التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

تأخيرا. ومنها سقوط بعض نبذ من سياق حتى بدا الكلام مختلا ولقد تنبهنا ونحن نهيء الأجزاء ونقدمها إلى المطبعة واحدا بعد آخر إلى نقاط عديدة تحتاج إلى تمحيص أو توضيح أو تعديل أو تصحيح أو توسيع فبذلنا جهدنا لتلافي كل ذلك في هذه الطبعة.

خامسا : لقد أوردنا في الطبعة السابقة أحاديث كثيرة في سياق السور المدنية مما فيه توضيح وتعديل وإكمال لما احتوته هذه السور من تشريعات متنوعة ولم نورد منها في سياق السور المكية إلا قليلا لأن هذه السور ليس فيها تشريعات تنفيذية نظرا لطبيعة العهد المكي ولأن معظم الأحاديث النبوية مدنية الصدور إن صح التعبير. وقد اقترح بعض الأفاضل أن نورد في سياق هذه السور ما روي فيها أو ما يتساوق معها من أحاديث ليكون أمام القارئ وبخاصة الناشئ صورة تامة من مصدري الرسالة الإسلامية الرئيسية وهما كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنّته ، فاستجبنا للاقتراح.

سادسا : هناك بعض مواضيع دار عليها في كتب التفسير كلام كثير ، وتتحمل هي وما أورد في سياقها من أحاديث وروايات وتأويلات تمحيصا وشرحا لم نكن نرى ضرورة لهما. ثم بدا لنا من أسئلة وردت علينا في شأنها أن نورد ونمحص ما فاتنا إيراده وتمحيصه وأن نتوسع في الشرح في هذه الطبعة إلى الحد الذي يزول به الإشكال وتطمئن به النفس.

وإننا لنسأل الله عزوجل أن نكون ما فعلنا وقصدنا به خدمة كتابه المجيد الصواب والفائدة وأن يغفر لنا ما يمكن أن يكون وقع في سياق ذلك منا من خطأ ونسيان. والكمال والعصمة له وحده ولا حول ولا قوة إلا به.

وكان إتمام تنقيح الأجزاء وكتابة هذه الكلمة يوم الخميس الموافق للخامس عشر من شهر محرم الحرام ١٣٨٦ والسادس من أيار ١٩٦٦.

والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

المؤلف

٢١
٢٢

القرآن المجيد

تنزيله وأسلوبه وأثره وجمعه وتدوينه وترتيبه

وقراءاته ورسمه ومحكمه ومتشابهه وقصصه

وغيبياته وتعليقات على مناهج مفسريه

والطريقة المثلى لفهمه

تأليف

محمد عزة دروزة

٢٣
٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كتبت هذا الكتاب في مدنية بورسه أثناء هجرتي في الحرب إلى تركيا وبعد أن أتم الله عليّ نعمته فانتهيت من كتابة تفسير القرآن بكامله فيها. وقد وجدت في مكتبات المدينة العديدة ما استعنت به من مراجع قيمة في التفسير والحديث والكلام والقراءات وعلوم القرآن. وقد جاء الكتاب ككتاب مستقل لما احتواه من بحوث عديدة كما جاء كمقدمة للتفسير لما احتواه من شرح المنهج الذي سرت عليه فيه وبيان الطريقة المثلى لفهم القرآن وخدمته وتفسيره.

ولقد عدت فقرأت كتبا عديدة أخرى لاستيفاء الكلام في مواضيع الكتاب وتوثيقه ، وأدخلت تنقيحات كثيرة على مسودة بورسه فجاء الكتاب على أسلوب ونهج جديدين بحثت في نطاقهما مختلف مسائل القرآن ووصلت بذلك إلى نتائج وحلول هامة وجديدة أرجو أن يكون الله قد هداني فيها إلى الحق والصواب ، وأن أكون بذلك قد خدمت كتاب الله المجيد فيما أخذت على نفسي من خدمة له منذ أربع عشرة سنة استغرقت أكثر أوقاتي. كما أرجوه أن يتمّ نعمته وتوفيقه بتنقيح وطبع أجزاء التفسير وهو ولي التوفيق ومنه نطلب العون والسداد.

