التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

وما ذكر من الانقلاب الذي يطرأ على نواميس الكون هو على ما يتبادر وبالإضافة إلى حقيقته الإيمانية ودخوله في نطاق قدرة الله بسبيل تصوير هول يوم القيامة وأثره في مشاهد الكون العظيمة التي تملأ الأذهان استهدافا لإثارة خوف السامعين وحملهم على الارعواء. وليس من طائل في التخمين والتزيّد في مظاهر هذا الانقلاب وماهياته المادية. وليس ذلك من أغراض القرآن على ما شرحناه في مناسبة سابقة (١).

وعادة دفن البنات أحياء وكراهة ولادتهن من صور حياة العرب قبل البعثة وعاداتهم. وقد ذكر هذا في أكثر من موضع في القرآن ، ومن ذلك في آيات النحل هذه : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٥٩) [٥٨ ـ ٥٩]. وأسلوب الآية هنا أسلوب تنديد بهذه العادة وإنذار بشدة عقوبتها عند الله لما فيها من قسوة بالغة وجرأة على إزهاق روح بريئة. وتخصيص وأد البنات بالذكر لا يعني بطبيعة الحال أن هذا هو وحده الذي يسأل الناس عنه. وإنما يمكن أن يلمح منه قصد تشديد النكير على هذه العادة القاسية البشعة التي كان الذين يمارسونها يظنون أنه ليس عليهم فيها حرج ولا إثم.

تعليق على جملة

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)

وبمناسبة آية (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) نقول إن هذا المعنى قد تكرر بأساليب متنوعة في القرآن. وقد ذكر في بعض الآيات أن لله على الناس مراقبين يكتبون ما يفعلونه. وأن ما يكتبونه هو صحف أعمال الناس التي تنشر يوم القيامة وتوزع على أصحابها ، وتعطى للناجين بأيمانهم وللخاسرين بشمالهم. ومما جاء في القرآن في هذا آية سورة الزخرف هذه : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ

__________________

(١) انظر كتابنا القرآن المجيد في مقدمة هذا التفسير.

٥٠١

يَكْتُبُونَ) (٨٠) وآيات سورة ق هذه : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) وآيات سورة الجاثية هذه : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩) ومنها آيات سورة الحاقة التي أوردناها في سياق تفسير سورة المدثر.

ولما كان الله عزوجل غنيا عن كل ذلك لا يعزب عنه شيء فالذي يتبادر من الحكمة الربانية لما ذكرته الآيات أنه بسبيل الإنذار والترهيب والوعيد بأسلوب من الأساليب التي اعتادها الناس في الدنيا من تسجيل الأحداث وإبراز التسجيلات في مقام الإثبات والإفحام. ولقد نبهنا قبل إلى ما اقتضته حكمة التنزيل من وصف المشاهد الأخروية بأوصاف مستمدة من مألوفات الحياة الدنيا في التعليق على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. وهذا من ذاك ، هذا مع تقرير وجوب الإيمان بما ذكرته الآيات كحقيقة إيمانية غيبية ، وبأنه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(١) الخنس : جمع خانس من خنس الشيء إذا سكن واستخفى. والمراد هنا النجوم التي لا تظهر. وقيل النجوم الرواجع التي تسير في اتجاه فتختفي ثم تظهر.

(٢) الكنس : جمع كانس من كنس الشيء إذا توارى وانحجب. والمراد هنا النجوم التي تنحجب في النهار بضوء الشمس وتظهر في الليل.

(٣) عسعس : أدبر أو انقضى.

٥٠٢

(٤) تنفس الصبح : بمعنى طلوع الفجر.

(٥) الغيب : بمعنى وحي الله الذي يأتي من الغيب والخفاء.

(٦) ضنين : ممسك ، وقرئت ظنين. ومعناها المتهم في أمانته والمراد هنا إخفاء شيء من الرسالة التي أوحيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو خيانتها.

(٧) الشيطان : العاتي القوي من الإنس والجن.

(٨) رجيم : مرجوم ومطرود من رحمة الله (١).

