الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: ٤٩٦
وأمّا غير الطيب مثل الشيرج والزبد والسمن فيجوز أكله إجماعاً .
قال الشيخ رحمه الله : ولا يجوز الادّهان به علىٰ وجه ، وأمّا وجوب الكفّارة بالادّهان فلَسْتُ أعرف به نصّاً ، والأصل براءة الذمّة .
ثم قال : وقد اختلف الناس علىٰ أربعة مذاهب :
فقال : أبو حنيفة : فيه الفدية علىٰ كلّ حال إلّا أن يداوي به جرحه أو شقوق رجليه .
وقال الحسن بن صالح بن حي : لا فدية فيه بحال .
وقال الشافعي : فيه الفدية في الرأس واللحية ، ولا فدية فيما عداهما ؛ ( لما فيه من ترجيل الشعر وتزيينه ، والمُحْرم منعوت بالشَّعَث المعتاد له .
ولو كان أقرع أو أصلع فدهن رأسه ، أو أمرد فدهن ذقنه ، فلا فدية عليه عنده ؛ إذ ليس فيه تزيين شعر .
ولو كان محلوق الرأس ، فوجهان .
ولو كان في رأسه شجّه فجعل الدهن في داخلها ، فلا شيء عليه ) (١) .
وقال مالك : إن دهن به ظاهر بدنه ، ففيه الفدية ، وإن كان في بواطن بدنه ، فلا فدية .
واستدلّ ـ رحمه الله ـ علىٰ مذهبه : بأصالة براءة الذمّة .
وبما رواه العامّة عن ابن عمر : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ادّهن ـ وهو مُحْرم ـ بزيت (٢) (٣) .
__________________
(١) ما بين القوسين ليس في الخلاف .
(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٣٠ / ٣٠٨٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٩٤ / ٩٦٢ ، مسند أحمد ٢ : ٥٩ .
(٣) الخلاف ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، المسألة ٩٠ ، وراجع : بدائع الصنائع ٢ : ١٩٠ ، والمبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٢٢ ، والهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦٠ ، والوجيز ١ : ١٢٥ ، وفتح العزيز ٧ : ٤٦٢ ، والمهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢١٧ ، والمجموع ٧ : ٢٧٩ و ٢٨٢ ، والحاوي الكبير ٤ : ١٠٩ و ١١٠ .
إذا عرفت هذا ، فنقول : الدهن الطيب كدهن الورد والبنفسج والنيلوفر يحرم الادّهان به ، وبه قال الأوزاعي وأحمد (١) .
وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي الادّهان بدهن البنفسج (٢) .
وقال الشافعي : ليس بطيب (٣) .
وهو غلط ؛ لأنّه يتّخذ للطيب ، وتُقصد رائحته ، فكان طيباً ، كماء الورد .
وأمّا ما لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج : فالمشهور عند علمائنا تحريم الادّهان به بعد الإِحرام اختياراً ، وذهب العامّة إلىٰ جوازه .
قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم علىٰ أنّ للمُحْرم أن يدّهن بدنه بالشحم والزيت والسمن (٤) .
ونقل بعض العامّة جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد وعطاء والضحّاك وغيرهم (٥) .
وقال عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وأحمد في رواية ، وأصحاب الرأي : لا يدّهن المُحْرم رأسه بالزيت الذي يؤكل ؛ لأنّه يُزيل الشَّعَث ويُرجّل الشعر ويُحسّنه (٦) .
__________________
(١) المغني ٣ : ٣٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٩ .
(٢) المدوّنة الكبرىٰ ١ : ٤٥٦ ، المغني ٣ : ٣٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٩ .
(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢١٦ ، المجموع ٧ : ٢٧٨ ، فتح العزيز ٧ : ٤٥٨ ، المغني ٣ : ٣٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٩ .
(٤) المغني ٣ : ٣٠٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٩٢ ، المجموع ٧ : ٢٨٣ .
(٥) المغني ٣ : ٣٠٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٩٢ .
(٦) المدوّنة الكبرىٰ ١ : ٤٥٥ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٢ ، المجموع ٧ : ٢٧٩ و ٢٨٢ ، المغني ٣ : ٣٠٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٩٢ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٢٢ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦٠ .
وأجمعوا على إباحة استعماله في اليدين ، وإنّما الكراهة عندهم في الرأس خاصّة ؛ لأنّه محلّ الشعر (١) .
لنا : ما رواه العامّة عن ابن عمر أنّه صدع وهو مُحْرم ، فقالوا : ألا ندّهنك بالسمن ؟ فقال : لا ، قالوا : أليس تأكله ؟ قال : ليس أكله كالادّهان به (٢) .
وعن مجاهد : إن تداوىٰ به ، فعليه الكفّارة (٣) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه السلام : « ولا تمسّ شيئاً من الطيب ولا من الدهن في إحرامك » (٤) .
وقال عليه السلام : « وادّهن بما شئت من الدهن حيت تريد أن تحرم ، فإذا أحرمت فقد حرم عليك الدهن » (٥) .
ولو ادّهن بالدهن الطيب قبل الإِحرام ، فإن كانت رائحته تبقىٰ إلىٰ بعد الإِحرام ، فَعَل حراماً ، ولو ذهبت رائحته بعد الإِحرام أو ادّهن قبله بما ليس بطيب ، فإنّه جائز إجماعاً .
مسألة ٢٤٣ : لو اضطرّ إلىٰ استعمال الأدهان الطيّبة حالة الإِحرام ، جاز له استعماله ، وتجب الفدية ؛ لما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن معاوية ابن عمّار : في مُحْرم كانت به قرحة فداواها بدهن بنفسج ، قال : « إن كان فعله بجهالة فعليه طعام مسكين ، وإن كان تعمّد فعليه دم شاة يهريقه » (٦) .
