التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

تعليق على نعت المستشرقين

والمبشرين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون

ونقول بهذه المناسبة إنه لمما يدعو إلى الاشمئزاز ألّا يتورع المبشرون والمغرضون من المستشرقين عن تكرار نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون وأن يصل بهم الزعم إلى القول إنه كان مصابا بالصرع ، وإنه كان يفقد صوابه حينما تأتيه النوبة وتعتريه التشنجات ويسيل العرق منه حتى إذا أفاق منها تلا على المؤمنين ما يقول إنه من وحي الله إليه ، في حين أن هذا الوحي لم يكن إلّا أثرا من نوبات الصرع (١). وقد أساءوا تأويل بعض الأحاديث والروايات التي ذكرت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذه الوجد والعرق ويحمرّ وجهه حينما كان يوحى إليه وحرفوها عن حقيقة مداها.

ولقد كشفهم حقدهم وخبث سرائرهم فأنساهم أن المصابين بالصرع تتعطل فيهم أثناء النوبة حركة الشعور والتفكير والذاكرة (٢) وجعلهم يناقضون أنفسهم حين يعترفون أنه كان عقب ذلك يتلو آيات القرآن التي أوحي إليه بها ، متجاهلين إلى ذلك ما فيها من الروعة والبلاغة والحكمة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية والدعوة إلى الله وحده والخير والمعروف ومحاربة الشرك والوثنية والنهي عن الإثم والفواحش والمنكرات مما لا يعقل أن يصدر عن مريض في عقله وجسمه وخلقه. ولقد تجاهلوا إلى هذا أيضا أن القرآن قد حكى مرارا نسبة الجنون إليه على لسان خصومه الأشداء ومكذبيه العنيدين ، وهو أمر بالغ الخطورة والقوة في هذا المقام ويردها عليهم ردّا شديدا مرفقا كما هو في الآية التي نحن في صددها بإعلان أن ما جاء به هو ذكر للعالمين ودعوة لهم. ومن ذلك آية سورة الأعراف هذه : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) ، وآيات سورة المؤمنون هذه : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)

__________________

(١) انظر كتاب «حياة محمد» ، حسين هيكل طبعة ثانية ص ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) المصدر نفسه.

٤٠١

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠) ، وآيات سورة الطور هذه : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) ، وآية سورة سبأ هذه : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦) (١).

وهذا بالإضافة إلى آيات سورة الشعراء التي أوردناها الرائعة القوية في عبارتها وما ينطوي فيها وأن حكاية أقوال الكفار والرد عليها بمثل هذه الردود النافذة إلى أعماق القلوب والعقول كافيان وحدهما للجم ألسنة الأفاكين الآثمين عند كل منصف مهما كانت نحلته.

ويقف بعض مفسري الشيعة عند الآية [٤٧] فيقولون إنها عنت أبا بكر وعمر حين قالا يوم الغدير الذي أعلن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاية علي وإمامته من بعده : «انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون» (٢). وفي هذا ما هو ظاهر من زور واجتراء على الله ورسوله وأصحابه لا يكونان من عاقل مؤمن والعياذ بالله.

__________________

(١) تتضمن الآية معنى عظيما ، فقد كان الكفار وبخاصة زعماءهم يتضامنون في موقف العداء ويشجع بعضهم بعضا ويستحي بعضهم من بعض ، بل ويخاف بعضهم من بعض لأسباب تتعلق بمراكزهم ومصالحهم وما ثار فيهم من حسد واستكبار لاختصاص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دونهم بالوحي والقرآن على ما حكته آيات عديدة. منها آيات سورة فاطر هذه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [٤٢ ، ٤٣] ، ومنها آية سورة ص هذه : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [٨] فدعتهم آية سبأ / ٤٦ المذكورة إلى التفكر الهادئ على انفراد في أمر النبي ورسالته وحينئذ يتيقنون من الحق والحقيقة فيها ويتجلى لهم باطل ما ينسبون إليه من جنون.

