التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

٢٨١
٢٨٢

السور المفسّرة في هذا الجزء (١)

١ ـ الفاتحة

٨ ـ الأعلى

٢ ـ العلق

٩ ـ الليل

٣ ـ القلم

١٠ ـ الفجر

٤ ـ المزّمل

١١ ـ الضحى

٥ ـ المدّثر

١٢ ـ الشرح

٦ ـ المسد

١٣ ـ العصر

٧ ـ التكوير

__________________

(١) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

٢٨٣
٢٨٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفاتحة

فيها تقرير الحمد لله تعالى وربوبيته للعالمين ، وسعة رحمته ، وتعليم بعبادته وحده والاستعانة به وحده وطلب الهداية منه ، والوقاية من طريق الضالين والمغضوب عليهم.

وقد ورد حديث نبوي يفيد أنها أولى السور القرآنية التامة نزولا على ما ذكرناه في المقدمة ، وقد قال كثير من المفسرين إنها براعة استهلال رائعة للقرآن.

ولعل في ذلك كله تنطوي حكمة وضعها فاتحة للمصحف وإيجاب قراءتها في كل ركعة صلاة ، ومطلعها مما تكرر في مطالع سور عديدة أخرى وهي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب القرآن في مطالع سوره.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(١) الرحمن الرحيم : مما قيل في الفرق بينهما أن الرحمن يعني المنعم بجلائل النعم ، والرحيم المنعم بدقائقها. ومن ذلك أن الرحمن يعني المنعم بنعم عامة تشمل جميع الناس مؤمنين وكفارا ، والرحيم هي خاصة بالمؤمنين. وفي ذلك

٢٨٥

أن الرحمن لا يطلق إلا على الله عزوجل في حين أن الرحيم يمكن أن يطلق على الناس مثل عليم وحكيم وحليم وجميل. وعلى كل حال فممّا لا ريب فيه أن هناك فرقا في اللفظين ، وأن هذا ما يفسر حكمة التنزيل في استعمالهما معا.

(٢) الربّ : لها في القرآن معان عديدة. منها المعبود الرئيسي ، ومنها المعبود الثانوي الذي يشرك مع الله ، ومنها الرئيس ، ومنها صاحب الشيء ، وسيد الأشخاص الذين يكونون تحت رعايته ، والمتسلط والراعي ، والمربي ، والحاكم. وهي هنا بمعنى المعبود الرئيسي ، وصاحب السلطان الشامل لجميع الأكوان والعالمين.

(٣) العالمين : هنا كناية عما في الكون من كائنات ومخلوقات.

(٤) الدين : للدين في القرآن أكثر من معنى وهي هنا بمعنى الجزاء والحساب والقضاء. ويوم الدين كناية عن أول يوم من الحياة الأخروية الذي يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الدنيا.

(٥) الصراط : الطريق.

في السورة :

١ ـ تقرير الحمد لله ربّ الأكوان وما فيها من كائنات ومخلوقات.

٢ ـ وتقرير لصفات الرحمة الشاملة لله ، وملك يوم الجزاء له وحده.

٣ ـ وخطاب موجّه من عباده إليه كتعليم لهم بأن يقولوا إنهم يعبدونه وحده ويستعينون به وحده.

٤ ـ ودعاء موجه منهم إليه كتعليم لهم ، بأن يدعوه أن يهديهم الطريق القويم ، وهو طريق الذين أنعم عليهم لا طريق الضالين ولا المغضوب عليهم.

أسماء السورة

جرت تسمية السور القرآنية على الأغلب بكلمة أو اسم يكون فيها. والاسم المشهور لهذه السورة هو الفاتحة الذي وضعناه عنوانا لها. وهذا الاسم ليس ممّا احتوته السورة من كلمات كما هو ظاهر. والمتبادر أن هذا الاسم اشتهر لأنه جاء

٢٨٦

من وضع السورة في مفتتح السور القرآنية في ترتيب المصحف الذي نرجح أنه من متصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم من أنها مفتتح التلاوة القرآنية في كل صلاة ذات ركوع وسجود. وهناك أسماء أخرى للسورة منها ما ورد في حديث رواه أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحمد لله ربّ العالمين أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني» (١).

