التّفسير الحديث - ج ٢

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٢

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

سورة عبس

في السورة عتاب رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اهتمامه بزعيم كافر معرض عن الدعوة أكثر من اهتمامه بأعمى مسلم ، وتقرير لمهمة النبوة وتنديد بالإنسان وجحوده وتعداد نعم الله عليه. وإنذار بالآخرة وهولها ومصائر الصالحين والمجرمين فيها. ومن المحتمل أن تكون قد نزلت فصلا بعد فصل حتى كملت بدون انفصال ، وعدا فصل العتاب الذي هو الفصل الأول فإن أسلوب باقي آياتها هو تنديد وإنذار عام.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢)) [١ الى ١٢]

(١) يزكّى : يتزكى بمعنى يستفيد ويزداد علما وصفاء روح.

(٢) تصدّى : تتصدى أي تتعرض له.

(٣) تلهّى : تتلهى أي تتشاغل عنه.

في الآيات عتاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان منه من عبوس وانصراف عن الأعمى المسلم المستشعر بخوف الله الذي جاءه ساعيا للاستفادة والاستنارة وتصدّ لرجل عنيد مكذب يظهر الاستغناء عن دعوة الله ليس مسؤولا عن عدم إسلامه واستجابته.

١٢١

وقد انتهت بتقرير كون الدعوة إنما هي تذكير للناس لا إلزام فيه ولا إبرام ، فمن شاء الخير تذكّر وانتفع ، ومن لم يشأ فعليه وبال أمره.

وقد روي أن الآيات نزلت بمناسبة مجيء أعمى مسلم يتفق جمهور المفسرين على أنه ابن أم مكتوم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسأله في بعض شؤون الدين في وقت كان يتحدث فيه مع بعض الزعماء بأمر الدعوة ، وأن الأعمى قد ألحّ في السؤال حتى بدت الكراهية في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظل منصرفا معرضا عنه ماضيا في حديثه مع الزعيم الذي روي في رواية أنه عتبة بن ربيعة وفي رواية أنه أبو جهل وفي رواية أنهم كانوا ثلاثة وهم عتبة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب (١) ، وروح الآيات تلهم صحة الرواية إجمالا.

مدى العتاب الرباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وما في آيات سورة عبس الأولى

من تلقين ومبادئ

وهذه أول مرة ينزل فيها قرآن فيه عتاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن العتاب إنما كان على مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هو الأولى. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في موقف المجتهد فيما رآه الأولى. والمستغرق في دعوته ونشرها والحريص على النجاح فيها ، وليس في موقف الممتنع عن تعليم الأعمى وتنويره وليس في هذا شيء يناقض العصمة النبوية.

وفي العتاب وأسلوبه ومفهومه وروحه تهذيب رباني عظيم المدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العتاب يتجلى الصدق النبوي العميق الذي يملك النفس والقلب ويملأهما بالإعظام والإجلال.

وفي الآيات تلقينات ومبادئ أخلاقية واجتماعية وسلوكية جليلة مستمرة المدى ، ففيها إشادة بذوي النيات الحسنة من الناس الذين يسعون وراء الخير والمعرفة صادقي الرغبة في الاستفادة والاستنارة وصالح العمل ، وإيجاب الاهتمام

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي.

١٢٢

لهم والعناية بهم وتشجيعهم ومساعدتهم مهما كانت طبقتهم ، وترجيحهم على الذين يترفعون عن كلمة الحق والدعوة إليه ويظهرون الغرور والاستغناء مهما علت مراكزهم ، وإيجاب معاملة هؤلاء بالإهمال والاستهانة تأديبا لهم ولأمثالهم ، وفيها تقرير الأفضلية بين الناس لذوي النيات الحسنة والصلات الصادقة في الخير بقطع النظر عما يكونون عليه من فضل أو تأخر في الدرجات الاجتماعية.