وفي هذه الآيات قسم بالمشاهد الكونية المذكورة وحركاتها بأن الذي يبلغ وحي الله هو رسول كريم أمين على ما ينقل قوي على حمل الأمانة حظي عند الله ، وبأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس مجنونا وبأنه قد رأى ملك الله في أفق السماء ، وبأنه صادق فيما يقول غير متهم في أمانته ، وغير مخف شيئا مما رآه وسمعه وعرفه ، وبأن ما يبلغه ليس من تخليط الشيطان الرجيم وأقواله.

وسألت إحدى الآيات السامعين أين يذهبون في أمر النبي وماذا يظنون؟ والسؤال ينطوي على تنديد بالمكذبين والمترددين في تصديق ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأوهامهم وتفسيراتهم الخاطئة لما يخبر به من المشاهد الروحانية. ونبهت إحدى الآيات على أن ما يبلغه إنما هو تذكرة لهم وموعظة ؛ ليرى من شاء الحق فيتبعه ويستقيم عليه فيكون قد اهتدى بهدى الله ومشيئته التي تناط بها مشيئة الناس.

والآيات فصل مستقل الموضوع عن سابقاتها ، غير أن الارتباط بينها وبين هذه السابقات قائم. فالأولى تخبر بيوم القيامة وأهواله ونتائجه وتنذر الناس بعواقب أعمالهم ، والثانية تؤكد صدق الأخبار والإنذار وترد على الكفار ما يقولونه في صددهما وما ينسبونه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تخليط الشياطين عليه ، والمرجح أن الفصلين نزلا متتابعين إن لم يكونا قد نزلا معا.

وقد ذكر المفسرون (٢) عدة وجوه في صدد حرف «لا» الذي سبق فعل القسم

__________________

(١) انظر تفسير الكلمات في كتب التفسير المذكورة آنفا.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي والنسفي وانظر تفسير سورة الواقعة في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي.

٥٠٣

فقالوا إنه قد يكون مختصرا من «ألا» التنبيهية أو قد يكون حرف ابتداء فقط أي لأقسم بمعنى إني لأقسم ، أو قد يكون حرف نفي ، ليفيد أن الأمر المذكور صحيح وواضح لا يحتاج إلى القسم ، أو قد يكون زائدا وليس حرف نفي. وقد أسهبنا في ذكر الوجوه لأن هذا قد تكرر أكثر من مرة في معرض التوكيد والقسم. ومهما يكن من أمر فالجملة قسمية على ما تلهمه روح الآيات. ولا شك أن هذا من الأساليب التي كانت مستعملة في كلام العرب. وفي سورة الواقعة هاتان الآيتان : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) ، وفيهما صراحة بأن الجملة قسمية.

ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها نزلت ردّا على أقوال تقولها الكفار والجاحدون. وقد انطوت على ردّ قوي يوحي بصدق ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمق إيمانه به واستناده فيه على الحقيقة الواقعة التي أدركها بالقوة التي اختصه الله بها ، ويقضي على أي شك في نفس كل امرئ حسنت نيته ورغب عن المماراة بالباطل.

ونفي الآيات الجنون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلة الشيطان بما يبلغه دليل على أن المكذبين كانوا يقولون إن ما يخبر به هو من تلقينات الشيطان. ويقصدون بذلك الجن على الأرجح لأن العرب كانوا يعتقدون أن شياطين الجن يوحون إلى الشعراء والكهان والسحرة. وقد يأتي على البال من هذا أن المكذبين كانوا حينما ينعتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمجنون ، ويقولون إن به جنّة على ما حكته آيات عديدة منها آية سورة المؤمنون هذه : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠) ، كانوا أحيانا يعنون أن له شيطانا من الجن يتصل به ويلقنه ما يقول على نحوما كانوا يعتقدونه. والراجح أنهم نعتوه بالشاعر والكاهن والساحر بناء على هذا الاعتقاد.

وأكثر المفسرين (١) يصرفون تعبير (رَسُولٌ كَرِيمٌ) إلى الملك الذي كان يبلغ

__________________

(١) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري وابن كثير والنيسابوري والبغوي والزمخشري والطبرسي.

