وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النّار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ، قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال ما عملت فيها ، قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» (٣).

وننبه على أن هناك حديثا فيه استدراك يحسن سوقه في هذا المساق رواه الترمذي جاء فيه : «قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له أجران أجر السرّ وأجر العلانية» (٤). حيث يفيد

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٤.

(٢) التاج ج ١ ص ٤٩.

(٣) المصدر نفسه ص ٥٠ ـ ٥١.

(٤) المصدر نفسه.

٢٣

هذا أن الرياء المعاقب عليه هو ما قصد صاحب العمل أن يقال عنه وليس خالصا لله. وأنه إذا كان عمل المرء عملا بنية خالصة وعرفه الناس وأعجبوا به لا يعد من هذا الباب.

والتنديد بما نعى الماعون سواء أكان المعونة عامة أم الزكاة أم أدوات البيت جدير بالتنويه من حيث كون منع الماعون مظهرا من مظاهر عدم التعاون وعدم تبادل المعروف أو عدم بذل ما يكون الآخر في حاجة إليه من عون. ومن حيث تضمنه حقا لكل مسلم على تجنبه وعلى بذل كل عون يقدر عليه إلى من هو في حاجة إليه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرت أمثلة منها.

ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن أبي هريرة قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (١). حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن.

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٦٨.

٢٤

سورة الكافرون

في السورة أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان الكفار أنه لا يعبد ما يعبدون ، ولهم إذا شاءوا أن يظلوا على ما هم عليه فلا يعبدون ما يعبد ، ولكل من الفريقين دينه ، وقد تضمنت مبدأ حرية التدين الذي ظلت الآيات القرآنية تقرره في المكي منها والمدني.

ولقد روى الترمذي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قل يا أيّها الكافرون عدلت له بربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن» (١). وروى الترمذي عن أنس أيضا : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من أصحابه هل تزوّجت يا فلان قال لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوّج به ، قال : أليس معك قل هو الله أحد ، قال : بلى ، قال : ثلث القرآن ، قال : أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح ، قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، قال : أليس معك قل يا أيّها الكافرون ، قال : بلى ، قال : ربع القرآن. قال : أليس معك إذا زلزلت ، قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، تزوّج تزوّج» (٢).

ومن الحكمة الملموحة في الحديثين التنويه والترغيب والتيسير ، والله تعالى أعلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢١.

(٢) المصدر نفسه.

٢٥

أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)) [١ ـ ٦]

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلن جاحدي رسالته بخطته بالنسبة لدينهم وعبادتهم. وبأن لهم إذا شاءوا أن يسيروا على نفس الخطة فهو يعبد غير ما يعبدون. ويخضع لغير ما يخضعون ، ويتجه إلى غير ما يتجهون. وهو مسؤول عن تبعة موقفه ، وهم مسؤولون عن تبعة موقفهم ، ولكل من الفريقين دينه الذي ارتضاه لنفسه.

وقد روي أن السورة نزلت بمناسبة مراجعة بعض زعماء قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبهم التشارك في عبادة الآلهة ، فيصلي إلى آلهتهم ويصلون إلى إلهه ، ويحترم آلهتهم ويحترمون إلهه إلى أن يتحقق الفريقان أيّ الدينين خير فيتبعونه (١).

والرواية محتملة الصحة على ما تلهمه روح الآيات ، ويؤيدها آية سورة القلم : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)) التي مر تفسيرها قبل في سياق السورة المذكورة.

على أن من المحتمل أيضا أن تكون نزلت بمناسبة موقف حجاجي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ، ظل هؤلاء معاندين مكابرين فيه فنزلت لإنهاء الموقف. وقد تكرر مثل ذلك في مواقف ومناسبات مماثلة كما جاء في آية سورة يونس هذه : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)) وفي آية سورة يونس هذه أيضا : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)) وفي آية سورة الكهف هذه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [٢٩] وفي آيات سورة سبأ هذه : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

٢٦

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)).

وقد يفسر هذا التوجيه أسلوب السورة من حيث خلوه من الحملة على عبادة الكفار الضالة. ولعلها استهدفت فيما استهدفته درء الأذى عن المسلمين المستضعفين الذين كان زعماء الكفار ينالونهم به وخاصة في أوائل عهد الدعوة حيث تدعوهم إلى الإنصاف ، فإن كانوا يريدون أن يثبتوا على دينهم ويرون ذلك من حقهم فعليهم أن يحترموا هذا للمسلمين أيضا.

مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي

ومع خصوصية الخطاب وزمنيته فالمتبادر أن السورة تضمنت مبدأ قرآنيا جليلا منذ عهد مبكر من الدعوة ، في تقرير حرية التدين والعبادة والدعوة إلى احترامها واستشعار الناس بشعور الإنصاف والعدل فيما بينهم في صددها ، باعتبار هذه المسألة مسألة وجدان ويقين وطمأنينة قلب وروح وانشراح صدر ، لا يجوز أن تكون معرضة لأي تأثير أو تابعة لأي اعتبار.

ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يقرر في هذه السورة فحسب أو في العهد المكي الذي كان فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعيفا والمسلمون قلة مستضعفة ، بل قررته آيات القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل مرات كثيرة وبأساليب متنوعة ، كما يفهم من الآيات التي أوردناها آنفا ومن آيات سورة النمل هذه : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)) ومن آيات سورة الأنبياء هذه : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ

٢٧

أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)) ثم قررته آيات عديدة من القرآن المدني في مختلف أدوار التنزيل كذلك كما يفهم من آية سورة البقرة هذه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)) وآية سورة آل عمران هذه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)) وآية سورة آل عمران هذه : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)) وآية سورة النساء هذه : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)) وآية سورة المائدة هذه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)) وآيات سورة التوبة هذه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)) و (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)) وآيات سورة الممتحنة هذه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)) وهكذا يكون هذا المبدأ من المبادئ المحكمة. وفي هذا ما فيه من بليغ التلقين وبعد المدى ومؤيدات الخلود للإسلام ومبادئه.

ولقد يرد أنه ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على أن كفار العرب لم يكونوا ينكرون ربوبية الله ولم يكونوا منصرفين عن عبادته ودعائه بالمرة مثل ما جاء في آية سورة الزخرف هذه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)) وفي آية

٢٨

سورة لقمان هذه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)) ، وإن في هذا ما يتناقض مع مضمون السورة. ومع أن الشق الأول صحيح فليس هناك من تناقض. فقد كانوا يشركون مع الله غيره ويتخذون الأصنام رموزا لشركائهم فيسجدون لها ويقربون القرابين عندها ، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ويعبدونهم ويدعونهم ولو ليكونوا شفعاءهم عند الله وفي هذا كفر صريح بحق الله وواجبه على خلقه وتناقض صريح بين ما يعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعوا إليه وهو الله وحده لا شريك له ولا كفؤ له ولا ولد له وبين ما يعبدونه ويتجهون إليه ، وهذا هو المراد في آيات السورة كما هو المتبادر.

ونحن نعرف أنه يورد على هذا أقوال من جانب المسلمين وغير المسلمين على السواء. فإن كثيرا من علماء المسلمين ومفسري القرآن قالوا إن الآيات التي تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاكتفاء بإنذار المشركين وهجرهم وتركهم وشأنهم وإعلانهم أنه ليس إلّا منذر لهم وأنه ليس عليهم مسيطر ولا جبار أو التي تأمر بقتال المقاتلين للمسلمين منهم دون سواهم مما جاء في سور كثيرة مكية ومدنية مثل الآيات التالية في السور المكية :

١ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) سورة يونس [١٠٨].

٢ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) سورة الحجر [٩٤].

٣ ـ (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) سورة النحل [١٢٧].

٤ ـ (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) سورة النمل [٩١ ـ ٩٢].

٢٩

٥ ـ (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) سورة المزمل [١٠].

٦ ـ (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) سورة الغاشية [٢١ ـ ٢٢].

ومثل الآيات التالية في السور المدنية :

١ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة [١٩٠].

٢ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة [١٩٣].

٣ ـ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة [٢٥٦].

٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) النساء [٩٠].

وأمثالها الكثير في السور المكية والمدنية قد نسخت بآيات سورة التوبة هذه : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن

٣٠

يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ثم بآية سورة التوبة [٣٦] التي جاء فيها : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) والتي ينعتها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف. وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم كلمة فتنة الواردة في آية سورة البقرة هذه : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)) بمعنى الشرك وقالوا إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ويسود دين الله الإسلام.

ومما قاله المفسرون في سياق تفسير آية البقرة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) البقرة [٢٥٦] إن هذه الآية منسوخة بالنسبة للعرب المشركين دون غير العرب. وإن العرب المشركين لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف وإن غير العرب يقبل منهم الجزية دون السيف.

وأما من ناحية غير المسلمين فإن كثيرا من المبشرين والمستشرقين قالوا إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقف عند مبدأ (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون [٦] إلّا في ظروف ضعفه ، وإنه حالما قوي بعد الهجرة أخذ يقاتل الكفار ولم يكن يقبل من المشركين إلّا الإسلام ومن الكتابيين إلّا الاستسلام والجزية. واستمر على ذلك إلى النهاية وكان يغري المسلمين بالغنائم.