ويجوز استعمال ما ليس بطيب بعد الإِحرام اضطراراً إجماعاً ، ولا فدية ؛ لأصالة البراءة .
__________________
(١ ـ ٣) المغني ٣ : ٣٠٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٩٢ .
(٤) التهذيب ٥ : ٢٩٧ / ١٠٠٦ ، الاستبصار ٢ : ١٧٨ / ٥٩٠ .
(٥) الكافي ٤ : ٣٢٩ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٣٠٣ / ١٠٣٢ ، الاستبصار ٢ : ١٨١ ـ ١٨٢ / ٦٠٣ .
(٦) التهذيب ٥ : ٣٠٤ / ١٠٣٨ .
ولما رواه هشام بن سالم ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا خرج بالمُحْرم الخراج (١) أو الدمل فليُبطّه (٢) وليداوه بسمن أو زيت » (٣) .
البحث الخامس : الاكتحال بما فيه طيب
مسألة ٢٤٤ : أجمع علماؤنا علىٰ أنّه لا يجوز للمُحْرم أن يكتحل بكُحْل فيه طيب ، سواء كان رجلاً أو امرأة ؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله حرّم استعمال الطيب (٤) ، وهو قول كلّ من حرّم استعمال الطيب ، وتجب به الفدية كما قلنا في الطيب ؛ لقول الصادق عليه السلام : « لا يكحل المُحْرم عينيه بكُحْل فيه زعفران ، وليكحلها بكُحْل فارسي » (٥) .
إذا عرفت هذا ، فلا يجوز أن يكتحل للزينة ؛ لما رواه معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا بأس بأن تكتحل وأنت مُحْرم بما لم يكن فيه طيب يوجد ريحه ، فأمّا للزينة فلا » (٦) .
مسألة ٢٤٥ : لا يجوز للمُحْرم أن يكتحل بالسواد ، سواء كان رجلاً أو امرأةً ، إلّا عند الضرورة ، ويجوز لهما أن يكتحلا بما عداه من الأكحال إلّا إذا
__________________
(١) الخراج : القروح . القاموس المحيط ١ : ١٨٥ « خرج » .
(٢) بطّ الجرح : شقّه . القاموس المحيط ٢ : ٣٥١ « بطّ » .
(٣) الفقيه ٢ : ٢٢٢ / ١٠٤٠ ، التهذيب ٥ : ٣٠٤ / ١٠٣٦ .
(٤) انظر : صحيح مسلم ٢ : ٨٦٦ / ٩٩ ، وصحيح البخاري ٢ : ٩٦ و ٣ : ٢٢ ، وسنن النسائي ٥ : ١٩٦ ، وسنن البيهقي ٥ : ٧٠ ، ومسند أحمد ١ : ٢١٥ ، وفيها تصريح بتحريم الطيب للميّت المُحْرم . فللمُحْرم الحيّ أولىٰ كما ذكره ابنا قدامة في المغني ٣ : ٢٩٦ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٨٨ .
(٥) التهذيب ٥ : ٣٠١ / ١٠٢٧ .
(٦) الكافي ٤ : ٣٥٧ ذيل الحديث ٥ ، التهذيب ٥ : ٣٠٢ / ١٠٢٨ .
كان فيه طيب ، فإنّه لا يجوز علىٰ حال ، وبه قال الشافعي (١) .
وقال أبو حنيفة : يجوز الاكتحال بما فيه طيب (٢) .
وكره عطاء والحسن البصري ومجاهد الاكتحال بالإِثْمد (٣) .
وروي عن ابن عمر أنّه قال : يكتحل المُحْرم بكلّ كُحْل ليس فيه طيب (٤) .
قال مالك : لا بأس أن يكتحل المُحْرم من حَرٍّ يجده في عينيه بالإِثمد وغيره (٥) .
وعن أحمد أنّه قال : يكتحل المُحْرم ما لم يُردْ به الزينة ، قيل له : الرجال والنساء ، قال : نعم (٦) .
لنا علىٰ المنع من الأسود كالإِثْمد وشبهه : ما رواه العامّة : أنّ عليّاً عليه السلام قدم من اليمن فوجد فاطمة عليها السلام ممّن حلّ ، فلبست ثياباً صبيغاً واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : ( أبي أمرني بهذا ) فقال النبي صلّى الله عليه وآله : ( صَدَقَتْ صَدَقَتْ ) (٧) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه السلام : « لا يكتحل الرجل والمرأة المُحْرمان بالكُحْل الأسود إلّا من علّة » (٨) .
__________________
(١) مختصر المزني : ٦٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٢١ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ ، المجموع ٧ : ٣٥٣ .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ .
(٣) المغني ٣ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
(٤) المغني ٣ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ ، المجموع ٧ : ٣٥٤ .
(٥) المدوّنة الكبرىٰ ١ : ٤٥٧ ، المغني ٣ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
(٦) المغني ٣ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
(٧) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٨ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٤ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٤ / ٣٠٧٤ ، سنن النسائي ٥ : ١٤٤ ، المغني ٣ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
(٨) التهذيب ٥ : ٣٠١ / ١٠٢٣ .
ولقول النبي صلّى الله عليه وآله : ( الحاج أشعث أغبر ) (١) وهو ينافي الاكتحال .
