التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

تعليق على ما أولاه القرآن

من العناية باليتيم

وبمناسبة التنديد في الآية [١٧] بالذين لا يكرمون اليتيم نقول إن القرآن المكي والمدني معا قد احتوى آيات كثيرة بلغ عددها اثنتين وعشرين في صدد العناية باليتيم وتكريمه وحفظ ماله وإعطائه حقه وعدم معاملته بالعنف والقسوة والنهي عن أكل ماله وأذيته والتحايل عليه. والإنفاق والتصدق على فقراء اليتامى وتخصيص نصيب لهؤلاء في موارد الدولة الإسلامية الرسمية ، وبعبارة أخرى جعل ذلك من واجبات هذه الدولة أسوة بالمسكين ولأنه على الأرجح من نوعه لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه ، حيث يدل هذا على عظم عناية حكمة التنزيل به طيلة زمن التنزيل في مكة والمدينة. نورد منها الأمثلة الآتية :

١ ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧) الماعون [١ ـ ٧].

٢ ـ (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩) الضحى [٩].

٣ ـ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) البلد [١١ ـ ١٦].

٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ*) الإسراء [٣٤].

٥ ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٨) الروم [٣٨].

٦ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥) البقرة [٢١٥].

٧ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال [٤١].

٥٤١

٨ ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢) النساء [٢].

٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) النساء [١٠].

١٠ ـ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الحشر [١٠].

ولما كان اليتيم على الأكثر ضعيفا فاقد المعين والكافل والمنفق فالعناية القرآنية به متسقة مع روح البرّ والحق والعدل التي انطوت في المبادئ القرآنية والدعوة الإسلامية منذ البدء كما هو شأن البر بالمساكين على ما مر شرحه في سياق سورة المدثر.

ولعل في كثرة ما جاء في حق اليتيم صورة لما كان اليتيم معرضا له قبل البعثة من صنوف الهضم والأذى والإهمال والحرمان. وفي آيات الإسراء المكية والنساء المدنية ما يفيد أنه كان الذين يترك لهم آباؤهم مالا منهم معرضين لضياع إرثهم وأكله من قبل الأوصياء والأولياء فاقتضت حكمة التنزيل أن توالى الحث والنهي والإنذار في شأنه بأساليب متنوعة وأحيانا بأساليب قارعة. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في البر والعناية باليتيم. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وقال بإصبعيه السّبابة والوسطى» (١). وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هنّ؟ قال الشرك بالله والسّحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (٢). وحديث رواه

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٣.

(٢) المصدر نفسه ج ٣ ص ٤ ـ ٥.

٥٤٢

الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له» (١).

وهناك حديث أورده ابن كثير في سياق الآية [١٠] من سورة النساء أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال : انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال كلّ رجل منهم له مشفران كمشفري البعير. وهو موكّل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في أحدهم حتى تخرج من أسفله. ولهم جؤار وصراخ. قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا». وحديث آخر أورده المفسر نفسه في صحيح ابن حبان عن أبي حرزة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا. قيل يا رسول الله من هم قال ألم تر إلى أنّ الله قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) النساء [١٠]. حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو في كل أمر آخر.

وفي الآيات تنديد بمن لا يحض على طعام المسكين. ولقد سبق مثل هذا في آية سورة المدثر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

(١) دكا دكا : القصد من ذلك وصف شدة الانهيار والتدمير الذي يحلّ في

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

٥٤٣

الأرض يوم تقوم القيامة ، أو وصف هول هذا اليوم وأثره في الأرض.

(٢) جهنّم : الوادي أو البئر العميق الموحش. ويقال بئر جهنام أيضا بنفس المعنى. ثم صارت علما قرآنيا على الحفرة الهائلة النارية التي يلقى فيها الكفار والمجرمون يوم القيامة. وتعبير (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تعبير أسلوبي بمعنى هيئت.

(٣) لا يعذب عذابه أحد : يحتمل أن تكون الجملة بمعنى لا يعذب مكانه أحد غيره ، كما يحتمل أن تكون بمعنى لا يعذب مثل عذابه أحد بسبيل وصف شدة عذابه (١). والأول أوجه فيما نرى ، لأن العذاب لكل إنسان استحقه.

(٤) لا يوثق وثاقه أحد : الوثاق هو الغل والحبل الذي يقيد به الشيء. والجملة تحتمل الاحتمالين المذكورين آنفا. والأول أوجه فيما نرى للسبب نفسه. وقد ذكرت آيات عديدة أن المستحقين للعذاب يوم القيامة يقيدون بالأغلال.

