التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض ، ثم خرجوها بأن معنى أنزلناه في الجملة قضيناه وقدرناه (١).

كل هذا في حين أن هذه الأقوال وخاصة المعزوة إلى ابن عباس وهي الأصل فيها ليست مرفوعة إلى النبي ، وهي أخبار عن غيب متصل بعلم الله وسرّ ملكوته ووجوده لا يمكن العلم بها إلا عن طريق النبي وهو ما لم يثبت فيما اطلعنا عليه ، ونستبعد صدورها عن ابن عباس لما فيها من تخمين في أمر لا يصح أن يلقى الكلام فيه جزافا ومن غير سند نبوي ثابت أو صراحة قرآنية.

وفي الروايات الوثيقة الواردة أن الوحي نزل لأول مرة على النبي بأول آيات القرآن في ليلة من ليالي رمضان وهو معتكف في غار حراء على عادته من الاعتكاف في هذا الشهر ، وما احتوته آيات البقرة والدخان والقدر هو فيما نعتقد إشارة إلى هذا الحادث ، وقد جاءت كلمة القرآن في أوائل سورة المزمل التي هي من أوائل القرآن نزولا ثم ظلت تتكرر في السور المكية والمدنية ؛ وكانت تعني بطبيعة الحال الجزء الذي تم نزوله على قلب النبي ، وفي هذا دليل على أن تعبير (إِنَّا أَنْزَلْناهُ*) في آيتي الدخان والقدر وجملة (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) في آية البقرة [١٥٨] لا تقتضي أن تكون قصدت جميع القرآن مما يمكن أن يكون محل إشكال أريد تخريجه على الوجه الذي خرج به.

ولقد أورد السيوطي في إتقانه حديثا نبويا برواية واثلة بن الأسقع جاء فيه أن النبي قال إن التوراة نزلت لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة والزبور لثمان عشرة والقرآن لأربع وعشرين خلت منه ، وسيق هذا الحديث في معرض تلك الآيات والروايات والأقوال ، ومهما يكن من أمره فليس من شأنه على فرض صحته أن يؤيد تلك الأقوال والروايات لأنه ليس فيه صراحتها ، وليس من المستبعد أن يكون أريد به الإشارة إلى أول نزول الكتب السماوية بما فيها القرآن كما هو الواقع

__________________

(١) الأقوال التي أوردناها قد ورد جلّها في «الإتقان» للسيوطي.

٢٦١

المروي في الأحاديث الصحيحة بالنسبة إلى القرآن.

ومن الطريف أن بعض المعلقين استنبط على ما ذكره السيوطي من عدم الرد على الكفار فيما تحدوه من إنزال القرآن جملة واحدة صحة ما قيل من أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة وقال إنها لو لم تكن نزلت جملة واحدة لكان القرآن ردّ على المتحدين.

وإذا كان بعض العلماء توقف في ما إذا كانت جملة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] هي من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض فكم بالأحرى الآيات الكثيرة المماثلة ثم الفصول الكثيرة جدا الواردة في مختلف السور والتي تحكي حجاج الكفار وجدلهم في القرآن وتحديه أو تحكي مواقف الكفار من الدعوة النبوية ومن إنذارات القرآن وتبشيراته باليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه ، وهزؤهم بالنبي وتحديه بإحداث المعجزات وإنزال الملائكة إلخ ، ثم التي تحكي وقائع السيرة الجهادية والتشريعية ، ثم التي تندد بالكفار وتصور عنادهم وتحتم لهم الخلود في النار وتلك التي تذكر إسلام كثير منهم وتوبة الله عليهم وانتقالهم من صف الكفار إلى صف المسلمين ومن مصير الخلود في النار إلى الخلود في الجنة وأمثال ذلك مما كان يقع نتيجة لسير الدعوة وظروفها الطارئة ومما يغلب عليه طابع الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسسه ودعوته. ولا ندري كيف سوغ القائلون لأنفسهم بعد هذا أن يقولوا إن القرآن ـ وهم يعنون جميع ما بين الدفتين من أسس ووسائل ـ قد نزل جملة واحدة يوم بعثة النبي أو قبله.

وعلى كل حال فإن ما ساقه القائلون في حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء عند بدء النبوة أو قبلها وكذلك ما علقوا به من تعليقات هي الأخرى أقوال تخمينية ، وفيها من التكلّف والتزيد بل والتهافت ما يستطيع أن يلمسه المدقق الذي ينعم النظر ، وأن القول في أصله يظل غير مفهوم الحكمة ، وغير متسق مع طبائع الأمور وحقائق الأشياء ، ولقد غاب عنهم فيما يتراءى لنا أن القرآن بصفته وحي الله

٢٦٢

قد تحققت فيه جميع معاني التعظيم والتفخيم والتكريم ، وإنه ليس في حاجة إلى المزيد بمثل هذه المظاهر كما غاب عنهم أنهم يقررون ماهيات مادية عن السماء الأولى وبيت العزة والحفظة والسفرة والتوزيع على جبريل وتلقي جبريل عنهم ، ويصفون مشاهد إبصارية لا يصحّ إلقاء الكلام فيها جزافا ، وليس عندهم أي دليل نقلي ثابت وصحيح صادر عن النبي الذي هو وحده صاحب الحق في الإخبار عن الغيبيات.