مسألة ٢٤٦ : لو اكتحل الرجل والمرأة بالإِثْمد أو الأسود ، فَعَلا محرّماً عند أكثر علمائنا (٢) ، ولا تجب به الفدية ، عملاً بأصالة البراءة السالم عن معارض من نصٍّ أو غيره .
قال الشافعي : إن فَعَلا ، فلا أعلم عليهما فيه فدية بشيء (٣) .
ولا خلاف في زوال التحريم مع الضرورة .
ولا يجوز الاكتحال بما فيه زينة ؛ لقول الصادق عليه السلام : « تكتحل المرأة [ المُحْرمة ] (٤) بالكُحْل كلّه إلّا كحلاً أسود للزينة » (٥) .
وقال الصادق عليه السلام : « لا تكتحل المرأة المُحْرمة بالسواد ، إنّ السواد زينة » (٦) . وهو يدلّ علىٰ التعليل ، فيطّرد الحكم باطّرادها .
وقال الشافعي : يحرم الاكتحال بما فيه طيب ـ خلافاً لأبي حنيفة (٧) ـ وما لا طيب فيه يجوز الاكتحال به . نَقَله المزني (٨) .
وله قول آخر : إنّه يكره (٩) .
__________________
(١) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣١٣ ذيل المسألة ١٠٦ .
(٢) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٦٨ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ٢٢٠ ، والمبسوط ١ : ٣٢١ ، وسلّار في المراسم : ١٠٦ ، وابن إدريس في السرائر : ١٢٨ .
(٣) الْأُمّ ٢ : ١٥٠ ، المجموع ٧ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ، المغني ٣ : ٣١٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
(٤) أضفناها من المصدر .
(٥) التهذيب ٥ : ٣٠١ / ١٠٢٤ .
(٦) التهذيب ٥ : ٣٠١ / ١٠٢٥ .
(٧) فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ .
(٨) فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ ، مختصر المزني : ٦٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٢١ ، المجموع ٧ : ٣٥٣ .
(٩) فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ ، المجموع ٧ : ٣٥٣ .
وتوسّط آخرون من أصحابه : إن لم يكن فيه زينة كالتوتيا الأبيض ، لم يكره ، وإن كان فيه زينة كالإِثْمد ، كره ، إلّا لحاجة الرَّمَد (١) .
البحث السادس : النظر في المرآة
مسألة ٢٤٧ : اختلف علماؤنا في تحريم النظر في المرآة علىٰ المُحرم ، فقال بعضهم بالتحريم (٢) ، وبعضهم بالكراهة (٣) .
واحتجّ الأوّل : بما رواه العامّة عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : ( المُحْرم الأشعث الأغبر ) (٤) .
وفي آخر : ( إنّ الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول : يا ملائكتي انظروا إلىٰ عبادي قد أتوني شعثاً غبراً ضاحين ) (٥) (٦) .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه حمّاد ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا تنظر في المرآة للزينة » (٧) .
واحتجّ الآخرون : بأصالة الإِباحة .
وقال أحمد : لا ينظر في المرآة لإِزالة شعث أو تسوية شعر أو شيء من
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ ، المجموع ٧ : ٣٥٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٢١ .
(٢) كالشيخ المفيد في المقنعة : ٦٢ ، والشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٣٢١ ، والنهاية : ٢٢٠ ، وأبي الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ٢٠٣ ، وابن إدريس في السرائر : ١٢٨ .
(٣) كالشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣١٩ ، المسألة ١١٩ ، وابن حمزة في الوسيلة : ١٦٤ ، والمحقّق في المختصر النافع : ٨٥ .
(٤) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٠٣ ، والشرح الكبير ٣ : ٣٣٤ .
(٥) أي : بارزين ، من قولك : ضحيت للشمس : إذا برزت لها . الصحاح ٦ : ٢٤٠٧ « ضحا » .
(٦) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٠٣ ، والشرح الكبير ٣ : ٣٢٤ ، وفي سنن البيهقي ٥ : ٥٨ نحوه .
(٧) التهذيب ٥ : ٣٠٢ / ١٠٢٩ ، وفيه : « لا تنظر في المرآة وأنت مُحْرم فإنّها من الزينة » .
الزينة ، فإن نظر لحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعر ينبت في عينيه وغير ذلك ممّا أباح الشرع له فِعْلَه ، فلا بأس ، وعلىٰ كلّ حال لا فدية فيه (١) .
البحث السابع : لُبْس الحُليّ للزينة
مسألة ٢٤٨ : لا يجوز للمرأة في حال الإِحرام لُبْس الحُليّ للزينة وما لم تعتد لُبْسه في حال الإِحرام ؛ لقول الصادق عليه السلام في المُحْرمة : « إنّها تلبس الحُليّ كلّه إلّا حُليّاً مشهوراً للزينة » (٢) .
وسأل يعقوبُ بن شعيب الصادقَ عليه السلام عن المرأة تلبس الحُليّ ، قال : « تلبس المَسَك والخلخالين » (٣) .
ومنع أحمد بن حنبل من الخلخال وما أشبهه من الحُليّ ، مثل : السوار والدُّمْلج (٤) .
وروي عن عطاء أنّه كان يكره للمُحْرمة الحرير والحُليّ (٥) .
وكرهه الثوري وأبو ثور (٦) .
وعن قتادة أنّه كان لا يرىٰ بأساً أن تلبس المرأة الخاتم والقُرْط (٧) وهي مُحْرمة ، وكره السوارين والدُّمْلجين والخلخالين (٨) .
وظاهر مذهب أحمد : الجواز ، وهو قول ابن عمر وعائشة وأصحاب الرأي ؛ لأنّ عائشة قالت : تلبس المُحْرمة ما تلبس وهي حلال من خزّها وقزّها وحُليّها ، وعلىٰ كلّ حال لا فدية فيه عند أحمد (٩) .