(٢) انظر كتاب «الصراع بين الإسلام والوثنية» للقصيمي ، ج ١ ص ٤٣٥ نقلا عن كتاب الوافي وعزوا إلى أحد الأئمة الإثني عشر الصادق الذي نحب أن ننزهه عن هذا القول الأثيم.

٤٠٢

تعليق على جملة

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)

وجملة (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) التي اختتمت بها السورة عظيمة المدى في إطلاقها حيث ينطوي فيها إعلان كون الرسالة المحمدية دعوة شاملة لجميع الأجناس والألوان والأديان والبلدان في جميع الأزمان. وتبكير ورودها يعني أن ذلك كان هدفا محكما من أهداف هذه الرسالة منذ بدئها خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يزعموه من أن هذه الرسالة للعرب فقط أو بأن عمومها قد كان تطورا متأخرا. ولقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مكية ومدنية متنوعة الأساليب قوية المدى. منها آيات سورة ص هذه : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١) ((٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨) ، وآية سورة الأنعام هذه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠) ، وفي سورة الأنبياء آية تضمنت المعنى مع زيادة تقرير كون رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي رحمة للعالمين وهي : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) ، وفي سورة الأعراف آية تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان كون رسالته للناس جميعا وهي : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨). وهذا بالإضافة إلى آيات عديدة وجهت فيها الدعوة إلى أهل الكتاب مثل آيات سورة المائدة هذه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١٥) ، وهذه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩). وهناك آيات ذات مدى عظيم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأن الله

__________________

(١) في سورتي يوسف والتكوير فصل مماثل أيضا.

٤٠٣

قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وبأنه سيظهره على الدين كله على ما جاء في آية سورة الفتح هذه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨) ، وآية سورة الصف هذه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩) (١) حيث ينطوي في هذا تأييد لعموم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعد رباني بأنها ستعم البشرية وتظهر على سائر الأديان لأنها رسالة الحق والهدى. ولن يخلف الله وعده.

هذا ، ويلحظ أن فصول السورة قد نزلت بمناسبة مواقف الكفار وأقوالهم واحتوت ردا عليهم وإنذارا وتثبيتا وتأييدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين. فهي من قسم الوسائل ويصح أن تكون نموذجا كاملا من نماذجه المبكرة في النزول. ومع ذلك فقد تخللها مبادئ اجتماعية وإيمانية محكمة أيضا ، مما فيه صورة من صور التنزيل القرآني التي تكررت في كثير من فصول القرآن وسوره.

__________________

(١) في سورة التوبة آية مماثلة.

٤٠٤

سورة المزّمّل

في السورة نداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقيام بالليل وتلاوة القرآن والاستعداد لما يوحى إليه ، وتثبيت له إزاء مواقف الزعماء والأغنياء المكذبين ، وحمله عليهم. وإشارة إلى موقف فرعون من رسالة موسى عليه‌السلام ونكال الله به على سبيل الإنذار والتذكير ، وتخفيف من شدة قيام الليل وتهجده. والآية الأخيرة التي فيها هذا التخفيف مدنية وقد ألحقت بالسورة لمناسبة ما جاء في أولها. وترتيبها كثالث سورة نزولا بسبب رواية نزول آياتها التسع الأولى لحدتها كثالث مجموعة نزولا ، غير أن هذه الرواية وترتيب السور بسببها موضع نظر على ما يرد شرحه بعد. ولقد تكرر بدء مطالع السور بنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وشخصياتها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

(١) المزمّل : المتزمل. والتزمل هو الالتفاف بالثوب.

٤٠٥

(٢) الترتيل : هنا بمعنى التجويد والتمهل في القراءة. وجاءت الكلمة في سورة الفرقان بمعنى تنزيل القرآن مفرقا قسما بعد قسم.

(٣) ناشئة الليل : النهوض من النوم في الليل.

(٤) أشد وطئا : قيل إن معناها أشد وقعا ، وقيل أكثر موافقة وملاءمة وأدعى إلى التنبيه والإخلاص.