ومهما يكن من أمر فإن هذه الأقوال تدل على أن كثيرا من الناظرين في القرآن وعلمائه ومفسريه اعتبروا أو يقع الوهم بأنهم اعتبروا القرآن ـ ومن جملته الفصول الوسائلية والتدعيمية والوقائع الجهادية والأسئلة والأجوبة ومواقف التحدي والجدل والحجاج المتقابلة ـ مستقلا في أصله عن الأحداث التي نزل بمناسباتها ، وكون هذه الأحداث ليست إلا ظروفا عابرة لنزوله حتى مع قولهم إن القرآن قد نزل منجما حسب الحوادث ـ لأن هذا يبدو غريبا إزاء القول إن القرآن نزل في بدء نبوة النبي أو قبلها جملة واحدة إلى سماء الدنيا ـ فقالوا ما قالوه وولعوا بما ولعوا به من أسرار القرآن ، واستقراء حروفه ورموزه ومغيباته ، واستغرقوا في ماهيات ما جاء فيه من مشاهد كونية وقصص تاريخية ، وحاولوا أن يستخرجوا حقائق ما كان ويكون من الوقائع والعلوم ونظرياتها ، وفي هذا ما فيه من التكلّف والتجاوز والتشويش وتعريض القرآن للمغامز والمطاعن في حين أنه لا طائل من ورائه ولا ضرورة له ولا أسناد وثيقة تدعمه.

ـ ٩ ـ

روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها :

ثانيا : ومن ذلك ما قاله بعض العلماء من نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في فصل كيفية نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في محل كيفية نزول القرآن ، وقال إن هناك أربعة أقوال : (١) إنه نزل باللفظ

٢٦٣

والمعنى وإن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. (٢) إن جبريل إنما نزل به بالمعاني خاصة وإن النبي علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب ، واستند قائلو هذا القول بظاهر قوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤]. (٣) إن القرآن ألقي إلى جبريل بالمعنى وإنه عبر عن المعاني بالألفاظ العربية وبها نزل على النبي ، وإن أهل السماء يقرأونه بالعربية. (٤) إن الوحي نزل باللفظ حينا وبالمعنى حينا فما نزل باللفظ فهو القرآن وما نزل بالمعنى فهو السنّة ، أي أن الأحاديث النبوية هي أيضا وحي رباني ولكنها نزلت بالمعنى ، وعلّل أصحاب هذا القول إنه كان يقصد التخفيف عن الأمة ، ولذلك جازت رواية الأحاديث النبوية بالمعنى.

ويلاحظ أن هذه الأقوال تخمينية ، ولم يورد قائلوها أسنادا موثقة لها في حين أن الموضوع متصل بسرّ وحي الله وسرّ النبوة كذلك ، فهو أمر غيبي إيماني لا يصح قول شيء فيه إلا بنصّ صريح من قرآن أو حديث ثابت عن النبي ، وما دام أنه لم يرد شيء من ذلك ، وإن النبي قد بلغ القرآن الموحى به إليه بألفاظه العربية التي دوّنت وحفظت عنه بالتواتر اليقيني فليس من محل للقول إن القرآن أوحي إليه بالمعنى كما أنه ليس من ورائه طائل ، وإن الحق في هذا هو ما يتسق مع الواقع وحسب وهو أن ما بلغه النبي من ألفاظ القرآن هو ما نزل الوحي به على قلبه ، وأنه لا يصح أن يعدل عن هذا إلى غيره بالظنّ والتخمين.

على أن النصوص القرآنية هي في جانب ما نقول أيضا أكثر منها في الجانب الآخر أو في جانب السكوت. فآيات يوسف [٢] والزخرف [٣] والزمر [٢٨] وفصلت [٣ و ٤٤] التي تذكر تنزيل القرآن عربيا وجعله عربيا ـ وقد نقلناها في مناسبات سابقة ـ تحتوي قرائن بل دلائل قوية على قصد تقرير كون الألفاظ العربية التي بلغها النبي هي ما نزل الوحي به على قلبه.

ومن الغريب أن القائلين بنزول القرآن بالمعنى استندوا إلى آيتي الشعراء : [١٩٣ ـ ١٩٤] اللتين نقلناهما وغفلوا عن ما بعدها (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥) ، كما

٢٦٤

هي العادة من أخذ آية دون آية ودون سياق للتدليل بهما على رأي ما ، في حين أن بعدهما أي الآية [١٩٥] يحتوي ما ينقض ذلك بصراحة ، ومن الغريب أكثر أن لا يحتج القائلون بنزول القرآن بألفاظه بهذا النصّ القرآني الصريح القاطع.