ولقد ذكرت بعض الروايات أن السورة مدنية (٢) ، وذكرت رواية أنها نزلت

__________________

(١) انظر كتاب «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول» ج ـ ٤ ، ص ١٣. وسوف يأتي ذكر هذا الكتاب كثيرا. وتعريفا به نقول إنه من تأليف الشيخ منصور ناصف وهو في خمسة أجزاء. وجمع فيها المؤلف معظم الأحاديث الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي. وقد اتفق العلماء على أن الأحاديث الواردة في هذه الكتب هي أوثق وأصح من غيرها وتعتبر عندهم الطبقة الأولى من كتب الحديث. وحين نذكر عبارة الخمسة نعنيهم. وحين نذكر كتب الأحاديث الصحيحة نعني هذه الكتب وهو ما يقوله علماء الحديث. وإن كان بعضهم يحصر وصف (صحيح) في ما جاء في كتابي البخاري ومسلم اللذين ينعتان أحيانا بالشيخين. ويطلق علماء الحديث على كتب الثلاثة الآخرين اصطلاح (أصحاب السنن) وترتيبهم : أبو داود أولا فالترمذي فالنسائي. وحين نذكر هذا الاصطلاح نعني أن الحديث مروي من قبل ثلاثتهم وحينما نذكر رواه الثلاثة نعني البخاري ومسلم وأبو داود. والأربعة يكون الرابع الترمذي. (انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص ٢٢٥ وما بعدها).

وننبه على أن هناك كتابا آخر هو كتاب «الموطّأ» للإمام مالك وهو أقدم ما وصل إلينا من كتب الحديث تأليفا وصاحبه توفي سنة ١٧٠ ه‍ واحتوى عددا كبيرا من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وتابعيهم ويلحقه كثير من علماء الحديث بالكتب الخمسة. وكثير ممّا ورد فيه ورد في الكتب الخمسة. وننبه في هذه المناسبة على أمر هام وهو أن هناك أحاديث نبوية وصحابية كثيرة أخرى في كتب أئمة آخرين من أئمة الحديث يأتي في مقدمتهم أبو عبد الله القاسم والشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجه والبيهقي والدار قطني والحاكم وغيرهم تروى عن راو عن راو إلى رسول الله أو أصحابه تحتمل الصحة من حيث رواتها ومتونها وكثير منها من باب ما جاء في الكتب الستة.

(٢) انظر تفسير السورة في «تفسير الآلوسي» و «الإتقان» ج ١ ، ص ٢٤ ـ ٢٥.

٢٨٧

مرتين ، مرة في مكة ومرة في المدينة (١).

وأسلوبها ثم التواتر اليقيني بأنها مفتتح التلاوة في كل صلاة والتواتر اليقيني المؤيد بمضامين قرآنية بأن الصلاة كانت تمارس منذ بدء الدعوة حيث احتوت هذه المضامين آيات سورة العلق هذه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى) (١٠) يسوغ القول بشيء من الجزم أن السورة مكية وهو ما عليه الجمهور. حيث ذكرت كذلك في جميع تراتيب السور المروية ، أما رواية نزولها مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة ، فنحن نتوقف فيها لأننا لم نر حكمة ظاهرة لذلك.

حكم البسملة في مفتتح هذه السورة

ومفتتح السور الأخرى

لقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في هذه المسألة. فهناك من قال إن البسملة في هذه السورة آية أصلية خلافها للسور الأخرى وهناك من قال إن البسملة آية أصلية في كل سورة. وهناك من قال إنها ليست آية أصلية لا في هذه السورة ولا في السور الأخرى.

وهناك أحاديث يوردها المفسرون في صدد هذه المسألة (٢) منها حديث يرويه الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها». وحديث يرويه مسلم عن أنس جاء فيه : «كان إذا نزل على رسول الله سورة قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم». وحديث يرويه أبو داود في «سننه» والحاكم في «مستدركه» عن ابن عباس جاء فيه : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم». وحديث عن ابن مسعود جاء فيه : «كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن

__________________

(١) «الإتقان» أيضا ج ١ ، ص ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والخازن ورشيد رضا مثلا.

٢٨٨

الرحيم» ، وحديث رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم قبل سائر آيات السورة». وحديث رواه أبو داود والحاكم عن أم سلمة : «أنه كان يقرأ البسملة مع سائر آيات السورة».

