التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦) ، وآيات سورة الشورى هذه : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) [٢٢ ـ ٢٣] ، وفي سورة طه آية مهمة في هذا الباب وهي : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣).

ويلحظ ثانيا أن مشاهد الحياة الأخروية وأهوالها وحسابها وثوابها وعقابها في القرآن متساوقة مع مألوفات الناس في الحياة الدنيا مما يتمثل في آيات لا تكاد تحصى كثرة. والإيمان بكل ما ورد في القرآن وثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشاهد الأخروية على مختلف أنواعها وكونه في نطاق قدرة الله عزوجل واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون للأسلوب والعبارات التي ذكرت بها تلك المشاهد حكمة ، ولعل من ذلك قصد التأثير في النفوس التي لا تتأثر إلّا بما تعرفه وتحس به والله أعلم.

وننبّه على أن هناك أحاديث نبوية واردة في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة وغيرها في صور مشاهد الحياة الأخروية على أنواعها متساوقة مع ما ورد من ذلك في القرآن. وقد أجّلنا إيرادها إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

والحياة الأخروية ليست عقيدة إسلامية فقط ، بل هي عقيدة مشتركة بين جميع الأديان والنحل والملل وفي جميع الأدوار البشرية. ومنها ما شملت هذه الحياة ومشاهدها ونعيمها وعذابها حيزا غير يسير فيها يشبه ما ورد عنها في النصوص الإسلامية. غير أن وصفها بالأوصاف والسعة التي جاءت في القرآن هو من الخصوصيات القرآنية لأنها لم ترد بسعة وصراحة وتركيز إلّا في القرآن. وليس من ذلك في أسفار اليهود والنصارى المتداولة اليوم إلّا إشارات غامضة ومقتضبة وخاطفة.

٣٠١

والجاحدون للحياة الأخروية يركزون على ناحية من أمر هذه الحياة وهي أنها تجعلهم ينفضون أيديهم من الحياة الدنيا ويعتبرون أنفسهم عابري سبيل فيها. ونقول إنهم بالنسبة للمسلمين يقيسون الأمر على الواقع الذي لا يتحمل الإسلام والقرآن مسؤوليته. فكل ما في القرآن حتى العبادات من صلاة وصيام وحج هادف إلى صلاح الإنسان في الحياة الدنيا على ما سوف نشرحه في مناسباته. وحتى الحياة الأخروية نفسها قد انطوت على هذا الهدف على ما مر شرحه.

وصلاح الإنسان في الدنيا أمر عام يشمل كل شيء ، ولقد : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور / ٥٥] ، والصالحات التي قرنت بالإيمان كل شيء يجعل المسلمين صالحين لهذه الخلافة من علم وعمل وعزة وكرامة وقوة وتقدم في كل مجال من مجالات الحياة. وكل هذا هو عماد النجاح للاستخلاف في الأرض والتمكن منها. ولا يصح أن يكون الله قد رشحهم لذلك ويرضى منهم أن ينفضوا أيديهم منه بطبيعة الحال. ولقد توقع الله منهم أن يكونوا عند هذا حينما هتف بهم : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥) [آل عمران / ١٠٤ ـ ١٠٥] ، و (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران / ١١٠] ، و (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج / ٤١] ، والمعروف هو كل ما فيه خير ونفع ومصلحة وعزة وكرامة وعدل واستقامة وصلاح وحق. والمنكر هو كل ما فيه أضداد ذلك. (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة / ١٤٣] ، أي حاملي مشعل الهداية لهم والخير العادل المستقيم على الحق الذي برىء من الإفراط والتفريط والغلوّ والتقصير.

٣٠٢

وقد استكبر الله تحريم طيباته وجعل للمسلمين حقهم فيها مثل غيرهم في الدنيا مع اختصاصهم بها في الآخرة : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢) [الأعراف / ٣٢].