في الآيات تنبيه زجري وردعي لما سوف يكون في يوم القيامة ، حيث تندك الأرض اندكاكا شديدا ، ويقف الله لمحاسبة الناس والملائكة من حوله صفوفا ، وتهيأ جهنم لمستحقيها. وحينذاك يتذكر الإنسان الذي اقترف الأفعال السيئة الباغية ويتمنى أن لو قدم بين يديه الخير والعمل الصالح. ولكن الذكرى لن تنفعه لأنه أضاع وقتها والتمني لن يغني عنه شيئا. وحينذاك يصير إلى العذاب ولن يكون له مفلت منه ، ولن يكون له فيه بديل ، ويوثق بالأغلال ولن يوثق محله بديل عنه.

أما المؤمنون الصالحون ذوو النفوس الطيبة المطمئنة بما قدمت فيهتف بهم بأن لهم من ربهم الرضاء التام ، وبأن مكانهم هو بين عباده الصالحين الأبرار وبأن منزلهم هو الجنة.

والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها ملموحة حيث يتبادر أنها تعقيب عليها بقصد بيان ما يكون من مصير الذين يقترفون الأفعال السيئة التي ذكرت في الآيات السابقة بعض نماذجها ، وأسلوب الآيات عام مطلق أيضا مثل سابقاتها.

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والنيسابوري والآلوسي.

٥٤٤

ولقد تكررت في القرآن كثيرا حكاية ما سوف يصدر من الكفار ومقترفي الآثام من ندم وحسرة على ما فعلوه حينما يرون مصيرهم الرهيب يوم القيامة ، وقد مرّ مثل هذا في سورة المدثر بأسلوب آخر ، كما تكرر الإنذار بأنه لن يغني في الآخرة أحد عن أحد. والمتبادر أن هذا الأسلوب مع ما ينطوي عليه من حقيقة إيمانية مغيبة قد استهدف فيما استهدفه إثارة الندم والخوف في هذه الفئة وحملها على الارعواء قبل فوات الفرصة والندم حيث لا ينفع الندم.

ولقد تكرر في القرآن ذكر وقوف الناس بين يدي الله يوم القيامة أو مجيئه لذلك واصطفاف الملائكة حوله في مشهد الحساب والجزاء يوم القيامة بأساليب متنوعة. والمتبادر أن هذا مع وجوب الإيمان به وكونه في النص من قدرة الله ومع وجوب تنزيه الله عزوجل من مفهوم المجيء والرواح والوقوف والجلوس وغير ذلك من أفعال الخلق وصفاتهم قد استهدف التأثير بالسامعين لأنهم بخطورة المشهد القضائي الأخروي العظيم ، قد اعتادوا في الدنيا عقد مجالس قضائية لمحاكمة المجرمين وعقوباتهم. وقد يكون الشأن في هذا هو مثل وصف الجنة والنار بأوصاف اعتادها الناس في الدنيا للتقريب والتمثيل والتأثير في السامعين على ما شرحناه قبل.

ولهذا لا نرى طائلا من التزيد الذي يتزيده بعض المفسرين في صدد هذه المشاهد ، ونرى وجوب البقاء في حدود ما جاء عنها في القرآن والسنة الثابتة ، مع ملاحظة ذلك الهدف الذي ذكرناه والذي جاء وصف المشاهد الأخروية بأوصاف الدنيا من أجله.

ولقد أولنا جملة (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) بما أولناها به لأن هذا هو الأكثر ورودا من معناها.

والمتبادر أن الآيات الثلاث الأخيرة قد رمت إلى ذكر مصير الصالحين في الآخرة للمقابلة بمصير الآثمين الباغين مما جرى عليه الأسلوب القرآني كثيرا. وهي قوية رائعة بهتافها وتلقينها وروحها ، حيث تنطوي على الإشارة بطمأنينة

٥٤٥

النفس وما سوف يلقاه صاحبها من التكريم والرضاء عند الله. ولعل مما تنطوي عليه ويتصل بموضوع الآيات السابقة وخاصة الآيتين [١٥ و ١٦] تلقين التخلق بخلق الاطمئنان والرضى وعدم الاضطراب بتبدل ظروف الحياة عسرا ويسرا ، وكون هذا هو ما يجب أن يكون عليه الإنسان العاقل في حالتي العسر واليسر. وهذا الخلق من أقوى المشجعات على مواجهة أحداث الحياة بقلب قوي ونفس رضية والتغلب على صعابها. ومن أوتيه فقد أوتي خيرا كثيرا وصار جديرا بهذا النداء الرباني المحبب النافذ إلى الأعماق. وواضح أن الآيات تلهم أن مثل هذا الخلق وأثره لا يكون إلا فيمن شع في نفسه الإيمان واستشعر بعظمة الله وقدرته الشاملة ، وأسلم النفس والأمر إليه ، ولم يتوان مع ذلك في القيام بواجبه نحوه ونحو الناس على كل حال.