وفي الآيتين الأخيرتين خاصة تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير لمهمته. فمهمته التذكير والدعوة لا الإلزام ، وفيهما توكيد تقرير المشيئة والاختيار للإنسان بعد بيان طريق الهدى والضلال والحق والباطل ؛ وتقرير مسؤولية كل امرئ عن عمله ، فمن اهتدى فقد نجى نفسه ومن ضل فقد أهلكها. وهذا كله مما تكرر تقريره في كثير من المناسبات وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى يجب على المسلمين وخاصة أصحاب الدعوات الإصلاحية والاجتماعية والسياسية أن يسيروا على ضوئه في صلاتهم بالناس.

وبعض مفسري الشيعة يروون أن العتاب ليس موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا يمكن أن يصدر منه ما يستوجب عتابا. وإنما هو موجه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه أو أحد بني أمية من كان حاضرا مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما جاء الأعمى فأظهر تقززه منه (١). غير أن جمهور المؤولين والرواة على أنه موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفحوى الآيات ينطوي على دلالة تكاد تكون حاسمة على ذلك. والمتبادر أن روايات الشيعة منبثقة من هواهم وبغضهم لعثمان وبني أمية. وهذا ديدنهم في كل مناسبة مماثلة على ما نبهنا عليه في سياق سورة الليل.

(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)) [١٣ الى ١٦]

(١) صحف : الجمهور على أن الكلمة تعني الفصول القرآنية التي كانت توحى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد قال بعض المفسرين إنها صحف أعمال الناس التي

__________________

(١) انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون السابق الذكر ص ١٦٧ و ١٩١.

١٢٣

يكتبها الملائكة الموكلون بهم أو كتب الله التي أنزلها على أنبيائه (١). والقول الأول أوجه لأنه متسق مع ظرف نزول الآيات.

(٢) سفرة : جمع سفير وهو الرسول. والجمهور على أنهم الملائكة الذين يبلغون وحي الله وقرآنه. وقد قال بعض المفسرين إنهم قراء القرآن (٢) والقول الأول أوجه.

(٣) بررة : جمع بار ، وهنا بمعنى الصادق الأمين.

جاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين الأخيرتين منها ، فقد تضمنت الآية [٩] كلمة تذكرة فجاءت الآيات لتبين ماهية هذه التذكرة وتنوه بها فهي صحف مكرمة مطهرة رفيعة القدر يبلغها سفراء كرام على الله بررة أمناء مخلصون لله عزوجل فيما يقومون به من مهمة السفارة بينه وبين أنبيائه.

وواضح أن تعبير الصحف على التأويل المتقدم الذي عليه الجمهور هو هنا تعبير مجازي لأن الوحي الرباني لم يكن يحمل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا مكتوبا في صحف وإنما كان يلقى ما يحمله من وحي رباني عليه إلقاء. ولعل في التعبير تلقينا بوجوب تدوين ما يلقيه الوحي في الصحف أو إشارة إلى مصيره إلى ذلك. والمأثور المتواتر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمر بتدوين ما كان ينزل به الوحي من فصول القرآن في صحف في حين نزوله (٣) حيث يكون قد لمح ذلك التلقين وعمل به.

وفي الآيات تلقين مستمر المدى بما يجب للمدونات القرآنية من التكريم والطهارة وحرمة الشأن والرفعة.

هذا ، ولما كان الملك الرباني الذي كان يتصل بالنبي ويبلغه القرآن واحدا وهو جبريل في آية سورة البقرة هذه : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)) والروح الأمين في

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والنيسابوري والبغوي.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) انظر الفصل الثاني من كتابنا القرآن المجيد.

١٢٤

آيات الشعراء هذه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) وروح القدس في آية سورة النحل هذه : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)) (١). فالمتبادر أن صيغة الجمع لكلمة سفرة وأوصاف السفرة هي بقصد تعظيم شأن ملك الله جريا على أسلوب التخاطب البشري عامة والعربي خاصة.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))

(١) قدّره : دبر خلقه على ناموس محسوب قويم.

(٢) كلّا لمّا يقض ما أمره : قال جمهور المفسرين إنها جاءت منددة بالإنسان على جحوده لأنه لم يقم بواجبه نحو الله (٢) وقال بعضهم إنها من المحتمل أن تكون توضيحا للآيات التي قبلها أي إن الله لا ينشر من في القبور إلّا في الوقت الذي قضى به (٣) ، والتأويل الأول هو الأوجه.