ومما يجدر التنبيه عليه في هذه المناسبة أن القول بأن الأحاديث النبوية مما كان ينزل به الوحي بالمعنى على إطلاقه لا يتسق مع الواقع والنصوص القرآنية. فقد احتوت آيات عديدة عتابا للنبي على بعض الحوادث والوقائع والمواقف والأقوال التي صدرت منه بل وعلى بعض الأفكار والخطرات التي دارت في ذهنه في العهد المكي والعهد المدني على السواء مما تشير إليه آيات سورة عبس : [١ ـ ١٠] والإسراء : [٧٣ ـ ٧٥] وهود : [١٢] والأنفال : [٦٧ ـ ٦٨] والتوبة : [٤٣ و ١١٣ ـ ١١٧] والأحزاب : [٣٧] والتحريم : [١ ـ ٢] والنساء : [١٠٥ ـ ١١٢]. فلو كان كل ما قاله النبي وفعله وفكر فيه وحيا على إطلاق القول لما كان محل لمعاتبته. ولقد أثر عن النبي حوادث وأخبار وأحاديث كثيرة ووثيقة في تقرير كونه بشرا قد يخطىء ويصيب في اجتهاداته في أمور الدنيا وسياستها وفي ما يبدو له من ظواهر الأمور التي لا يكون مطلعا على بواطنها وملابساتها ، وإنه لا يحلف على شيء فيرى ما هو خير إلا كفّر عن يمينه وأتى الذي هو خير إلخ.

ولقد استند القائلون بالوحي العام الشامل إلى آيتي سورة النجم (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) ، مع أن روح الآيات وسياقها هما في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي عن اتصال وحي الله به بصورة عامة كما هو المتبادر منها ، وهو ما تكررت في صدده الآيات واستهدفته ، وإن من التجوز تشميل مداها لكل قول صدر عن النبي لتعارض ذلك مع الوقائع والنصوص.

ونريد أن ننبه على نقطة هامة ، فنحن لا نعني بما نقرره أن لا يكون النبي في كثير مما قاله وفعله وأمر به ونهى عنه وخاصة مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله ، ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي قبل نزول قرآن به قد وقع بإلهام رباني ، وإن القرآن الذي نزل بذلك جاء مؤيدا

٢٦٥

له فيه ، كما أن جميع ما ثبت عن النبي من سنن قولية وفعلية ، وأوامر ونواه مات عنها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن (١) ، وإنما الذي نعنيه التعليق على القول بأن جميع ما صدر عنه من قول وفعل إطلاقا ، وبأن جميع السنن النبوية القولية والفعلية وحي من جنس الوحي القرآني مع فارق واحد وهو أن هذا باللفظ وذاك بالمعنى مما لم يرد ما يؤيده من حديث نبوي ثابت أو نص قرآني صريح ، ومما لا يجوز الكلام فيه بالظن والتخمين والاجتهاد. وفي القرآن مشاهد كثيرة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فينزل القرآن مؤيدا له ومثبتا فيه ومنددا بالذين وقفوا منه موقف المخالفة أو التردد أو التمرد ، فلو كان ذلك وحيا من جنس الوحي القرآني مع ذلك الفارق لكان يقتضي أن ينصّ عليه حين صدوره عن النبي ، أو حين تثبيت النبي فيه قرآنيا بعد صدوره أنه كان وحيا ربانيا وهذا لم يقع.

ولقد استهدف بعض الذين قالوا ذلك تقرير العصمة النبوية. وننبه على أن ما نقرره لا يمسّ هذه العصمة ، عدا أنه قائم على براهين محكمة قرآنية وواقعية. فالعصمة النبوية تتناول ما يبلغه النبي عن الله ، وآيتا النجم مصوبتان على هذا المعنى ، والمبلغ عن الله بصراحة هو القرآن فقط ثم تتناول امتناع النبي عن اقتراف إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن قولا وفعلا ، ولا تتناول فيما نعتقد الأقوال والأفعال والمواقف الاجتهادية والعادية التي لم تؤيد بقرآن وليس فيها نية الإثم والضرر والشر والمخالفة ، والتي قد يكون فيها الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله والذي لا ينكشف للنبي إلا بوحي. وفي القرآن مشاهد عديدة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فيصدر عنه قولا أو فعلا فينزل القرآن معاتبا حينا ومنبها أو مذكرا حينا بما هو الأولى كمشاهد أسرى بدر وتحريم النبي على نفسه زوجاته واستغفاره لأقاربه من المشركين وإذنه للمعتذرين عن الانضمام لحملة تبوك ، وزواجه بمطلقة متبنيه وحادث الأعمى وخطرات نفسه في التساهل

__________________

(١) اقرأ آيات الحشر : [٧] ، والنساء : [٨٠] ، وآل عمران : [٣١].