٥٠٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحي الله وقرآنه. والضمير في الآية [٢٣] يدعم هذا القول. ولقد ورد في الحديث المروي عن جابر بن عبد الله والذي ذكرناه في سياق تفسير سورة المدثر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى الملك في أفق السماء. فالآية هنا على الأرجح في معرض التوكيد لهذه الرؤية الروحانية التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكرها فكان المؤمنون يصدقونه والجاحدون يكذبونه. وتبكير نزول السورة يؤيد هذا ، حيث لم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الرؤية. والتوكيد والنفي والتنديد في الآيات قوي يبعث اليقين في نفس من لا يتعمد العناد والمكابرة في صدق هذه المشاهدة ، ويجلّي صورة رائعة لصميمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقينه بصحة ما رأى ، ويؤيد صحة الحديث.

وعلى المسلم أن يؤمن بذلك ويقف عنده ولا يزيد في الظن والتخمين في صدد الماهية والكنه. فلا طائل من وراء ذلك وهما سرّ من واجب الوجوب وسرّ النبوة والوحي الذي تقصر عنه عقول الناس.

تعليق على العرش

وكلمة العرش تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت كثيرا. وقد جاءت في سياق ذكر ملكة سبأ في آية سورة النمل هذه : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) ، وجاءت جمعا في سياق ذكر القرى التي دمرها الله في آية سورة الحج هذه : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) ، وأكثر ما جاءت منسوبة إلى الله بمعنى ربّ العرش وصاحبه كما جاءت في هذه السورة أو بصيغة استواء الله على العرش كما جاء في آية سورة الأعراف هذه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤) ، وذكر في آية في سورة هود هكذا : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [٧] ، وفي آية في سورة

٥٠٥

الزمر هكذا : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [٧٥] ، وفي آية في سورة غافر هكذا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [٧].

وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات عديدة ذكر فيها العرش ، منها حديث رواه الترمذي عن أبي رزين جاء فيه : «قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» (١). وروى الإمام أحمد هذا الحديث بمغايرة يسيرة حيث جاء فيه بعد : «وما فوقه هواء» ، ثمّ خلق العرش بعد ذلك» ، ومنها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : «بينما نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا العنان هذه روايا الأرض يسوق الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال : هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع سموات ما بين كلّ سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما به مثل ما بين السماءين. ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها الأرض. ثم قال : هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإن تحتها الأرض الأخرى مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله ثم قرأ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٣١.

٥٠٦

عَلِيمٌ)» (١) [الحديد : ٣].

ومنها حديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة جاء فيه : «ما السموات السبع وما فيهنّ في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة ، لا يقدر قدره إلّا الله عزوجل» (٢). ومنها رواية معزوة إلى (بعض السلف) جاء فيها : «إن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة. وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وهو من ياقوتة حمراء» (٣). ومنها حديث رواه أبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «شأن الله أعظم من ذلك وإنّ عرشه على سمواته هكذا وأشار بيده مثل القبة» (٤). ومنها رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده جاء فيها : «إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور. لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله. والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» (٥). ورواية عن مجاهد جاء فيها : «إنّ بين السماء السابعة وبين العرش سبعين ألف حجاب. حجاب من نور وحجاب من ظلمة. وحجاب من نور وحجاب من ظلمة» (٦) والروايات الثلاث الأخيرة لم ترد كذلك في كتب الأحاديث الصحيحة.

وهناك قول معزو إلى بعض السلف بدون أسماء جاء فيه : «إنّ مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة وارتفاعه من الأرض

__________________

(١) التاج الجامع ج ٤ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، وإذا صح الحديث الثاني فالواجب أن يحمل تعبير (هبط على الله) على غير المعنى الجسماني المادي المتبادر منها أو على معنى الوجود الشامل والإحاطة الكاملة لأن الله عزوجل منزّه عن ذلك.

(٢) تفسير ابن كثير للآية [٧] من سورة هود.

(٣) تفسير المفسر نفسه للآية الثانية من سورة الرعد.