وآيات السورة وأسلوبها كما قلنا لا تحتوي مواقف جدل مع أشخاص بأعيانهم ، وهي بسبيل إنذار عام وتوجيه عام ونقد عام حيث يصح أن يقال عنها ما قلناه عن سورة الفاتحة والأعلى والليل.

تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة من السورة

واستطراد خاطف إلى تفسيرات الصوفية وتعليق عليها

هذا وفي الجزء الثالث من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي تفسير مروي عن الشيخ محيي الدين بن عربي الصوفي المشهور للآية (وَادْخُلِي جَنَّتِي) جاء فيه : «وادخلي جنتي التي هي ستري وليست جنتي سواك. فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلّا بك كما أنك لا تكون إلّا بي فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف فإذا دخلت جنة دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها فتكون صاحب معرفتين معرفة به من حيث أنت ومعرفة بك من حيث هو لا من حيث أنت. فأنت عبد رأيت ربا وأنت رب لمن له فيه أنت عبد وأنت رب وأنت عبد لمن

٥٤٦

له في الخطاب عهد ...» (١).

والشطح في هذا التفسير ظاهر حيث تفسر كلمات القرآن الواضحة المعنى والمدى بتأويلات رمزية لا تتصل بهدف القرآن الذي هو دعوة الناس إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر وبرسالة رسوله وبما جاء في كتابه وسنة رسوله والالتزام به والوقوف عنده لأنه في ذلك صلاح بني الإنسان ونجاتهم في الدنيا والآخرة. وفي حين أن العبارات القرآنية قطعية الدلالة على أن خلق الله هو غير الله تعالى فإن الشيخ في شطحه حين يفسر الآية التي نحن في صددها يجعل الله تعالى وتنزه وخلقه شيئا واحدا متعدد الصور فلا يتورع من القول إن العبد رب للرب والرب عبد للعبد مما يقال له وحدة الوجود التي يستغرق فيها الصوفيون فيعمدون إلى تفسير آيات القرآن وفاقا لها مهما كانت المناسبة مفقودة ومهما كانت العبارات واضحة صريحة. ومهما كان فيما يقولونه شطح وشطط ومفارقة لغوية أو سبكية أو نظمية. بل ومهما كان فيه كفر بواح. ولهم شعار خاص بهم أسوة بشعار غلاة الشيعة والباطنية فهؤلاء يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن لكل آية وجملة قرآنية ظاهرا وباطنا وإن الجوهري المهم هو الباطن الذي يمكن أن تتعدد وجوهه وأن لا يكون منطبقا على سياق أو مناسبة أو حاضر أو مستقبل أو لغة كما شرحنا ذلك قبل.

والصوفيون يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن للجمل القرآنية معنى حقيقيا ومعنى ظاهرا تشريعيا ويقولون إن الجوهري هو الحقيقة وإن الشريعة فيه هي شؤون ظاهرة تناسب عقول البسطاء من المسلمين وإن من السائغ

__________________

(١) ص ٨ والمؤلف يعزو تفسير الآية هذا إلى كتاب للشيخ محيي الدين اسمه فصوص الحكم. وقد اطلعنا على هذا الكتاب وفيه سبعة وعشرون فصلا عقد كل فصل على نبي أو شخص من أنبياء وأشخاص القرآن وفسر في كل فصل لبعض آيات الله وقصص الأنبياء والأشخاص تفسيرا من نوع هذا التفسير وفيه العجيب الغريب من الشطح إن لم نقل من الهذيان. ويعزى لهذا الشيخ تفسير اسمه الفتوحات المكية فيه مثل ذلك من الشطح على ما يستفاد من النبذ المنسوبة إليه.

٥٤٧

أن لا يكون بين الحقيقة والشريعة توافق في المدى والمحتوى والمناسبات وسائر الوجوه والمجالات. وسنورد أمثلة أخرى من تفسيراتهم لتوكيد الصورة بقصد تنبيه المسلمين إلى نموذج آخر من النماذج الشاذة في تفسير كتاب الله تعالى وهو التفسير الصوفي ، وتحذيرهم من هذا النحو الذي لا سند له من عقل ونقل والذي يعمد إليه أفراد شاذون في خيالهم وعقولهم يزعمون لأنفسهم الإلهام والوحي أو يزعم لهم ذلك في حين أن الله تعالى قد أنزل الكتاب على رسوله ليكون للعالمين نذيرا وليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون فيه هدى ورحمة لقوم يؤمنون وليهديهم به إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين كما علمنا الله أن ندعوه وله الحمد أولا وآخرا.

