التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

اللهِ أَفْواجاً (٢)) لو صفا رائعا للإقبال التطوعي على الإسلام مهما كان ذلك نتيجة من نتائج الفتح والنصر والتغلب على الأعداء البغاة الصادين عن دين الله وخضد شوكتهم ، بل إن هذا يحمل على القول إن عدم إقبال الناس على الإسلام قد كان أثرا لنشاط هؤلاء الأعداء ومكرهم ومؤامراتهم وحسب. وهو ما تؤيده نصوص قرآنية عديدة أيضا كما ترى في الآيات التالية مثلا :

١ ـ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) البقرة : [١٦٦].

٢ ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إبراهيم : [٢١].

٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) سبأ : [٣٣].

كذلك يجد الذي ينعم النظر في النصوص القرآنية أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية محدود بحد الذين لا يدينون بدين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، وأن هؤلاء ليسوا جميع أهل الكتاب وإنما فريق منهم. ومعلل كذلك بأن زعماءهم الدينيين كانوا يصدون عن سبيل الله لضمان منافعهم المادية كما ترى في الآيات التالية :

١ ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) التوبة : [٢٩].

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) التوبة : [٣٤].

٦١

ثم نجد أن اليهود وغيرهم تمتعوا بكل حرية الجدل والحجاج والإنكار والجحود بل بثّ الشكوك والريب في صدور المسلمين وغيرهم بل والوقوف موقف السخرية والتحدي مع احتفاظهم بدينهم وطقوسهم وعهودهم وأن موقف العداء الحربي ضد العرب منهم إنما كان مقابلة على ما بدا منهم من صدّ وأذى وطعن وإخراج وفتنة وظلم ومؤامرة وبغي.

وإنّ هذا الموقف من اليهود لم يكن إلا بعد أن بدا منهم الصدّ والطعن والأذى والغدر والنكث والتآمر مع الأعداء المحاربين ومظاهرتهم في الحرب مما جاء في القرآن قويا صريحا واضحا (١). وبالتالي إن ما كان من أحداث بين النبي واليهود لم يخرج عن نطاق المبادئ القرآنية المكية والمدنية. أما ما كان من غزوات مشارف الشام التي يقطنها نصارى العرب في زمن النبي كدومة الجندل وبني كلب ومؤتة وتبوك فالروايات كثيرة على أنها لم تقع إلا مقابلة على عدوان هؤلاء على قوافل المسلمين ، والحملات التي جهّزها أبو بكر ليست إلا امتدادا لها ولحركات حروب الردة.

والقول إن الجهاد اقترن بالإغراء بالغنائم مهما كان فيه شيء من الحقيقة إلا أنه طبيعي لا شذوذ فيه ما دام الجهاد دفاعيا وفي نطاق الانتصار من الظلم. على أن في إطلاق القول توسعا لا ينطبق على نصوص القرآن فأكثر آيات الجهاد اقترنت ببيان واجب الجهاد وضرورته وثوابه عند الله والقليل الذي اقترن بوعد الفتح والغنائم اقترن أيضا ببيان الواجب والضرورة وحسن الثواب عند الله ، وإن من الحق

__________________

(١) في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة آيات وفصول عديدة وطويلة فيما كان لليهود من مواقف حجاجية وتشكيكية وتآمرية كما أن في سور الأنفال والحشر والأحزاب آيات صريحة بمواقف النكث والعداء والخيانة التي وقفوها فاستحقوا عليها التنكيل مما يستغرق نقله حيّزا واسعا اقرأ مثلا آيات البقرة : [٤٠ ـ ٤٢ و ٧٥ ـ ٧٦ و ١٠٦ و ١٣٩ و ١٤٧] ، وآل عمران : [٦٥ ـ ١٢٠] ، والنساء : [٤٤ ـ ٥٦ و ١٥٣ ـ ١٦٥] ، والمائدة : [٤١ ـ ٤٢ و ٥٧ ـ ٧٦ و ٧٢] ، والأنفال : [٥٥ ـ ٦٣] ، والأحزاب : [٢٦ ـ ٢٧] ، والحشر : [١ ـ ٤].

٦٢

أن يقرر أن ذلك على كل حال قد جاء في القرآن وظل ثانويا ولم يكن رئيسيا أصلا (١).

وعلاوة على هذا فإن الحثّ على الإنفاق في سبيل الله قد شغل حيزا غير يسير من القرآن وجاء بأساليب قوية نافذة.