في الآيات استطراد تنديدي بالإنسان الذي يجحد الله ويتمرد على أوامره ولا يقوم بواجبه نحوه على ضآلة شأنه في كون الله وشمول تصرف الله فيه إنشاء وإحياء وإماتة ونشرا بعد الموت حين تشاء حكمته.

ومع احتمال أن يكون التنديد بالكفار على مواقف المكابرة والعناد التي وقفوها فإن أسلوب الآيات المطلق يجعلها في نفس الوقت تنديدا عاما ذا تلقين

__________________

(١) جمهور المفسرين على أن الروح الأمين وروح القدس تعنيان جبريل عليه‌السلام أيضا ، انظر تفسير آيات الشعراء والنحل في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري وغيرهم.

(٢) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والنيسابوري والطبرسي وابن كثير.

(٣) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير أيضا.

١٢٥

مستمر المدى بكل إنسان يجحد الله ويتمرد عليه كما هو المتبادر.

والآية [٢٠] تتضمن تقرير كون الله قد بيّن للناس الطريق القويم ويسّر لهم سلوكه وأوجد فيهم قابلية القدرة على هذا السلوك. وفي هذا توكيد للتقريرات القرآنية السابقة في هذا الصدد كما هو ظاهر.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)) [٢٤ الى ٣٢]

(١) قضبا : الرطب أو الثمار الغضة التي يتكرر قطف أشجارها أو العلف على اختلاف الأقوال.

(٢) غلبا : كثيفة الشجر.

(٣) فاكهة : كل ثمرة لذيذة حلوة.

(٤) أبّا : المرعى على أوجه الأقوال.

الآيات جاءت معقبة على ما سبقها من الآيات كما هو المتبادر ، واستمرارا لها سياقا وموضوعا ، فعلى ذلك الإنسان الجاحد المتمرد على الدعوة إلى الله وغير القائم بحق الله أن ينظر ويفكر فيما يتمتع به مما يسره الله له من أسباب الغذاء المتنوع له ولأنعامه ليرعوي عن موقفه ؛ لأنه سوف يرى أن كل هذا إنما يتم له بتيسير الله ورعايته.

ومع أن ورود جمع المخاطب في الآية الأخيرة يجعل الكلام موجها في الدرجة الأولى إلى السامعين وبخاصة المكابرين الجاحدين منهم ، فإن أسلوب الآيات وبدأها بخطاب الإنسان يجعلها كذلك عامة التوجيه والتنديد أيضا.

والمتبادر أن ما عددته الآيات من نعم الله على الإنسان من أنواع الغذاء لم

١٢٦

يكن على سبيل الحصر ؛ وإن كان يتضمن التنويه بما فيه قوام حياة الإنسان والأنعام تقوية للتذكير وإحكاما للتنديد. كذلك فإن الآيات ليست بسبيل بيان نواميس الطبيعة ، وإنما هي بسبيل الوعظ والتذكير بما هو ماثل للناس وواقع تحت مشاهدتهم وحاصل بممارستهم وفيه متاع متنوع الأشكال والصور لهم. وقد استهدفت إيقاظ الضمير الإنساني وحمله على الاعتراف بفضل الله وحقه وربوبيته. وهذا وذاك مما يلحظ في جميع الفصول القرآنية المماثلة.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)) [٣٣ الى ٤٢]

(١) الصاخة : الصاكة للآذان من شدة الصوت. والكلمة كناية عن يوم القيامة وتتضمن الإشارة إلى هوله.

(٢) صاحبته : كناية عن زوجته.

(٣) شأن يغنيه : شغل يشغله عن غيره.

(٤) مسفرة : منبسطة الأسارير. وهذه علامة الفرح والطمأنينة.

(٥) عليها غبرة ترهقها قترة : القترة سواد الدخان المتصاعد من النار وقيل إن القترة الغبار النازل من علو والغبرة الغبار الصاعد من الأرض والمقصود من الجملة بيان شدة ما يلحق بوجوه الكفار الفجار من اربداد وسواد ووسخ من شدة الهول والبلاء الذي يصيبهم في الآخرة.

(٦) الفجرة : جمع فاجر وهو المستهتر الموغل في الغواية والفاحشة.