ولقد تصدى لابن عربي وأمثاله المتصوفة القائلين بوحدة الوجود وكون كل ما في الكون من خلق وكل ما يفعله الخلق هي صور لله كثير من العلماء في مختلف الحقب والبلاد الإسلامية ويندّدون بأقوالهم ويبينون ما فيها من تخريف وانحراف بل ودسائس على الإسلام لما فيه من شطح وهذيان ثم لما تؤدي إليه من إسقاط تكاليف الإسلام وإباحة كل محرم والتسوية بين الله والأوثان وبين المتقين والمجرمين والزناة واللصوص وبين الخير والشر والهدى والضلال والانحراف والاستقامة وإنكار لليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه «انظر كتاب مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد ، تأليف العلامة برهان الدين البقاعي ، تحقيق وتعليق عبد الرحمن الوكيل ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة ١٣٧٣ ه‍ ـ ١٩٥٣ م».

٥٤٨

سورة الضحى

في هذه السورة تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم ترك الله إياه. وتذكير له بما كان من أفضاله عليه ، وحثه على البر باليتيم والسائل والتحدث بنعمة الله. وأسلوبها ومضمونها يلهمان أنها نزلت في ظروف أزمة نفسية ألمّت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن نزولها كان في عهد مبكر من الدعوة. وفيها إشارة إلى نشأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طفولته وحاله الاقتصادية والروحية في شبابه.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

(١) سجى : هدأ وسكن أو أطبق بالظلام.

(٢) ودعك : بمعنى تركك.

(٣) قلى : ترك وهجر.

(٤) ضالا : هنا بمعنى حائرا.

(٥) عائلا : فقيرا.

(٦) فلا تقهر : فلا تظلمه ولا تغلبه على حقه ولا تذله.

(٧) فلا تنهر : فلا تصرخ فيه ولا تؤذه بالقول.

٥٤٩

(٨) التحدث بنعمة الله كناية عن ذكر نعمة الله وشكر الله عليها وأداء الواجب على صاحبها نحو الله والناس.

جميع آيات السورة موجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعانيها واضحة. وفي آياتها الخمس الأولى قسم رباني في معرض التوكيد والتطمين. وفي آياتها الثلاث الأخيرة تعليمه ما يجب عليه إزاء نعم الله من الشكر وإزاء اليتيم من الرعاية وإزاء السائل من كلمة الخير والمساعدة.

ومع احتمال انصراف الآية الرابعة إلى الحياة الأخروية فإن من المحتمل أيضا أن يكون قصد بها تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشيره بنجاح الدعوة ، وبأن مستقبلها سيكون خيرا من بدئها وقد تساعد الآية الخامسة على تدعيم هذا التوجيه حيث تلهم أن ما احتوته من الوعد والبشرى بإعطاء الله له حتى يرضى هما بالنسبة لظروف الحياة الدنيا أقوى منهما بالنسبة للحياة الأخروية.

ومع أن الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الأوامر الربانية الواردة في الآيات الثلاث الأخيرة متسقة مع المبادئ والأهداف التي احتواها القرآن منذ بدء تنزيله ، وتلقينها شامل لجميع المؤمنين. ويلحظ أن الفصول القرآنية السابقة قد احتوت ما يماثل هذه الأوامر ، وقد استمرت الفصول القرآنية على ذكرها مما له مغزى جليل ينطوي على عظمة أهداف الرسالة المحمدية في صدد البرّ بالفقراء والرأفة بالضعفاء والتحدث بنعمة الله قولا وفعلا. ويتبادر لنا أن هذا كان من الأسباب القوية التي جعلت أغنياء مكة وزعماءها يتحالفون ضدّ الدعوة ويشتدون في مناوأتها ، ويستمرون في ذلك طيلة العهد المكي والشطر الأكبر من العهد المدني.

تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولقد روى المفسرون أن هذه السورة نزلت بعد فترة من نزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والروايات متنوعة ومتعددة في ذلك. منها ما هو في مدة هذه الفترة حيث تتراوح حسب اختلاف الروايات بين يومين وبين ثلاث سنين. ومنها ما هو في أسبابها وأثرها حيث روي فيما روي أن السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها

٥٥٠

قالت له حينما فتر عنه الوحي : ما أرى إلّا أن ربك قلاك ، وأن مثل هذا القول صدر عن امرأة أبي لهب في معرض السخرية والشماتة ، وأن امرأة أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له ما أرى شيطانك إلّا تركك فإني لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، وأن المشركين أو بعضهم قالوا لما عرفوا خبر الفترة إن محمدا قد ودّع وأن السورة لم تلبث أن نزلت بعد هذه الأقوال ، وحيث روي أن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذي القرنين وأهل الكهف والروح فقال لهم : سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله ففتر الوحي عنه ، فلما جاءه بعد الفتور بهذه السورة قال له يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال : إني كنت أشد شوقا إليك ولكني عبد مأمور ، وحيث روي أنه كان للحسن أو الحسين في بيته جرو فلما نزل الوحي بالسورة وسأله النبي عن فتوره قال له : إنا لا ندخل بيتا فيه كلب! ومن الروايات ما هو في وقت نزول السورة حيث روي أن الفترة كانت بعد نزول آيات سورة العلق الأولى ، وأن سورة الضحى هي أول ما نزل بعد هذه الآيات. ومنها ما هو في عدد فترات الوحي حيث روي أنها لم تكن مرة واحدة وإنما تكررت قصيرة حينا وطويلة حينا. وقد روي فيما روي كذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزن حزنا شديدا من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق الجبل (١).

ومعظم الروايات غير موثق ومنها ما لا يمكن التسليم به لتعارضه مع وقت نزول السورة خاصة مثل رواية الفترة بسبب عدم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شاء الله حينما سأله اليهود عن المسائل الثلاث وقال لهم سأخبركم غدا. لأن احتكاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهود وأسئلتهم التعجيزية له كانت في العهد المدني ولم ترد رواية وثيقة عن مثل ذلك في العهد المكي فضلا عن أن نزول قصص أهل الكهف وذي القرنين والسؤال عن الروح إنما كان في أواسط العهد المكي ، ومثل رواية الفترة بسبب جرو الحسن

__________________

(١) انظر هذه الروايات المتنوعة والمتعددة في سياق تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن والآلوسي وشرح العيني على البخاري ج ١٩ ص ٦٢ وكتاب التاج الجامع وكتاب التفسير في تفسير سورة الضحى وفترة الثلاث سنين ذكرت في شرح العيني على البخاري ورواية حزن النبي من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق في تاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٢ مطبعة الاستقامة.

٥٥١

أو الحسين رضي الله عنهما في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن السبطين الشريفين من مواليد المدينة ، ومثل رواية قول خديجة رضي الله عنها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أرى ربك إلّا قلاك ، لأن المأثور أنها كانت تشجعه وتثبته وتبثّ في نفسه الثقة والقوة والعزيمة على ما أوردنا بعض ذلك في مناسبة سابقة ؛ ومثل رواية استمرار الفترة ثلاث سنين لأن هذا لو وقع لكان غيّر مجرى تاريخ الدعوة لأن من شأنه أن يثير القلق بل والشكّ حتى في نفوس المؤمنين المخلصين الذين استجابوا للدعوة والتفوا حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والموثق من الروايات والتي يبدو عليها سمة الصحة وصدق الاحتمال هي رواية فتور الوحي ليلتين أو ثلاثا وقول امرأة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني أرى شيطانك قد تركك ، فما لبثت السورة أن نزلت وقد جاءت هذه الرواية في حديث للبخاري ومسلم ، ورواية إبطاء الوحي عن النبي أياما وقول المشركين أن محمدا قد ودّع فما لبثت السورة أن نزلت ، وقد جاءت هذه الرواية في حديث لمسلم والترمذي (١).

وعلى كل فيمكن القول بشيء من القطعية والجزم استلهاما من سورة الضحى واستئناسا بالروايات الكثيرة المتواترة :

١ ـ إن الوحي قد فتر أياما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوائل عهد الدعوة.

٢ ـ وإن الفترة قد أثارت في نفسه حزنا وأزمة وخوفا من أن يكون الله قد تخلّى عنه بعد أن سار في الدعوة شوطا ما.

٣ ـ وإن المشركين أو بالأحرى الذين قادوا حركة المعارضة لدعوته والذين أظهروا عداء شديدا له استغلوا ذلك وقالوا في سخرية وشماتة إن ربّه قد قلاه

__________________

(١) التاج الجامع ج ٤ ص ٢٦٠ ونص الحديث الأول : «اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣))» ، وعلق مؤلف التاج على هذا الحديث أن المرأة هي العوراء أخت أبي سفيان وزوجة أبي لهب. وقد روى المفسرون اسمها في جملة ما رووه. ونصّ الحديث الثاني قال الراوي : «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار فدميت إصبعه فقال هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت. قال فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودّع محمد فأنزل الله ما ودّعك ربّك وما قلى».

٥٥٢

وودعه ، وإن منهم من عيّره بذلك مواجهة ، وإن ذلك قد زاد من حزنه وأزمته حتى نزلت السورة التي احتوت تثبيتا وتطمينا وردا على الشامتين.

ومن الجدير بالذكر أن في القرآن قرائن قد تدل على أن الوحي فتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أواسط العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. غير أن ذلك لم يحدث في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزمة ، ولم يتعرض بمناسبة ذلك لحملة كما كان شأن هذه المرة مما هو طبيعي ، لأن هذه المرة كانت في مبادئ الدعوة وخطواتها الأولى.