ويحسن أن ننبه في هذه المناسبة على نقطة هامة ، وهي أن الوعد والوعيد في القرآن للمؤمنين الصالحين المتقين والجاحدين والآثمين الباغين ليسا قاصرين على الحياة الأخروية. ففيه آيات كثيرة وعد فيها الأولون بالحياة السعيدة الرضية والآخرون بالخيبة والشقاء والعذاب في الحياة الدنيا أيضا. حيث يبدو من هذا تساوق حكمة التنزيل مع الحاجات النفسية العاجلة والآجلة معا لتحقيق أهدافها بصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

والآيات في ذلك كثيرة كما قلنا فنكتفي بالأمثلة التالية :

١ ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف / ٩٦].

٢ ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل / ٣٠].

٣ ـ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [النحل / ٤٥].

٤ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور / ٥٥].

هذا ، وبعض الذين ينحون في تأويل الآيات القرآنية تأويلا باطنيا أو صوفيا يذهبون إلى تأويل الحياة الأخروية وآياتها إلى مذهب يتناسب مع نحوهم حتى

٣٠٣

يصل أمرهم إلى إنكارها كما جاء خبرها وتفصيلاتها بالعبارات الصريحة القرآنية. وهذا لا يستقيم لا من حيث اللغة ولا من حيث مقاصد الله عزوجل المبينة في كثير من الآيات بصراحة قطعية لا تتحمل أي تأويل غير تأويل الحياة الأخروية الفعلية بعد الموت. فضلا عن هذه الحياة بهذا الوصف من عقائد البشر التي كانت عامة شاملة وقت نزول القرآن. وحمل الآيات القرآنية على غير ذلك شطح بل هذيان ، والله تعالى أعلم.

ومن الذين يؤمنون بالحياة الأخروية من يرى أنها ستكون حياة روحية أو عالما روحيا لا جسديا. وآيات القرآن صريحة صراحة قطعية بأن البعث سيكون بالجسد أيضا. وإنكار ذلك أو التمحّل فيه مراء إزاء هذه الصراحة. ولقد أنكر ذلك الكفار فردّ عليهم ردا قويا في آيات كثيرة وبأساليب متنوعة ، وواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء بالقرآن بدون تمحل ولا مراء وأن يؤمن بأن ما ورد فيه هو في نطاق قدرة الله وأن لا يقيس الأشياء بعقله وأن يكل ما يعجز عن إدراكه إلى الله عزوجل. وسنزيد هذا الموضوع شرحا في مناسبات آتية ، والله تعالى أعلم.

تعليق على جملة

(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

وكثير من المفسرين فسروا المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى والصراط المستقيم بالدين الإسلامي. ورووا حديثا مرفوعا بأن اليهود هم المغضوب عليهم والنصارى هم الضالون (١). وهناك حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي عن عدي بن حاتم جاء فيه : «اليهود مغضوب عليهم والنّصارى ضالّون» (٢). والذي نلاحظه أن السورة أولى سور القرآن نزولا

__________________

(١) انظر مثلا تفسير السورة في تفسير المنار والطبرسي والزمخشري والطبري وابن كثير.

(٢) انظر «التاج الجامع» ، ج ٤ ص ٣٣.

٣٠٤

وعلى الأقلّ من أبكر ما نزل من القرآن.

والقرآن المكي قد جرى على ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى إجمالا بأسلوب محبب وعلى سبيل الاستشهاد بهم على صحة رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق الوحي القرآني. وذكرت آيات عديدة فيه خبر إيمانهم وإظهار الخشوع والخضوع حينما كان يتلى عليهم كما ترى في الأمثلة التالية :

١ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام / ١١٤].

٢ ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [يونس / ٩٤].

٣ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الرعد / ٣٦].

٤ ـ (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩) [الإسراء / ١٠٧ ـ ١٠٩].

٥ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (٥٣) [القصص / ٥٢ ـ ٥٣].

٦ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [العنكبوت / ٤٧].

٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤) [السجدة / ٢٣ ـ ٢٤].

٨ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف / ١٠].