وهذه الآيات أيضا معقبة على ما سبقها واستمرار في السياق ، وقد تضمنت

١٢٧

إنذارا بيوم القيامة ووصفا لهوله الذي يذهل المرء عن أقرب الناس إليه ، وتصنيفا للناس فيه. فمنهم الفرح المغتبط المستبشر وهم المؤمنون الصالحون ، ومنهم المربد الوجه الذي يعلوه الوسخ والاسوداد من شدة البلاء ، وهم الكفرة الفجرة. والوصف قوي من شأنه إثارة الطمأنينة في الفريق الأول والفزع والرعب في الفريق الثاني. وحفز الأول على الثبات فيما هو فيه والثاني على الارعواء وتلافي العاقبة الوخيمة الرهيبة وهو في متسع من الوقت وهما مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.

١٢٨

سورة القدر

في السورة تنويه بليلة القدر وتقرير إنزال القرآن فيها. وبعض الروايات تذكر أنها مدنية (١). غير أن جميع التراتيب المروية تسلكها في عداد السور المكية.

وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)) [الآيات ١ الى ٥]

(١) القدر : الشأن والنباهة. وفي آية سورة الأنعام هذه : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [٩١] أي ما عظموه تعظيما يتناسب مع قدره العظيم.

(٢) وما أدراك : جملة تنبيهية لخطورة الأمر المذكور وقد تكرر ورودها في معرض التنبيه للأمور الخطيرة.

(٣) جمهور المفسرين على أن هذا الاسم ينصرف إلى جبريل أحد عظماء الملائكة أو عظيمهم.

احتوت الآيات تقريرا تذكيريا بإنزال القرآن في ليلة القدر ، وتنبيها تنويهيا

__________________

(١) انظر الإتقان للسيوطي ج ١ ص ١٤.

١٢٩

بهذه الليلة وعظم شأنها وخيرها وشمولها ببركة الله وسلامه ، وتنزل الملائكة والروح فيها بأوامره وتبليغاته. والآيات لم تذكر القرآن غير أن جمهور المفسرين على أن ضمير الغائب في «أنزلناه» عائد إليه ، وروح الآية تلهم ذلك كما أن آيات سورة الدخان هذه : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)) تؤيد ذلك.

تعليقات على ما روي في صدد

نزول السورة ومدى جملة (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)

وصلتها بدولة بني أمية

ولقد روى المفسرون (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر يوما رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون فأنزل الله السورة. كما رووا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فعجب المسلمون فأتاه جبريل فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر فقد أنزل الله خيرا من ذلك ثم قرأ عليه السورة.

وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والذي يتبادر لنا استئناسا من بكور نزول السورة وترتيبها في المصحف بعد سورة العلق أنها نزلت بعد قليل من آيات سورة العلق الخمس الأولى للتنويه بحادث نزول أول وحي قرآني.

ولقد أورد المفسرون حديثا رواه الترمذي عن القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال : «قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال سوّدت وجوه المؤمنين أو يا مسوّد وجوه المؤمنين فقال لا تؤنّبني رحمك الله فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١)) الكوثر يا محمد يعني نهرا في الجنّة ونزلت : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

١٣٠

الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)) ، يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص» (١). ولقد علق الطبري على هذا بقوله إنها دعاو باطلة لا دلالة عليها من خبر وعقل. وذكر ابن كثير أن الترمذي وصف حديثه بالغريب وقال إنه لا يعرف إلّا عن طريق القاسم. ووصفه ابن كثير بأنه منكر جدا وقال إن شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي قال عنه إنه منكر. ونبه على عدم انطباق مدة بني أمية على الألف شهر لأنها أكثر من ذلك بنحو تسع سنين. وفي هذا إظهار لكذب القاسم راوي الحديث في قوله إننا حسبناها فلم تزد ولم تنقص يوما. وقال ابن كثير فيما قاله إن السورة مكية ولم يكن للنبي منبر في مكة.