وشرح الموضوع على وجهه الحق الذي يتبادر من نصوص القرآن ووقائع السيرة النبوية كفيل بالإجابة على الطرفين.

إن القتال في الإسلام إنما شرع للدفاع عن حرية الدعوة والمسلمين ومقابلة الأذى والعدوان والصدّ إلى أن تضمن الحرية والسلامة للمسلمين ، والحرية والانطلاق للدعوة ويمتنع الأذى والعدوان على المسلمين والإسلام ، وظل هذا المبدأ محكما إلى النهاية.

٣١

وأول آيات وردت في هذا الصدد آيات سورة الحج هذه : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)). ثم نزلت آيات سورة البقرة هذه : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)).

والأساس في هذه الآيات وتلك هو ذلك المبدأ ، وفيها صراحة أن المشركين كانوا يقاتلون المسلمين. وكانوا إلى هذا يفتنون المسلمين عن دينهم بالجبر والإكراه ويصدون عن سبيل الله ويعطلون سير الدعوة. ويضطرون المسلمين إلى الخروج من موطنهم مرغمين. وكل هذا سبب مشروع لقتالهم متسق مع ذلك المبدأ. وفي تأويل كلمة «الفتنة» بالشرك تجوّز كبير. فالفتنة هي إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام الذي كان يمارسه زعماء المشركين في مكة ضد ضعفاء المسلمين. والدليل على ذلك آية سورة البروج هذه : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠)) وآية سورة النحل هذه : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)) والكلمة في الآية الثانية من سلسلة آيات البقرة [١٩٠ ـ ١٩٤] والتي هي في جملة (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) البقرة [١٩١] تعني نفس الشيء حينما يتروى فيها. ولا يصح في حال أن تؤول بالشرك. ونزول

٣٢

آية : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة [١٩٣] دليل قوي بل حاسم على أن معنى الآية هو قتال المعتدين إلى أن ينتهوا عن موقف العدوان وفتنة المسلمين وتغدو حرية الدعوة وحرية المسلمين في دينهم ودمائهم وأموالهم وحقوقهم مضمونة. وقد جاء في سورة الأنفال آية مثلها تقريبا وهي : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)) ولعل في مقطع هذه الآية الأخير قرينة أقوى على أن المقصد من جملة «فإن انتهوا» الانتهاء من موقف العدوان وفتنة المسلمين.

ومن الأدلة اليقينية على أن جملة (فَإِنِ انْتَهَوْا) الأنفال [٩٣] في هذه الآية وفي آية سورة البقرة [١٩٣] ليست الانتهاء بالإسلام فقط وإن من الممكن أن يكون بوقف حالة الحرب بالصلح أيضا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش في السنة الهجرية السادسة حيث أنهى هذا الصلح حالة الحرب ووقف القتال ضد قريش. والآيتان نزلتا قبل هذا الصلح على الأرجح. ومما يسوغ تخمينه بقوة أن آية البقرة نزلت قبل وقعة بدر وآية الأنفال نزلت بعد هذه الوقعة على ما سوف نشرحه في مناسباتهما.

وفي سورة الإسراء آية فيها دليل حاسم على معنى كلمة الفتنة وهو الرد والارتداد والإرجاع وهي هذه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣)).

وآيات سورة التوبة التي تعلن البراءة من المشركين وتأمر بقتالهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والتي أوردناها آنفا تخللها وجاء معها استثناءات تجعل ذلك الإعلان والأمر محصورا في المشركين المعتدين والناكثين لعهودهم كما جاء في عبارة (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) التوبة [٤] وكما جاء في الآيات التالية التي هي جزء من السلسلة : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ

٣٣

مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)).

وآيتا (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) في سلسلة آيات التوبة ليستا المخرج الوحيد كما قد يتبادر. فالآيات في جملتها تعني أنهم إن آمنوا فبها ونعمت ويصبحوا إخوانا للمسلمين ، ويهدر كل ما فعلوه معهم قبل. وإن لم يؤمنوا وحافظوا على عهدهم واستقاموا عليه فلا مانع. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في الدين فيقاتلون حتى ينتهوا من هذا الموقف العدواني.

وجملة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) في آية التوبة [٣٦] ليست منفردة. فإن لها تتمة وهي (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) التوبة [٣٦] وهذه التتمة تزيل اللبس في الجملة وتعيد الأمر إلى أصله من وجوب قتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين ؛ وتظهر مقدار ما في الاستناد إليها من تجوز كبير أيضا.