وليس شيء حاسم في الصدد الذي نحن فيه إلّا في الحديث الأول ويظهر أنه لم يثبت عند أصحاب الأقوال الأخرى. وليس في الأحاديث الأخرى حسم بدليل اختلاف الأقوال في المسألة. ومما استدل عليه الذين قالوا إنها آية في كل سورة وضعها في مفتتح كل سورة باستثناء سورة التوبة لسبب خاص سوف نشرحه في مناسبتها. وقال غيرهم إن وضعها هو للتبرك وحسب. والذين قالوا إنها آية أصلية في الفاتحة اعتبروا جملة (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) آية والذين قالوا إنها ليست أصلية قطعوا هذه الجملة إلى آيتين. والجمهور على أن البسملة آية أصلية في هذه السورة دون غيرها. والله تعالى أعلم. وننبه على أن هذا الخلاف لا يمسّ كون جملة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) جزءا من آية أصلية في الآية [٣٠] من سورة النمل.

ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق البسملة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «كلّ أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» (١). ولقد درج المسلمون منذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يبدأوا رسائلهم وكتبهم وعزماتهم وأكلهم وشربهم بالبسملة حتى غدت طابعا مميزا لهم. وهناك من يختصره ويكتفي بجملة باسم الله. حيث رويت أحاديث نبوية يأمر النبي فيها بعض المسلمين بقولها إذا أكلوا أو باشروا عملا أو عثروا (٢).

__________________

(١) ذكر ابن حجر في فصل تخريج أحاديث تفسير «الكشاف» في الجزء الرابع من هذا التفسير هذا الحديث بفرق يسير وهو بدل (أجذم) (أقطع) مرويا عن أبي هريرة من طريق بشر بن إسماعيل عن الزهري.

(٢) روى الأربعة عن عمر بن أبي سلمة قال : «كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصّحفة فقال لي يا غلام سمّ الله وكل بيمينك» «التاج» ج ٣ ، ص ١٠٦. وروى ابن حجر في الفصل المذكور حديثا رواه أحمد جاء فيه : «كلّ أمر لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر

٢٨٩

خطورة شأن الفاتحة

ولقد أكثر المفسرون القول في صددها ومداها وبركاتها (١). وقالوا فيما قالوه إنها احتوت رموزا لكل ما جاء في القرآن من مواضيع. ففيها التوحيد وفيها الثناء على الله وتقرير ربوبيته العامة وفيها العبادة لله والاستعانة به. وفيها إشارة إلى اليوم الآخر ، وإشارة إلى الأمم على اختلافها من مهتدين ومغضوب عليهم وضالين. وفيها إشارة إلى ملكوت الله وما فيه من عوالم إلخ. ورأوا فيها من أجل ذلك كله براعة استهلال رائعة للقرآن وعنوانا لمواضيعه. ولمحوا من هذا حكمة جعلها في ترتيب المصحف فاتحة القرآن وفي الصلاة مفتتح التلاوة وتكرارها في كل ركعة. ولعل في كل هذا تدعيم لأولية نزولها كسورة تامة ولا سيما أنها لا تحتوي إشارة ما إلى وقائع السيرة التي وقعت بعد أن سار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شوطا ما في الدعوة ، وأن ما فيها هو تعليم وتلقين عامان مما يصح أن يكون طابع الآيات والسور الأولى.

وأسلوب السورة يلهم أنها بسبيل تعليم المسلمين ما يجب عليهم من حمد الله وعبادته وطلب الهداية منه. وفيها تلقينات جليلة : فالإله الذي يؤمن به المسلمون هو ربّ جميع العالمين ورحمته شاملة عامة. وهو ملك يوم الآخرة. وعليهم أن يفرغوا أنفسهم وقلوبهم من غيره فلا يخضعوها لأحد ولا يبالوا في الحق أحدا. لأنه هو النافع والضار والخالق والرازق والشامل برحمته جميع الخلق. وهم مدينون له في حياتهم ومماتهم وهدايتهم ورزقهم وكيانهم وفي هذا ما فيه من إنقاذ المسلم وروحه من تأثير غيره فيه ، وبثّ القوة والاعتماد والكرامة فيه.

والصراط المستقيم يصح أن يكون الطريق القويم في أمور الدين والدنيا معا. فالإيمان بالله وبما جاء به رسوله هو طريق قويم. والقيام بالواجبات التعبدية هو

__________________

أو أقطع». وقد يكون من هذا الباب حديث آخر رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» التاج ج ١ ص ٨٨.

(١) لا يكاد يخلو كتاب تفسير قديم وحديث من شيء من ذلك ، فلم نر ضرورة إلى تعيين مصادر للأقوال.