٣٠٥

حيث يلهم كل ذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون أنفسهم والكتابيين حزبا واحدا. والمستفاد من نصوص الآيات القرآنية المدنية أن مواقف الصدّ والجحود والمناوأة والعداء من جمهرة اليهود ، ومن بعض فئات النصارى إنما كانت بعد الهجرة. ولهذا كله نقول إن الحديث مدني وإذا صحّ فإنه يكون من قبيل تطبيق مدى الآية على اليهود والنصارى الذين كابروا وعاندوا تطبيقا مؤخرا من حيث إن اليهود فعلوا ذلك عن بينة وعلم فاستحقوا غضب الله الذي سجلته عليهم آيات مدنية عديدة مثل آيات سورة البقرة هذه : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩٠) ومن حيث إن النصارى فعلوا ذلك عن ضلال مما انطوى في آيات عديدة منها آيات المائدة هذه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥).

ولقد كان استدلال المفسرين على أن المقصود من (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم اليهود من الآيات التي سجل فيها غضب الله عليهم والتي أوردناها آنفا. وعلى أن المقصود من (الضَّالِّينَ) هم النصارى من آية في سورة المائدة جاءت بعد آيات كان موضوع الكلام والخطاب فيها النصارى وعقيدتهم في المسيح وأمّه وهي هذه :

٣٠٦

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧) [المائدة / ٧٧] وهذه الآيات مدنية حيث ينطوي في هذا تدعيم لما قلناه من أن القول هو من قبيل التطبيق في العهد المدني نتيجة لمواقف النصارى واليهود في هذا العهد ، والله أعلم.

وبناء على ذلك يتبادر لنا والله أعلم أن جملة (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) في أولى سور القرآن قد تضمنت التنبيه على أن صنوف الناس عند الله ثلاثة ، صنف أنعم الله عليه فاهتدى وسار على طريقه المستقيم. وصنف انحرف عن هذا الطريق عن علم ومكر واستكبار فاستحق غضب الله. وصنف انحرف عن هذا الطريق ضلالا بغير علم وبينة ثم ظل منحرفا دون أن يهتدي بما أنزل الله على رسله فلزمته صفة الضلالة. والتصنيف رائع جليل شامل.

وفي القرآن الذي جاءت سورة الفاتحة براعة استهلال له صور متنوعة منه في صدد أهل الكتاب وغيرهم. وقد أوردنا آنفا بعض الآيات بالنسبة لأهل الكتاب.

وهذه بعض آيات بالنسبة لغيرهم : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر / ٤٢ ـ ٤٣] ، وفي هذه الآيات نموذج لمن ينحرف مكرا واستكبارا.

وهذه آيات فيها نماذج عن الضلال بغير علم والاستمرار فيه : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) [الأعراف / ٣٠] ، و (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣) [الحج / ١٢ ـ ١٣]. والأمثلة كثيرة سوف تأتي في السور الآتية فنكتفي بما تقدم.

٣٠٧

بعض أحاديث واردة في واجب حمد الله تعالى

في مناسبة جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

ومع أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي تقرير رباني مباشر بما الله تعالى أهل له وحده من الحمد فقد أورد المفسرون في سياق الجملة أحاديث عديدة فيما يجب على المسلم من حمد الله تعالى. منها حديث رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : «قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال : أما أن ربّك يحب الحمد». وحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله». وحديث رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلّا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها ، والتعليم والتنويه اللذان ينطويان فيها حقّ واجب على كل مسلم في كل ظرف ومناسبة.

التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة

ولقد جرى المسلمون جيلا بعد جيل على أن يقولوا (آمين) بعد سماع الآية الأخيرة من السورة وتلاوتها وليست هذه الكلمة من السورة. وإنما كان ذلك سنّة نبوية قولية وفعلية. حيث روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقال آمين مدّ بها صوته». وحيث روى أبو داود عن أبي هريرة قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تلا (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال آمين حتى يسمع من يليه من الصفّ الأول» (١). وحيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله ما تقدّم من ذنبه» (٢).

__________________

(١) «التاج» ، ج ١ ، ص ١٦٤.

(٢) انظر المصدر نفسه.