(٤) تفسير المفسر نفسه للآية [٨٦] من سورة المؤمنون.

(٥) تفسير البغوي للآية السابقة من سورة غافر.

(٦) المصدر نفسه.

٥٠٧

السابعة مسيرة خمسين ألف سنة» (١). وقول معزو إلى كعب الأحبار جاء فيه : «إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلّق بين السماء والأرض» (٢). وواضح أنه ليس في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة وغيرها شيء صريح عن ماهية العرش بل باستثناء الرواية التي يرويها ابن كثير عن بعض السلف بأنه من ياقوتة حمراء والتي تتحمل التوقف ليس في الروايات الأخرى أيضا شيء صريح عن ماهيته.

ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة عن العرش والوقوف عند حدّ ذلك بدون تزيد مع الإيمان بقدرة الله تعالى على كل شيء. وبأن ذكر العرش بالأسلوب الذي ذكر به لا بد من أن يكون له حكمة سامية.

ولما كانت الآيات والأحاديث التي ورد فيها ذكر عرش الله قد وردت في صدد بيان عظمة الله عزوجل وعلو شأنه وشمول ربوبيته وسعة كونه وبديع خلقه ونفوذ أمره في جميع الكائنات خلقا وتدبيرا وتسخيرا فإن هذا قد يكون من الحكمة التي انطوت في الآيات والأحاديث. ولا سيما أن الله عزوجل ليس مادة يمكن أن تحدّ بمكان أو صورة أو تحتاج إلى عرش مادي يجلس عليه أو تكون فوقه. وفي القرآن آيات نسبت إلى الله عزوجل اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة والوجه مما هو منزّه سبحانه عن مفهوماتها ومما هو بسبيل التقريب والتشبيه والمجاز. وقد يكون هذا من هذا الباب والله تعالى أعلم.

هذا ، وهناك أحاديث وأقوال في صدد استواء الله تعالى على العرش وحمل الملائكة للعرش نرجىء إيرادها والتعليق عليها إلى مناسباتها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير للآية [٨٦] من سورة المؤمنون وهناك روايات أخرى أوردها المفسران في سياق سور أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

(٢) المصدر نفسه.

٥٠٨

تعليق على كلمة الشيطان

وبمناسبة ورود كلمة الشيطان لأول مرة نقول إن المفسرين (١) قالوا إن اشتقاق الكلمة عربي من شطن بمعنى بعد أو شاط بمعنى بطل وفسد ، وإنها نعت لكل داهية قوي الحيلة والبغي. وقد خطر لبالنا أن يكون بينها وبين شط بمعنى جار وبغى صلة ، ومنه ما جاء في آية ص هذه : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢) ، وفعلان من الصيغ العربية التي تتضمن معنى الوصف والمبالغة. والمتبادر أن شيطان من هذا الباب اشتقت من جذر من الجذور الثلاثة.

والكلمة أكثر ما وردت في القرآن مرادفة لإبليس ومفهومه من إغواء الناس ، كما جاء في آية سورة النساء هذه : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦) ، وفي آيات سورة البقرة هذه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦) ، وقد وردت مرات عديدة للتعبير عن جبابرة الجن ومرة في شمولها لجبابرة الإنس كما جاء في آية سورة الأنعام هذه : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢). وقد قال بعض الباحثين إنها دخيلة على العربية من كلمة سلطان أو جطان العبرية وإن مفهومها المرادف لإبليس دخيل أيضا. ومع أن هذا المفهوم لا يبعد أن يكون منقولا إلى العرب من الكتابيين الذين وردت كلمة الشيطان في معرض إغواء الناس والوسوسة لهم في ما كان وما يزال متداولا من أسفار وقراطيس مرات عديدة فإن

__________________

(١) اقرأ تفسير الفاتحة في تفسير الطبرسي «مجمع البيان» وانظر مادة شط في أساس البلاغة للزمخشري.

٥٠٩

وجود جذر عربي فصيح للكلمة لا يبرر إبعادها عن الأصالة العربية الفصحى. على أن هذا لا يمنع القول باحتمال وحدة جذر الكلمة في العربية والعبرية أيضا لأنهما شقيقتان ترجعان إلى أصل واحد.