__________________
(١) المغني ٣ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ .
(٢) الفقيه ٢ : ٢٢٠ / ١٠١٦ ، التهذيب ٥ : ٧٥ ـ ٧٦ / ٢٤٩ ، الاستبصار ٢ : ٣١٠ / ١١٠٥ .
(٣) الفقيه ٢ : ٢٢٠ / ١٠١٩ .
(٤ ـ ٦) المغني ٣ : ٣١٥ ـ ٣١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ .
(٧) القرط : نوع من حُليّ الاُذن . لسان العرب ٧ : ٣٧٤ « قرط » .
(٨ و ٩) المغني ٣ : ٣١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
وأمّا لُبْس القُفّازين ففيه الفدية عنده (١) ، وكذا عندنا ، لأنّها لبست ما نُهيت عن لُبْسه في الإِحرام ، فلزمتها الفدية ، كالنقاب ، وقد قال الصادق عليه السلام : « تلبس المرأة المُحْرمة الحُليّ كلّه إلّا القُرْط المشهور والقلادة المشهورة » (٢) .
مسألة ٢٤٩ : الحُليّ الذي تعتاد المرأة لُبْسه في الإِحلال يجوز لها لُبْسه في الإِحرام إذا لم تُظهره للزوج ؛ لما فيه من جذب الشهوة إلىٰ إيقاع المنهيّ عنه .
ولما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج ـ في الصحيح ـ أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام : عن المرأة يكون عليها الحُليّ والخلخال والمسكة والقُرْطان من الذهب والورق تُحْرم فيه وهو عليها وقد كانت تلبسه في بيتها قبل حجّها أتنزعه إذا أحرمت أو تتركه علىٰ حاله ؟ قال : « تُحْرم فيه وتلبسه من غير أن تُظهره للرجال في مركبها ومسيرها » (٣) .
مسألة ٢٥٠ : لا يجوز للمُحْرم أن يلبس الخاتم للزينة ، ويستحب للسنّة ؛ لأنّ الروايات الدالّة علىٰ تحريم لُبْس الحُليّ للزينة والاكتحال بالسواد للزينة والنظر في المرآة للزينة دلّت بمفهومها علىٰ تعليل الحرمة بالزينة ، فتثبت في لُبْس الخاتم ؛ لوجود العلّة .
ولأنّ مسمعاً سأل الصادق عليه السلام : أيلبس المُحْرم الخاتم ؟ قال : « لا يلبسه للزينة » (٤) .
وأمّا استحبابه للسنّة : فلأنّ محمد بن إسماعيل قال : رأيت العبد
__________________
(١) المغني ٣ : ٣١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٢ .
(٢) الفقيه ٢ : ٢٢٠ / ١٠١٤ .
(٣) الكافي ٤ : ٣٤٥ / ٤ ، التهذيب ٥ : ٧٥ / ٢٤٨ ، الاستبصار ٢ : ٣١٠ / ١١٠٤ .
(٤) التهذيب ٥ : ٧٣ / ٢٤٢ ، الاستبصار ٢ : ١٦٥ ـ ١٦٦ / ٥٤٤ .
الصالح عليه السلام وهو مُحْرم وعليه خاتم وهو يطوف طواف الفريضة (١) .
إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز للمرأة لُبْس الخاتم من الذهب ؛ للأصل .
ولأنّه يجوز لها لُبْسه حالة الإِحلال ، فيستصحب الحكم ما لم تقصد به الزينة .
ولما رواه عمّار عن الصادق عليه السلام ، قال : « تلبس المُحْرمة الخاتم من الذهب » (٢) .
إذا عرفت هذا ، فيجوز أن تلبس المرأة الحرير حالة الإِحرام علىٰ كراهية ، ولا يكره الذهب والخزّ ؛ لقول الصادق عليه السلام : « لا بأس أن تُحْرم المرأة في الذهب والخزّ ، وليس يكره إلّا الحرير المحض » (٣) .
البحث الثامن : تغطية الرأس
مسألة ٢٥١ : يحرم على الرجل حالة الإِحرام تغطية رأسه اختياراًً بإجماع العلماء ؛ لما رواه العامّة عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أنّه نهىٰ عن العمائم والبرانس (٤) .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه زرارة ـ في الصحيح ـ عن الباقر عليه السلام ، قال : قلت له : الرجل المُحْرم يريد أن ينام يغطّي وجهه من الذباب ؟ قال : « نعم ولا يخمّر رأسه » (٥) .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٧٣ / ٢٤١ ، الاستبصار ٢ : ١٦٥ / ٥٤٣ .
(٢) التهذيب ٥ : ٧٦ / ٢٥٠ .
(٣) الفقيه ٢ : ٢٢٠ / ١٠٢٠ .
(٤) الموطّأ ١ : ٣٢٥ / ٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٦٥ / ١٨٢٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٧٧ / ٢٩٢٩ ، سنن الترمذي ٣ : ١٩٤ ـ ١٩٥ / ٨٣٣ ، سنن النسائي ٥ : ١٣٢ و ١٣٣ ، سنن البيهقي ٥ : ٤٩ .
(٥) التهذيب ٥ : ٣٠٧ / ١٠٥١ ، الاستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١٤ .