٣٠٨

ومع أن المتبادر أن معنى آمين هو دعاء بالاستجابة فقد روى الزمخشري حديثا عن ابن عباس أنه سأل النبي عن معناها فقال له : (افعل). وقد روى كذلك في خطورة آمين وفي تعليم قولها للنبي من قبل جبريل حديثين آخرين واحد منهما عن أبي هريرة جاء فيه : «قال النبيّ آمين خاتم ربّ العباد على عباده المؤمنين».

وثانيهما عن أبي ميسرة التابعي جاء فيه : «أقرأ جبريل النبيّ فاتحة الكتاب فلما قال (وَلَا الضَّالِّينَ) قال له قل آمين فقال آمين» (١).

وبعض هذه الأحاديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنه ورد في كتب حديث أخرى مثل الطبراني وابن مردويه والإمام أحمد (٢). ولا تبعد في مآلها عن الحديث الوارد في هذه الكتب والله تعالى أعلم.

تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط

واستطراد إلى روايات ومذاهب مفسري الشيعة وأثرها

هذا ، وبمناسبة ورود كلمة الصراط في السورة نقول إن بعض مفسري غلاة الشيعة الباطنية يروون عن أبي جعفر الطوسي أنه قال لأبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر الذين يدين لهم الشيعة بالولاية دون غيرهم : أنتم الصراط في كتاب الله وأنتم الزكاة وأنتم الحج؟ فقال يا فلان : نحن الصراط في كتاب الله عزوجل ، ونحن الزكاة ، ونحن الصيام ونحن الحج ، ونحن الشهر الحرام ونحن البلد الحرام ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله ونحن وجه الله» (٣).

وفي هذا ما هو ظاهر من الغلوّ الحزبي الذي ننزّه أبا عبد الله عنه ونرجّح أنه منحول له نحلا. ومثل هذا كثير مما سوف نعرض أمثلة منه في مناسبات آتية. بل هذا ديدن الشيعة غلاتهم ومعتدليهم وباطنييهم حيث يصرفون العبارات القرآنية إلى

__________________

(١) انظر فصل تخريج أحاديث تفسير الزمخشري لابن حجر في الجزء الرابع من «الكشاف».

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) «التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي ج ٢ ، ص ٢٦٧.

٣٠٩

ما يوافق هواهم ومقالاتهم مهما كان في ذلك من تعسف وغرابة وسخف وشطط وبعد عن الفحوى والمناسبة والسياق ، حتى ولو كان في سياق قصص الأمم السابقة وأنبائهم أو مشاهد الآخرة أو في مشاهد الكون أو في حق الكفار بالله ورسالات رسله والمشركين به قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حياته.

وحيث يزعمون أن لكل آية وجملة بل وكلمة في القرآن باطنا وظاهرا وأن الباطن متعدد الوجوه والمدى حتى يبلغ سبعين وجها لكل آية أو كلمة أو جملة ، وأن من السائغ أن يكون أول الآية في أمر وآخرها في أمر وظاهرها في أمر وباطنها في أمر. وظاهرها في ماض أو حاضر وباطنها في مستقبل وظاهرها في أناس بأعيانهم وباطنها في أناس آخرين بأعيانهم.

حتى لقد بلغ بهم الأمر إلى حد الزعم أن جلّ القرآن بل كله في الأئمة وحقوقهم وشيعتهم وأعدائهم ، وإن لم يكن ذلك ظاهرا فهو منطو في الباطن. وإلى حد صرف كلمات الصلاة والصيام والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر إلى معان متصلة بعقائدهم ، مما مرّت أمثلة منه في أول هذا التعليق ، ومن ذلك أن الوضوء هو موالاة الإمام ، والتيمم هو الأخذ من المأذون في غيبة الإمام والصلاة هي اتباع الإمام الناطق بالحق والغسل هو تجديد العهد للإمام ، والجنة هي سقوط التكاليف ، والنار هي مشقة حمل التكاليف.

ومنهم من زعم أن صفات علي وأحفاده الأئمة وحقوقهم وفضلهم كانت في القرآن صراحة وأن الذين جمعوا القرآن من كبار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أسقطوا كل ما فيه من ذلك وحرفوا كل ما فيه إشارة ضمنية إلى ذلك.