٢٩٠

طريق قويم. والتزام الصدق والوفاء وسائر مكارم الأخلاق هو طريق قويم ، وكل ما يغاير هذا هو طريق أعوج لا يسير فيه إلّا الضالون والمستحقون لغضب الله.

وهناك أحاديث نبوية وردت في كتب الأحاديث الصحيحة في خطورة هذه السورة ووجوب قراءتها في كل ركعة من كل صلاة. منها حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (١) ، وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام. قيل لأبي هريرة : إنّا نكون وراء الإمام ، فقال : اقرأ بها في نفسك» (٢). وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد بن المعلّى قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلمّا أردنا الخروج قلت له : يا رسول الله إنّك قلت لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن ، قال : الحمد لله ربّ العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» (٣).

وحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال : «بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قطّ إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم فسلّم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته» (٤). وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله ربّ العالمين قال الله : حمدني عبدي. وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي. وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجّدني عبدي. فإذا قال : إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ، قال :

__________________

(١) التاج ج ١ ، ص ١٥٦.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٤ ص ١٣ ـ ١٤.

(٤) انظر المصدر نفسه.

٢٩١

هذا بيني وبين عبدي. ولعبدي ما سأل. فإذا قال : اهدنا الصّراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (١).

تعليق على موضوع

الأحاديث القدسية

وهذا الحديث الأخير مما يسمى في اصطلاح علماء الحديث بالحديث القدسي ، لأن الكلام فيه مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل ، وبهذه المناسبة نقول إن هناك أحاديث كثيرة مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل عن الله عزوجل ، أو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة. ومن واجب المؤمن أن يؤمن ويصدق بكل ما ثبت صدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما كان القرآن يبلّغ عن الله تعالى بواسطة الوحي الرباني أو جبريل عليه‌السلام فقد تكون مسألة الأحاديث القدسية موضع سؤال عن الفرق بين الوحي بالحديث القدسي والوحي بالقرآن ، وحكمة ذلك.

ولما كان هناك كما قلنا أحاديث قدسية صحيحة فالذي يمكن أن يقال في صددها أنها هي الأخرى من سرّ النبوة مثل سرّ الوحي القرآني الذي لا يدرك بالعقول العادية ويجب الإيمان به لأنه ثابت بنص القرآن والحديث النبوي مع فارقين أو لهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفرق بين الحديث القدسي وبين الوحي القرآني ، فيأمر بتدوين الوحي القرآن حال نزوله ويبلّغه كقرآن ، ويخبر بالحديث القدسي إخبارا مرويا عن الله ولا يأمر بتدوينه بل كان يدخل في متناول النهي النبوي كتابة غير القرآن حيث روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب شيئا فليمحه». ومن الحكمة الملموحة في هذا الحديث الحرص على عدم اختلاط أي كلام غير قرآني بالقرآن. وهو أمر ذو دلالة خطيرة في صدد عمق اليقين النبوي بالوحي القرآني وتمييزه عن أي معنى آخر

__________________

(١) التاج ج ٤ ، ص ٣٢ ـ ٣٣.

٢٩٢

يحبك في صدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحدث به أصحابه ، أو أي معنى آخر يوحي الله به إليه أو يلهمه إياه ويحدث به أصحابه دون أن يتصف بأنه قرآن.

وهذا يشمل كما هو المتبادر الأحاديث القدسية التي يحدث بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى والأحاديث العادية التي كان يقولها لأصحابه في مناسبة ما. ويبدو ذلك السرّ وهذه الدلالة الخطيرة أقوى صورة إذا لوحظ أن السنن النبوية القولية والفعلية واجبة الاتباع مثل القرآن وهي مصدر التشريع الإسلامي مثله وكل ما في الأمر أنها تأتي بعده (١). ولقد جاء في سورة النساء هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩) ، والقرآن يمثل الله تعالى والحديث يمثل رسوله بعد موته. وفي ذلك السر وهذه الدلالة ردّ مفحم على الأغيار الذين ينسبون القرآن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما الفارق الثاني فهو أن أسلوب الأحاديث القدسية مماثل لأسلوب الأحاديث النبوية العادية أي أسلوب مخاطبة عادية دون أسلوب القرآن من حيث التقطيع والتوازن والتركيز في أواخر المقاطع أو الآيات كما هو ملموح في الحديث الذي أوردناه عن أبي ذر وفي غيره مما سوف نورده في مناسبات أخرى والله تعالى أعلم (٢).