المؤلف

٢٥
٢٦

الفصل الأول

القرآن وأسلوبه ووحيه وأثره

ـ ١ ـ

القرآن والمسلمون :

ليس غريبا أن يكون القرآن شغل الناس في كل زمان ومكان طيلة القرون الثلاثة عشر السالفة وطيلة ما شاء أن يكون من أمد هذه الدنيا وأن يتنافس في الكتابة فيه الكتّاب والعلماء والمصلحون والباحثون من مسلمين وغيرهم ، وأن يصدر فيه كل يوم كتاب.

فهو الكتاب المقدس للمسلمين المنتشرين في كل صقع من أصقاع الأرض والذين تتمثل فيهم شتى أممها ، فيه أصول دينهم وشرائع حياتهم ونبع إلهامهم ونبراس أخلاقهم ونور هدايتهم في مختلف شؤونهم الدينية والدنيوية ، الروحية والمادية ، العامة والخاصة ، السياسية والقضائية والاجتماعية والشخصية والإنسانية ، وفيه أقوى الحوافز إلى أسمى الآفاق وأبعد الأشواط الموصلة إلى أعلى ما يمكن أن يكون من رفعة الذكر وعلوّ القدر وقوة التمكين والنصر ، وجعل متبعيه خير أمة أخرجت للناس إذا هم قاموا بأعباء ما حمّلهم إياه من تبعات ، وأدوا ما اؤتمنوا عليه فيه للإنسانية من أمانات : من دعوة إلى الخير والحق والهدى ، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ومن تواص بالصبر والحق والمرحمة ، ومن تناصر ضد البغي والإثم والعدوان ، ومن اتصاف بكل صفات الخير والعدل والبرّ والرحمة والإحسان والكرامة والعزة والصدق والوفاء وكل خلق كريم ، ومن تحظير

٢٧

للفواحش والآثام والمنكرات ما ظهر منها وما بطن ، وما صغر منها وما عظم.

وصفه الله فيه بأنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بعظيم الأجر وأن فيه لهم الشفاء والرحمة والهدى ، ووصفه نبيهم بهذا الوصف الشامل الرائع المأثور عن طريق علي بن أبي طالب والمثبت في كثير من كتب الأئمة والثقات : «فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره تأصله الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم». فهم من أجل هذا مكلفون بالاشتغال به دينيا فهما وتدبرا وتفسيرا واستنباطا واستلهاما واستيحاء.

ـ ٢ ـ

القرآن وشخصية النبي :

وشخصية السيد الرسول عليه‌السلام الذي أنزل عليه القرآن هي الشخصية الوحيدة التي ليست محل شكّ وريب من الوجهة التاريخية وعند مختلف الملل والنحل والأقوام من بين شخصيات الأنبياء ، وفي صدد حادث «نبوة النبي» المتصل بسرّ وحي الله وسرّ الوجود وواجب الوجود والذي تواترت الأخبار عن تكرره في مختلف عصور التاريخ السالفة.

والقرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ليس محل شك وريب من بين الكتب السماوية المتداولة في كونه متصلا بالنبي ، وفي صدوره عنه بحروفه وألفاظه وسوره بوحي من الله ، وقد تكرر فيه تقرير بشرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونه في طبيعته البشرية كسائر البشر وكون قصارى مهمته دعوة الناس إلى الله وحده ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، والحثّ على مكارم الأخلاق ، والتحذير من الشر والأذى والفواحش ، وتبشير المستجيبين بالخير والنجاة وإنذار المعرضين

٢٨

بالويل والخسران كما ترى في الآيات التالية التي هي فيض من غيض في هذا الباب :

١ ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) الأنعام : [١٩].

٢ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الأنعام : [٤٨ ـ ٤٩].

٣ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) الأنعام : [٥٠].

٤ ـ (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إبراهيم : [١].

٥ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) الكهف : [١١٠].

وقد تكرر فيه تقرير كونه أعظم مظهر لنبوة النبي وأقوى آياتها ودلائلها كما ترى في نصّ الآيات التالية :

١ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) الأنعام : [١٥٥ ـ ١٥٧].

