التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

تستكثر ما تفعله من الخير وتمنن به أي تفخر به أو تحمل من تعطيه الجميل (١) ، ويمكن أن تكون بمعنى أنك إذا لم تمنن بما تعطيه ييسر الله لك الأكثر منه ، من باب (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم / ٧].

ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيرا وتقديما لحفظ الوزن والقافية وأن تقديرها : وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أو لا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك ، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر.

وقد ذكرت الروايات أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي ، بعد نزوله الأول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفا وجئت أهلي فقلت زملوني زملوني ، وفي رواية دثروني دثروني ، فدثروني فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) إلى قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ). ثم تتابع الوحي (٢) وهناك روايات تذكر أنها أول ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت (٣).

ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم ، ولا يمكن أن يكون هذا إلّا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعوة شوطا ، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه.

والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري

__________________

(١) انظر الطبري أيضا.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وحديث جابر رواه الشيخان والترمذي أيضا بصيغة قريبة جدا. انظر التاج ج ٣ ص ٢٢٨.

(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٠ ـ ٥٢ مطبعة الاستقامة.

٤٤١

ومسلم عن يحيى قال : «سألت أبا سلمة أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ). قلت : أنبئت أنه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)! فقال : لا أخبرك إلّا بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ففعلوا وأنزل عليّ : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣)» (١) [سورة المدثر : ١ ـ ٣]. ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.

والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل ، وجعلها رابع السور نزولا فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.

على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معا أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.

وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكرا على ما يلهم أسلوبها ومضمونها والخطة التي رسمها الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعوة والاتصال بالناس

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٤٧. وهناك حديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قريب من هذا مع زيادة ونصه : «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه ورجعت وقلت زملوني زملوني فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)». التاج ج ٣ ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

٤٤٢

ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة جليلة الشأن ، فالله أكبر من كل شيء ، وكل ما عداه حقير صغير ، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيرا مرهوبا ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير ، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة ، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر.

والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله ؛ وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية.

وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح.

بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقا في كل زمن ومكان ليكون عنوانا للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهرا وسيرة.

وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك ، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [٢٦٤].

وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ

٤٤٣

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣).

وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات ، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء» (١) ، وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي بكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل» (٢).

وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق» (٣). ولقد أثرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم» (٤). وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة ، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم ، ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار ، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.

ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنبا ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده وننبه عليه في مناسبات أخرى.

هذا ، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر ، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمهمته العظمى ؛ وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٤ ـ ٣٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) مجمع الزوائد ج ١ ص ٢٨٣.

٤٤٤

بدعوة الناس وإنذارهم. بل إن التساوق بين مطلعي السورتين الأوليين أيضا ملحوظ إذا ما أنعم القارئ النظر ، وكل هذا يؤيد تبكير نزول هذه المطالع.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

(١) الناقور : الأداة التي يدق عليها أو ينفخ فيها لإحداث صوت خاص بدعوة الناس وتنبيههم أو هو الصور أو القرن (١).

في الآيات إشارة إلى الموقف العصيب العسير الذي سوف يواجهه الكافرون حينما يبعث الناس إلى يوم القيامة والحياة الأخرى.

والمتبادر أنها بسبيل الإنذار والوعيد ، والفاء التي بدئت بها الآيات تعقيبة ، فكأنما جاءت الآيات معقبة على أمر الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر الذي كان في معرض التثبيت والتطمين ، ومؤكدة له. فعليه الصبر لأمر ربه رغما عن موقف الجاحدين لرسالته الذين سوف يكون حسابهم عسيرا يوم الجزاء الأخروي. وقد يلهم هذا صحة التوجيه الذي وجهناه من أن آيات السورة متصلة ببعضها نظما وموضوعا ونزولا.