صورة من صميمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والمتمعن في آيات السورة الأولى وهي تؤكد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدم ترك ربّه إياه يلمس صميمية رائعة تملأ النفس إعجابا فيما أثارته الفترة من قلق في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنمّ عن يقينه العميق بأنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبأن ما كان يبلغه من الآيات والفصول القرآنية هو وحي الله ، فإذا أوحي إليه بشيء تلاه وإذا فتر عنه الوحي أعلن ذلك ، وإذا لم يتل على الناس شيئا جديدا في ظرف ما فلأنه لم يوح إليه بشيء جديد. فقد علمه الله أن يعلن للناس أنه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يزعم أنه ملك كما جاء في سورة الأنعام هذه : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [٥٠] وآية سورة الأعراف هذه : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) وقد أمره الله أن يعلن أنه لا يبلغ إلّا ما يوحى إليه ولا يستطيع أن يغير ويبدل فيه كما جاء في آية يونس هذه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥).

٥٥٣

نشأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ طفولته إلى نبوته

وفي الآيات [٦ و ٧ و ٨] إشارة إلى ما كانت عليه ظروف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نشأته الشخصية والروحية وحاله الاقتصادية منذ طفولته إلى أن أكرمه الله بالنبوة ، فأشير فيها إلى يتمه في عهد طفولته ، وفقره في عهد فتوته وشبابه ، ثم حيرته الروحية في الاتجاه الذي يتجه إليه في دينه وعبادته ومبادئه. وقد قررت أن الله قد حماه في عهد يتمه حيث كان اليتيم معرضا للإرهاق والقهر والضياع فجعل له مأوى أمينا ، ويسّر له في عهد شبابه من بسطة العيش واليسر ما جعله في غنى عن التكسب وفي راحة من عناء المعيشة وهمها ، ونقّى نفسه ووجّهه إلى سبيل الهدى القويم فأنقذه من حيرته.

والروايات تكاد تكون متواترة إلى حد اليقين (١) بأنه كان له من جده عبد المطلب أولا ومن عمه أبي طالب بعده من البرّ والرأفة والحماية والعناية في طفولته وشبابه ثم من عمّه بعد بعثته من النصر والعطف ما ضمن له النشأة الصالحة ثم الحرية والمنعة.

كذلك فإن الروايات تكاد تكون متواترة إلى حدّ اليقين (٢) بأن حاله الاقتصادية قد تحسنت وانتهى ما كان يعانيه من متاعب العيش بزواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها الشريفة في قومها ، الغنية في مالها القوية في خلقها وعقلها وروحها ، المتنعمة في معيشتها ، وكان من أثر ذلك أن اطمأنت نفسه وأخذ يفرغ قلبه وذهنه لما كانت نفسه مستعدة له من الاستغراق في آلاء الله ومظاهر الكون والتفكير فيما عليه قومه من ضلال في التقاليد والعقائد ، وتمكن من القيام باعتكافات روحية كانت خديجة رضي الله عنها تشجعه عليها وتهيىء له ما يحتاج إليه فيها على ما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة والذي أوردناه في سياق سورة العلق ، حتى كان مظهر اختصاص الله إياه بالرسالة العظمى حينما بلغ أشده واستوى.

ولقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها عطوفة عليه بارة به ، ومن أقوى

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ١ ص ٩٩ وما بعدها مثلا.

(٢) انظر طبقات ابن سعد ج ١ ص ١١٣ وما بعدها وانظر أيضا الأمرين في كتاب حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهيكل طبعة ثانية ص ١٠٥ ـ ١٣٢.

٥٥٤

المشجعين المثبتين له الذابّين عنه المصدقين به ، مما يمكن أن يدل على أنها قد أدركت بفراستها القابليات العظمى التي تميز بها والاستعداد الروحي الذي ظهرت آثاره عليه ، والأخلاق الكريمة التي تحلى بها فلم يكد يخبرها بأمر الوحي حتى تيقنت صدقه ونفت ما طاف في ذهنه من خوف وهتفت بتلك الكلمات المأثورة الخالدة : «كلا إن الله لن يخزيك. فإنك تفعل المعروف. وتقري الضيف. وتحمل الكل. وتعين على نوائب الدهر» على ما أوردناه من حديث للبخاري في سياق سورة القلم.