٢٩

٢ ـ (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف : [٥٢].

٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الحجر : [٨٧].

٤ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) العنكبوت : [٥٠ ـ ٥١].

وقد تكرر فيه توكيد اتصاله بوحي الله وصدوره عنه وعجز الناس عن الإتيان بمثله معلنا ذلك على ملأ من خصومه الألداء وجاحديه الأشداء كما ترى في الأمثلة التالية بالإضافة إلى الآيات السابقة :

١ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) البقرة : [٢٣ ـ ٢٤].

٢ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء : [٨٢].

٣ ـ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) النساء : [١٦٦].

٤ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الإسراء : [٨٨].

٥ ـ (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : [١٩٢ ـ ١٩٥].

وبالإضافة إلى هذا فقد احتوى آيات كثيرة فيها إعلان بإشهاد الله على صحة

٣٠

هذه التوكيدات والتقريرات ؛ وتعظيم لجرم الافتراء على الله كما ترى في الآيات التالية :

١ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) الأنعام : [٩٢ ـ ٩٣].

٢ ـ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥) النحل : [١٠١ ـ ١٠٥].

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الشورى : [٢٤].

٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الأحقاف : [٨].

٥ ـ (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) الحاقة : [٤٣ ـ ٤٨].

ففي أسلوب هذه الآيات وأمثالها الكثيرة ما يبعث في نفس كل منصف حسن

٣١

النية مهما كانت نحلته وملته أقوى معاني اليقين بصدقها ، ويزيل منها أي معنى من معاني الشك والارتياب في عمق إيمان الرسول عليه‌السلام بصحتها ، وفي استغراقه فيها استغراقا تاما لا يمكن أن ينبعث إلا من أقوى الإيمان واليقين والصدق الصميم.

ـ ٣ ـ

الدعوة القرآنية :

واحتوى دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده ، وعدم الخضوع لأي قوة من قوى الكون غيره وتنزيهه عن كل نقص وشائبة ، وإلى جماع مكارم الأخلاق والفضائل ، وأسباب سعادة الدارين والتصديق بنبوة أنبياء الله والكتب المنزلة عليهم وتقرير اتحاد المتبع والوجهة بين ما دعا إليه ودعوا إليه من غير تفريق بينهم ، وتقرير كون هذه الدعوة التي احتواها هي الدين الحق الذي ارتضاه الله للناس جميعا منذ بعث الله رسوله محمدا عليه‌السلام بالهدى ودين الحق الذي فيه إظهاره على الدين كله ، يقيم البشر في ظله دعائم مجتمعهم ، ويسيرون في مختلف شؤونهم وفق تعاليمه ومبادئه وتلقيناته القائمة على أسس الحق والعدل والمساواة والإحسان والتعاون ، ورفع الإصر والأغلال ، وحل الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والمنكرات ، وتوطيد السلم العام بين الناس كافة إخوانا متحابين ، لا يظلم بعضهم بعضا ، ولا يبغي بعضهم على بعض ، ولا تنبذ فيه طائفة ، ولا تحرم فيه فئة ولا تتعالى فيه طبقة على طبقة ، مع إيجاب التناصر على الباغي حتى يفيء إلى حكم الله والحق ، ومع الدعوة إلى التمرد على كل ضارّ والإقبال على كل صالح بقطع النظر عن قدمه وجدته ، ومع تقرير كون الله إنما يريد للناس اليسر ولا يريد بهم العسر ولم يجعل عليهم في الدين حرجا ، وبأسلوب قضي له بالخلود من حيث البرهنة على صدق الدعوة وأهدافها بتوجيه الخطاب للعقول والقلوب ، وإدارته حسب أفهام الناس ومداركهم في هذا النطاق ودون أن تجعل المعجزة الخارقة دعامة أساسية في ذلك لأن مثل هذه الدعوة في غنى عن المعجزة

٣٢

لإثبات حقها وصدقها ، ثم من حيث سعة الأفق والشمول والمميزات التي لم تسبق ولم يلحق بها في شتى مناحي التشريع والتلقين ، والتوجيه إلى أفضل المثل وأقوم الطرق مع الاتساق التام وحقائق الأمور وطبائع الأشياء والتمشي مع كل ظرف ومكان والاستجابة إلى كل شأن من شؤون الناس وحاجاتهم الروحية والمادية والعامة والخاصة ، وحسب اختلافهم وتفاوتهم في العقل والسعة والثقافة والأفق.