إذا عرفت هذا ، فإنّه لا فرق بين أن يستر رأسه بمخيط ، كالقلنسوة ، أو بغير مخيط ، كالعمامة والإِزار والخرقة وكلّ ما يعدّ ساتراً ، وإذا ستر ، لزمه الفداء ؛ لأنّه باشر محظوراً ، كما لو حلق ، وإذا غطّىٰ رأسه ، ألقى الغطاء واجباً ، وجدّد التلبية مستحبّاً .
ولو توسّد بوسادة فلا بأس ، وكذا لو توسّد بعمامة مكورة (١) ؛ لأنّ المتوسّد يطلق عليه عرفاً أنّه مكشوف الرأس .
ولا فرق في التحريم بين تغطية الرأس بالمعتاد ، كالعمامة والقلنسوة ، أو بغيره ، كالزنبيل والقرطاس ، أو خضب رأسه بحنّاء ، أو طيّنه بطين ، أو حمل علىٰ رأسه متاعاً أو مكتلاً أو طبقاً ونحوه عند علمائنا .
وذكر الشافعي عن عطاء أنّه لا بأس به ، ولم يعترض عليه (٢) .
وهو يُشعر بموافقته ؛ إذ من عادته الردّ علىٰ المذهب الذي لا يرتضيه .
وقال ابن المنذر وجماعة من الشافعية : إنّه نصّ في بعض كتبه علىٰ وجوب الفدية (٣) ، فبعض الشافعية قطع بالأول ولم يُثبت الثاني (٤) ، وبعضهم قال : إنّ في المسألة قولين (٥) .
ووافقنا أبو حنيفة (٦) على التحريم ووجوب الفدية ؛ لأنّه غطّىٰ رأسه بما يستره ، فوجبت الفدية ، كغيره .
احتجّ الآخرون : بأنّه قصد نقل المتاع لا تغطية الرأس .
ولو ستر رأسه بيديه ، فلا شيء عليه ؛ لأنّ الستر بما هو متّصل به لا يثبت له حكم الستر . وكذا لو وضع يديه علىٰ فرجه ، لم يجزئه في الستر .
__________________
(١) كَوْر العمامة : إدارتها علىٰ الرأس . لسان العرب ٥ : ١٥٥ « كور » .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٤٣٥ ، المجموع ٧ : ٢٥٣ .
(٣) الحاوي الكبير ٤ : ١٠٢ ، فتح العزيز ٧ : ٤٣٥ ، المجموع ٧ : ٢٥٣ .
(٤ و ٥) فتح العزيز ٧ : ٤٣٥ ، المجموع ٧ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ .
(٦) انظر : فتح العزيز ٧ : ٤٣٥ .
ولأنّ المُحْرم مأمور بمسح رأسه ، وذلك يكون بوضع يده عليه .
وجوّز الحنابلة للمُحْرم أن يطلي رأسه بالعسل أو الصمغ ؛ ليجتمع الشعر ويتلبّد ، فلا يتخلّله الغبار ، ولا يصيبه الشَّعَث ، ولا يقع فيه الدبيب ؛ لما رواه ابن عمر ، قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يُهلّ ملبّداً (١) (٢) .
مسألة ٢٥٢ : يحرم عليه أن يرتمس في الماء بحيث يعلو الماء علىٰ رأسه ـ وبه قال مالك (٣) ـ لأنّه مشتمل علىٰ تغطية الرأس .
ولما رواه عبد الله بن سنان ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « ولا ترتمس في ماء يدخل فيه رأسك » (٤) .
وفي الصحيح عن حريز عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا يرتمس المُحْرم في الماء » (٥) .
ويجوز أن يغسل رأسه ويفيض عليه الماء إجماعاً ؛ لأنّه لا يطلق عليه اسم التغطية ، وليس هو في معناها ، كالارتماس .
ولما رواه حريز ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا اغتسل المُحْرم من الجنابة صبّ علىٰ رأسه الماء يميّز الشعر بأنامله بعضه من بعض » (٦) .
وكذا يجوز للمُحْرم أن يدلك رأسه ويحكّه بيده ؛ لأنّ زرارة سأله عن المُحْرم هل يحكّ رأسه أو يغسله بالماء ؟ فقال : « يحكّ رأسه ما لم يتعمّد قتل دابّة » (٧) .
__________________
(١) سنن النسائي ٥ : ١٣٦ .
(٢) المغني ٣ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٨ .
(٣) المنتقىٰ ـ للباجي ـ ٢ : ١٩٥ .
(٤) التهذيب ٥ : ٣٠٧ / ١٠٤٨ .
(٥) الفقيه ٢ : ٢٢٦ / ١٠٦٤ ، التهذيب ٥ : ٣٠٧ / ١٠٤٩ .
(٦) التهذيب ٥ : ٣١٣ ـ ٣١٤ / ١٠٨٠ .
(٧) الكافي ٤ : ٣٦٦ / ٧ ، الفقيه ٢ : ٢٣٠ / ١٠٩٢ .
ولا يحلّ للمُحْرم أن يضع الطيب في رأسه بحيث يبقىٰ إلىٰ بعد الإِحرام ؛ لما تقدّم من تحريم استعمال الطيب .
وخالف فيه الجمهور (١) .
ولو خضب رأسه ، وجبت الفدية ، سواء كان الخضاب ثخيناً أو رقيقاً ؛ لأنّه ساتر ، وبه قال الشافعي (٢) .
وفصّل أصحابه بين الثخين والرقيق ، فأوجبوا الفدية في الأول دون الثاني (٣) .
وليس بمعتمد .
وكذا لو وضع عليه مرهماً له جرم يستر رأسه .
ولو طلىٰ رأسه بعسل أو لبن ثخين فكذلك ، خلافاً للشافعي (٤) .