وهذا مما يكون قرينة قوية على الهدف الذي استهدف بالجهاد وهو توطيد الأمن وحرية الدعوة ودفع البغي والعدوان وإيجاب الإنفاق عليه على المسلمين أكثر من إغرائهم بالمغانم من ورائه (٢).

أما حياة النبي الشخصية وزواجاته فإنها من جهة متسقة مع طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن ، ومن جهة فإن في الفصول القرآنية ما يزيل ما وقع من الوهم في مشكلاتها وما يدل على الخطأ في فهمها وروايتها. وفي آيات تخيير نساء النبي في سورة الأحزاب [٢٨ ـ ٣٤] ما فيه كل الاتساق مع عظمة خلق النبي واستغراقه في الله ومهمته العظمى وما كان يختاره من شظف العيش وضنكه في حياته البيتية الخاصة. هذا مع القول إن الأخذ والردّ في هذه الناحية ليس إلا ظاهرة من ظواهر التمحّل والهوى وضيق الأفق والنظر والتعامي عن الجوهر واللباب (٣).

__________________

(١) اقرأ مثلا الآيات التالية البقرة : [١٥٤ إلى ١٥٧ و ١٩٠ إلى ١٩٤ و ٢١٦ إلى ٢١٨] ، وآل عمران : [١٣٩ إلى ١٤٨ و ١٦٩ إلى ١٧٩ و ١٩٥] ، والنساء : [٧٢ إلى ٧٦ و ٩٤ إلى ١٠٠] ، والمائدة : [٣٣ إلى ٣٤ و ٥١ إلى ٦٦] ، والأنفال : [١ إلى ٨ و ٣٨ إلى ٤٧ و ٥٥ إلى ٧١] ، والتوبة : [١ إلى ١٦ و ٢٠ إلى ٢٢ و ٢٩ إلى ٣٥ و ٨٩ إلى ١٠٠ و ١١١ و ١١٨ إلى ١٣٢] ، والحج : [٣٩ إلى ٤١] ، والأحزاب : [١٠ إلى ١٤ و ٢٢ إلى ٢٧] ، والصف : [١٠ إلى ١٣].

(٢) اقرأ الفصل الرائع في سورة البقرة : [٢٦٠ إلى ٢٦٤] وكذلك آيات البقرة : [١٩٥ و ٢٤٥ و ٢٥٤] ، والحديد : [١٠ إلى ١١ و ١٨] مثلا.

(٣) في مختلف فصول كتابنا «سيرة الرسول» الذي صدر عام ١٣٦٨ / ١٩٤٨ شروح وبيانات وافية مؤيدة بالأسانيد القرآنية في صدد جميع ما تناوله هذا البحث وخاصة في فصول اليهود والنصارى والجهاد والتشريع في الجزء الثاني.

٦٣

ـ ١٠ ـ

القرآن والعرب في عهد النبي :

والناظر في القرآن يجد أن موضوع (القرآن) وصلته بالوحي الرباني كان موضوعا رئيسيا بل من أهمّ المواضيع الجدلية بين النبي وبين زعماء الكفار ونبهائهم. وقد نسبوا إلى النبي في سياق ذلك أنواع النسب فقالوا إنه شاعر وإنه كاهن وإنه ساحر وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه يقتبس ما يتلوه من أساطير الأولين وكتبهم وقصصهم ، وإن هناك من يعلّمه ويساعده في ما ينظمه ويتلوه ، وإنه مسحور وإنه مجنون وإن الذين يوحون إليه به هم الشياطين والجن على ما كانوا يعتقدون ذلك في شأن السحرة والكهان والشعراء. وتآمروا سرا وعلنا على التشويش عليه واللغو عند تلاوته ، والإعراض والصدّ عن سماعه ، واستغلّوا بعض الظروف (١) في صدده فحملوا بعض ضعفاء الإيمان على الارتداد إلخ ، ويجد أن هذا الموضوع قد شغل حيزا غير يسير من سور القرآن وخاصة المكي منه (٢) ، وإن القرآن قد حكى عنهم ما قالوه وفعلوه بكل ما في ذلك من جرأة وصراحة وبذاءة وسوء أدب واتهام ومكابرة ، وردّ عليهم ردودا قاطعة قوية عنيفة كانت تتلى عليهم على ملأ الناس وتقذف في وجوه الجاحدين والمعاندين والمكذبين والصادقين والمحاجين مسفهة تارة ومنددة تارة ومتحدية تارة ومبينة للأسباب الحقيقة التي

__________________

(١) اقرأ آيات النحل [٩٨ ـ ١١٠] وكتابنا «سيرة الرسول» ج ١ ص ٢٤١ ـ ٢٤٤.