وأما عن حيرته فقد كان إزاء ما عليه قومه من تقاليد وطقوس وأخلاق وعادات وعقائد في موقف المنقبض المتشكك منذ عهد شبابه على ما ذكرته الروايات (١) كما كان في مثل هذا الموقف إزاء ما كان عليه أهل الكتاب من اختلاف ونزاع وشذوذ من دون شك ولا سيما حينما كان يسمع اليهود يقولون ليست النصارى على شيء ، وحينما كان يسمع النصارى يقولون ليست اليهود على شيء ، ويرى الخلاف والنزاع يشتدان بينهم إلى درجة الاقتتال مما أشارت إليه آية البقرة هذه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣) وآية البقرة هذه أيضا : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢) [٢٥٣]. فكانت تعتلج في نفسه الأفكار وتقوم في صدره الشكوك في صواب ما يرى ، ويسلم نفسه إلى التفكير في آلاء الله وعظمة الكون والاعتكافات الروحية ، فلم يلبث أن صفت نفسه وشعّ في قلبه نور الحقيقة الإلهية العظمى واهتدى إليها بإلهام الله فجعلها الهدف الذي يستهدفه والاتجاه الذي يتجه إليه.

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ١ ص ١١٢ و ١٢٦ ـ ١٢٧ و ١٣٦ و ١٤٠.

(٢) الآيات تذكر أمرا واقعا قبل نزولها ممتدا إلى ما قبل البعثة ونعتقد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسمعه ويعرفه.

٥٥٥

ولقد روت الروايات (١) أنه أخذ ينشأ في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبقة من العقلاء داخلهم الشك مثله في صواب ما عليه العرب والكتابيون ، وأخذوا يبحثون مثله عن الطريق الأقوم والسبيل الحق ويتجهون مثله إلى الحقيقة الإلهية العظمى وحدها ، ومنهم من كان اعتزم الطواف للبحث عن ملّة إبراهيم ليسير عليها وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التقى ببعض هؤلاء قبل البعثة.

فمن الممكن أن يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في عهد حيرته هذا من هذه الطبقة وإنه كان مثل أفرادها يود أن يتعرف على حدود ملة إبراهيم ويسير في سبيلها عن يقين ، ثم كان له من صفاء النفس وذكاء العقل وقوة القلب وعظيم الخلق وعيمق الاستغراق ما جعله يمتاز عليهم فكان مصطفى الله من بينهم ، فأتم الله إيمانه وأنار بصيرته وأنقذه من حيرته إلى اليقين واختصه بالنبوة وانتدبه للمهمة العظمى التي أوحي إليها فيما بعد بآيات الأحزاب هذه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨).

ولقد نصت الآيات القرآنية على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عهد نبوته لم يكن يدري من أمر نبوته ومهمته شيئا ، ولم يكن يرجو أن ينزل عليه كتاب كما جاء في آية سورة القصص هذه : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [٨٦] وفي آية سورة الشورى هذه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) وفي آية سورة يونس هذه : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا

__________________

(١) انظر الفصلين الخامس والسادس من الباب الرابع في الحياة الدينية عند العرب في كتابنا عصر النبي عليه‌السلام وبيئته قبل البعثة ص ٣٩٦ ـ ٤٣٤ وانظر سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢١٥ ـ ٣٢٣ وج ٢ ص ١٠٣ ، وص ١٧٧ ، ١٧٨ وطبقات ابن سعد ج ١ ص ٢٠٢ وتفسير الرازي ج ١ ص ٣٦٩ ، ٣٧٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٢٧ ـ ٣٢٩.

٥٥٦

أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦). وهذا يجعلنا نقول إن هذا الدور الذي قضاه منذ شبابه إلى اكتمال نضجه ونزول الوحي عليه كان دور استعداد وتأهل روحي ، وهو الدور الذي يمكن أن يطلق عليه دور الحيرة والذي عنته الآية الكريمة : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فيما يتبادر لنا مما يجعلنا نعتقد أن كلمة (ضَالًّا) لم تعن السير في سبيل الضلالة والشرك والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كان عليها العرب ، وأن كلمة (فَهَدى) لم تعن أن الله أخرجه من هذا النطاق بعد أن ارتكس فيه ، وإنما عنت الأولى ما كان في نفسه من حيرة وتململ وتوقان إلى ساحل اليقين ، كما عنت الأخرى ما كان من اليقين الذي وصل إليه فاطمأنت به نفسه.

وفي سورة الأنعام آيات يمكن الاستئناس بها لما قررناه بوجه عام ولما أشرنا إليه في صدد ملة إبراهيم والرغبة في الاهتداء إليها واتباعها بوجه خاص وهي : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣) وقوة التلقين والدلالة في هذه الآيات قوية أخّاذة.

هذا ولقد روى بعض المفسرين (١) في سياق آية (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) أنها إشارة إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تاه في طفولته في جبال مكة فقلق عليه جده وبحث عنه طويلا حتى وجده ولم يصب بسوء. ونحن نشك في الرواية كل الشك ، لأنّ الحادث الذي ذكرته أتفه من أن يكون موضوع ذكر وتذكير ، فضلا عن عدم وثوقها وعن التوجيه الصحيح الذي قررناه والذي تسنده آيات القرآن.