تعليق على النقر في الناقور ومرادفه النفخ في الصور

وما ورد في ذلك من أحاديث :

والنقر في الناقور هو إيذان للبعث والقيامة الأخروية على ما تفيده العبارة والآيات. وقد فسره المفسرون وعلماء اللغة بالصور أو القرن الذي ينفخ فيه لتجميع الناس. وكلمة الناقور لم ترد إلّا هذه المرة. غير أن كلمة الصور التي ترادفها في المعنى وردت مرات عديدة منها ما ورد بدون آثار مثل آية سورة ق

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

٤٤٥

هذه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) ، وآية سورة طه هذه : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (١٠٢). ومنها ما ورد مع ذكر آثار النفخ في البشر مثل آية سورة النمل هذه : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ...) [٨٧] ، وآية سورة الزمر هذه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨). وهناك أحاديث عديدة متنوعة الرتب في الصور ، منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ، من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر ، أن ينفخ فينفخ ، قال المسلمون فكيف نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، وعلى الله توكّلنا» (١). وحديث ثان روياه أيضا جاء فيه : «سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصّور فقال قرن ينفخ فيه» (٢). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا جاء فيه : «ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجّال إلى أن قال ثم ينفخ في الصّور فلا يسمعه أحد إلّا أصغى لتيا ورفع لتيا وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل أو قال ثم ينزل الله مطرا كأنه الطلّ أو الظلّ فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال يا أيها الناس هلمّ إلى ربّكم (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق» (٣). وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين النفختين أربعون ، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أييت. قالوا أربعون شهرا قال أييت ، قالوا أربعون سنة قال أييت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلّا يبلى إلّا عظما واحدا وهو

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٠١.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ج ٥ ص ٣٢٨ ـ ٣٢٩ وفسّر الشارح كلمه لتيا بمعنى ناحية من عنقه وكلمة (أييت) بمعنى لا أدري.

٤٤٦

عجب الذنب ومنه يركّب الخلق يوم القيامة» (١).

ومنها أحاديث أوردها المفسرون في سياق السور التي ذكر فيها الصور رواها أئمة حديث آخرون وهي إجمالا من باب الأحاديث السابقة وصحتها محتملة. منها حديث رواه الطبري في سياق تفسير جملة إن هي : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) [ص / ١٥] ، عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ الله لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر قال أبو هريرة يا رسول الله وما الصور؟ قال : قرن. قال : كيف هو؟ قال : قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع الأولى والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين. يأمر الله اسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض إلّا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطوّلها فلا يفتر وهي التي يقول الله : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) [ص / ١٥] (٢).

وما دام النفخ في الصور والنقر في الناقور قد ذكر في القرآن مع شيء من البيان في أحاديث نبوية صحيحة فمن واجب المسلم الإيمان بذلك مثل سائر المشاهد الأخروية التي ورد خبرها في القرآن والحديث الصحيح. وهذا لا يمنع القول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تكون المشاهد الأخروية الأخرى من حساب ونعيم وعذاب مما هو مألوف في الدنيا من صور وبعبارات من بابها على ما ذكرناه في تعليقنا على الحياة الأخروية والجنة والنار في سور الفاتحة والقلم والمزمل اقتضت أن تكون دعوة الناس حين بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة حينما تقترن مشيئة الله بذلك بأدوات وأساليب مألوفة في الدنيا من حيث أن الناس اعتادوا الضرب على الطبول والنفخ بالأبواق والقرون والنقر على الأدوات المصوتة

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) هناك أحاديث أخرى رواها المفسرون في صدد الاستثناء الوارد في آيتي سورتي النحل والزمر سنوردها في مناسباتهما.

٤٤٧

والهتاف بالأصوات العالية والصيحات الداوية حينما يراد تجميع الجموع لأمر هام. ولقد ورد في سورة ق ثلاث صور من ذلك معا ، ففي آية ذكر نفخ الصور [٢٠] وفي آية ذكر المنادي [٤١] وفي آية ذكرت الصيحة [٤٢]. وقد يصح أن يضاف إلى ما قلناه أن فحوى وأسلوب الآيات والأحاديث يسوغان القول إن قصد التأثير على السامعين وبعث الخوف والرهبة في قلوبهم من يوم الحشر والحساب الأخروي وحملهم على تقوى الله لينالوا رضاءه وأمانه فيه من الحكمة المنطوية فيها ، والله تعالى أعلم.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧))

(١) خلقت وحيدا : يمكن أن تكون الجملة بمعنى خلقته مجردا من كل قوة ومال وبنين. والآيات التالية تدعم هذا التأويل.