ولو طيّن رأسه ، وجبت الفدية عندنا .
وللشافعية وجهان كالوجهين فيما إذا طلىٰ بالطين عورته وصلّىٰ هل تجزئه ؟ (٥) .
مسألة ٢٥٣ : لا يشترط في وجوب الفدية استيعاب الرأس بالستر ، بل تجب الفدية بستر بعض الرأس كما تجب بستر جميعه ؛ لأنّ المنع من تغطية الجميع يقتضي المنع من تغطية بعضه ؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قال : ( لا تخمّروا رأسه ) (٦) والنهي عنه يُحرّم فِعْلَ بعضه .
__________________
(١) المغني ٣ : ٣١٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٩ .
(٢) المغني ٣ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٦ .
(٣) فتح العزيز ٧ : ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ، المجموع ٧ : ٢٥٣ .
(٤) الحاوي الكبير ٤ : ١١٠ .
(٥) فتح العزيز ٧ : ٤٣٦ ، المجموع ٧ : ٢٥٣ .
(٦) صحيح البخاري ٢ : ٩٦ و ٣ : ٢٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٨٥ ـ ٦٨٦ / ٩٣ و ٩٤ و ٩٦ و ٩٨ و ٩٩ ، سنن النسائي ٥ : ١٩٦ و ١٩٧ ، سنن البيهقي ٥ : ٧٠ ، مسند أحمد ١ : ٢١٥ .
وكذلك لمّا قال تعالىٰ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) (١) حرم حلق بعضه .
ولا فرق بين أن يكون ذلك لعذر أو لغير عذر ، فإنّ العذر لا يُسقط الفدية ، كما قال تعالىٰ : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًىٰ مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ) (٢) .
ولو افتقر إلى تعصيب الرأس بعصابة ، جاز عند الحاجة ـ وبه قال عطاء (٣) ـ لأنّه في محلّ الحاجة والضرورة ، وقد قال تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٤) .
وقال الصادق عليه السلام : « لا بأس أن يعصب المُحْرم رأسه من الصداع » (٥) .
وسأل محمّدُ بن مسلم الصادق عليه السلام : عن المُحْرم يضع عصام (٦) القِرْبة علىٰ رأسه إذا استقىٰ ، فقال : « نعم » (٧) .
واختلفت العامّة في الاُذنين هل يحرم سترهما ؟ فنصّ الشافعي علىٰ تسويغه (٨) .
ومنع أحمد منه (٩) ؛ لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال : ( الاُذنان من الرأس ) (١٠) .
__________________
(١ و ٢) البقرة : ١٩٦ .
(٣) المغني ٣ : ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٦ .
(٤) الحج : ٧٨ .
(٥) الكافي ٤ : ٣٥٩ / ١٠ ، التهذيب ٥ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ / ١٠٥٦ .
(٦) العصام : رباط القِرْبة وسيرها الذي تُحمل به . الصحاح ٥ : ١٩٨٧ « عصم » .
(٧) الفقيه ٢ : ٢٢١ / ١٠٢٤ .
(٨ و ٩) المغني ٣ : ٣٠٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٦ .
(١٠) سنن أبي داود ١ : ٣٣ / ١٣٤ ، سنن الترمذي ١ : ٥٣ / ٣٧ ، سنن ابن ماجة ١ : ١٥٢ / ٤٤٣ ـ ٤٤٥ ، سنن البيهقي ١ : ٦٦ و ٦٧ ، سنن الدارقطني ١ : ٩٧ / ١ ـ ٣ ، مسند أحمد ٥ : ٢٦٤ و ٢٦٨ .
ولو ستر بعض رأسه بيده ففي التحريم إشكال .
وجوّزه العامّة ؛ لأنّ الستر بما هو متّصل به لا يثبت له حكم الستر (١) .
وسأل سعيدُ الأعرج الصادقَ عليه السلام عن المُحْرم يستتر من الشمس بعود أو بيده ، فقال : « لا ، إلّا من علّة » (٢) .
مسألة ٢٥٤ : لو غطّىٰ رأسه ناسياً ، ألقىٰ الغطاء وجوباً ، وجدّد التلبية استحباباً ، ولا شيء عليه .
أمّا وجوب الإِلقاء : فلأنّ استدامة التغطية مع الذكر كابتدائها ؛ لما فيه من الترفّه ، بل هو في الاستدامة أقوىٰ منه في الابتداء ، فإيجاب الفدية فيه أولىٰ .
وأمّا استحباب التلبية : فلأنّ حريز بن عبد الله سأل الصادق عليه السلام ـ في الصحيح ـ عن مُحْرم غطّىٰ رأسه ناسياً ، قال : « يُلقي القناع عن رأسه ، ويلبّي ، ولا شيء عليه » (٣) .
وكذا لو غطّاه حال نومه ؛ لما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ أنّه سأل الصادق عليه السلام : عن المُحْرم يغطّي رأسه ناسياً أو نائماً ، قال : « يلبّي إذا ذكر (٤) » (٥) .
ولأنّ التغطية تنافي الإِحرام ، لأنّها مُحرَّمة فيه ، فاستحبّ تجديد ما ينعقد به ، وهو التلبية .
مسألة ٢٥٥ : يجوز للمُحْرم تغطية وجهه عند علمائنا أجمع ـ وبه قال علي عليه السلام ، وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص
__________________
(١) المغني ٣ : ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٦ .
(٢) الفقيه ٢ : ٢٢٧ / ١٠٦٩ .
(٣) التهذيب ٥ : ٣٠٧ / ١٠٥٠ ، الاستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١٣ .