ومهما يكن من أمر فإن من الحق أن يقال إن الكلمة بقالبها الذي وردت به في القرآن قد استعملها العرب قبل نزولها وكانوا يفهمون كل الدلالات التي تدل عليها الآيات المتنوعة التي وردت فيها ، وإنها تعد من اللسان العربي المبين ما دام القرآن يقرر أنه نزل بهذا اللسان. وهي هنا على كل حال تعني جبابرة الجن الذين كانوا يتنزلون على الشعراء والكهان والسحرة على ما كان يعتقده العرب. ونعت الشيطان بالرجيم يدل على أنه كان للشيطان في أذهان سامعي القرآن صورة بغيضة. وفي سورة الصافات هذه الآية من آيات فيها وصف لشجرة الزقوم الأخروية : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) حيث ينطوي في هذا أنه كان للشياطين في أذهانهم صورة مخيفة أيضا.

وأسلوب مطلع السورة مما تكرر في مطالع عديدة أخرى بحيث يسوغ أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

ولقد علقنا على فقرة تشبه الآية الأخيرة في صدد إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله في سياق تفسير سورة المدثر. وما قلناه هناك يصح هنا بتمامه فنكتفي بالإشارة دون الإعادة.

٥١٠

سورة الأعلى

تتضمن السورة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقديس اسم الله ، وإيذانا له بأن الله ميسره في طريق اليسر ، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار. وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية ، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

(١) التسبيح : التنزيه والتقديس عن كل ما لا يليق.

(٢) سوّى : أتقن وجعل الشيء سويّا تاما.

(٣) قدّر : حسب ورتب.

(٤) غثاء : النبات اليابس المتكسر الذي تحركه الرياح وتجره المياه.

(٥) أحوى : أسود أو ضارب للسواد.

(٦) اليسرى : مؤنث الأيسر أي الأسهل ، من اليسر.

٥١١

الخطاب في الآيات موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تضمنت :

١ ـ أمره بتقديس اسم ربّه الأعلى الذي يستحق كل تقديس وتنزيه. فهو الذي خلق كل شيء وسوّاه على أتم وجه. وهو الذي رتب وحسب في الخلق كل أمر. وأودع في خلقه قابلية الهدى. وهو الذي أنبت النبات ثم جعله جافا متكسرا أسود اللون بالناموس الذي أودعه في الكون بعد ما كان أخضر لينا.

٢ ـ وتنبيها له بأنه سيوحى إليه بالقرآن ويعلمه إياه ، فلا ينسى منه شيئا إلّا ما شاء الله فهو العليم بكل شيء ظاهر وخفي وبمقتضيات كل حال ، وبأنه سييسره في أسهل السبل وأيسرها ، وبأن عليه أن يدعو الناس إليها ويذكرهم لعل الذكرى تنفعهم وهذه مهمته.

٣ ـ وتقريرا بأن الناس إزاء الذكرى فريقان : تقي صالح وشقي آثم. فالأول هو الذي يخشى العاقبة فيتقبل الدعوة وينتفع بالذكرى ، والثاني هو الذي لا يخشى العاقبة فيعرض عن الدعوة والذكرى ، فيكون جزاؤه النار الهائلة التي لا يموت فيها فيستريح ، ولا يأمل الخلاص منها والحياة الآمنة المطمئنة.

وليس في الآيات إشارة إلى موقف خاص لمكذبين ومناوئين ، وإنما هي بسبيل عرض عام للدعوة ومهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسلوب رصين وهادىء معا.

تنبيه على ما أسبغه

القرآن والسنّة النبوية على التسبيح من حفاوة

وبمناسبة الأمر بتسبيح الله تعالى في مفتتح السورة نقول إن الأوامر القرآنية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين بتسبيح الله تعالى قد تكررت كثيرا. منها ما فيه أمر بالتسبيح في أوقات معينة ، ومنها ما فيه أمر بالتسبيح مطلقا أو في كل وقت. ومنها ما فيه أمر بالتسبيح باسم الله أو التسبيح بحمد الله. ومن السنن النبوية الصحيحة المعمول بها بدون انقطاع صيغة (سبحان الله العظيم) في كل ركوع من كل صلاة وصيغة (سبحان ربي الأعلى) في كل سجود من كل صلاة. حيث تتساوق السنة النبوية مع الأوامر القرآنية.