ومنهم من بلغ به الزعم إلى القول أن ما أسقط من القرآن أكثر من نصفه حيث كان نحو سبعة عشر ألف آية فلم يبق منه إلا نحو سبعة آلاف ، وأن الإمام علي دوّنه جميعه وأودعه أولاده. وأن هناك مصحفا عندهم باسم مصحف فاطمة يبلغ ثلاثة أضعاف المصحف الحالي وفيه ما أسقطه الصحابة من القرآن ، وإلى حد

٣١٠

الزعم أن إنكار الباطن في القرآن كفر (١).

ووصل بهم الشطط إلى صرف كل ما ورد في القرآن من أسماء الله الحسنى وصفاته وغضبه وأسفه إلى الأئمة. وكل ما ورد فيه من وصف للكافرين والمنافقين والمشركين ومن لعنة وتنديد بالكفار والمنافقين والمشركين وإنذار لهم بعقوبة الدنيا والآخرة إلى كبار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باستثناء بضعة منهم كانوا بزعمهم موالين لعلي رضي الله عنه فقط ، ثم إلى سائر من كان مواليا للخلفاء الراشدين الثلاثة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إلى كل من والاهم من المسلمين من لدن عهد الخلفاء إلى اليوم. وإلى زعم كون أسماء علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على عرش الله قبل خلق الناس وأن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأن أنوارهم كانت متلألئة على جبينه ، وأن أنبياء الله الأولين كانوا يتوسلون بهم في الملمات وأنهم معصومون وأنهم يتلقون الوحي عن الله مباشرة خلافا للأنبياء الذين كانوا يتلقونه بالواسطة مما فيه معنى تفضيلهم عليهم ، وأن الله يحل فيهم دورا بعد دور وأن عليا هو النبي بل هو الإله والعياذ بالله.

وقد تجرأوا على رسول الله وعلى علي وأولاده. فوضعوا على ألسنتهم الأحاديث الكثيرة جدا بسبيل تأييد أقوالهم ومذاهبهم ، يبرز عليها التزوير والكذب فحوى وأسلوبا ومناسبة ، وأنكروا كل حديث يروي خلاف ما يقولون ولو كان واردا في كتب الصحاح. وقرروا أنه لا يجوز ولا يصح حديث لم يروه أئمتهم وأنهم هم تراجمة القرآن الذين هم أدرى بما فيه لأنهم أهل البيت الذي نزل فيه وأنه لا يجوز لأحد أن يتلقى التفسير أو يفسر القرآن بدون أحاديثهم المذكورة. فجعلوا

__________________

(١) يستند القائلون بذلك والذين يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا إلى حديثين معزوين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهما واحد مرسل أخرجه الغرياني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع». وثان أخرجه الديلمي مرفوعا إلى رسول الله جاء فيه : «القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد». («التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي ، ج ٢ ، ص ١٩) ولم يرد أي من الحديثين في كتب الحديث المعتبرة. وعبارتهما لا يمكن أن تبعث أي طمأنينة بصدورهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣١١

بذلك عامتهم وراء سور مغلق يجترون ما يقرؤونه في كتب تفسيرهم منها وتترسب بذلك فيهم العقد والأحقاد ضد الجمهور الأكبر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجمهور الأكبر من المسلمين من بعدهم الذين يحترمونهم ويوالونهم حتى ولو كانوا يوالون عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأولاده ويحترمونهم. وهو ما هو عليه فعلا جمهور أصحاب رسول الله وجمهور المسلمين من بعدهم ، لأنهم أهل لذلك لإسلامهم وجهادهم وصلتهم برسول الله وهذا سرّ المأساة المروعة الأليمة التي يعيشها عامة الشيعة منذ أكثر من اثني عشر قرنا وسرّ الانقسام الذي انقسم إليه المسلمون وافترقوا به عن بعضهم (١).