(٢) بنين شهودا : يمكن أن تكون الجملة بمعنى بنين حاضرين لديه لنصرته وقضاء مصالحه.

(٣) مهدت له : مكنت له.

(٤) سأرهقه صعودا : بمعنى سأتعبه وأحمله المشقات لأن المشقة تحصل عادة من الصعود للمرتفعات.

والآيات واضحة المعنى ، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيدا رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلّا الصعاب والمشاق. وكلمة «ذرني» التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.

٤٤٨

وقد روي (١) أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.

ومما روي (٢) أن هذا قال : إذا كان محمد صادقا فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلّا لي ولأمثالي فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.

وهذه الآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صدّا وعنادا من زعماء قريش وأثريائهم ، وأن التشاد أخذ يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر ، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته ، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.

وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥))

(١) إنه فكر وقدر : بمعنى استنتج وحسب بعد التفكير.

(٢) قتل : دعاء بمعنى قاتله الله.

(٣) بسر : تجهم.

(٤) سحر : أصل معنى الكلمة إزالة الشيء أو صرفه عن موضعه. ومن

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والآلوسي.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الكشاف للزمخشري.

٤٤٩

التعريفات التي عرف بها أنه كل ما دقّ مأخذه وخفي سببه من آثار نفسية وحسية. أو كل ما ظهر على غير حقيقته. أو كل ما يحدث في النفس والحث من آثار غير اعتيادية.

(٥) يؤثر : معروف مأثور.

وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة ، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله ، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجهم ثم أدبر عنه مستكبرا مستخفا قائلا إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة ، وإنه ليس إلّا من كلام البشر.

والآيات متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلا بارزا.

وقد روى المفسرون أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده قائما يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولا حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب ، فقالوا : هو شعر؟ فقال : لا والله ما هو بالشعر وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذا سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة ولكنها متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.

ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد ، مما وجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة

٤٥٠

القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول ردا قويا ردّ على هذا ردا قويا أيضا. ثم بين بعد قليل جانبا من أهداف الدعوة السامية وحمل حملة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقا في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.

وحكاية قول الكافر : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلّا حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى ، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها ، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن ، ولو أنه صار علما صادقا على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل. ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من «هذا القرآن» وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلّا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق ، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.

تعليق على موضوع السحر

وبمناسبة ورود كلمة السحر ونسبة الكفار السحر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأول مرة نقول : إن كلمة السحر ومشتقاتها قد وردت في القرآن نحو خمسين مرة. ولقد تكرر فيه حكاية قول الكفار ما حكته الآية التي نحن في صددها. وقد جاء في آيات أخرى حكاية نعتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالساحر والمسحور ، مثل ما جاء في آية سورة يونس هذه : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَ

٤٥١

لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢) ، ومثل ما جاء في آية سورة الفرقان هذه : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨) ، كما أنه ورد في القرآن آيات عديدة ذكر فيها السحر في غير معرض الدعوة النبوية مثل ما جاء في سورة البقرة هذه : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [١٠٢]. وأكثر ما ورد في معرض الدعوة قد ورد في حكاية مواقف حجاج الكفار خاصة في موضوع البعث بعد الموت وجحوده ، حيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن السحر كان معروفا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره ، وأن من المحتمل ـ إن لم نقل من المحقق ـ أنه كان في بيئة النبي وعصره سحرة يرجع إليهم الناس في قضاء مطالبهم ورغباتهم (١).

والآيات القرآنية يمكن أن تفيد أن مفهوم السحر عند العرب هو أعمال خارقة تقع على أيدي أشخاص ذوي مواهب وبراعة وقوى فوق العادة فيرى الناس بتأثيرها ما لا يرى في العادة ، ويسمعون ما لا يسمع في العادة ، ويحسون ما لا يحس في العادة وتحدث أمور لا تحدث في العادة أيضا. ويمكن أن تفيد أيضا أن من العرب من كان يظن أن السحر وأعمال السحر تخييلات أكثر منها وقائع حقيقية مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) ، وفي آية سورة هود هذه : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) ، وفي آيات سورة الحجر هذه : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥) ، وفي آيات سورة ص هذه : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥).