٢٦٦

مع المشركين مما احتوت الإشارات إليه سورة الأنفال والتحريم والتوبة والأحزاب وعبس والإسراء ، مما لا يمكن أن يحتمل القول معه أن ذلك كان إلهاما ربانيا في معنى الوحي البتة. ونحن من المؤمنين بالعصمة النبوية ولكن لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي يمتنع عليه أن يصدرمنه أي اجتهاد في خلاف الأولى المغيب عنه علمه أو أي خطأ بريء مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن ، ومما تنعدم به حكمة الثناء العظيم الذي أثناه الله في القرآن على أخلاقه ، وحكمة اختصاصه من دون الناس بالرسالة ، ولكن على المعنى الذي يتحقق في الكمال النبوي خلقا وروحا وعقلا والذي لم يصل النبي إلى درجة الاصطفاء الرباني إلا بعد أن وصل إليه ، فصار من سموّ الأخلاق وصفاء الروح وعظم القلب ورجاحة العقل إلى ما يرتفع به عن كل ما يشين ، ثم على معنى عصمته من أي خطأ في تبليغ ما أوحي إليه والتزامه له بكل دقة وأمانة وصدق واستغراق.

ومهما يكن من أمر ، ومع أن كثيرا من العلماء على رأي أن القرآن نزل بألفاظ عربية ، وأن ما بلغه النبي من ألفاظه هو ما ألقي إليه من الوحي فالذي يتبادر لنا أن لتلك الأقوال أثرا في الروايات الكثيرة عن خلافيات القراءة وخاصة الخلافيات اللفظية والنظمية من بدل كلمة بكلمة ومن تقديم وتأخير مما أوردنا أمثلة عديدة عنه في مناسبة سابقة ، أو أن الذين تداولوا ودونوا هذه الخلافيات دون تمحيص ونقد قد تأثروا بهذه الأقوال ، أو أن الذين اخترعوا ودسوا هذه الخلافيات أو بعضها بقصد التشكيك قد استغلوا وروجوا هذه الأقوال ، أو أن كل هذا قد وقع معا ، كما أنه مما يتبادر لنا أن تكون هذه الأقوال قد أثرت أو تأثرت بأحاديث الأحرف السبعة وتأويلاتها العجيبة التي ذكرنا بعضها سابقا ، وخاصة ما ورد في بعض وجوهها من أنها بقصد تقرير أن القرآن قد نزل بمعان متسق مفهومها مختلف مسموعها حيث يجوز التغاير إذا لم تبدل كلمة عذاب بكلمة رحمة.

ولعل ما عزي إلى أبي حنيفة من تجويزه الصلاة بقراءة القرآن بالترجمة الفارسية ، وتقريره أن المهم في القرآن هو المعنى متصل بهذه الأقوال. وقد ذكر الزمخشري أن أبا حنيفة استند إلى ما روي عن ابن مسعود من إجازته لقارىء بقراءة

٢٦٧

«طعام الفاجر» بدلا من (طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٤] على شرط أن تؤدي الترجمة المعاني على كمالها ، وعلق الزمخشري على هذا بقوله إن هذا الشرط بمثابة المنع لأن في كلام العرب وخصوصا القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها ، ولم يكن أبو حنيفة يحسن الفارسية فلم يكن ذلك التقرير منه عن تحقيق وتبصّر ، ثم قال إن صاحبي أبي حنيفة أنكرا جواز الصلاة بالقراءة الفارسية ، وإن عليّ بن الجعد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة هو على رأي صاحبيه في الإنكار. وننبه على أننا لسنا هنا في معرض منع ترجمة القرآن أو عدم جوازه ، بل إننا نرى هذا مفيدا جدا وواجبا لازما في سبيل نشر الدعوة الإسلامية القرآنية العظمى ، كما أن عموم الرسالة النبوية ، وعموم الخطاب القرآني لجميع الناس من الدلائل على هذا الوجوب ، على أن يقوم بها الأكفاء في فهم القرآن ولغته ولغة ترجمته ، وعلى أن يكون القصد منها النشر والدعوة والتبشير لا الصلاة بها ، حيث نعتقد بصواب رأي أبي يوسف والحسن صاحبي أبي حنيفة في إنكار الصلاة بها وعدم جوازها إلا بالألفاظ القرآنية العربية التي نزل القرآن بها ، لأن القرآن قد وصف فيه بأنه قرآن عربي ولا يمكن أن يعتبر قرآنا تصح به صلاة إلا بهذا الوصف.