والذي نعتقده أن الرواية من روايات الشيعة التي يخترعونها لتأييد مقالاتهم على ما نبهنا عليه في مناسبة سابقة مهما كان بين ما يروونه وبين فحوى العبارة القرآنية وسياقها مفارقة. وهذا يظهر قويا في هذه الرواية. ورواية الترمذي للرواية ليس من شأنها أن تجعلنا نتوقف في ذلك فاحتمال التدليس في ذلك وارد دائما. ولعل ما قاله ابن كثير من أنه لم يكن في مكة منبر هو الذي جعل رواة الشيعة يروون رواية مدنية السورة لأن روايتهم تتسق بهذه الرواية.

ولقد قال الطبري إن أشبه الأقوال بظاهر التنزيل في معنى جملة (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)) من قال : «عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر» وروي عن مجاهد قولا جاء فيه أن معناها هو أن قيامها والعمل فيها خير من ألف شهر. ومع ما في هذا القول وذاك من وجاهة وصواب فإننا لا نزال نرجح أن الجملة قد جاءت بقصد التوكيد على ما في ليلة القدر من خير وبركة على سبيل التنويه والتعظيم بحدث الحادث العظيم الذي كان فيها ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير ونص الحديث من ابن كثير. وقد أورده أيضا مؤلف التاج عزوا إلى الترمذي انظر التاج ج ٤ ص ٢٦٣.

١٣١

تعليق على روايات نزول

القرآن جملة واحدة

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه السورة روايات وأقوالا تتضمن فيما تتضمنه أن القرآن أنزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ثم أخذ ينزل منجّما أي مفرقا ، وأن ما عنته هذه السورة هو هذا حيث قصدت جميع القرآن (١). ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير آية البقرة [١٨٥] عن الإمام أحمد حديثا رواه عن واثلة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة لست خلت منه والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه». وأورد حديثا آخر رواه جابر بن عبد الله فيه زيادة عن الزبور وتعديل لوقت الإنجيل حيث جاء فيه : «إن الزبور نزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة خلت منه». والمتبادر أن الأحاديث بسبيل ذكر نزول هذه الكتب في هذه الأوقات دفعة واحدة. والأحاديث لم ترد في الكتب الخمسة ، ولقد روى بعضهم عن الشعبي أن الآية الأولى من سورة القدر تعني «إنّا ابتدأنا بإنزاله في ليلة القدر» (٢). والنفس تطمئن بقول الشعبي هذا ، وبأن هذا السورة وآيات سورة الدخان التي أوردناها آنفا وآية سورة البقرة هذه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [١٨٥] قد عنت بدء نزول القرآن ، وبأن سورة القدر قد احتوت تنويها بعظم حادث بدء نزول القرآن وجلالة قدره ، وبخطورة الليلة التي شرّف الله قدرها ، بحدوث هذا الحادث العظيم فيها. أما إنزال القرآن جميعه دفعة واحدة إلى سماء الدنيا فليس عليه دليل من القرآن أو من الحديث الصحيح. ولا يبدو له حكمة كما لا يبدو أنه منسجم مع طبيعة الأشياء حيث احتوت معظم فصول القرآن صور السيرة النبوية المتنوعة في مكة أولا ثم في المدينة وكثيرا ما كانت تنزل في مناسبات

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري.

(٢) انظر تفسير السورة في تفسير الزمخشري والطبرسي أيضا وانظر تفسير آية شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن من البقرة في تفسير المنار وانظر الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٤٢ وانظر كتابنا القرآن المجيد ص ٢٨١ وما بعدها.

١٣٢

أحداثها ، وهذا الذي قلناه ينطبق على رواية قتادة التي أوردها الطبري بالنسبة للكتب السماوية الأخرى.

تعليق على ليلة القدر

ولقد أورد المفسرون ورواة الأحاديث أحاديث عديدة في صدد تعيين ليلة القدر. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أيضا قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (١). وحديث رواه الخمسة إلّا الترمذي جاء فيه : «قال ابن عمر إن رجالا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر» (٢). وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأخير من رمضان» (٣). وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن زرّ بن حبيش قال : «سألت أبيّ بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال رحمه‌الله أراد ألا يتكل الناس. أما إنّه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنّها ليلة سبع وعشرين فقلت بأيّ شيء تقول ذلك يا أبا المنذر قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها» (٤). وحديث عن معاوية بن أبي سفيان رواه أبو داود وأحمد قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة القدر ليلة سبع وعشرين» (٥).