(٢) الآيات كثيرة جدا ومبثوثة في سور القرآن عامة المكي منها خاصة ومع ذلك فإننا نشير إلى بعضها للرجوع إليه والتمعن فيه : البقرة : [٢١ ـ ٢٥ و ٤٠ ـ ٤٦ و ٨٩ ـ ٩١] ، والنساء : [١٦٣ ـ ١٧٠] ، والأنعام : [٦٨ ـ ٦٩ و ١٢٤] ، والأنفال : [٣١ ـ ٣٢] ، ويونس : [١٥ ـ ١٧ و ٣٦ ـ ٤٠] ، وهود : [١٣ ـ ١٤] ، والحجر : [٦ ـ ١٥] ، والإسراء : [٤٥ ـ ٤٨ و ٨٩ ـ ٩٣] ، والكهف : [١ ـ ٦] ، والأنبياء : [٢ ـ ١٠] ، والمؤمنون : [٦٦ ـ ٦٧] ، والفرقان : [١ ـ ٦ و ٣٠ ـ ٣٤] ، والشعراء : [١٩٢ ـ ٢٢٧] ، والنمل : [١ ـ ٦] ، والعنكبوت : [٤٥ ـ ٥٢] ، والسجدة : [١ ـ ٣] ، وسبأ : [١ ـ ٩ و ٣١ ـ ٣٥ و ٤٣ ـ ٤٨] ، والحج : [٧٢ ـ ٧٨] ، وفاطر : [٢٩ ـ ٤٣] ، ويس : [١ ـ ١١ و ٦٩ ـ ٧٠] ، وفصلت : [٢٦ و ٤٤ إلى ٤٦].

٦٤

تمنعهم من الإيمان والتصديق تارة كالاستكبار والتعاظم والاعتداد بالمال والجاه والعصبية ، وخشية فقدان المنافع والمصالح وعدوان الخارج وقطيعة الناس وانفضاض الجمهور عنهم إلخ. ثم ظل النبي بتأييد الله ووحيه وقوته وتثبيته لا يزداد إلا استغراقا في مهمته وفناء في ربّه واستمرارا في الدعوة إليه وإشفاقا على قومه لينقذهم ثم لينقذ البشر جميعا من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، إلى أن يسّر الله أمر الهجرة إلى المدينة المنورة وأيد نبيه بنصره وحقق له وعده فنصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب ، وأهلك أكثر الزعماء الأقوياء المستكبرين الصادين الذين قادوا حملة المعارضة وتولوا كبرها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فالقرآن يمثل فيما يمثل هذه القوة الروحانية العظمى التي كانت وما زالت الحاسمة في الموقف والمثيرة للإعجاب والإعظام والإجلال.

ومن الجدير بالذكر أن كل ما يمكن أن يقوله كافر جاحد عنيد شديد العداء عن القرآن والنبي قد قاله كفار العرب في حضرته مباشرة ، وبكل عناد وقوة ولجاجة ، وإن النبي قد ردّ عليه بلسان القرآن بكل قوة وعنف وقطعية وإفحام وصمد له صمودا رائعا عظيما. وكان ذلك على مرأى ومسمع من مختلف الفئات ثم استمر في تبليغ الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق وأسباب سعادة الدارين ، وفي كل هذا دليل قوي أخاذ على ما كان من عمق شعوره عليه‌السلام بصدق رسالته وصدق صلته بالوحي الرباني وإدراكه التام لمدى مهمته العظمى واستغراقه فيها.

وإن المرء ليشعر بها شعورا يملك عليه نفسه إذا كان حسن النية متجردا عن الهوى إذ يقرأ في القرآن آيات النساء [١٦٧] والأنعام [٩٣] والشورى [٢٤] والأحقاف [٨] والحاقة [٣٨ ـ ٥٢] التي نقلناها قبل ويقرأ منها آيات يونس هذه :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا

٦٥

أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)).