تعليق على كلمة

(الله) جلّ جلاله

وبمناسبة ورود اسم الجلالة (الله) لأول مرة في البسملة والسورة نقول إن من المفسرين (٣) من قال إن الكلمة مضعفة أو معدلة من لفظ (إله) وإنها من جذر (أله)

__________________

(١) انظر كتاب «السنة» للسباعي ص ٧٢.

(٢) انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص ٣٩ ـ ٤٥ ففيها بحث واف عن الأحاديث القدسية ومداها.

(٣) انظر تفسير الفاتحة في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي والخازن وغيرهم.

٢٩٣

بمعنى عبد أو (وله) بمعنى حار من شدة الوجد أو (لاه) بمعنى سكن إلى الشيء. ومما قاله بعضهم إن كلمة (اللاة) المعبود الجاهلي المشهور المذكور في سورة النجم هي مؤنث (الله). ويقتضي القول الأخير أن تكون كلمة (اللاة) عربية فصحى أصلا مع أن هذه الكلمة قرئت بصيغ متنوعة متقاربة مثل (اللاتو) و (اللت) و (هاللت) على آثار قديمة بابلية ونبطية وثمودية وتدمرية ولحيانية (١) قبل البعثة بأمد طويل قد يصل إلى ألفي عام ولا يقل عن أربعمائة عام أي قبل أن تصبح اللغة العربية فصحى مثل لغة القرآن وعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما كانت لغة البابليين والثموديين واللحيانيين والأنباط والتدمريين واللغة العربية الفصحى من أصل قديم واحد فلا يبعد أن يكون أصل الكلمة يعني الربّ المعبود وأن تكون من جذر من الجذور السابقة الذكر. وأن تكون كلمة (الله) الفصحى هي تطور من ذلك. وفي اللغات العربية القديمة وردت كلمة (ايل) بمعنى الله أو الإله أو المعبود. وكانت تطلق على المعبود الأعظم أحيانا وعلى بعض المعبودات أحيانا في بلاد اليمن والعراق والشام قبل البعثة النبوية بمئات السنين. وكانوا يضمون إليها كلمات متنوعة ويسمون أنفسهم بها تسجيلا لعبوديتهم للمعبود الذي كانت ترمز إليه. ومن ذلك يسمع ايل (إسماعيل) ويصدق ايل وحي ايل وباب ايل وإسرائيل. وقد يكون من هذا الباب جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل إلخ ...

فليس من المستبعد أن تكون كلمة (الله) في الفصحى وكلمة (اللاة) تطورا عن تلك الكلمات وأن يكون أحد الجذور المذكورة مشتركة بين هذه اللغات وأن تكون الكلمة من أحدها.

وفي اللغة العبرانية التي هي شقيقة من شقائق اللغة العربية كلمة (الوهيم) بمعنى الآلهة حيث يبدو من ذلك صورة من صور تطور الكلمة من أحد تلك الجذور.

__________________

(١) انظر «تاريخ العرب قبل الإسلام» جواد علي ج ٥ ، ص ٧٢ وما بعدها.

٢٩٤

وعلى كل حال فإن كلمة (الله) قد غدت في اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام علما على القوة العظمى العاقلة الخالقة المدبرة الرازقة المحيية المميتة ، أو اسما رئيسيا وأصيلا لها. وقد كان العرب يستعملونها في هذه الدلالة على اعتبار أنه لا بدّ لهذا الكون العظيم البديع من صانع عاقل حكيم مدبر والدينونة له بالعبودية والعبادة. وكانوا يعبدونه ويحلفون بكلمتي (الله) و (اللهم) ويسمون أنفسهم (عبد الله) للدلالة على ذلك. وإن كانوا يشركون معه شركاء للتقرب إليه والاستشفاع بهم عنده مما حكته آيات قرآنية كثيرة كثرة تغني عن التمثيل.

ولقد استعمل القرآن هذا اللفظ علما أو اسما رئيسيا على تلك القوة أيضا. وورد فيه لحدته أحيانا ومع صفات الله وأسمائه الحسنى أحيانا. ومع تقرير وجوب وجود القوة العظمى التي يرمز إليها ووجوب الاعتقاد بها وشمول ربوبيتها ووجوب الدينونة لها بالعبادة والخضوع ، والإخلاص لها وحدها ، ووجوب تنزيهها عن أية شائبة ومماثلة وشراكة بأي اعتبار كان ، ووصفها بجميع صفات الكمال مما احتوت تقريره والتدليل عليه آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل كذلك. ومما غدا الطابع المميز للعقيدة الإسلامية. وقد جرى المسلمون على إطلاق لفظ (الجلالة) على الله تقويا وتعظيما.