__________________

(١) اقرأ موضوع السحر والكهانة في الباب الثالث (الحياة العقلية) في كتابنا «عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته قبل البعثة» ص ٢٩٣ وما بعدها.

٤٥٢

وفي القرآن آيات أخرى تفيد أيضا صحة ما كان يدور في أذهان العرب عن السحر حيث ورد في سورة الأعراف في سياق قصة موسى وفرعون آية فيها حكاية لقول موسى عليه‌السلام للسحرة وهي هذه : (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦) ، وحيث ورد في سورة طه في سياق مماثل هذه الآية : (قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (٦٦).

والمتبادر أن العرب بناء على هذه المفهومات كانوا يظنون ويزعمون أحيانا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر وأحيانا أنه مسحور وأن القرآن سحر لأنهم رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما لم يعتادوه ويخبر بما لم يكن لهم به عهد وبما لا يمكن مشاهدته وإدراكه في العادة وبما ظنوه مستحيلا. ولأنهم سمعوا من القرآن بلاغة مؤثرة تذهب بلبّ السامع وتؤثر على روحه. ولعل نعتهم إياه بالمسحور كان يعني زعمهم أنه تحت تأثير السحر فيما يقوله ويخبر به ويدعيه ويتلوه.

والآيات التي أوردناها هي بسبيل حكاية الواقع سواء أفي ما ذكرته من أقوال العرب وأشارت إليه من مفهوماتهم أم فيما ذكرته في سياق قصة موسى عليه‌السلام وسحرة فرعون أكثر منها بسبيل تقرير حقيقة السحر.

وفي سورة البقرة آية في السحر استطرد المفسرون في سياقها إلى موضوع حقيقة السحر وأثره وحكمه وأوردوا بعض الأحاديث والمذاهب في ذلك رأينا أن نؤجلها إلى مناسبتها التي هي أكثر ملاءمة مكتفين الآن بما تقدم.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ

٤٥٣

جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

(١) سقر : النار الشديدة الحرارة.

(٢) لا تبقي ولا تذر : تحرق كل أجسادهم ولا تبقي منها شيئا (١).

(٣) لواحة : حارقة.

(٤) : البشر : في الآية [٢٩] بمعنى بشرات الأجسام وجلودهم وفي الآية [٣١] بمعنى الناس.

(٥) فتنة : اختبار وابتلاء وامتحان.

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :

١ ـ إنذارا ربانيا لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢ ـ وإخبارا بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣ ـ وتعليلا لحصر العدد حيث ذكر ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها ، وسببا لازدياد إيمان المؤمنين.

وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو مما قصد إليه هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.

ولقد روى الترمذي عن جابر «أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة هل يعلم نبيّكم عدد خزنة جهنّم قالوا لا ندري حتّى نسأل نبينا فجاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا محمد غلب أصحابك اليوم قال وبم غلبوا؟ قال : سألهم اليهود فقالوا لا ندري حتّى نسأل نبيّنا قال أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون فقالوا حتى نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إنّي سائلهم عن تربة

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري.

٤٥٤

الجنة وهي الدّرمك فلمّا جاؤوا قالوا يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنّم قال هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعا قالوا نعم فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تربة الجنة فسكتوا هنيهة ثم قالوا أخبرنا يا أبا القاسم فقال الخبز من الدّرمك» (١).

وراوي الحديث صحابي مدني ، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيبا لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية [٣٠].

وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء ، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها ، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافيا لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم وبذلك يزدادون إيمانا ويقينا. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلّا الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.

تعليق على موضوع

زيادة الإيمان ونقصه

وجملة (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) في الآية [٣١] قد تكررت بأسلوب مقارب في سور عديدة مدنية منها آية سورة الأنفال هذه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٤٥٥

اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢) ، وآية سورة آل عمران هذه : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) ، وآية سورة الأحزاب هذه : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢) ، وآية سورة التوبة هذه : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤).

ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من المسائل التي دار الكلام والبحث حولها بين علماء الكلام وأئمة التأويل من ناحية ما إذا كان الإيمان يزيد وينقص (١). ومنهم من استدل بها على أنه يزيد وينقص أو على تفاضل الإيمان في القلوب وهناك أحاديث تساق في سبيل الاستدلال على ذلك أيضا منها حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري جاء فيه : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (٢). ومنها حديث رواه الخمسة جاء فيه : «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» (٣).

والذي يتبادر لنا أن الإيمان في حدّ ذاته لا يصح عليه زيادة ولا نقص مع احتفاظه بصفته. لأن الزيادة تعني نقصا سابقا والنقص يعني تراجعا وشكا. وكلاهما ينقض صفة الإيمان لذاته. وكل ما يمكن أن يصح فيما يتبادر لنا أن هناك يقينا أو إيمانا غيبيا يمكن أن يصير يقينا أو إيمانا عينيا من قبل طمأنينة القلب بالبرهان والمشاهدة مع الإيمان قبل ذلك إيمانا غيبيا ومن قبيل ما حكي في آية البقرة هذه عن إبراهيم وجواب الله على سؤاله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ

__________________

(١) انظر تفسير هذه الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والخازن والطبرسي والمنار والقاسمي.

(٢) التاج ج ١ ، ص ٢٤.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٣.

٤٥٦

تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [٢٦٠]. والجملة التي نحن في صددها تتسق مع هذا الشرح من حيث إنها تصف الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بالذين آمنوا وتقرر أنهم بتلقيهم الخبر الذي يبلغهم إياه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله بالتصديق والتسليم تبعا لإيمانهم بالله ورسوله فيكون ذلك مظهرا جديدا من مظاهر قوة يقينهم وإيمانهم عبر عنه بالزيادة. وهذا ملموح بقوة في آيات آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب التي أوردناها آنفا ، ويزداد لمحها قوة من السياق الذي وردت فيه إذا ما أمعن النظر فيه أيضا. والذي يتمعن في الأحاديث النبوية لا يجد فيها على ما يتبادر لنا أية دلالة على ما أريد الاستدلال بها عليه من احتمال الزيادة والنقص في الإيمان لذاته.

وفي سورة الحجرات آيات فيها تدعيم لما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله وهي : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) [١٤ ـ ١٥]. فقد علم الله تعالى أن الأعراب كانوا مشككين مرتابين وهذا يتناقض مع الإيمان فأمر نبيه بإجابتهم بأنهم لم يؤمنوا وكل ما في الأمر أنهم يمكن أن يقولوا أسلمنا لأنهم أذعنوا وخضعوا فقبل منهم ذلك تسامحا دون أن يستحقوا صفة الإيمان. ثم وصف المؤمنين الصادقين بأنهم الذين لم يرتابوا بعد أن آمنوا ... والله تعالى أعلم.

هذا من ناحية الموضوع في ذاته. وأما من ناحية الجملة في مقامها وفي المقامات الأخرى التي وردت فيها فالذي يتبادر من روح الآيات والسياق أنها تورد في صدد التنبيه والتنويه والعظة في الأمر الذي جاءت له الجملة. وليست لأجل تقرير الموضوع من الناحية الكلامية والعقائدية. وأن الأولى أخذ الأمر على هذا الوجه والوقوف عنده. وهذا يقال بالنسبة لكثير من الآيات والجمل القرآنية التي يتشاد علماء المذاهب الكلامية حولها ويحاولون استنباط مذاهبهم منها أو الاستناد إليها.

٤٥٧

تعليق على جملة

(كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء)

وتنبيه إلى ما ينبغي ملاحظته والتعويل عليه في صدد ما قد يتوهمه

بعضهم من إشكال في بعض العبارات القرآنية

التعليق على هذه الجملة يتناول أمرين أو وجهين : الأول مداها في مقامها الذي جاءت فيه. والثاني مداها من وجهة عامة. ففي صدد الأول نقول إن أسلوب ومضمون الآية [٣١] جميعها يلهمان أن فيهما تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنويها بالمؤمنين ، واستشهادا بالكتابيين مع الوثوق بشهادتهم الإيجابية وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتنديدا بهم وأنهما يعنيان الذين كانوا يسمعون القرآن في الدرجة الأولى من مؤمنين وكتابيين ومرضى قلوب وكفار.