ومن العجيب أن يظل المغرضون من المبشرين والمستشرقين يأخذون ويردون ويعيدون ويبدئون فيما لم يقصر به زعماء كفار العرب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة ، وبعد أن احتوى القرآن ما احتواه في صدد ذلك من آيات رائعة وردود قوية وتحدّ مفحم وصميمية نافذة مستولية ، وأن يتمسكوا كما تمسك أولئك بالقشور دون اللباب وبالعرض دون الجوهر وأن لا يتورعوا عن البذاءة والغثاثة والصغار والمراء بالباطل وأن لا يكون تقدم الأدب الإنساني والحضارة الإنسانية والتفكير الإنساني ذا أثر رادع في مكابرة المكابرين ومماراة الممترين وخروجهم فيهما عن نطاق الأدب والحق والمنطق.

٦٦

الفصل الثاني

جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته

ـ ١ ـ

مجموعات من الروايات والأقوال في تدوين القرآن :

أما تدوين القرآن وجمعه وترتيبه فإن الناظر في كتب علماء القرآن ورواة الحديث عنهما يجد أقوالا وروايات كثيرة حول هذا الموضوع مختلفة اختلافا غير يسير ، ومتعارضة أحيانا.

فأولا : إن هناك أقوالا وروايات تفيد أن النبي عليه‌السلام توفي ولم يكن القرآن قد جمع في شيء ، وإن جمعه وترتيبه إنما تمّا بعد وفاته وإن ما كان يدوّن منه في حياته كان يدون على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل ، ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج ، وأن المدونات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة ، وكانت على الأكثر متفرقة عند المسلمين ، وأن المعول في القرآن ، إنما كان على القراء وصدور الرجال :

١ ـ فقد ورد حديث منسوب إلى زيد بن ثابت برواية الزهري جاء فيه أن النبي قبض ولم يكن القرآن قد جمع بشيء. ولقد علّق الخطابي على ما جاء في «إتقان» السيوطي على هذا الحديث بقوله إنما لم يجمع النبي القرآن لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه وآياته. فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك بوفاء وعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر. ثم قال وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي مسلم

٦٧

«لا تكتبوا عني غير القرآن» فلا ينافي ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كلّه كتب في عهد رسول الله لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور.

٢ ـ وقد روى البخاري حديثا عن زيد بن ثابت عن جمع القرآن بعد وفاة النبي هذا نصه : قال زيد أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن نأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله قال عمر هو والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري بذلك ورأيت الذي رأى عمر. قال أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني في نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمراني به من جمع القرآن. قلت فكيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله. قال هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للّذي شرح صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب والقحاف وصدور الرجال. ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره. فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة.

٣ ـ وقد روى ابن شهاب حديثا جاء فيه إن أبا بكر قال بعد أن تمّ جمع القرآن التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر وقال بعضهم المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف. فسماه أبو بكر المصحف. وقد أورد المظفري رواية أخرى جاء فيها أن أبا بكر لما قال سمّوه قال بعضهم سمّوه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سمّوه السفر فكرهوه فقال ابن مسعود رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف (١) فسمّوه به.

__________________

(١) القول بأنه اقترح أن تسمّى المجموعة إنجيلا محل نظر في ذاته لأن أصحاب رسول الله يعرفون أن هذه التسمية خاصة بكتاب عيسى والنصارى. ولقد قيل إن كلمة «المصحف» دخيلة ونحن نرى ذلك غريبا لأن معنى هذا أنها لم تكن معروفة الأصل والاشتقاق والمعنى

٦٨

هذا في حين أن هناك حديثا بخاريا آخر في نفس السياق يذكر أن المجموعة كانت تسمى «الصحف». وعلى كل حال فحديث تسمية المجموعة بالمصحف يفيد أن هذه التسمية التي استفاضت حتى صارت العلم على مجموعة القرآن استعملت لأول مرة في جمع عهد أبي بكر.

٣ ـ وأخرج أبو داود حديثا آخر جاء فيه أن عمر أعلن الناس من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. وكان لا يقبل من أحد شيء حتى يشهد شاهدان.

٤ ـ وروى ابن شهاب حديثا آخر جاء فيه : إنه لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من القرآن طائفة فأقبل الناس بما معهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق. فكان أبو بكر أول من جمع القرآن.

٥ ـ وروى الليث بن سعد حديثا جاء فيه أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنه كان وحده.

٦ ـ وروى عمارة بن غزية حديثا جاء فيه أن زيد بن ثابت قال أمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم والعسب. فلما هلك أبو بكر وكان عمر ، كتبت ذلك في صحيفة واحدة.