٥١٢

والتسبيح هو تقديس وتنزيه وذكر لله عزوجل وثناء عليه بما هو أهله. بحيث يسوغ القول إن الأوامر القرآنية والنبوية بمواصلة تسبيح الله تعالى قد هدفت إلى جعل المسلم يديم ذكر الله في كل وقت مقدسا منزها مثنيا حامدا مستعيذا. ولا شك في أن المسلم الذي يداوم على ذلك بصدق وقلب وإيمان يظل مستشعرا بالله عزوجل مراقبا جانبه في كل ما يفعل أو يريد أن يفعل فيجعله ذلك حريصا على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. ويكون له بذلك وسيلة عظمى من وسائل التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية.

ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة فيها صيغ التسبيح بسبيل تعليم المسلمين وبيان لما في التسبيح من ثواب وقربى عند الله عزوجل. فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك اللهمّ اغفر لي» (١) وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عنها أيضا : «أنه كان يقول في ركوعه وسجوده سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» (٢). وما رواه الترمذي وأبو داود عن عبد الله قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» (٣) وما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن جويرية : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من عندها بكرة حين صلّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم قال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (٤).

وما رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة قال : «قال

__________________

(١) انظر التاج الجامع ، ج ١ ص ١٦٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) التاج ج ٥ ص ٩٢ و ٩٦.

٥١٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» (١). وما رواه أبو داود : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده ولا قوة إلّا به ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما ، فإنه من قالهنّ حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهنّ حين يمسي حفظ حتى يصبح» (٢). وما رواه أبو داود كذلك عن ابن عباس قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال حين يصبح (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إلى (تُخْرَجُونَ) (٣) أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهنّ حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» (٤).

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الانتفاع بالتسبيح رهن بالإخلاص فيه وعدم اقتصاره على الحركة اللسانية التي لا يستشعر صاحبها بما فيه من تذكير وتنبيه وحافز على مراقبة الله عزوجل وتقواه. والله أعلم.

التلقين المنطوي في الآيتين

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١))

ولقد احتوت الآيتان [١٠ ـ ١١] تلقينا جليلا مستمدا من الوصف الذي وصف به الفريقين اللذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتذكيرهما ودعوتهما. فالذي يعرض عن دعوة الحق هو شقي بطبعه يصدر عن نية خبيثة وطوية فاسدة وخلق سيء بعكس الذي يتأثر بدعوة الحق ويستجيب إليها فإنه يصدر عن نية حسنة وطوية سليمة وخلق

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) التاج ج ٥ ص ٩٩.

(٣) المقصود هو آيات سورة الروم هذه : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١٩).

(٤) التاج ج ٥ ص ٩٩.

٥١٤

فاضل ويخشى العاقبة ويسارع إلى رضاء الله.

وينطوي في هذا تقرير كون الاستجابة والإعراض عملين اختياريين يقدم من يقدم عليهما بدافع من عقله وطبعه وخلقه وطويته. وفي الآية [٣] تأييد لهذا التقرير حيث تقرر أن الله قد أودع في الناس قابلية الهدى والسير في طريق الحق والخير والصواب. فمن لم ينتفع بها فيكون هو الشقي الذي اختار لنفسه طريق الضلال المؤدية إلى الهلاك والخسران والمتبادر أن هذا مبدأ من المبادئ المحكمة التي نوهنا بها في سياق تفسير سورة المدثر ، والتي ينبغي النظر في إشكالات بعض الآيات والعبارات القرآنية في ضوئها.