وفي صدد الأمر الثاني نقول إن الآية وبخاصة الجملة بسبب أسلوبها المطلق يكون مداها عاما شاملا لغير السامعين الأولين للقرآن. وينطوي في الجملة من هذه الناحية قصد تقرر كون امتحان الله تعالى الناس يؤدي إلى اهتداء من حسنت نيته وأنار الله قلبه وإلى ضلال من كان قاسي القلب سيء الطوية والقصد. وليس فيها قصد تقرير أزلية تقدير الهدى والضلال على الناس بأعيانهم أو تقرير كون هدى الناس وضلالهم هو تقدير رباني حتمي لا كسب لهم ولا خيرة لهم فيه. ولعل في الآية التالية مباشرة قرينة حاسمة حيث جاء فيها فيما جاء : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر / ٣٧] وفي آية أخرى تأتي بعد قليل قرينة حاسمة أخرى تقرر كون الإنسان رهنا بما يكسب : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر / ٣٨] كما أن في الآيات بصورة عامة قرائن حاسمة أيضا على صحة هذا التوجيه. وفي سور البقرة والرعد آيات مقاربة لهذه الجملة وفيها زيادات توضيحية تصح أن تورد كدلالة حاسمة على هذا التوجيه أيضا. ونص آيات البقرة هو : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ

٤٥٨

الْخاسِرُونَ) (٢٧) ونص آيات الرعد هو : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩) ، حيث تنطوي الآيات على تقرير كون الذين يهديهم الله هم أصحاب السيرة الطيبة والرغبة الصالحة في الإنابة إلى الله ، والمؤمنون الذين يعملون الصالحات ، وكون الذين يضلهم الله هم الفاسقون المتمردون على الله المفسدون في الأرض الناقضون لعهد الله القاطعون ما أمر الله به أن يوصل. وفي سورة الرعد آيات فيها صورة أخرى وهي أن الذين يتذكرون ويتأثرون هم أولو الألباب الموفون بعهد الله والواصلون ما أمر الله به أن يوصل دون الذين يتعامون عن الحق المنطوي في ما أنزل الله على رسوله وبمعنى آخر أن الهدى إنما يكون لهؤلاء بسبب ما عندهم من رغبة في الحق والهدى وهي : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٢) وجاء بعدها إشارة إلى صفات الذين لا يهديهم الله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥). وفي سورة الأعراف آية مهمة في بابها تفيد أن الذين حقت عليهم الضلالة هم الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠). وفي سورة إبراهيم آية مؤيدة لهذه المعاني وهي : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧). كذلك في سورة غافر آيات مهمة فيها مماثلة لهذه الآية مع التوضيح وهي : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي

٤٥٩

آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤). وفي سورة يونس آية مهمة أخرى في هذا الباب وهي : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣). وفي سورة الزمر آيات هامة جدا في هذا الباب ، وهي : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩) ، حيث تدعو الآيات عباد الله المسرفين على أنفسهم إلى الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما نزل إليهم قبل مداهمة العذاب حتى لا يتحسروا على ما فاتهم من الفرص ، ويقولوا فيما يقولونه أن لو هدانا الله لا هتدينا وكنا من المتقين فقد جاءتهم آيات الله ليهتدوا بها فكذبوا واستكبروا وكفروا فحق عليهم العذاب.

وقد اهتممنا لتوضيح هذه الآية وبخاصة جملة : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [٣١] لأنها وأمثالها التي تكررت في القرآن كانت وما تزال موضوع جدل وتشاد بين علماء الكلام في صدد الاستدلال على قابلية الإنسان لاختيار الهدى والضلال ومسؤوليته عن اختياره ، ولأنها وأمثالها كانت وما تزال تبدو لبعض الباحثين محل إشكال ؛ من حيث توهمهم أن الله يقدر الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تقديرا حتميا لا دخل لإرادتهم واختيارهم وكسبهم وأفعالهم فيه.

٤٦٠