٧ ـ وروى عكرمة أن عليّ بن أبي طالب قعد في بيته بعد بيعة أبي بكر فقيل لأبي بكر كره بيعتك. فأرسل إليه فقال أكرهت بيعتي. قال لا والله. قال ما أقعدك عني. قال رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر نعم ما رأيت.

٨ ـ وأخرج ابن سيرين حديثا جاء فيه أن عليا لما مات النبي قال آليت أن

__________________

عند العرب في حين أن الكلمة على ما هو الأرجح إن لم نقل على الجزم متصلة بكلمة صحف وصحيفة. وكلمة صحف وردت أكثر من مرة في القرآن حيث وردت في سور الأعلى والنجم وعبس والمدثر.

٦٩

لا آخذ علي ردائي حتى أجمع القرآن فجمعه وأنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ.

٩ ـ وأخرج أبو داود حديثا عن علي جاء فيه أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.

١٠ ـ وأورد ابن أشته في كتاب المصاحف حديثا جاء فيه أن أول من جمع مصحفا بعد وفاة النبي هو سالم مولى حذيفة.

١١ ـ وأورد السيوطي في «الإتقان» أن ابن فارس وهو من علماء القرآن قال إن تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين قد تولته الصحابة.

١٢ ـ وقال الحاكم إن جمع القرآن الثالث هو ترتيب السور وقد تمّ ذلك في زمن عثمان.

ـ ٢ ـ

وثانيا : إن هناك روايات كثيرة عن وجود اختلاف في ترتيب مصاحف بعض الصحابة وعن كلمات زائدة كتبت في بعض المصاحف ولم تكتب في المصحف المتداول وعن آيات كانت تقرأ ولم تكتب كذلك هي هذا المصحف مما يفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جمع ورتب أيضا :

١ ـ فمن الروايات التي أوردها السيوطي نقلا عن كتب علماء القرآن والمصاحف أنه كان لكل من أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وهما صحابيان وعالمان في القرآن (١) مصحف وأن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة ومغاير لترتيب سور المصحف العثماني المتداول من

__________________

(١) في حديث عن عبد الله بن جابر أورده السيوطي أنه سمع النبي يقول خذوا القرآن عن أربعة عبد الله بن مسعود ومعاذ وسالم وأبي. وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى فيها بعض الخلاف ولكن اسمي عبد الله وأبي موجودان فيها.

٧٠

جهة أخرى ، وأن في أحدهما زيادة وفي أحدهما نقصا وأن المصحفين ظلا موجودين يقرآن إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة. وقد نقل السيوطي كلا من الترتيبين عن كتاب المصاحف لابن أشته ، وفي مصحف أبيّ سورتان صغيرتان زائدتان عن سور المصحف واحدة اسمها سورة الحفد وهذا نصها : «اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك. ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار ملحق». والثانية اسمها سورة الخلع وهذا نصها : «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك». وقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق على ما ذكره السيوطي أن أمية بن خالد أمّ الناس في خراسان فقرأ بسورتي الحفد والخلع. وهذا كان بعد عثمان بمدة طويلة. ومما أورده السيوطي أن سورتي الفيل وقريش في مصحف أبيّ سورة واحدة. وأن سورتي الضحى والانشراح في مصاحف بعض الصحابة سورة واحدة كذلك. أما مصحف ابن مسعود فليس فيه على ما رواه أولئك الرواة سور الفاتحة والمعوذتين ، ومن المروي كذلك أنه كان يحكّ المعوذتين ويقول إنهما ليستا من كتاب الله.

٢ ـ وروى عبد الله بن زبير الغافقي أن عبد الملك بن مروان قال له لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب (١) إلا أنك أعرابي جاف. فقال له والله لقد جمعت القرآن (٢) من قبل أن يجتمع أبواك. ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علّمه إياهما رسول الله ما علّمتهما أنت ولا أبوك وهما سورتا الخلع والحفد.

٣ ـ وروى البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال بسم الله

__________________

(١) كان النبي قال لعلي مرة أبا تراب من قبيل المداعبة على ما روي فصار خصومه ينعتونه بهذا اللقب على سبيل التنقّص.

(٢) كانوا يعنون بجمع القرآن حفظه غيبا أحيانا.

٧١

الرحمن الرحيم ثم سرد سورتي الحفد والخلع. واستدل على أنهما سورتان من تقديم البسملة عليهما.