تعليق على جملة

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ)

ومسألة جواز النسيان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وتعليقا على هذه الجملة نقول إن في القرآن والحديث ما يسيغ القول بجواز النسيان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. من ذلك آية سورة الكهف هذه : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤) وقد روي أن الآيات نزلت لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد بالإجابة على أمر دون أن يقول إن شاء الله على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن ذلك آية سورة الأنعام هذه : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخل في مدى التعليم القرآني المنطوي في آية البقرة هذه : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [٢٨٦] على ما يلهمه سياقها.

ومن الحديث ما رواه الخمسة عن عبد الله قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال وما ذاك قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم». وفي رواية قال : «أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى

٥١٥

كما تنسون ثم سجد سجدتي السّهو» (١).

غير أن الجملة كما يتبادر لنا توجب على المسلم أن يعتقد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمكن أن ينسى تبليغ شيء من القرآن الذي يوحي الله به إليه إلّا ما شاء الله أن ينساه. وتكون هذه في الحالة من نوع النسخ القرآني على ما سوف نشرحه في سياق تفسير إحدى آيات سورة النحل لأن ذلك أكثر ملاءمة والله تعالى أعلم.

تعليق على وصف (الْأَعْلَى)

ولقد استنبط بعض أصحاب المذاهب الكلامية من وصف (الأعلى) الذي وصف به الله عزوجل أنه سبحانه وتعالى في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في القرآن آيات عديدة تذكر أنه في السماء إله وفي الأرض إله وأنه ربّ السّموات وربّ الأرض مثل آيات سورة الزخرف هذه : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥) والمتبادر أن وصفه بالأعلى يهدف إلى تقرير وصفه بالعلوّ عن كل شيء الذي يدانيه في عظمته وقوته وتساميه شيء. ولقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال : «لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعلوها في سجودكم» (٢) فجرى المسلمون من لدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون انقطاع على ذكر هذه الصيغة مرات في كل سجدة يسجدونها مما فيه معنى لطيف متصل بالهدف المذكور فيما يتبادر لنا من حيث تضمنه الاعتراف لله بصفة العلوّ عن

__________________

(١) التاج الجامع ج ١ ص ١٩٧ ، وهناك أحاديث صحيحة أخرى من هذا الباب فاكتفينا بهذا الحديث.

(٢) أورد الحديث المفسر ابن كثير في سياق هذه السورة وفي سياق سورة الواقعة.

٥١٦

كل شيء في حالة السجود التي تمثل أروع حالات الخضوع لله عزوجل.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)) [١٤ ـ ١٩]

(١) تزكى : تطهر أو أدى الزكاة. والمعنى الأخير هو المرجح هنا.

(٢) الصحف الأولى : الكتب المنزلة السابقة.

وفي هذه الآيات :

١ ـ تقرير توكيدي لفلاح ونجاة الذين يتزكون ويذكرون ربهم ويصلّون له.

٢ ـ وخطاب موجه إلى السامعين فيه تنبيه بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، في حين أن الآخرة هي خير وأبقى لهم ، وبأن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست بدعا وإنما هي حلقة من سلسلة دعوة أنبياء الله الأولين والكتب المنزلة عليهم وخاصة كتب موسى وإبراهيم.

والآيات متصلة بسابقاتها اتصالا وثيقا ، وفيها ذكر مصير الذي ينتفع بالذكرى ويخشى العاقبة وتتمة للكلام عنه بعد ذكر مصير الشقي الذي يعرض عنها.

وكلمة «تزكى» تحتمل في الآية معنى التطهير أو أداء الزكاة غير أن تلازم ذكر الصلاة والزكاة في جلّ المواضع القرآنية قد يسوّغ الترجيح بأن المقصد هنا هو زكاة المال. وإذا صح هذا كانت الدعوة إلى الزكاة والحثّ عليها قد لازما الأمر بالصلاة والحث عليها منذ بدء الدعوة. وقد يفسّر هذا الموقف المتجهم الذي وقفه الأغنياء بالإجمال من الدعوة منذ بدئها.