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٧٣ ـ ٧٦ ومعنى يجاور : يعتكف في المسجد.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه ص ٧٧ ـ ٧٨ وهناك أحاديث عديدة أخرى أوردها ابن كثير في وقتها لم ترد في كتب الصحاح ومنها ما يذكر غير الأوقات المذكورة في الأحاديث التي أوردناها والواردة في كتب الصحاح فاكتفينا بذلك لأنها هي المشهورة والوثيقة معا.

(٥) المصدر نفسه.

١٣٣

ولما كانت آية البقرة تنصّ على نزول القرآن في شهر رمضان وآية القدر تنص على نزوله في ليلة القدر فيمكن أن يقال إن حادث أول وحي قرآني قد وقع في إحدى الليالي العشر الأخيرة من رمضان أو ليلة السابع والعشرين منه على التخصيص.

والتنويه القرآني بهذه الليلة قوي. وهي جديرة به لأن الحادث الذي وقع فيها أعظم حادث في تاريخ الإسلام. وإليه يرجع كل حادث فيه. وكل ذكرى من ذكرياته ، وكل خير وبركة من خيراته وبركاته ، وهو الجدير بأن يكون تاريخه موضع تنويه وإشادة وتكريم واحتفاء في كل جيل من أجيال الإسلام ، بل في كل جيل من أجيال البشر وفي كل مكان من الأرض. فالنبوة المحمدية التي بدأت به هي نبوة الخلود والبشرية جمعاء. والقرآن الذي بدئ بإنزاله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الليلة هو كتاب الله الخالد الذي فيه رحمة وهدى وشفاء لجميع الناس في كل مكان وزمان ، والذي احتوى ما فيه الكفاية لرجع أمور الدين والدنيا إلى نصابها الحق ولإقامة إخاء عام بين البشر. ونظام اجتماعي وسياسي واقتصادي مرتكز على قواعد الحق والعدل والحرية والمساواة والكرامة ؛ وهذا التاريخ هو التاريخ الوحيد المعروف في مثله من تاريخ الأنبياء وكتبهم. والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي في أيدي الناس كما بلغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سليما تاما فوق كل مظنة. ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو النبي الوحيد الذي لم يدر حول وجوده وشخصيته وتاريخه ما دار حول غيره من الشكوك والأقوال.

وفيما احتوته السورة من الإشارة إلى نزول الملائكة وعلى رأسهم عظيمهم في هذه الليلة بأوامر الله وبركاته وشمولها بالسلام والتجليات الربانية قصد إلى بيان عظمة شأنها ورفعة قدرها أولا ، ودعوة ضمنية إلى المسلمين إلى إحيائها في كل عام اقتداء بالملائكة وتحصيلا للبركة الربانية فيها وتكريما للذكرى المقدسة التي انطوت فيها.

ولقد أثرت بعض الأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خير هذه الليلة وبركتها ، والحث على تحريها وإحيائها منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال : «قال

١٣٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (١). وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله». ولفظ الترمذي : «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها» (٢). وهذا متصل من دون ريب بالذكرى الجليلة. ومن الغريب أن يغفل المسلمون عن المعنى العظيم لهذه الذكرى وأن ينتهوا من أمرها إلى المعاني والأهداف المادية الخاصة فيما يدعون الله به كما هو السائد في الأوساط الإسلامية منذ قرون طويلة.