وفحوى القول إن آية سورة النساء [٩٠] منسوخة تجوز كبير أيضا إزاء ما فيها من صراحة وحسم. ويدعم هذا آية في سورة الممتحنة التي نزلت قبيل الفتح المكي فيها مثل هذه الصراحة والحسم بل وأكثر حيث إنها تحض على البرّ والإقساط للذين لا يقاتلون المسلمين ولا يشتركون في إخراجهم من ديارهم وهي :

٣٤

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)) وقد فند الطبري قول من قال إن هذه الآية منسوخة وقال إن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على دعوة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. وفي سورة البقرة آية أخرى تدعم ذلك وتدعم أو توضح مدى آية الممتحنة في الوقت نفسه وهي : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)) وقد روى الطبري وغيره روايتين في نزولها واحدة تذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمنع الصدقات عن فقراء المشركين وثانية أن المسلمين كانوا يمنعون صدقاتهم عن المشركين من أقاربهم وأنسبائهم فنزلت الآية مؤذنة بأن النبي والمسلمين غير مسؤولين عن هداهم الذي هو في يد الله وأن الصدقات هي قربة من المتصدق لله عن نفسه فلا مانع من إعطائهم منها على شركهم ... وليس هناك أي قول فيما اطلعنا عليه بنسخ هذه الآية الرائعة في مداها الذي نحن في صدده.

ولقد حدث مرة سوء تفاهم بين قائد إحدى السرايا وبعض العرب الذين أظهروا الإسلام أو المسالمة ، فظن القائد أن ذلك خدعة ، وقتل بعضهم وأخذ ماشيتهم فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد الغضب ولم يلبث أن أوحى الله بآية قوية رائعة فيها عتاب على عدم قبول ظواهر الناس كما ترى فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) سورة النساء [٩٤] ، وفي آية سورة الأنفال هذه : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)) أمر صريح بأن يسالم كل من جنح إلى المسالمة من الأعداء. وفي آيات سورة محمد هذه : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَ

٣٥

أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [٤] آمر بقتال الكفار الصادّين عن سبيل الله إلى أن تخضد شوكتهم ثم يؤسر الباقون إلى أن يفتدوا أنفسهم أو يطلق سراحهم منّا دون إرغام على الإسلام لأن المقصود من القتال قد حصل.

ولم يرد أي خبر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين ، كما أنه لم يرد أي خبر بأنه قاتل أو أمر بقتال أناس مسالمين أو حياديين أو معتزلين. والذي يدرس وقائع الجهاد (١) يرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع فئة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها ، أو بناء على نكث عهد أو بسبب مظاهرة لعدو أو تآمر معه على المسلمين.

وكل هذا متسق مع النصوص القرآنية التي لا يمكن أن يصدر منه ما ينقضها بطبيعة الحال.

وكل هذا ينطبق على وقائع القتال مع اليهود والنصارى الكتابيين أيضا. فكل عملية تأديب أو تنكيل أو غزوة ضد يهود يثرب والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام كانت ردا على عدوان أو مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين (٢). وحملات مؤتة وتبوك كانت مقابلة على عدوان القبائل العربية النصرانية في طريق الشام والبلقاء

__________________

(١) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه في طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وفي الجزء الثاني من الطبرسي.

(٢) اقرأ الوقائع من الكتب الثلاثة السابقة الذكر وكتابنا القرآن واليهود.

٣٦

على رسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوافل المسلمين (١).

وآية التوبة هذه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)) تضمنت إشارة إلى ذلك وحصرت أمر القتال في الفئات التي لا تدين دين الحق ولا تحرم ما حرم الله ورسوله من الكتابيين دون سائرهم وحملات الفتح التي سيرها أبو بكر رضي الله عنه وما بعدها هي امتداد لهذه الحملات حيث كانت حالة الحرب التي نشأت عن العدوان قائمة. ووصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء رضي الله عنهم لقواد هذه الحملات بألّا يقاتلوا إلّا من يقاتلهم وبأن يسالموا من يسالمهم وبأن يتركوا من لا يتعرض لهم ومن يعتزلهم وشأنه وأن لا يقتلوا النساء والصبيان معروفة مشهورة (٢). ولو كان قتال كل كافر وكل مشرك مبدأ إسلاميا لاقتضى أن يقاتل كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في زمن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم. وقتال أبي بكر للمرتدين وعدم قبوله منهم إلّا الإسلام والاستسلام حالة أخرى لأن الارتداد كان ضد الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي في الدرجة الأولى (٣).