تعليق على مدى جملة

(رَبِّ الْعالَمِينَ)

في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي كتبت بأقلام بشرية بعد موسى عليه‌السلام تكرر وصف الله تعالى برب إسرائيل وإله إسرائيل ، وتكررت حكاية أقوال بني إسرائيل بأن الرب رب إسرائيل والإله إله إسرائيل على معنى الاختصاص والحصر حتى صار ذلك عندهم عقدة وعقيدة. وبلغ الأمر بهم أنهم رفضوا أن يشترك أهل منطقة السامرة في فلسطين الذين كانوا يدينون بالدين الموسوي في تجديد معبد أورشليم حين سمح لهم كورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى أورشليم وتجديد المعبد. فقد حكى سفر نحميا أحد أسفار الكهنة القديم أن أهل

٢٩٥

السامرة جاؤوا إليهم وقالوا لهم نبني معكم معبد الرب الذي نعبده مثلكم فرفضوا وقالوا لهم إننا نبني معبد إله إسرائيل. وهذا من دون ريب تحريف وتشويه للحق والحقيقة بكون الله عزوجل رب جميع الأكوان والمخلوقات.

ومن هذا الاعتبار فإن تقرير هذا المعنى لله عزوجل في أولى سور القرآن يصح أن يعتبر تصحيحا ربانيا لذلك النشوز والتحريف ، ووضعا للأمر في نصاب الحق المحكم ليكون عقيدة الدين الإسلامي الذي شاء الله سبحانه أن يكون دين الناس جميعهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وبلادهم ولغاتهم. ووعد أن يظهره على الدين كله كما جاء في هذه الآية من سورة الفتح : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨) (١).

تعليق على الحياة الأخروية

و (يَوْمِ الدِّينِ) في الآية الثالثة يعني يوم القضاء بين الناس ويوم جزائهم على أعمالهم. والمقصود منه هو الحياة الأخروية التي يبعث الناس فيها ويقفون في يومها الأول أمام ربهم عزوجل ليحاسبوا على ما فعلوه في الدنيا ويجزوا عليه.

وهذه أولى إشارة إلى هذه الحياة ، تأتي في أولى سور القرآن التي يجب تلاوتها في كل ركعة من ركعات كل صلاة مما يسبغ عليها مغزى هام وخطير. ثم توالت الإشارات إليها بأساليب متنوعة حتى شغلت حيزا عظيما في القرآن وحتى يمكن أن يقال إنها ذكرت في معظم سوره بإسهاب حينا واقتضاب حينا آخر. وصار الإيمان بها بمقتضى النصوص القرآنية ركنا من أركان الإسلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ

__________________

(١) تكرر هذا مرتين بتوكيد أقوى في سورتي الصف والتوبة بصيغة مماثلة تقريبا في الآيات ٣٢ ـ ٣٣ من سورة التوبة و ٨ ـ ٩ من سورة الصف. وهذا نصّ آيات سورة التوبة : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣).

٢٩٦

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ...) [١٧٧] ، وهذه الآية في سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦) ، وحتى صارت تشغل حيزا كبيرا في القرآن وخاصة في المكي منه بحيث يمكن أن يقال إنها كانت من أقوى وسائل الدعوة وتنبيه الناس وحثّهم على الإيمان بالله وحده والعمل الصالح وتحذيرهم من الآثام والمنكرات والفواحش.