وأسلوب الدعوة إلى الزكاة إذا صح الترجيح هو أسلوب الحث والترغيب. وهذا هو المتسق مع ظروف العهد المكي وخاصة مع ظروف أوائله. وهذا

٥١٧

الأسلوب ملموح في الدعوة إلى الصلاة أيضا ، وهو ملموح في المواضيع المماثلة في جميع السور المكية.

وروح آيات السورة وأسلوبها يلهمان أن الخطاب في الآية [١٦] لم يوجه لفريق خاص بقصد التثريب والتنديد وإنما هو موجه إلى الناس جميعا بقصد تقرير الطبيعة الغالبة فيهم وهي إيثار النفع العاجل على الآجل ، وبقصد تنبيههم إلى ما هو خير وأبقى استهدافا لإقبالهم على الاستجابة للدعوة.

القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات

وليس في الآية بطبيعة الحال حظر الاستمتاع بالحياة الدنيا إذا ما استجاب الناس للدعوة وقرنوا العمل للدنيا والآخرة معا.

وفي آيات سورة الأعراف هذه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) تأييد صريح لما نقرره.

وفي سورة المائدة آية نهت المسلمين عن تحريم طيبات ما أحله الله لهم على أنفسهم بدون تجاوز على الحدود المعقولة. وهي هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) وكان هذا النهي في مناسبة جنوح بعض المسلمين إلى الرهبانية والتقشف والامتناع عن النساء ولذائذ العيش. وحلفهم على ذلك وقد فرض الله لهم تحلة لأيمانهم في آية أخرى بعد هذه الآية وهي : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ

٥١٨

تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩) وفي هذا تدعيم آخر كما هو واضح.

تعليق على ذكر إبراهيم وموسى

عليهما‌السلام وصحفهما

وإبراهيم وموسى عليهما‌السلام يذكران في القرآن هنا لأول مرة. ثم تكرر ذكرهما كثيرا وبحفاوة عظيمة في سور عديدة مكية ومدنية.

وقد ذكر إبراهيم عليه‌السلام وسيرته وأولاده وأحفاده في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بشيء غير قليل من الإسهاب. ويستفاد من ذلك أنه هاجر من بلاد أور الكلدانيين أو حاران إلى أرض كنعان التي صارت تعرف بفلسطين بأمر الله عزوجل هو وزوجته ساره وابن أخيه لوط عليهم‌السلام. فاستقروا ونموا فيها وكانوا موحدين مخلصين لله ومحل تجلياته وعنايته وشاخ ومات ودفن في فلسطين.

وفي السور الأخرى شيء من سيرتهم ، منه ما يتطابق مع ما ورد في السفر المذكور ومنه ما لا يتطابق أو ما لم يذكر فيه على ما سوف ننبه عليه في مناسبات أخرى.

وفي كتب التفسير روايات كثيرة ومسهبة عنهم مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول. منها المتطابق مع ما جاء في سفر التكوين ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكرهم كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الاسرائيليون الذين ينتسبون إليهم بالأبوة. على أن لإبراهيم عليه‌السلام مقاما خاصا عند العرب يأتي مما كان متواترا حتى بلغ مبلغ اليقين من أن القرشيين والعدنانيين الذين يتفرع الأولون منهم كانوا يتداولون نسبتهم بالأبوة إليه من ناحية إسماعيل ابنه

٥١٩

البكر عليهما‌السلام. ونسبة الكعبة وتقاليد الحج المتنوعة إليه أيضا. وفي القرآن آيات فيها تأييد وترديد لذلك منها آيات سورة البقرة هذه : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩) وآية سورة الحج هذه : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧) وهذه : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ...) [٧٨].

وقد ذكر موسى في سفر الخروج ثاني أسفار العهد القديم والأسفار التالية له المتداولة اليوم بإسهاب. وهو من نسل إبراهيم على ما يستفاد من أسفار العهد القديم ومن القرآن معا. وكثير مما ورد في القرآن عنه متطابق مع ما ورد في أسفار هذا العهد ، ومنه غير المتطابق أيضا. وفي كتب التفسير روايات كثيرة عنه مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول منها ما هو المتطابق مع هذه الأسفار ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكره كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة. ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الإسرائيليون.

٥٢٠