(٥) أقوم قيلا : القيل هو القول ، ومعنى الجملة هو أسد وأقوم للمقال والتلاوة.

(٦) سبحا طويلا : مجالا طويلا للعمل والمشاغل.

(٧) التبتل : الخشوع.

في هذه الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن ، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار ، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلا ومعتمدا له وهو الذي لا إله إلّا هو ربّ المشرق والمغرب.

وقد جاء في بعض الروايات (١) أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن ، كما جاء في بعضها (٢) أنها نزلت حينما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله : «زملوني». ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها. لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولا بسبب ذلك.

__________________

(١) انظر تفسير الآلوسي لهذه السورة.

(٢) المصدر أيضا.

٤٠٦

على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحا.

والآيات على كل حال مما نزل مبكرا جدا ، ويصح أن يقال والحالة هذه إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار (١).

والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه ، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولا سيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق ، حيث جاء فيه فيما جاء : «ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد» ، وكان لذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.

وقد روي (٢) أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة ، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيمانا وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.

ولقد روي هذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه في حديث رواه البخاري والترمذي

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

٤٠٧

والنسائي عن المغيرة قال : «إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا» وفي رواية الترمذي : «حتى انتفخت قدماه فقيل له تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا». وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩). ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩). ولقد استمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.

ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.

والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه ، وليس من إله غيره ، وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته ، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.

وإلى هذا فإن فيها لأول مرة إعلانا لوحدة الله وشمول ربوبيته ، ودعوة إلى

٤٠٨

جعله وحده وكيلا ومعتمدا في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأندادا ، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء ، واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أربابا من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله ، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد ، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره ، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.

تعليق على كلمة القرآن

وكلمة «القرآن» ترد هنا لأول مرة ، وهي مصدر القراءة. وتعني المقروء أيضا ، ومع أنها صارت علما على جميع محتويات المصحف منذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين فإنها كانت تطلق على ما نزل من القرآن قبل أن يتم تمامه أيضا على ما تدل عليه آية سورة النمل هذه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦) ، وآية سورة الأنعام هذه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [١٩]. ومثل آية سورة طه هذه : (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) وآية سورة البقرة هذه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [١٨٥].

وإلى هذا فإنها كانت تعني القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة ومؤيداتها دون حكاية مواقف تكذيب الكفار وحجاجهم والرد عليهم على ما تدل عليه آية سورة الإسراء هذه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٨٢) ، ومثل آيات سورة يونس هذه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦) ، ومثل آية سورة الفرقان هذه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ

٤٠٩

عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) ، ومثل آية سورة فصلت هذه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) ، ومثل آية سورة الحشر هذه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) ، وآية سورة إبراهيم هذه : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١).

وواضح من آيات يونس / ١٥ ـ ١٦ ، والفرقان / ٣٢ وفصلت / ٢٦ وأمثالها الكثيرة التي حكت أقوال الكفار عن

القرآن أنهم كانوا يعنون بالقرآن ما فيه دعوة إلى الله وحده وحملة على شركهم وتسفيه لعقولهم ومخالفة لتقاليدهم وعقائدهم ، وما فيه من المبادئ الإيمانية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والأخلاقية التي رأوا فيها بدعة ورأوها تهدد مراكزهم ومصالحهم. وعلى أي حال لا يدخل فيما كانوا يعنونه من الكلمة حكاية أقوالهم والرد عليها ، وهذا شغل جزءا كبيرا من القرآن المكي. كذلك فإن ذلك هو الذي عنته على ما هو المتبادر آيات الأنعام / ١٩ والبقرة / ١٨٥ والإسراء / ٨٢ والحشر / ٢١ وإبراهيم / ١ وأمثالها الكثيرة جدا.

تعليق على مدى تعبير

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)

وما روي في صدد أدب تلاوة القرآن

لقد رويت أحاديث وقيلت أقوال عديدة في صدد أدب تلاوة القرآن في سياق تفسير جملة (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) من ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه : «أن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : إنها كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ ببسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم» (١). وحديث

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ٨ ـ ٩.