(٤) في النسخ الخطية والحجرية : « ركب » وما أثبتناه من المصدر .
(٥) الفقيه ٢ : ٢٢٧ / ١٠٧٠ .
وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت وجابر ومروان بن الحكم والقاسم وطاوس والثوري والشافعي وإسحاق وأحمد في إحدىٰ الروايتين
وعن ابن عباس : أنّ مُحْرماً وقصت به ناقته غداة عرفات ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : ( خمّروا وجهه ولا تخمّروا رأسه ، فإنّه يحشر يوم القيامة ملبّياً ) (٣) .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه زرارة ـ في الصحيح ـ قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : الرجل المُحْرم يريد أن ينام يغطّي وجهه من الذباب ؟ قال : « نعم ولا يخمّر رأسه » (٤) .
وقال الصادق عليه السلام : « المُحْرمة لا تتنقّب ، لأنّ إحرام المرأة في وجهها ، وإحرام الرجل في رأسه » (٥) .
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الاُخرىٰ : يحرم عليه تغطية وجهه ، كالمرأة ؛ لتساويهما في تحريم الطيب ، فكذا التغطية .
ولأنّه قد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله في المُحْرم الذي وقصت به
__________________
(١) المغني ٣ : ٣١٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٩ ، الْأُم ٧ : ٢٤١ ، المجموع ٧ : ٢٦٨ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٨ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٨٥ ، وليس في المصادر : علي عليه السلام .
(٢) سنن الدارقطني ٢ : ٢٩٤ / ٢٦٠ ، المغني ٣ : ٣١٠ ـ ٣١١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٠ .
(٣) سنن البيهقي ٣ : ٣٩٣ .
(٤) التهذيب ٥ : ٣٠٧ / ١٠٥١ ، الاستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١٤ .
(٥) الكافي ٤ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ / ٧ ، الفقيه ٢ : ٢١٩ / ١٠٠٩ ، وفيهما : عن الصادق عن أبيه عليهما السلام .
ناقته : ( ولا تخمّروا وجهه ولا رأسه ) (١) (٢) .
ويبطل القياس بلُبْس القُفّازين ، والحديث ممنوع ، فإنّ المشهور فيه : ( ولا تخمّروا رأسه ) (٣) .
مسألة ٢٥٦ : وإحرام المرأة في وجهها ، فيحرم عليها تغطية وجهها حال إحرامها ، كما يحرم علىٰ الرجل تغطية رأسه ، ولا نعلم فيه خلافاً ـ إلّا ما روي عن أسماء أنّها كانت تغطّي وجهها وهي مُحْرمة (٤) ، ويحتمل أنّها كانت تُغطّيه بالسدل عند الحاجة ، فلا يكون اختلافاً ـ لما رواه العامّة عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال : ( إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ) (٥) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه السلام : « إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها » (٦) .
إذا عرفت هذا ، فقد اجتمع في حقّ المُحْرمة فِعْلان لا يمكن فعل أحدهما إلّا بفعل ما ينافي الآخر : ستر الرأس وكشف الوجه ، فالقدر اليسير من الوجه الذي يلي الرأس يجوز لها ستره ؛ إذ لا يمكن استيعاب الرأس بالستر إلّا بستر ذلك الجزء ، وهذا أولىٰ من تسويغ كشف جزء من الرأس تبعاً لكشف
__________________
(١) صحيح مسلم ٢ : ٨٦٦ / ٩٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٣٠ / ٣٠٨٤ ، سنن النسائي ٥ : ١٩٦ .
(٢) المغني ٣ : ٣١٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٩ ، فتح العزيز ٧ : ٤٤٦ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٨ ، المجموع ٧ : ٢٦٨ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٨٥ ، المنتقىٰ ـ للباجي ـ ٢ : ١٩٩ .
(٣) صحيح البخاري ٢ : ٩٦ و ٣ : ٢٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٦٥ ـ ٨٦٧ / ٩٣ و ٩٤ و ٩٦ و ٩٩ و ١٠٠ ، سنن البيهقي ٣ : ٣٩٣ و ٥ : ٧٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٥٠ ، سنن النسائي ٥ : ١٩٥ ـ ١٩٧ ، المغني ٣ : ٣١١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٠ .
(٤) المغني ٣ : ٣١١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٠ .
(٥) سنن الدارقطني ٢ : ٢٩٤ / ٢٦٠ ، المغني ٣ : ٣١٠ ـ ٣١١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٠ .
(٦) الكافي ٤ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ / ٧ ، الفقيه ٢ : ٢١٩ / ١٠٠٩ .
جميع الوجه ، لأنّ الستر أحوط من الكشف .
ولأنّ المقصود إظهار شعار الإِحرام بالاحتراز عن التنقّب ، وستر الجزء المذكور لا يقدح فيه ، والرأس عورة كلّه ، فيُستر .
إذا ثبت هذا ، فإنّه يجوز لها أن تسدل ثوباً علىٰ وجهها فوق رأسها إلىٰ طرف أنفها متجافياً عنه بخشبة وشبهها ، كما يجوز للرجل الاستظلال نازلاً ، عند علمائنا أجمع ـ وهو قول عامّة أهل العلم (١) ـ لما رواه العامّة عن عائشة ، قالت : كان الرُكْبان يمرّون بنا ونحن مُحْرمات مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فإذا حاذَوْنا سدلت إحدانا جِلْبابها من رأسها علىٰ وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه (٢) .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه حريز ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام قال : « المُحْرمة تسدل الثوب علىٰ وجهها إلىٰ الذقن » (٣) .