ـ ١٠ ـ

الخلاف على خلق القرآن وأثره :

ثالثا : ومن ذلك ما دار عليه الخلاف الكلامي المشهور من كون القرآن مخلوقا أو غير مخلوق. ومع أن هذه المسألة فرع من أصل موضوع صفات الله ومعانيها ومداها فإنها اشتهرت أكثر من غيرها لأن الخلاف فيها أدى إلى أحداث تجاوزت الجدل الكلامي بين العلماء إلى الميدان السياسي ، وكان من آثارها فتن عمياء أريق فيها الدماء واضطهدت حرية الرأي والعقيدة ، وازدرى فيها العلماء واشترك فيها الغوغاء مع الساسة في ساحة واحدة حتى صارت رئيسية ، وحتى قال بعضهم إن علم الكلام قد سمّي بهذا الاسم بسبب الخلاف الشديد المشهور على

٢٦٨

صفة الكلام الإلهي المتصلة بمسألة خلق القرآن وعدمه.

وكان الخلاف من حيث الأساس بين المعتزلة الذين سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد وبين أهل السنة الذين التزموا ما كان عليه السلف من قول وما وردت به الأحاديث أو دلت عليه الآيات ، أو كانوا في موقف يرون أنفسهم فيه كذلك. على أن هؤلاء افترقوا في القول حيث إن ابن حنبل وأشياعه قالوا غير ما قاله أبو الحسن الأشعري وجماعته مثلا.

ومن أصول الخلاف بين المذهبين صفات الله ، فالمعتزلة قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته ، على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه غير ذاته هو تعدد الله القديم الذي يستحيل عليه التعدد ، وأهل السنة قالوا إن لصفات الله معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام ، واحترزوا بهذا لمنع تعدد الله القديم بتعدد صفاته لأنهم مثل أولئك معتقدون باستحالة التعدد في حق الله ، ثم تكشف الخلاف في هذا الباب حول صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله ، فقال الأشاعرة إن الله متكلم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها ، وإن القرآن معنى قائم بذات الله ، وقيدوا أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة ، ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به ؛ فهو شامل في آن واحد لجميع الكلام الذي يدور في الخلد ، أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث ، لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف عن حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة ، وافترق الحنابلة وهم من أهل السنة عن الأشاعرة في تقريرهم أن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن صفة كلام الله الأزلي القديم وأنها مثلها قديمة أزلية أيضا أي ليست حادثة ولا مخلوقة. أما المعتزلة ـ والشيعة الإمامية مثلهم في أكثر المذاهب الكلامية ـ فقد قالوا إن الله متكلم بذاته بدون كلام زائد عنها ، وإنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض

٢٦٩

فتقرأ وتسمع ، وإن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفات المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق ولا يصح أن يكون قديما أزليا ، ويقولون إن القرآن اسم لما نقل إلينا عن دفتي المصحف تواترا وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة ، فيجيبهم الأشاعرة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حال فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويحفظ بالنظم المخيل ، ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم ، وإن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج إلخ.

وواضح أن الجماعات المختلفة معترفون بكمال صفات الله ، وإن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات الكاملة وتخيلها وتفهمها ومداها ، وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافيات الكلامية الأخرى منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له ؛ وإنهم متفقون على أن القرآن منزل من الله على نبيه.

ولا يعنينا التبسط في هذه المسألة الخلافية وتاريخها ، ونعتقد أنها ذات صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرون الإسلامية الأولى ، وكان لتسرب الأساليب الكلامية والكتب الفلسفية الأجنبية أثر قوي فيها ، وأنها لا تتصل بآثار نبوية وراشدية موثقة ثابتة في ذاتها ، فضلا عن ما هناك من آثار نبوية وراشدية تنهى عن التورط في بحوث قد تنتهي إلى الخوض في ماهية الله والقرآن ومحتوياته وإنه يكفي للمسلم أن يظل فيها في حدود التقريرات القرآنية من أن القرآن كلام الله ومن عند الله ، ومن أن الله ليس كمثله شيء ، وإن ما عدا ذلك متصل بسرّ الوجود وواجب الوجود وسرّ الوحي والنبوة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل البشري ، وإنه لا طائل من الجدل والخلاف فيه ولا ضرورة له ، وإنما الذي يعنينا هنا هو تقرير أن هذه المسألة الخلافية قد تكون أدت بين حين وآخر وبقصد وبغير قصد إلى إغفال صلة الفصول والآيات القرآنية بأحداث السيرة النبوية

٢٧٠

وظروف البيئة النبوية ، واعتبار هذه الأحداث والظروف شأنا عابرا. وأن هذا قد أدى إلى ما قيل من أقوال وضمّن من تخمينات حول أسرار القرآن وحروفه ورموزه ومغيباته وماهيات ما جاء فيه من مشاهد الكون ونواميس الخلق وقصص التاريخ والأمثال ومطوياتها مما لا يتسق مع حقائق الأمور وأهداف القرآن الواضحة في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الخير والحق وأسباب السعادة ، ومما فيه تشويش على الأهداف وعلى الناظر في القرآن والراغب في تفهمه وتفهم السيرة النبوية والبيئة النبوية والأسس والمبادئ القرآنية ، وما كان من سير التشريع القرآني وتطوره.