٤١٠

رواه الترمذي عن أم سلمة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطّع قراءته يقول الحمد لله ربّ العالمين ثم يقف ، الرحمن الرحيم ثم يقف ، وكان يقرأ ملك يوم الدين» (١).

وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي موسى : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» (٢). وحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مغفّل قال : «قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في مسير له على راحلته سورة الفتح فرجّع في قراءته. قال معاوية لو لا خوفي من اجتماع الناس عليّ لحكيت لكم قراءته». وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به» (٣). وحديث رواه البخاري وأبو داود عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «زيّنوا القرآن بأصواتكم. ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» (٤) وقد علق مؤلف التاج على الحديث الأخير بقوله شارحا إن تحسين الصوت بالقرآن يزيد في بهائه وجلاله ويصل بمواعظه إلى أعماق القلوب مع مراعاة علم التجويد فإن زاد القارئ في المد والغن أو تركهما كان مكروها في قول وحراما في قول وأثم القارئ ووجب على السامع الإنكار.

ولقد روى الطبري في سياق شرح العبارة عن مجاهد أن معناها (ترسل فيه ترسلا) وعن قتادة (بينه بيانا) وقال النسفي : إن معناها وجوب القراءة بتأنّ وتثبت وإشباع الحركات. وروى البغوي عن ابن عباس أنها بمعنى : «اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا». وروي عن ابن مسعود أنه قال في شرحها : «لا تنثروه نثر الدقل ـ الرمل ـ ولا تهذوه هذّ الشعر. قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة». ويعني بالجملة الأخيرة عدم السرد السريع.

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٨ ـ ٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

٤١١

وعلى ذلك يمكن أن يقال إن من أدب تلاوة القرآن وترتيله تلاوته بتأنّ وتثبت وتبيين وأداء وعظي وخاشع نافذ إلى العقول والقلوب وحسن إخراج الحروف ومراعاة علم التجويد. وإنه لا بأس في ترجيعه بصوت حسن إذا لم يزد عن الحد الذي يخرجه إلى ما لا يستحب ولا ينسجم مع قدسيته من أساليب الغناء.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤))

(١) اهجرهم : اعتزلهم أو تجنبهم.

(٢) أولي النعمة : المتنعمين ، وتعني الأغنياء والزعماء والمترفين.

(٣) الأنكال : الأغلال والقيود.

(٤) الجحيم : النار الشديدة.

(٥) ذا غصة : الذي يسبب الغصة.

(٦) الكثيب : تل الرمل.

(٧) المهيل : الرخو المتداعي للتبعثر والانسياح.

وفي هذه الآيات :

١ ـ تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إزاء تكذيب الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك وهم يتمتعون بنعم الله ، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.

٢ ـ وأمر آخر له بهجرهم هجرا لينا.

٣ ـ ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.

٤ ـ ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.

٤١٢

ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأقاويل فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخاذ الله وكيلا قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها ، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.

وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم ، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطرا على مراكزهم ومصالحهم ؛ وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر ، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.

وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصد والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.

تعليق على مدى الأمر

بهجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة

والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة ، لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء ، وتلقينا بأن لا يهتم له ، وتوجيها له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة ، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة ، وعدم الغلظة والشدة في الهجر ، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر

٤١٣

في القرآن المكي كلما حزب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨) ، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧) ، ومثل ما جاء في سورة يونس : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) ، و (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩) ، ومثل ما جاء في آية ق : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥).

ولقد ذكرت الروايات (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ له مركزا سرّيا عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين ، فيقيمون فيه صلواتهم معه ، ويتلقون تعاليم دينهم عنه ، كما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء (٢) وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين (٣) ، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٨٣.

(٢) انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص ٨٧ وما بعدها.