٤ ـ وأورد السيوطي حديثا عن عائشة برواية عروة بن الزبير جاء فيه أن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي مئتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن.

٥ ـ وأورد كذلك حديثا عن أبيّ بن كعب أنه سأل زر بن حبيش كم تعد سورة الأحزاب قال اثنين وسبعين أو ثلاثا وسبعين. قال إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم. قال : وما آية الرجم قال : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.

٦ ـ وأورد عن أمامة بن سهل قالت لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة.

٧ ـ وأورد حديثا رواه مسلم عن ابن عباس جاء فيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس قائلا لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها وعقلناها ورجم رسول الله فرجمنا معه ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف.

٨ ـ وروي عن الليث بن سعد أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنه كان وحده.

٩ ـ وروي عن حميدة بنت أبي أويس قالت قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين في مصحف عائشة (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى).

٧٢

وذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف.

١٠ ـ وروي عن أبيّ بن كعب بإخراج الحاكم أن رسول الله قال لي إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ «لم يكن الذين كفروا إلى آخر السورة ومن جملة ما قرأ «لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأله ثانيا وإن سأل ثانيا فأعطيه سأله ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية. ومن يعمل خيرا فلن يكفره».

١١ ـ وروي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله كان إذا أوحي إليه بشيء أتيناه فعلمنا ما أوحي إليه قال فجئت ذات يوم فقال إن الله يقول «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولو أن لابن آدم واديا لأحبّ أن يكون إليه الثاني ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون الثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب».

١٢ ـ وروي عن عدي بن عدي عن عمر قال : كنا نقرأ «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» ثم قال لزيد بن ثابت أكذلك قال نعم.

١٣ ـ وروي عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك فقال ابن مسلمة هما «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون».

١٤ ـ وروى المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن بن عوف قال ألم نجد

٧٣

في ما أنزل علينا «جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنّا لا نجدها. قال أسقطت فيما أسقط من القرآن.

١٥ ـ وروي عن ابن عمر : لا يقولن أحدكم أخذت القرآن كله وما يدريه ما كلّه قد ذهب منه قرآن كثير. ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر.

١٦ ـ وروي عن أبي موسى الأشعري : كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات مما نسبناها غير أني حفظت منها ، يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون. فتكتب لكم شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة.

١٧ ـ وأورد محمد صبيح في «كتاب القرآن» (ص ١٦٤) رواية لم يورد مصدرها عن سورة اسمها سورة النورين يزعم بعض المستشرقين أن عثمان أسقطها من مصحفه وإنها مثبتة في مصحف علي بن أبي طالب وهذا نصها :

«يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين. أنزلهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم» إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدوا الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا وليّ الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السماوات والأرض مما شاء واصطفى من الملائكة والرسل وجعل من المؤمنين أولئك من خلقه يفعل الله ما يشاء. لا إله إلا هو الرحمن الرحيم قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذتهم بمكري إن أخذي شديد أليم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون. مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. وإن عليا لمن المتقين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل فاصبر فسوف يبلون. ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون. إن عليا قانتا بالليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون».

١٨ ـ وقد ورد في «موطأ» الإمام مالك عن أبي يونس مولى عائشة قال

٧٤

أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨]. فلما بلغتها آذنتها فأملت علي «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ثم قالت سمعتها من رسول الله. وفي «الموطأ» حديث عن عمر بن رافع أن حفصة أمرته أن يكتب لها مصحفا ثم يتم الحديث بنفس الصيغة السابقة حرفيا.

١٩ ـ وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ آية الكهف هكذا «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا» وآية البقرة هكذا «لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم في المواسم». وروي عن ابن الزبير أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم». وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا «وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله من أجل ما جئتكم به» ، ويقرأ آية النساء هكذا «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن» ويقرأ آية الأحزاب هكذا «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم» ويقرأ آية المجادلة هكذا «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا بالتناجي».