ـ ١١ ـ

النهي عن التفسير بالرأي وأثره :

رابعا : ومن ذلك ما ورد في النهي عن تفسير القرآن بالرأي. وما قيل من وجوب الوقوف في تفسيره عند حدود الروايات المروية عن النبي والصحابة والتابعين أو علمائهم.

فقد قال بعض العلماء إنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي في ذلك ، وقال بعضهم إن التفسير قسمان قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد ، والأول إما أن يكون عن النبي أو الصحابة أو رؤوس التابعين ، وإما لم يرد فيه نقل فهو قليل ، وقال بعضهم إن ما ورد فيه حديث نبوي لا يعدل عنه فيه إلى غيره ، وما لم يرد فيه حديث نبوي وورد فيه قول صحابي فلا يعدل فيه إلى غيره ، وما لم يرد فيه قول صحابي وورد فيه قول عالم تابعي أو قول تابعي ـ على اختلاف في التخصيص والإطلاق ـ فلا يعدل فيه إلى غيره ، وإنه إذا كان هناك أقوال عديدة من مصدر من هذه المصادر الثلاثة فيجتهد في التوفيق والجمع بينها. وقد روي عن الشافعي أنه قال إنه لا يحلّ تفسير المتشابه إلا بسنّة أو خبر أو إجماع (١) ، ولم يحدد المتشابه في هذا

__________________

(١) الأقوال ملخصة عن «الإتقان» للسيوطي.

٢٧١

القول مع أن مداه واسع جدا وموضوع خلاف كبير.

ولما كان قد ورد روايات منسوبة إلى المصادر الثلاثة المذكورة كثيرة جدا وصف ما ورد عن ابن عباس منها بوصف لا يحصى ، وقيل إن ما روي منها منسوبا إلى النبي والصحابة نحو خمسة عشر ألفا ، وتكاد تشمل كل آية في القرآن ، بل وإن كثيرا ما ورد في آية واحدة أكثر من رواية وحديث ، وقد روي تفسير كامل عن ابن عباس وحده ، ونسب إلى تابعين وتابعي تابعين تفاسير عديدة كاملة أو ناقصة فإن من شأن الأقوال الواردة في إيجاب الوقوف في التفسير عند الروايات والأقوال المنسوبة إلى المصادر الثلاثة المشار إليها أن يؤدي إلى أن هذا الموقف يجب أن يشمل جميع آيات القرآن.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد روي حديثان نبويان أخرج أحدهما أبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وأخرج ثانيهما أبو داود جاء فيه «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وفسّر بعضهم تعبيري «برأيه» و «بغير علم» في الحديثين بغير سند من حديث أو رواية أو خبر ..

وقد التزم إمام المفسرين بعد عصر تابعي التابعين أي الطبري هذا المبدأ فألّف تفسيره الكبير في نطاقه ، ويكاد يكون قاصرا على الروايات المروية عن المصادر الثلاثة المذكورة. وفعل قبله مثله البخاري في الكتاب الذي عقده في صحيحه على التفسير وبوّبه على ترتيب السور في المصحف مع التزامه شروطه في رواية الأحاديث والأقوال المنسوبة إلى هذه المصادر.

ومع أن من العلماء المتقدمين من خرّج الحديثين النبويين تخريجا من شأنه التوسيع فقال إنهما في صدد النهي عن التفسير بالهوى ، وعن القول بقول يعلم قائله أن الحق غيره ، وعن الكلام في القرآن بغير علم يساعد صاحبه على الاستنباط وحسن الإدراك من معرفة باللغة والفقه والناسخ والمنسوخ إلخ ، وإن منهم من أورد بعض الأحاديث التي تسوغ النظر في القرآن والاجتهاد في الاستنباط منه مثل

٢٧٢

الحديث الذي أخرجه أبو نعيم وجاء فيه «القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» ، وإن منهم من قال إن المسلمين مأمورون بنص القرآن بالنظر فيه وتدبره وتفهم أحكامه وهذا هو متناول التفسير والتأويل ، وإن نصوص القرآن تحتم صرف الأحاديث النبوية في حالة صحتها إلى مثل ما صرفت إليه ، وأنه ما من آية إلا ويحب الله أن يعلم الناس فيما أنزلت وما أريد منها ، ومع أن هذا التوجيه متسق مع طبائع الأشياء ، بحيث يكون النهي في الأحاديث إذا صحت قد استهدف النعي على الذين يحاولون صرف نصوص القرآن ودلالاته إلى تأييد بدعة في القول أو رأي فيه انحراف عن جادة الحق وتلقينات القرآن الواضحة ومفهوماته المتواترة ، وعلى الذين يلقون الكلام في القرآن على عواهنه ويحملون عباراته غير ما تتحمله ويخوضون في الماهيات الغيبية التي وردت الإشارات إليها بغير سند ، ولم يستهدف خطر التدبر في آيات القرآن وأهدافه وتفهم معانيه بالعقل والتفكير والدراية والاستنباط والمقايسة ، وخاصة في سبيل تجلية الأهداف السّامية والمثل العليا والأحكام الشرعية التي تنطوي فيه ، لأن هذا هو الذي أوجبه القرآن على سامعيه وأنزل على النبي من أجله وجرى السلف الصالح عليه ، وهو الذي تدل عليه الروايات الكثيرة جدا المعزوة إلى علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم والوارد كثير منها في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا إذ أن كثيرا من هذه الروايات إن لم يكن أكثرها تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية ، ويدل عليه كذلك سير المفسرين الذين جاؤوا بعد هذه الطبقة على هذا النمط متجاوزين أحيانا كثيرة حدود الروايات المعزوة إلى المصادر الثلاثة ، ومدونين هم الآخرون تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية ؛ نقول إنه مع ذلك كله فإن الروايات ظلت عماد التفسير الأقوى وركنه الأعظم.