__________________

(١) اقرأ الجزء الثاني من كتابنا سيرة النبي عليه‌السلام ص ١٦١ وما بعدها وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٣ ـ ١٠٤ و ١٧٤ ـ ١٧٨ و ٢١٨ ـ ٢٢١.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٣٢ والطبرسي ج ٢ ص ٥٢٠ وما بعدها وأشهر مشاهير الإسلام ج ١ ص ٦٦ وما بعدها. ولقد روى الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام «إني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تغلل ولا تجبن وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له».

(٣) انظر تفسير آية سورة البقرة [١٩٠] : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) في تفسير الخازن والطبرسي والزمخشري وتفسير آية سورة البقرة [١٩٣] : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) في تفسير الطبرسي والزمخشري وتفسير آيات سورة التوبة [١ ـ ١٣] في

٣٧

وفي موطأ الإمام مالك حديث عن يحيى بن سعيد احتوى وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام جاء فيها : «إني موصيك بعشر لا تقتلنّ امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعنّ شجرا مثمرا ولا تخربنّ عامرا ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرا إلّا لمأكلة ولا تحرقنّ نخلا ولا تفرّقنّه ولا تغلل ولا تجبن. وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له».

ويورد فيما يورد حديث صحيح جاء فيه : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلّا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلّا بحقّه وحسابه على الله» (١). ونكرر هنا ما قلناه تعليقا على هذا الحديث في سياق التعليق على (سبيل الله) والخطة القرآنية للدعوة إلى سبيل الله في سورة المزمل من أن ذلك يحمل على قصد قتال الذين يستحقون القتال حسب المبادئ التي قررها القرآن وليس قتل الكفار والمشركين بسبب كفرهم وحسب. لأنه لم يرد كما قلنا أي خبر عن قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكفار ومشركين موادين ومسالمين ومحايدين وغير معتدين وغير متآمرين وغير ناقضين بشكل ما.

وهناك أحاديث صحيحة عديدة تدعم ما ذكرناه. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا

__________________

تفسير الخازن. ففي أقوال هؤلاء المفسرين في تفسير هذه الآيات نماذج لأقوال المفسرين وتأويلاتهم التي ذكرناها في مطلع البحث ، وانظر تفسير آية [١٩٠] : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وآية [١٩٣] : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في تفسير المنار للسيد رشيد رضا ، فهو مطابق لما قلناه من عدم إساغته لتأويل الفتنة بالشرك وعدم إساغته لنسخ الاية الأولى. وعزا إلى الإمام محمد عبده أنه ردهما. ج ٢ ص ٢٠٩ الطبعة الأولى لسنة ١٣٥٢ ه‍ ـ ١٩٣٤ م.

(١) التاج ج ٤ ص ٣٢٦.

٣٨

تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» (١). وحديث رواه أبو داود عن أنس قال : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلّوا وضمّوا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين» (٢). وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهى عن قتل النساء والصبيان. وسئل النبيّ عن أهل الدار يبيّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريّهم قال هم منهم» (٣). وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عطية القرظي قال : «عرضنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلّي سبيله فكنت ممّن لم ينبت فخلّي سبيلي» (٤).

وفي الحديث الأول بخاصة نقض لما قاله بعض المفسرين في سياق جملة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) في الآية [٢٥٦] من سورة البقرة وذكرناه قبل من أن هذه

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٢٧ ـ ٣٢٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٣٣٣ والمتبادر أن جملة (هم منهم) بسبيل عذر من يقتل بعض النساء والأولاد في التبييت العام الذي لا يمكن التمييز فيه بين الكبار والصغار والرجال والنساء ويظل الأصل وهي النهي عن قتل النساء والصبيان محكما. ويوم قريظة هو يوم قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود بني قريظة عقب وقعة الخندق مما سوف نشرحه في سياق سورة الأحزاب.

(٤) المصدر نفسه.

٣٩

الجملة منسوخة بالنسبة للمشركين من العرب ولا يقبل منهم غير الإسلام أو السيف. فليس في القرآن على ضوء ما قدمناه ما ينسخ ذلك بالنسبة للمشركين العرب. وفي هذا الحديث الصحيح إجازة بقبول الجزية من الأعداء المشركين ومعظم الجيوش والسرايا التي سيرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت على الأعداء المشركين من العرب. بل وإن صلح الحديبية الذي أشرنا إليه دليل على جواز الصلح مع المشركين العرب بدون جزية إذا ما كان في ذلك من مصلحة المسلمين. وفي سورة الأنفال آية تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنوح إلى السلم إذا جنح إليها الكفار الأعداء. وهي الآية [٦١] وهي مطلقة لا تشترط جزية ولا شرطا آخر ، وفي هذا دليل على ما تقدم أيضا ، والله تعالى أعلم.

٤٠