٢٠ ـ إن هناك روايات عديدة تفيد أن بعض الصحابة كانوا يقرأون كلمات بدل كلمات مثل «أيمانهما» بدلا من «أيديهما» في آية السرقة في سورة المائدة ، و «لا تجزى نسمة عن نسمة» بدلا من «لا تجزى نفس عن نفس» في آية سورة البقرة ، و «صفراء لذة للشاربين» بدلا من «بيضاء لذة للشاربين» في آية سورة الصافات ، و «إدراس وإدراسين» بدلا من «الياس والياسين» ، في آية سورة الصافات ، و «جاءت سكرة الحق بالموت» بدلا من «جاءت سكرة الموت بالحق» في آية سورة ق ، و «صراط من أنعمت عليهم» بدلا من «صراط الذين أنعمت عليهم» في سورة الفاتحة ، و «الحي القيام» بدلا من «الحي القيوم» في آية سورة آل عمران ، و «للذين يقسمون» بدلا من «للذين يؤلون» في سورة البقرة ، و «مثقال

٧٥

نملة» بدلا من «مثقال ذرة» في سورة النساء ، و «اركعي واسجدي في الساجدين» بدلا من «واسجدي واركعي مع الراكعين» في سورة آل عمران ، و «تزودوا وخير الزاد التقوى» بدلا من و «تزودوا فإن خير الزاد التقوى» في سورة البقرة ، و «أتموا الحج والعمرة إلى البيت» بدلا من «وأتموا الحج والعمرة لله» في سورة البقرة ، و «شاورهم في بعض الأمر» بدلا من «وشاورهم في الأمر» في سورة آل عمران إلخ.

٢١ ـ ويصح أن نورد أحاديث نسخ المصاحف في عهد عثمان في هذا الباب. لأن فيها ما يفيد أن المسلمين كانوا يختلفون في قراءة القرآن حتى أفزع اختلافهم عثمان وغيره من كبار الصحابة وبالتالي يفيد أن القرآن لم يكن في كتابته ومصاحفه وصحفه المتداولة وفي قراءته محررا بحيث يؤمن معه ذلك الخلاف :

١ ـ فقد أورد البخاري حديثا عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة وبعث إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن هشام وأخبرني خارجة بن زيد سمع زيد بن ثابت قال ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) [الأحزاب : ٢٣] فألحقناها في سورتها في المصحف.

٢ ـ وقد روي حديث آخر عن أنس بن مالك أيضا جاء فيه أن الناس اختلفوا

٧٦

في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون وتلحنون به فمن نأى عني كان أشد تكذيبا ولحنا. يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما فاجتمعوا فكتبوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارأوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله فلانا فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له كيف أقرأ لرسول الله آية كذا فيقول كذا وقد تركوا لها مكانا.

٣ ـ وقد أخرج أبو داود حديثا وصف بأنه بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال : قال لي علي لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملأ منا. قال ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا. قلنا ما ترى. قال أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا فنعم ما رأيت.

٤ ـ وأخرج أبو داود حديثا جاء فيه لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها.

ـ ٣ ـ

وثالثا : إلى جانب تلك الأحاديث والأقوال والروايات يوجد أحاديث وروايات وأقوال يستفاد منها أن القرآن كان يدون وترتب آياته وسوره في حياة النبي عليه‌السلام وبأمره ، وأن ترتيب المصحف العثماني متصل بعهد النبي وتوقيفه :

١ ـ فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت حديثا وصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين جاء فيه «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع» ، وقد علق البيهقي على ذلك كما جاء في «الإتقان» بقوله يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي. ويصح أن يستفاد من الحديث أنه كان يكتب ما ينزل به الوحي في رقاع منفردة ثم تنقل هذه الرقاع إلى صحف معدة كالسجل فتلحق فصولها ببعضها وفق ما كان يشير به النبي.

٧٧

٢ ـ وقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم حديثا عن ابن عباس جاء فيه قلت لعثمان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين (١) فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله تنزل عليه السور ذات العدد (٢) فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب له فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا (٣) ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قضيتها شبيهة بقضيتها فظننت أنها منها وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله ووضعتهما في السبع الطوال. وهذا يفيد أن الأنفال في زمن النبي كانت تدون قبل براءة مباشرة ولم يكن بينهما فاصل أو بسملة فتركنا على ذلك وهو الترتيب المتداول.

٣ ـ وأخرج الإمام مسلم حديثا عن عمر قال ما سألت النبي عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن في صدري بأصبعه وقال تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. وهذا يفيد أن سورة النساء كانت مرتبة على ما هو عليه في المصحف المتداول في حياة النبي ولو لم يكن ترتيبها بتوقيف النبي وإشارته لوضعت الآية المذكورة في مكان أكثر مناسبة من السورة.