وقد يكون هنا مجال للتساؤل عما إذا كانت تسمية «ليلة القدر» هي تسمية قرآنية ونعتية طارئة ، القصد منها التنويه والحفاوة والتذكير بعظمة شأن الحادث الذي كان فيها ، أم أنها كانت معروفة قبل نزول القرآن. ولم نطلع على قول وثيق يساعد على النفي أو الإثبات. غير أن في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها والذي أوردناه في سياق تفسير سورة العلق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخلو بغار حراء فيتحنّث أي يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، وأن الوحي نزل عليه هنا ما يمكن أن يكون دلالة ما إلى ما كان من معنى خطير لليالي ذوات العديد قبل البعثة. وما دام أن الوحي نزل عليه في إحدى هذه الليالي فمن الجائز أن تكون الليالي ذوات العدد هي الليالي العشر الأخيرة من رمضان أو أن هذه الليالي العشر منها. ولقد ذكرت الروايات (٣) أن التحنث في شهر رمضان كان معروفا وممارسا في أوساط مكة المتقية المتعبدة حيث يسوّغ هذا أن يقال إن الليالي ذوات العدد كانت من الأمور المعروفة في هذه الأوساط أيضا. ولقد صارت ليلة القدر علما على ليلة بعينها ، ووردت بمعنى هذه العلمية أحاديث عديدة مما مرت نصوصها ، ولقد ورد في سورة الدخان هذه الآيات : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)) حيث يفيد هذا أن الله عزوجل قد جرت

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٨.

١٣٥

عادته على قضاء الأمور الخطيرة المحكمة في ليلة القدر. ففي كل هذا كما يتبادر لنا قرائن أو شبه قرائن على أن تسمية ليلة القدر ليست تسمية طارئة ونعتية أو تنويهية وحسب ، وأنها قد كان لها في أذهان بعض الأوساط المكية خطورة ما دينية الصفة.

تعليق على كلمة الروح

وبمناسبة ورود تعبير «الروح» نقول إن هذه الكلمة قد وردت في القرآن كثير في سياق الإشارة إلى هبة نسمة الحياة لآدم والمسيح والناس مضافة إلى الله عزوجل كما في آيات سورة الحجر هذه : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩)) وفي سورة الأنبياء هذه : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)) وفي آيات سورة السجدة هذه : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)). وقد وردت الكلمة أيضا في صدد الإشارة إلى وحي الله وأوامره ، وإلى الملك الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء في آية سورة النحل هذه : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)) وفي آية غافر هذه : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥)) وآيات سورة الشعراء هذه موصوفا بالأمين : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)). ووردت مطلقة بما يفيد أنها عظيم الملائكة كما جاء في آية سورة النبأ هذه : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)) ووردت مضافة إلى القدس في سياق تنزيل القرآن كما جاء في آية

١٣٦

سورة النحل هذه : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)) ووردت في آيات عديدة مضافة إلى القدس في صدد تأييد المسيح عليه‌السلام كما ترى في هذا المثال : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة [٨٧] والمتبادر أن المقصود من الكلمة هنا على ما تلهمه روح العبارة هو عظيم الملائكة. وفي سورة التحريم آية تلهم أن عظيم الملائكة هو جبريل وهي : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)) ولما كانت آيات النحل نعتت الملك الذي ينزل بالوحي القرآني بالروح ولما جاء في آية في سورة البقرة أن الذي ينزل بهذا الوحي هو جبريل وهي : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)) فيكون المقصود من الكلمة هنا هو جبريل عظيم الملائكة على ما هو المتبادر. وجمهور المفسرين على أن تسمية جبريل بروح القدس هي على اعتبار أنه روحاني الخلقة بدون تولد من أب وأم وأنه مطهر من الرجس والله تعالى أعلم.

ولما كان أمر الملائكة وحقيقتهم وأعمالهم من المسائل الغيبة الواجب الإيمان بها لأن القرآن قد قررها كما قلنا قبل فالواجب الإيمان بما جاء في صددهم في الآية دون تخمين وتزيد مع ذكر كون ذلك بسبيل التنويه بعظم شأن الليلة للحادث العظيم الذي كان فيها.

وندع التعليق على ما ورد في الآيات التي أوردناها في معرض التمثيل والتي تنسب الروح إلى الله عزوجل وتذكر نفخه بروحه في آدم ومريم والإنسان عامة إلى تفسير هذه الآيات في سورها.

١٣٧

سورة الشمس

في السورة توكيد بفلاح المتقين الصالحين وخسران المنحرفين الضالين.

وتذكير بحادث ناقة ثمود ونكال الله فيهم لتمردهم وطغيانهم. وتقرير لقابلية اكتساب الخير والشر في الإنسان وإيداع الله فيه تلك القابلية وإقداره على هذا الاكتساب. وهي عرض عام لأهداف الدعوة ، وليس فيها مواقف حجاج وردود ، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت قبل الفصول التي ذكرت فيها مثل ذلك :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)) [١ الى ١٥]

(١) ضحاها : ضوءها في أول النهار.