ولقد احتوت الآيات القرآنية فيما احتوته بيانا للأهداف والمقاصد يمكن تلخيصها بأن الله تعالى لا يمكن أن يكون خلق الكون عبثا وأن حياة الإنسان الذي شاء أن يكون أكمل مخلوقاته الأرضية عقلا لا يمكن أن تكون قاصرة على الزمن القصير الذي يحياه في الدنيا. وأنه لا بد من أن يكون لها تتمة أكمل وأفضل وأدوم يسود فيها أهل الإيمان والحق والعدل والخير وينخذل فيها أهل الجحود والباطل والظلم والشر. وأنه لا يتسق مع عدل الله أن يفلت الشرير مما يرتكبه من الآثام التي كثيرا ما ينجو من عواقبها في الدنيا ومن عقاب جحوده لخالقه وما أسبغه عليه من نعم. وأن يذهب عمل المؤمن الصالح وما قد يناله في سبيل الحق والخير من أذى وحرمان كثيرا ما لا ينال عليه مكافأة في الدنيا هدرا وهباء. وأن يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالجاحدين لله المفسدين في الأرض والمتقون كالفجار. وأن حكمة الله اقتضت من أجل ذلك تلك التتمة المسماة بالحياة الأخرى. يرجع فيها الناس إلى ربهم ويكافأ فيها المؤمن المحسن ، ويعاقب فيها الجاحد المسيء.

والمؤمن بالله الذي ينعم النظر في مشاهد الكون ونواميسه ويلمس فيها ما يذهب بلبّه ويملك عليه مشاعره من العظمة والإتقان والنظام واجد كل الطمأنينة والحق في هذه المقاصد والأهداف. وواجد أن الحياة الأخروية ليست مما يخرج عن نطاق قدرة الله مبدع هذا الكون ومدبره وحكمته السامية. ومن المتبادر بالإضافة إلى ما تقدم أن فكرة الحياة الأخروية وثوابها وعقابها تنطوي على الحافز

٢٩٧

على الخير والوازع عن الإثم. فالذين لا يخافون الآخرة وحسابها ولا يعتقدون بها قلّما يأبهون للحق والخير في شتى مجالاتهما. ويندفعون فيهما اندفاعا ذاتيا وجدانيا دون انتظار مقابلة أو جزاء في الدنيا ، وقلما يتورعون عن الإثم والمنكرات والفواحش إذا ما تيقنوا من النجاة من العقوبة وأمنوا منها في الدنيا. وفي هذا ما فيه من مقاصد صلاح الإنسانية وخيرها على مختلف المستويات.

وفي القرآن آيات عديدة تتضمن ذلك صراحة وضمنا ، مثل آية سورة النحل هذه : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٢٢) [٢٢] ، وآيات سورة المؤمنون هذه : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٦١) وآية سورة المؤمنون هذه : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٧٤).

وهذا يعني فيما يعنيه أن الإيمان بالآخرة يجعل صاحبه يتحمل المكاره ويصبر على الشدائد ويقوم على التضحية بماله ونفسه في سبيل الله والحق دون أن يهتم كثيرا لما قد يصيبه أو يناله من جزاء دنيوي أو حرمان أو أذى أو نكران لأنه يعتقد أنه سوف يستوفي جزاءه على أوفى ما يكون في ذلك اليوم أكثر بكثير من غير المؤمن بها وعلى أي مستوى.

ونحن نعرف أن من الذين لا يؤمنون بالآخرة من يقول أنه ليس لفكرتها التأثير الخلقي العميق ، لأنها سبب خارجي أو نظري ليس من كيان النفس وأعماق الضمير. وإن أقل صدمة لهذا السبب تجعل ما أوجده من الحافز والوازع عدما. وإن تربية الناس تربية خلقية عميقة نافذة هي التي تستطيع أن تكون الحافز والوازع الذاتيين. وينسى القائلون ـ ونقول هذا من قبيل المساجلة ـ أن الأمل في هذه التربية وشمولها خيال مستحيل التحقيق بالنسبة لجميع البشر أو جمهورهم أو لكثرة ما منهم. وإنه إذا أمكن أن تكون في أناس فإنهم من الندرة والقلة في الدرجة التي لا يكون منها أي أثر إيجابي محسوس بالنسبة للمجموع ، بل إن هناك ظروفا

٢٩٨

اجتماعية ونفسية يفقد فيها الحافز والوازع في هذه الطبقة القليلة النادرة ، وتصبح تحت حكم الغرائز والطبائع البهيمية.