ومن العجيب أن يؤلف بعضهم كتبا في الطعن بأبي هريرة رضي الله عنه لأنه يروي كثيرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرى تعسفا في بعض من يرى ما لا يصح من أخبار

__________________

(١) في الجزء الثاني من كتاب «التفسير والمفسرون» تأليف محمد حسين الذهبي حيث يجد القارئ الغريب العجيب المذهل الذي لا يكاد يصدق أنه يصدر من مؤمن عاقل من كل ذلك مرويا عن كتب تفسير الشيعة مثل كتب الكارزاني والعسكري ، والكاشي والعلوي والخراساني والطوسي والطبرسي. والذهبي إنما يورد أمثلة فقط أو غيضا من فيض مما في تلك الكتب ويستوي في ذلك معتدلوهم وغلاتهم. فالطبرسي مثلا من أشدهم اعتدالا وتحرزا ومع ذلك فهو يروي الكثير مما يرويه الغلاة.

ونحن نعتقد أن هؤلاء المفسرين ليسوا أغبياء وبلهاء وأنهم أوردوا ما أوردوه وهم يعلمون ما فيه من سخف ومفارقة وصنع وكذب على الله ورسوله وآله الطيبين لمآرب وضغائن ترسبت فيهم مستغلين طيبة وغفلة عوام الشيعة وعزلتهم عن أهل السنة والجماعة ليستمر لهم شفاء هذه المآرب والضغائن لأنه كما قلنا لا يمكن أن يصدق أحد أنه يصدر عن مؤمن عاقل. وقد يستثنى من ذلك الطبرسي لما نراه من اعتداله وتحفظه في ما يورده وعدم إيراده لكثير مما يورده غيره وإيراده مع ما يورده ما يورده أهل السنة والجماعة من روايات وأحاديث حيث يدل هذا على أمانته العلمية.

وننبه على أن أقوال وروايات وأحاديث وأفكار وعقائد الشيعة على اختلاف فرقهم لا تنحصر في كتب تفسيرهم. فلهم كتب كثيرة في الحديث والفقه والتاريخ والعقائد والجدل فيها الغريب العجيب المذهل ، ولكننا سنقتصر من الأمثلة على ما رووه وساقوه في سياق التفسير.

٣١٢

وأحداث دنيوية وأخروية وينسون ما يروونه من آلاف الأحاديث الكاذبة الموضوعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآل بيته والتي لا يمكن بشيء منها أن يصح والتي يبرز عليها طابع الوضع والصنع المتعمدين لتحريف كلام الله عن مواضعه في حين أنه ليس فيما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة من رواية أبي هريرة ما لا ينطبق على القرآن أو يغاير أحاديث رسول الله التي يرويها غيره من أصحاب رسول الله.

ونريد أن ننبه على أمر وهو أننا نجلّ عليّ بن أبي طالب وأولاده الطيبين رضي الله عنهم ثم الصالحين من ذريتهم كل الإجلال لصلتهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن هذا واجب كل مؤمن مخلص. وهو ما نعتقد أن جل أهل السنة بل كلهم عليه. وإننا إذ نكتب هذا التعليق وإذ نورد الأمثلة من تفسيرات مفسري الشيعة وغلاتهم وباطنييهم لا نقصد تشهيرا وتقبيحا لذاتهما وإنما نقصد تحذير المسلمين جميعهم سنيين وشيعيين على السواء. ولا نحمل مسؤولية ذلك على عامة الشيعة فهم منها براء ولا يحمل مسؤوليته وإثمه إلا الذين صنعوه ورووه وتمسكوا وما يزالون يتمسكون به ويحثون العامة من الشيعة على التمسك به ويلقنونهم أنهم هم وحدهم على الحق وأنهم هم وحدهم أصحاب الحظوة عند الله حتى يظلوا متمسكين به تحقيقا لما توخوه ويتوخونه من مآرب ومنافع ونشهد الله على صدق ما نفعله.