ومما لا ريب فيه أن الفكرة من حيث أصلها وجيهة كل الوجاهة ، لأن الصحابة والتابعين وخاصة علماءهم هم أعلم بمفهومات القرآن ودلالاته ومناسبات نزوله ومدى مقاصده على اعتبار أنهم أشد الطبقات اتصالا بظروف نزوله وجو نزوله ، ومما لا ريب فيه أن القول أقوى صحة ووجاهة وصوابا وأولوية بالنسبة

٢٧٣

للأحاديث النبوية ، كما أن للنهي والتشديد ما يبرر هما لأن خطورة شأن القرآن من جميع الاعتبارات توجب حتما الاحتياط والتروي والتدبر وعدم إلقاء الكلام فيه جزافا ، وتجعل الانحراف عن هذه الخطة والخطأ الناشئ عن غير علم وروية إثما كبيرا ، لما يترتب عليه من آثار تمسّ بأمور الإيمان والعقيدة ومصالح الإنسانية عامة والمسلمين خاصة.

ومما لا ريب فيه أيضا أن هناك أحاديث نبوية وصحابية قوية الأسناد وردت في كتب الصحاح ومتسقة مع روح الآيات القرآنية ومضامينها كما أن هناك أقوالا منسوبة إلى الصحابة والتابعين وخاصة علمائهم وردت في كتب الحديث المعتبرة سائغة ومعقولة المتون كذلك في شرح العبارات القرآنية وتفسيرها وإيضاح مداها ، فيجب الأخذ بتلك الأحاديث وهذه الأقوال والوقوف عندها وإدارة الكلام في نطاقها تبيانا وشرحا وتجلية وتطبيقا.

غير أنه مما لا ريب فيه أن الروايات والأقوال لا يصح أن تؤخذ قضايا مسلمة في هذا الصدد كما في غيره إلا بعد التمحيص متنا وسندا وتطبيقا ومقايسة على العبارات والدلالات القرآنية ، وإنه قد تسوهل في هذا الباب تساهلا عظيما ، وإن كثيرا مما ورد إن لم نقل أكثره مما يحمل على التوقف فيه من حيث أسناده ومتونه ، لغلبة احتمال الخطأ والتحريف والتلفيق والدسّ والانتحال والغرض السياسي والطائفي والنحلي فيه وخاصة ما لا يتسق في مداه ومعناه مع روح الآيات والوقائع التي يلهمها القرآن ، وإنه يصدق فيه قول ابن حنبل الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة «ثلاثة لا أصل لها التفسير والمغازي والملاحم» بل ولعلّه إنما قيل بسبب هذه العلات.

ومع أن العلماء والمفسرين قالوا بوجوب التمحيص والنقد ، وتوقفوا في روايات وأقوال كثيرة وناقشوها وجرحوها ، وفي طليعتهم إمام مفسري المأثور الطبري فإن النهي في أصله والقول بالأخذ بالروايات أولا ، وكثرة الروايات كثرة عجيبة ثانيا جعل هذه الروايات تستفيض في مختلف كتب التفسير على علاتها ،

٢٧٤

وتكون عمادا قويا بل العماد الأقوى فيها ، ولم يحظ إلا القليل منها بالنقد والتمحيص والجرح ، بل وإن هذا المنقود المجروح لم يبعد من كتب التفسير ، ومنها ما لم يشر إلى جرحه ، وكان هذا من أسباب وعلل ما وقع في هذه الكتب من تشويش واضطراب وإغراب ومفارقة ، وما أدى إليه من تشويش على الناظر في القرآن والراغب في تفهمه ، ومن اتخاذه من قبل المغرضين وسيلة إلى الغمز والطعن وسوء التفسير والاستنباط ، سواء أكان ذلك في أحداث السيرة النبوية المختلفة أم في ظروف البيئة النبوية ، أم في ما احتواه القرآن من قصص ومشاهد كونية وأخروية وأخبار إيمانية غيبية ، أم في انسجام الفصول والمجموعات القرآنية وتوجيهاتها وتلقيناتها ومداها الخاص والعام والزمني المستمر.