(٢) تلاها : تبعها.

(٣) طحاها : بسطها أو وسعها.

(٤) ونفس وما سواها : جعلها سوية تامة الصفات والمظاهر خلقا وعقلا.

١٣٨

(٥) فألهمها فجورها وتقواها : هنا بمعنى أودع فيها قابلية الفجور والتقوى.

(٦) زكاها : طهرها بصالح الأعمال.

(٧) دساها : أفسدها بسيء الأعمال وخبيثها.

(٨) طغواها : طغيانها.

(٩) أشقاها : أشقى قوم ثمود وهو الذي عقر ناقة الله.

(١٠) سقياها : نصيبها من الشرب.

(١١) عقروها : هنا بمعنى قتلوها.

(١٢) فدمدم : دمر أو استأصل.

(١٣) فسوّاها : أحاط عذابه بها.

(١٤) لا يخاف عقباها : قال بعض المفسرين إن الجملة تعني أن الله لا يعبأ بأحد حينما ينزل عليهم عذابه ولا يسأل عن ذلك ، كما قالوا إنها تعني شقيّ ثمود الذي أقدم على عقر الناقة دون أن يحسب حساب العاقبة (١).

في السورة قسم رباني بما عدده من مظاهر الكون والخلق ونواميسها بأن المفلح السعيد من طهر نفسه باتباع الهدى وعمل الصالحات والتزام حدود الله ، وبأن الخاسر الشقي من أفسدها بالضلال والتمرد والأفعال المنكرة. وفيها كذلك تذكير بما كان من تكذيب ثمود لنبيهم وطغيانهم وجرأة أحدهم نتيجة لذلك على عقر ناقة الله دون أبوه بتحذير نبيهم وبما كان من نكال الله فيهم.

والسورة احتوت تقريرا عام التوجيه مستمر المدى لأهداف الدعوة في تطهير النفس والتسامي بها عن الإثم والغواية ، وتبشير المستقيمين بالفلاح والمنحرفين بالخسران. والإطلاق في كلمتي (زكاها ودساها) يمكن أن يتناول الطهارة الدينية والدنيوية أو الروحية والأخلاقية أو الفساد الديني والدنيوي أو الروحي والأخلاقي معا ، كما أن الفلاح والخيبة الواردين مع الكلمتين يمكن أن يتناولا الدنيا والآخرة معا ، وفي كل ذلك من جلال التلقين وشموله ما هو ظاهر.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي مثلا.

١٣٩

تعليق على جملة

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها)

وجملة (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)) تعني نفس الإنسان دون الأحياء الأخرى كما هو ظاهر من مضامين الآيات الثلاث التالية لها.

ولما كان الله عزوجل قد خلق كل شيء وأحسن خلقه كما جاء في آيات أخرى منها آية سورة السجدة هذه : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [٧] فإن في ذكر الإنسان بما جاء في الآيات [٧ ـ ١٠] معنى من معاني التنويه به وما اختصه الله به من إدراك وأودعه فيه من قابليات. ومعنى من معاني التنبيه على أنه ملزم دون غيره من الأحياء نتيجة لذلك بمسؤولية سلوكه. وفي هذا ما فيه من تكريم للإنسان وتحميله مسؤولية عن هذا التكريم. وقد تكررت هذه المعاني كثيرا في القرآن حيث ينطوي في ذلك خطورة ما تهدف إليه.

تعليق على جملة

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)

وحديث نبوي ورد في تفسيرها

ولقد روى مسلم والترمذي عن عمران بن حصين قال : «إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه. أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون به. فقال لا بل شيء قضي عليهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨))» (١) حيث ينطوي في الحديث تفسير للآية مفاده أن ما يفعله الإنسان من خير وشر هو بقضاء رباني سابق لا حيلة فيه. في حين أن الذي يتبادر بقوة من فحوى الآية وروحها أنها تتضمن تقرير كون الله عزوجل قد أودع في الناس قابلية

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٧٤.

١٤٠