ومن الجدير بالذكر أن كتب الشيعة المتنوعة على اختلاف فرقهم لم تنحصر وتقف عند القرون الإسلامية الأولى ، فقد استمر كتابهم يكتبون مختلف الكتب في التفسير والحديث والفقه والجدل والتاريخ والعقائد في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي إلى اليوم يكررون فيها ما قاله ورواه أسلافهم من العجيب الغريب المذهل (١) فكان هذا مما ساقنا إلى هذا التحذير. وإلى إيراد تأويلاتهم الشاذة

__________________

(١) من هذه الكتب «الإيقاظ» للحرّ العاملي و «الآيات البينات» لكاشف الغطاء و «أعيان الشيعة» لمحسن الأمين وهذا موسوعة كبرى فيها تراجم كل نابه من الشيعة وأقواله وأفعاله. وفي هذه الكتب وغيرها تكرار لما قاله ورواه قدماء الشيعة من أفكار وعقائد ومجادلات ومدائح

٣١٣

للقرآن التي لم يمنعهم منها عقل ولا دين على ما مرّت أمثلته وعلى ما سوف يمر منه أمثلة كثيرة أخرى ليرى القارئ ما فيها من شطط وزور وشذوذ.

ومهما يمكن أن يقال أن التشيع قد غدا مع الزمن الطويل عقدة معقدة يجعل أصحابها متعصبين لها متمسكين بالروايات والأقوال التي يسوقها لهم علماؤهم ومفسروهم ورواتهم مهما كان فيها من التعسف والشطط والمفارقة والبعد عن العقل والمنطق والحق والدين والإيمان فإنه قد آن لنبهاء الشيعة وعقلائها والصادقين منهم في إيمانهم والمخلصين للإسلام وهم كثيرون فيما نعتقد أن يتنبهوا إلى أن أسبابه سياسية لا صلة صحيحة لها بالدين والقرآن وأن هذه الأسباب قد عفّى عليها الزمن ولم يعد لها مكان ولا معنى ولا مبرر ولا فائدة إلا لفئة قليلة من الناس الذين يرون في التمسك به مأربا خاصا لأنفسهم وأن يبذلوا جهودهم للتخفيف من غلواء التمسك بتلك الروايات والأقوال والتعصب للفكرة التي وراءها والتي هي سياسية قديمة وللتقارب مع السنيين إلى أن تسود الأخوة والمحبة وتزول الفرقة والضغينة. وعلى نبهاء السنيين وعقلائهم والصادقين في إيمانهم والمخلصين بإسلامهم بدورهم أن يبذلوا جهودهم بسبيل ذلك أيضا بمختلف الوسائل والمواقف وعلى مختلف المستويات ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

__________________

وقبائح وعادات وأفكار وتأييد لها وفيها العجيب المذهل من كل ذلك وبخاصة في صفات الأئمة وعصمتهم وصلتهم المباشرة بالله وفي حصر صفة الإسلام والنجاة في الشيعة ونفيهما عن سائر المسلمين. وفي تكفير وذم كبار أصحاب رسول الله ومن والاهم من المسلمين إلى الآن.

٣١٤

سورة العلق

تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيبا. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولا على ما عليه الجمهور. لأن مضمون باقي الآيات وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى ، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة.

وفي الآيات الخمس الأولى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقراءة وتنويه بما ألهم الله الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

(١) العلق : الدم المتجمد.

هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، سنورده بعد قليل ، أولى الآيات القرآنية نزولا. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سورا أخرى

٣١٥

مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولا فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سندا كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية (١).

وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة. وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه‌السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته ، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها ، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.

أول قرآن نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلا في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه : «أوّل ما بدىء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث ـ أي يتعبّد ـ فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : «اقرأ» فقال : «ما أنا بقارئ» قال : «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني». فقال : «اقرأ» ، فقلت : «ما أنا بقارئ» قال : «فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد ثم أرسلني» فقال : «اقرأ» فقلت : «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني» فقال :

__________________

(١) انظر سياق تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم وانظر كذلك كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ج ١ ص ٢٤ وما بعدها ، الطبعة المذكورة سابقا. وننبه إلى أننا سرنا على الاكتفاء بذكر اسم كتاب التفسير أو مؤلفه دون ذكر رقم المجلد أو الجزء أو الصفحة لأن هناك أكثر من طبعة لأكثر من كتاب من كتب التفسير ، وقد لا تكون الطبعة التي ننقل عنها هي المتيسرة في يد القارئ ، وطريقتنا تيسر للقارىء أن يراجع المادة في أي طبعة كما هو واضح.