ولأنّ بالمرأة حاجة إلىٰ ستر وجهها ، فلا يحرم عليها علىٰ الإِطلاق ، كالعورة .
ولا فرق بين أن تفعل ذلك لحاجة من دفع حَرٍّ أو بَرْدٍ أو فتنةٍ أو لغير حاجة .
قال الشيخ رحمه الله : ينبغي أن يكون الثوب متجافياً عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة ، فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة ، فلا شيء عليها ، وإلّا وجب الدم (٤) .
__________________
(١) المغني ٣ : ٣١١ ـ ٣١٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٢٩ ، فتح العزيز ٧ : ٤٤٩ ، المجموع ٧ : ٢٦٢ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٢٨ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٨٦ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٧ .
(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٦٧ / ١٨٣٣ ، المغني ٣ : ٣١٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٢٩ .
(٣) الفقيه ٢ : ٢١٩ / ١٠٠٧ .
(٤) انظر : المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٢٠ .
ويشكل بأنّ السدل لا يكاد يسلم من إصابة البشرة ، ولو كان شرطاً ، لبيّن ؛ لأنّه موضع الحاجة .
مسألة ٢٥٧ : يحرم علىٰ المرأة النقاب حالة الإِحرام ؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قال : ( ولا تتنقّب المرأة ولا تلبس القُفّازين ) (١) .
ولقول الصادق عليه السلام : « إحرام المرأة في وجهها » (٢) .
ورواه العامّة أيضاً عن النبي عليه السلام (٣) .
وكذا يحرم عليها لُبْس البُرْقع ؛ لاشتماله علىٰ ستر الوجه .
ويجوز لها بعد الإِحلال أن تطوف متنقّبةً من غير كراهة له ؛ فإنّ المقتضي للمنع هو الإِحرام .
وكرهه عطاء ثم رجع عنه (٤) . وطافت عائشة متنقّبة (٥) .
مسألة ٢٥٨ : قد بيّنّا أنّه تجب الفدية بستر بعض الرأس كما تجب بستر جميعه .
وضبطه الشافعي بأن يكون المستور قدراً يقصد ستره لغرض من الأغراض ، كشدّ عصابة وإلصاق لصوقٍ لشجّةٍ ونحوها .
ثم قال : لو شدّ خيطاً علىٰ رأسه ، لم يضرّ ، ولا تجب الفدية ؛ لأنّ ذلك لا يمنع من تسميته حاسر الرأس (٦) .
وهو ينقض الضابط المذكور ؛ فإنّ شدّ المقدار الذي يحويه شدّ الخيط
__________________
(١) صحيح البخاري ٣ : ١٩ ، سنن أبي داود ٢ : ١٦٥ / ١٨٢٥ ، سنن النسائي ٥ : ١٣٦ ، سنن البيهقي ٥ : ٤٦ .
(٢) الكافي ٤ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ / ٧ ، الفقيه ٢ : ٢١٩ / ١٠٠٩ .
(٣) سنن الدارقطني ٢ : ٢٩٤ / ٢٦٠ ، المغني ٣ : ٣١٠ ـ ٣١١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٨٠ .
(٤) المغني ٣ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٠ .
(٥) المغني ٣ : ٣١٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٠ .
(٦) فتح العزيز ٧ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، المجموع ٧ : ٢٥٣ .
قد يقصد أيضاً لغرض منع الشعر من الانتشار وغيره ، فإذاً الأولىٰ النظر إلىٰ تسميته حاسر الرأس ومستور جميع الرأس أو بعضه .
وعند أبي حنيفة لا تكمل الفدية إلّا إذا ستر ربع الرأس فصاعداً ، فإن ستر أقلّ من ذلك ، فعليه صدقة (١) .
البحث التاسع : التظليل
مسألة ٢٥٩ (٢) : يحرم علىٰ المُحْرم الاستظلال حالة السير ، فلا يجوز له الركوب في المحمل وما في معناه ، كالهودج والكنيسة والعمارية وأشباه ذلك ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال ابن عمر ومالك وسفيان بن عيينة وأهل المدينة وأبو حنيفة وأحمد (٣) ـ لما رواه العامّة عن ابن عمر أنّه رأىٰ علىٰ رحل عمر بن عبد الله ابن أبي ربيعة عوداً يستره من الشمس ، فنهاه (٤) .
ورأىٰ رجلاً مُحْرماً علىٰ رحل قد رفع ثوباً علىٰ عود يستتر به من الشمس ، فقال : اضحَ لمن أحرمت له (٥) . أي : أبرز للشمس .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه جعفر بن المثنىٰ الخطيب عن محمّد بن الفضيل وبشر بن إسماعيل ، قال : قال لي محمّد : ألا أُبشّرك يابن مثنىٰ ؟ فقلت : بلىٰ ، فقمت إليه ، فقال : دخل هذا الفاسق آنفاً ، فجلس قبالة أبي الحسن عليه السلام ، ثم أقبل عليه ، فقال له : يا أبا الحسن ما تقول في المُحْرم أيستظلّ علىٰ المحمل ؟ فقال [ له ] (٦) : « لا » قال : فيستظلّ في
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ٤٣٨ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٢٨ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦١ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٨٧ .
(٢) ورد في هامش « ن » : ليس في نسخة المصنّف بعد هذا البحث مسألة .
(٣) المغني ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٢٨ ، حلية العلماء ٣ : ٢٨٤ ، المجموع ٧ : ٢٦٧ .
(٤ و ٥) المغني ٣ : ٢٨٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٧ ، ونحوهما في سنن البيهقي ٥ : ٧٠ .
(٦) أضفناها من المصدر .