(٣) السيرة الحلبية نفس الجزء والصفحة. وننبه على أن ابن هشام لم يذكر مدة السنين الثلاث وإنما ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أسلم جماعة فيهم ضعفاء صار يجتمع ويصلي بهم مستخفيا في دار الأرقم في الصفا وفي شعاب مكة إلى أن صار عدد المسلمين أربعين وأسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب فخرجوا (انظر ج ١ ص ٢٥٣ ـ ٢٦٤) واحتمال أن تكون مدة اجتماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمؤمنين الأولين في دار الأرقم وصلاته بهم مستخفيا امتدت ثلاث سنين وارد لأن عمر وحمزة رضي الله عنهما لم يسلما إلّا في السنة الثالثة أو الرابعة. غير أن سياق ابن هشام يدعم ما قلناه من أن الاستخفاء إنما كان رفقا بالمسلمين الأولين ولم يكن انقطاعا عن الدعوة.

٤١٤

الروايات فإن من الممكن أن يقال إن هذا كان بتلقين الآية الأولى ، ولا سيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات ، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عمليا أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم ؛ وهذا ما تلهمه جملة (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أيضا.

ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)

ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥).

ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطرا ولا جبارا وإنما هو منذر ومذكر.

والأمر يتحمل شيئا من البيان ، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصد والمناوأة الذي

٤١٥

يقفه الكفار والمشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقذفه ومناوأته وصد الناس عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة والله أعلم.

تعليق على تبدل نواميس الكون

عند قيام الساعة

وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيبا مهيلا نقول : إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيرا. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس ، على مختلف طبقاتهم ، هيبة ورهبة ، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما في مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف ، والجبال تصبح كثيبا ومهيلا. والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة ، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا ، وفي سورة النمل تسير سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سرابا وفي سورة القارعة تكون كالعهن المنفوش. ومثل هذا التنوع وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.

والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة

٤١٦

الأخرى ، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله الذي خلقها وسوّاها أول مرة ، فإنها قد جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها ، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل تنوع الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك ، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.

والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة ، حيث احتوت إنذارا وإعلانا بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيبا مهيلا.

ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهما للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر ؛ عدا أنه لا يستند إلى روايات وثيقة متصلة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أو تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحا إذا لم يكن متصلا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب ـ والحال هذه ـ أن يوقف منها عند ما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والانذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيرا تلميحا حينا وتصريحا حينا آخر ، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.

تعليق على النار الأخروية

وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول : إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير ـ وكلها مترادفة ـ قد جعلت في القرآن عنوانا

٤١٧

لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الاخرة. لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب لأول مرة قد اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.

وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت هي الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه (تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧) وآيات سورة النبأ هذه : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) (٢٥) وآيات سورة الدخان هذه : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩). ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.

ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف ، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة ، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.

والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية

٤١٨

الأخرى ، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان ، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة ، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاما شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.

وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا ، ونرجىء بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم. قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة». وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة». وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا». وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما وما تفضي إلى قرار معا» قال عتبة وكان عمر يقول : «أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد».

وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة ، قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الحميم

٤١٩

ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان».

وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] ، ثم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه» وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى ، قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال. قال : فيقولون : ادعوا مالكا فيقولون له يا مالك ليقض علينا ربك فيجيبهم إنكم ماكثون. قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. قال فيجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون. قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفرة والحسرة والويل». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النعمان بن بشير قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».

وواضح من هذه الأمثلة كذلك أن الأحاديث النبوية في النار والعذاب الأخروي متساوقة هي الأخرى مع الآيات القرآنية في وصف النار ووسائل العذاب الأخروية بأشد ما يكون إيلاما للنفوس والأجسام. والإيمان بالمشاهد الأخروية التي يثبت خبرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونها في نطاق قدرة الله تعالى واجب كالإيمان بما جاء في ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذكر ذلك لا بد من أن يكون له حكمة وهدف. وإثارة الفزع والخوف والارعواء عن الكفر والغي

٤٢٠