٣١٦

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ : (ما لَمْ يَعْلَمْ)» (١). ونزول هذه الآيات ليلا وفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [١٨٥] ، وآية سورة الدخان هذه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) ، وآية سورة القدر هذه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١).

والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المهمة العظمى التي انتدب إليها ، وتعليمه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه ، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.

وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعا بالانصراف عما سوى الله ، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها ، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها وآمالها بغير الله الربّ الأكرم.

مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم

في أول ما نزل من القرآن

والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم ، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم ، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه ، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان ، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.

والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى ، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء ، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.

__________________

(١) «التاج» ، ج ٣ ص ٢٢٦.

٣١٧

وفي هذا من الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى ، وما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها ، وقوة عناصر خلودها.

ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جدا في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحثّ على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.

والمتبادر أنه لا يقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية ، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان ، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي ، وقد اختص الإنسان بالذكر لأنه موضوع الخطاب في الآيات ، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه إلى مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم ، وبقصد الموعظة والهداية.

وبناء على هذا فلا نرى محلا ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية ، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.

هذا ، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ

٣١٨

خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(١) كلّا : حرف ردع وزجر. وقال المفسرون إنها في المقام الذي تأتي فيه بمعنى أيها الناس ارتدعوا وازدجروا فالأمر أعظم مما ظننتم. وقد وردت كثيرا ولا سيما في السور المبكرة في النزول الذي يشتد فيها الإنذار والتنبيه والتنديد ووردت كذلك في معرض التنديد والاستدراك والتثبيت وكثرة ورودها في القرآن تدل على أنها مما كان مستفيضا في أساليب الخطاب العربي.

(٢) يطغى : يتجاوز الحد في العدوان والبغي.

(٣) استغنى : ظن نفسه مستغنيا ، أو رأى نفسه غنيا. والكلمة هنا بمعنى (رأى نفسه غنيا بماله) على ما عليه الجمهور. واستعملت الكلمة بمعنى (رأى نفسه غنيا عن مساعدة الغير فتمنع وتكبر) كما في آيات سورة عبس هذه : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (٧). وأصل معنى كلمة (غني) غير المحتاج سواء أكانت الحاجة مالا أو غيره. وقد وصف الله جلّ جلاله نفسه بها في آيات كثيرة.

(٤) التقوى : الاتقاء من عذاب الله بصالح العمل.

(٥) تولّى : ذهب دون أن يصغي للدعوة ويهتم لها.

(٦) السفع : الأخذ أو الجذب بقوة ، واللطم بشدة.

(٧) الناصية : مقدم الوجه أو شعر الجبهة.

(٨) ناديه : النادي : مجلس القوم ، والمقصود أهل المجلس.

(٩) الزبانية : الموكلون بالعذاب.

(١٠) اسجد : أمر بالسجود لله. والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له.

(١١) اقترب : تقرب إلى الله بالسجود.

٣١٩

في هذه الآيات :

١ ـ تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيرا منهم يتجاوزون الحدّ كبرا وبغيا حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم وقوة أنصارهم وعصبيتهم وشخصيتهم وأسلوب الآية التي وردت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢ ـ تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣ ـ تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذّب دعوة الله ويعرض عنها ، وتذكير له في معرض الإنذار وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصي عليه آثامه ومواقفه.

٤ ـ تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذّب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينته عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥ ـ تثبيت للنبي عليه‌السلام في دعوته. فلا محلّ للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.

والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيما طاغية تعرّض للنبي عليه‌السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة ، ويدعو إلى الله وتقواه ، فضلا عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.

ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : «قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلّي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لو فعل

٣٢٠