٢٧٥

خاتمة

ذلك اليقين بالخطة المثلى لفهم القرآن وخدمته التي شرحناها في الفصل الثالث ، وهذه الثغرات العديدة التي نبهنا عليها في الفصل الرابع جعلنا نعتقد أن الحاجة ما تزال ماسة إلى تفسير واف بالغرض غير مطول مملّ ولا موجز مخلّ ، تجتمع فيه الملاحظات ، وتتحاشى فيه الثغرات ، ويسار فيه وفق هذا المنهج المتسق مع الخطة التي شرحناها والثغرات التي نبهنا عليها :

(١) تجزئة المجموعات والفصول القرآنية إلى جمل تامة يصح الوقوف عندها من حيث النظم والمعنى والسياق ، وقد تكون هذه الجمل آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة.

(٢) شرح الكلمات والتعابير الغريبة والجديدة وغير الدارجة كثيرا بإيجاز ودون تعمق لغوي ونحوي وبلاغي إذا لم يكن هناك ضرورة ماسة.

(٣) شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا حسب المقتضى والمتبادر بأداء بياني واضح وبسيط ، والاكتفاء من ذلك بعرض الهدف والمدلول إذا كانت العبارة واضحة للمتوسطين نظما ولغة.

(٤) إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة الآيات أو في صددها وما قيل في مدلولها وأحكامها وقصصها إذا كان الموضوع يقتضي ذلك ، وإيراد ما يقضي إيراده من الروايات والأقوال ، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز.

(٥) تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام أو مبادئ أو تلقينات أو توجيهات تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية.

٢٧٦

(٦) تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية ، وقد اهتممت لذلك حتى جاء الكلام أحيانا بحثا ودرسا وتقريرا موضوعيا مع أنه ليس من الأسس ، لأني رأيت أن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة النبوية وسيرها وصورها وتطورها ، وعلى تجلية جوّ نزول القرآن الذي ينجلي به كثير من المقاصد القرآنية سواء أكانت أسسا أم وسائل ، فضلا عن أنه يساعد على تصحيح كثير مما جاء مضطربا أو ناقصا أو محرّفا في الروايات من سور البيئة ومشاهد السيرة النبوية وأحداثها.

(٧) التنبيه على الجمل الوسائلية والتدعيمية ، وعلى ما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والتثبيت والتبصير والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتشبيه والتنديد والتنويه والتذكير إلخ ، مع إبقاء ذلك ضمن المقصد الذي جاءت من أجله ، وعدم الاستغراق والتطويل فيه ، والتنبيه بإيجاز على ما ورد في صدده مما يخرج به عن هذا النطاق إذا اقتضى الأمر.

(٨) وصل الجمل القرآنية بعضها ببعض سياقا أو موضوعا كلما كان ذلك مفهوم الدلالة ، والتنبيه على هذا لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي أو السياقي أو الهدفي أو الوسيلي. وقد اهتممت لهذه النقطة اهتماما خاصا لأنها مما يساعد كثيرا على فهم دلالات القرآن وظروف نزوله ومدى متناوله.

(٩) الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية قبل كل شيء في صدد التفسير والشرح والسياق والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد ما دام ذلك ممكنا وضروريا. ثم بعد هذا بالروايات إذا ما كانت متسقة مع المفهوم والسياق ، ثم بأقوال المفسرين إذا كانت كذلك وما دام ذلك ممكنا وضروريا أيضا.

(١٠) العطف على ما جاء في السور السابقة حين تفسير الجمل القرآنية ومقاصدها إذا ما كان ذلك ممكنا وضروريا وكافيا لتفادي التكرار والتطويل.

وإنا لنرجو الله أن يوفقنا إلى إخراج تفسيرنا الحديث الذي نهجنا فيه هذا المنهج فنتمّ به السلسلة القرآنية التي بدأناها بكتاب «عصر النبي عليه‌السلام وبيئته

٢٧٧

قبل البعثة» مقتبسا من القرآن ثم بكتاب «سيرة الرسول عليه‌السلام» مقتبسا كذلك منه ثم بكتاب «نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة» ، ولا سيما إننا نشعر برغبة ملحة عند كثير من شباب المسلمين في فهم القرآن ومدلولاته وظروفه بتفسير حديث يتسق مع روح العصر ، وبأسلوب قريب التناول ، غير ضارب بالتفريع والاستطرادات والتزيد في العلوم الآلية ، ثم لا سيما إن الرغبة أخذت تزداد عند المسلمين عامة في تخطي القرون الطويلة التي ساد فيها الجهل والغفلة ووقف المسلمون فيها جامدين في نطاق التقليد والترديد والتعقيد ، وفي تفهّم أهداف الدعوة الإسلامية وظروفها وتوصياتها في «القرآن المجيد» معجزتها الخالدة.

٢٧٨

٢٧٩
٢٨٠