هذا إلى أن الكثرة العظمى من المجتمع لا يمكن أن تستغني عن حافز ووازع مؤثرين وما اضطرار الهيئات الحاكمة في الجماعات وما اضطرار الهيئات الاجتماعية إلى وضع القوانين والحدود والتقاليد إلا مظهر من مظاهر هذه الحاجة وتثبيت لها. ولم يقل أحد إنه ليس من حاجة إلى هذه القوانين والحدود لمنع الناس من الشذوذ والبغي والآثام وحفزهم على العمل الصالح والاستقامة على طريق الحق. وإن هذا وذاك يمكن التحقق ذاتيا. وما دامت التجربة قد أثبتت أن كثيرا من الأفراد ينزعون إلى التفلّت من القوانين والتقاليد والقيود ومعاكستها بشتى الأساليب تحقيقا لمنافعهم وأهوائهم الخاصة حينما يأمنون المغبة ولا يقبلون على الخير لذاته ولا يستقيمون على طريق الحق ، إذا أمنوا اللوم والمهانة والحرج والخطر فإن الحاجة تظل ماسة إلى حافز ووازع أقوى تأثيرا وأعمق أثرا في النفوس من القوانين والتقاليد يجعلان المرء رقيبا على نفسه ولو لم يكن عليه رقيب ويحملانه على الرهبة من الإثم والشر والشذوذ والرغبة في المعروف والخير والاستقامة في حال سرّه وعلنه وفي داخل نفسه وأعماقها. والإيمان بالآخرة وثوابها وعقابها هو الذي يستطيع أن يسد هذه الحاجة.

وإذا كان كثير من المؤمنين بالآخرة ينزعون أيضا إلى الإثم والشر ولا يندفعون إلى الخير فإن غير المؤمنين أكثر نزوعا إلى التفلّت من وازع الضمير ووازع الرهبة من القوانين والتقاليد لأن أثرا ما من إيمان المؤمنين والخوف من الحساب الأخروي يظل في هؤلاء قد يوقظهم في لحظة ما ويجعلهم يندمون ويثوبون ويصلحون ... بينما لا يكون في الجاحدين أثر من شيء ما داموا مستطيعين التفلت من العقوبة المانعة والفوز بالمنفعة الذاتية.

ويمكن أن يضاف إلى هذا أمر خطير آخر وهو ما تكون عليه قلوب ونفوس الجاحدين من فراغ ويأس وحيرة وقلق وتساؤل لا جواب عليه من أمر هذه الحياة

٢٩٩

التي يحيونها بدون غاية ومدى بدءا وسيرة ونهاية. في حين أن المؤمنين بالله واليوم الآخر تكون قلوبهم مطمئنة بحكمة الله السامية في خلقهم وحياتهم وسيرتهم ومماتهم ويملأ نفوسهم الأمل بتتمة أفضل وأسعد لكل ذلك.

ولقد قلنا إننا نقول هذا من قبيل المساجلة وحسب ، وإلّا فإن فكرة الآخرة متصلة أشد الاتصال بفكرة الإيمان بالله وعظمته وعدله وقدرته وحكمته. ثم هي متصلة بما في أعماق النفس البشرية من فكرة الدين. وبما تثيره عظمة الكون وبدائعه ونواميسه في هذه النفس من يقين عميق ذاتي بوجود واجب الوجود وعظمته وحكمته وعدله واستحالة أن يكون خلق ما خلق من أكوان ومخلوقات عبثا لا يكاد يستطيع أن يتفلت منها أحد حتى الذين يظنون أحيانا أنهم استطاعوا التفلت منها وبخاصة في وقت الرخاء والسعة حيث إنهم لا يشعرون إلّا وهم تحت تأثيرها حينما تلمّ بهم النائبات وتجتاحهم الأخطار.

ولقد كانت الحياة الأخروية كما قلنا من أكثر ما دار حولها الجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار على ما حكته الآيات الكثيرة جدا. وكان ذلك من أسباب هذه الكثرة على ما هو المتبادر. ولقد احتوت ردودا متنوعة على جحود الكفار المتنوع الصور والأساليب للحياة الأخروية فيها توكيد وبراهين على قدرة الله على ذلك وحكمته السامية المتوخية للحقّ والعدل في هذه الحياة. وقد جاءت بأساليب نافذة إلى أعماق النفوس والقلوب باعثة أشد اليقين فيها بحقيقة هذه الحياة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته الآتية.

هذا ، ويلحظ أولا أن كثيرا من الآيات التي ذكرت فيها الحياة الأخروية قد جاءت بأساليب تلهم أنها بالإضافة إلى حقيقتها الإيمانية استهدفت في جملة ما استهدفته الترغيب والترهيب وحمل الناس على الإيمان بالله وحده واليوم الآخر ، والتزام ما رسمه من حدود وأحكام من الإقبال على الخير والعدل والحق والابتعاد عن الشر والظلم والباطل ، كما جاء مثلا في آيات سورة الزمر هذه : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ

٣٠٠