٤ ـ وأخرج الإمام البخاري حديثا عن عبد الله بن الزبير جاء فيه قلت لعثمان (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) [البقرة : ٢٣٤] قد نسختها الآية الأخرى فلم نكتبها أو ندعها. قال يا ابن أخي لا أغير شيئا من مكانه. الآية الناسخة في سورة البقرة وهي الآية (٢٣٤) متقدمة في الترتيب على الآية المنسوخة في نفس السورة

__________________

(١) المثاني هي السور المتوسطة التي تكون آياتها أقل من مئة والمئين هي السور التي كانت آياتها مئة آية أو أكثر قليلا.

(٢) السور الطويلة أو المتوسطة التي كانت تنزل فصولا متفرقة.

(٣) هذا تعبير كان يستعمل في عهد النبي للدلالة على شخصية السورة أو اسمها.

٧٨

وهي [٢٤٠]. وجواب عثمان يفيد أن الترتيب إنما كان بإشارة النبي فلم ير تغيير شيء من مكانه.

٥ ـ وأخرج الإمام أحمد حديثا بإسناد وصف أنه حسن عن عثمان بن أبي العاص قال كنت جالسا عند رسول الله إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من هذه السورة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [النحل : ٩٠] إلى آخرها وهذا يفيد أن النبي كان يأمر بوحي الله بترتيب آيات السور وأن الترتيب المتداول هو مستند إلى ذلك.

٦ ـ وروى البخاري حديثا عن زيد بن ثابت أن رسول الله أملى عليه (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٩٥]. فجاء ابن أم كلثوم وهو يمليها عليه فقال يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذه فثقلت عليه حتى خاف أن ترضّ فخذه ثم سرّي عنه فأملى عليه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وهذا يفيد أن النبي كان يستدعي أحد كتاب الوحي حين نزول القرآن عليه فيملي عليه ما ينزل عليه فورا.

٧ ـ وروى البخاري أيضا حديثا قريبا من هذا عن البراء لما نزلت آية (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) قال النبي ادعوا زيدا فجاء ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وخلف النبي ابن أم كلثوم الأعمى فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

٨ ـ وحديث زيد بن ثابت الذي رواه عن جمع القرآن في عهد أبي بكر والذي نقلناه في المجموعة الأولى يفيد أن آيات السور كانت معروفة الترتيب في حياة النبي حيث ذكر افتقاد آخر آيتين في سورة براءة ووضعهما في مكانهما حين وجودهما. وترتيبهما هو وفاق ترتيب المصحف المتداول. وحديث البخاري عن نسخ المصاحف في عهد عثمان والذي نقلناه في المجموعة الثانية يفيد نفس الشيء

٧٩

حيث يذكر افتقاد آية الأحزاب ووضعها في مكانها المعروف في حياة النبي والذي هو وفاق المصحف المتداول أيضا.

٩ ـ وروى البخاري عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا وروى النسائي عن ابن عباس أيضا أن آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٣٨١] ، وأخرج ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين. وقد لا يكون تناقض بين الروايات لأن هذه الآيات في سلسلة واحدة. وجميعها موضوعة في سورة البقرة بأمر النبي وترتيبه وجاء في «مجمع التبيان» للطوسي أن أبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن بن قتادة رووا أن الآيتين الأخريين من سورة التوبة هما آخر ما نزل من القرآن. وهذا يفيد أن آيات السور كانت معروفة الترتيب في حياة النبي وبأمره كذلك.

١٠ ـ وروى علي بن إبراهيم عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد «الإمام جعفر الصادق» أن رسول الله قال لعلي يا علي إن القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فاجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة ، فانطلق علي فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه. وهذا يفيد أن القرآن كان يدون على وسائل الكتابة المعروفة وكان مدونا كذلك في حياة النبي وكان النبي يعنى بحفظه في بيته.

١١ ـ وقد روى علماء الحديث حديثا ورد في أكثر من كتاب من كتب الحديث المشهورة جاء فيه «لا تكتبوا عني غير القرآن» حيث يفيد أن الصحابة كانوا يدونون في حياة النبي ما يسمعونه من النبي من القرآن.

١٢ ـ وقد أخرج أبو داود حديثا جاء فيه أن عمر أعلن الناس من كان تلقى عن رسول الله شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. وهذا يفيد ما أفاده الحديث السابق.

١٣ ـ وروى واثلة عن النبي قال أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان

٨٠