__________________

(١) انظر تفسير السورة في تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير مجمع البيان للطبرسي والخازن. على أن هؤلاء المفسرين وجمهرة المفسرين الآخرين يؤولون الضلال بنحو ما أولناه أو في نطاقه. انظر كتب التفسير الثلاثة المذكورة وانظر أيضا تفسير الطبري والنيسابوري والبغوي وابن كثير والآلوسي إلخ.

٥٥٧

سورة الشرح

في السورة تطمين لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتذكيره بعناية الله به. وبينها وبين سابقتها تماثل حتى لكأنها امتداد لها وحتى لقد روي أن السورتين سورة واحدة غير أن المتواتر أنهما سورتان ، تفصل بينهما بسملة مثل سائر السور.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

(١) وضعنا : حططنا وخففنا.

(٢) وزرك : حملك.

(٣) أنقض ظهرك : أتعبك وأثقل عليك.

(٤) فرغت : خلوت أو انتهيت من شغلك.

(٥) فانصب : فقم واجهد.

(٦) وإلى ربك فارغب : أقبل بشوق على عبادة ربك.

آيات هذه السورة موجهة كذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسابقتها. وقد احتوت تذكيرا بما كان من عناية الله به وتطمينا وتثبيتا له أو حثا على عبادة الله والتقرب إليه.

٥٥٨

وقد ذكرت بعض الروايات (١) أنها وسورة الضحى سورة واحدة وأن طاوسا وعمر بن عبد العزيز من التابعين كانا يتلوانهما معا بدون فصل بالبسملة. غير أن المتواتر المتصل بمصحف عثمان رضي الله عنه الذي هو على ترتيب المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، والذي نعتقد أنه الترتيب المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهما سورتان تفصل بينهما بسملة. والمتبادر أن التماثل والتعاقب بين السورتين مما جعل بعض التابعين إذا صحت الرواية يقولان إنهما سورة واحدة.

وهذا التماثل والتعاقب يلهمان أن هذه السورة بمثابة استمرار لسابقتها ظرفا وسياقا وموضوعا ، أو أنها نزلت في ظرف أزمة نفسية ثانية ، ألمت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أزمة فترة الوحي مما كان يلاقيه من قومه من عناء وعسر. وأسلوبها أسلوب تطميني محبب. فالله الذي شرح صدره وخفف الوزر الذي كان شديدا عليه ورفع ذكره مما هو معترف به منه ، لا يمكن أن يدعه وشأنه ، ولا أن يجعل عسره مستمرّا ، وعليه أن يتجلد ويصبر ، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا.

والمتبادر أن شرح الصدر قد قصد به ما أنعم الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى واليقين. وأن وضع الوزر قد قصد به إنقاذه من دور حيرته النفسية ، وأن رفع الذكر قد قصد به ما كان من اختصاصه بالنبوة العظمى.

وفي التوكيد مرتين بأنه سيكون مع العسر يسرا ما يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلقى صدا وعسرا شديدين ، وأنه كان يعتلج في نفسه بسبب ذلك همّ وغمّ وقلق. وفيه بشرى وتطمين بأن الأمر سينتهي إلى اليسر والنجاح. ومثل هذه البشرى قد جاءت في السورة السابقة بأسلوب الوعد بأن الله سوف يعطيه حتى يرضى ، وأن النهاية ستكون خيرا من البداية.

ومما لا شك فيه أنه كان لهذا التوكيد وكذلك للأمر بالاتجاه في الفراغ والخلوات حالما يفرغ من عمله اليومي أثر في استشعار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسكينة وقوة

__________________

(١) انظر تفسير السورة في تفسير النيسابوري «غرائب القرآن».

٥٥٩

النفس والروح ، وأن ذلك قد ساعده أعظم مساعدة على مواجهة الصعاب ، والاستخفاف بالعقبات والاستغراق في الدعوة والاندفاع فيها ، والثبات والصبر حتى تمّ له النصر الموعود وتبدل العسر يسرا ، وصارت كلمة الله هي العليا.

وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى دون ريب ، حيث يمد كل صاحب دعوة إلى سبيل الله والخير العام بقوة الروح ، وسكينة النفس وطمأنينة القلب والاندفاع فيما هو بسبيله ، واقتحام صعابه وعقباته وتحمل العناء ، راضيا مطمئنا إلى أن يصل إلى هدفه ، ويكون له بعد العسر يسر إذا ما تشبع قلبه بالإيمان ، وامتلأ بعظمة الله واتجه إليه وحده واستصغر كل ما عداه.

٥٦٠