واحتوى كذلك حلولا للمشاكل المعقدة التي كانت تجعل الناس شيعا وأحزابا ، وفرقا وأضدادا ، وإهابة بالغلاة والمفرطين للارعواء عن غلوهم وإفراطهم ، وإرشادا للحائرين والمترددين للانتهاء من حيرتهم وترددهم بأسلوب وجّه فيه الخطاب إلى العقول والقلوب معا فيه كل القوة وكل النفوذ وكل الإقناع لمن لم تخبث طويته ، ويجعل إلهه هواه ، ويتعمد العناد والمكابرة والاستكبار عن قصد وتصميم ، ثم احتوى تنظيما للمناسبات بين مختلف فئات الناس وخاصة بين المستجيبين للدعوة ـ المسلمين ـ وغيرهم على أساس المسالمة والحرية والحق والعدل والتزام حدود ذلك بالتقابل ، وكفّ الأذى وعدم الصد والتعطيل والدّس ، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلا الظالمين الذين يصدون عن سبل الله ويبغونها عوجا ، ومقابلة العدوان بمثله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (١).

__________________

(١). ١ ـ اقرأ مثلا الآيات التالية في صدد تقرير كون الدعوة في غنى عن الخوارق : الأنعام [٤ ـ ٢٠ و ١٠٩ ـ ١١٧] ، ويونس [١٥ ـ ٣٦] ، والرعد [٧ ـ ٣٢] ، والإسراء [٨٩ ـ ١٠٠] ، والأنبياء [٢ ـ ١٠] ، والفرقان [١ ـ ١٠] ، والعنكبوت [٤٥ ـ ٥٢].

٢ ـ اقرأ مثلا الآيات التالية في صدد أهداف الدعوة ومبادئها ووحدتها من دعوة النبيّين وحل المشاكل وتنظيم المناسبات : البقرة [٨٣ ـ ٩٠ و ١٠١ و ١٣٦ ـ ١٣٩ و ١٧٧ و ٢١٣ و ٢٦١ ـ ٢٨٦] ، وآل عمران [٣٤ ـ ٦٤ و ١٠٤ و ١١٠ و ١٨٩ ـ ١٩٩ و ١٥٠ ـ ١٦٦ ، والنساء [١ ـ ٣٨ و ٩٠ ـ ١٣٥ و ١٦٣ ـ ١٧٩] ، والمائدة [١ ـ ٥ و ٤٤ ـ ٥٠ و ٥٩ ـ ٨٦] ، والأنعام [١٤٧ ـ ١٥٣] ، والأعراف [٢٩ ـ ١٣٣ و ١٥٦ ـ ١٥٨] ، والنحل [٩٠ ـ ٩٧ و ١٢٥ ـ ١٢٨] ، والإسراء [٢٢ ـ ٣٩] ، ومريم [١٦ ـ ٣٧] ، والمؤمنون [١ ـ ١٠] ، والفرقان [٦٣ ـ ٧٦] ، والعنكبوت [٤٥ ـ ٤٩] ، والشورى [١٣ ـ ١٥ و ٣٦ ـ ٤٣] ،

٣٣

ـ ٤ ـ

أسلوب القرآن :

وقد جاء في نظمه وسوره وآياته وقصصه وعظاته وتلقيناته وأمثاله وخطابه وحججه وجداله أسلوبا رائعا متميزا في ذلك كله بخصوصيات جعلته فذا بالنسبة لأسلوب الكتب السماوية السابقة ، وبالنسبة لما هو مألوف من أساليب النظم والسبك والخطاب ، ذا طابع خاص خالد مما لا يصح أن يقاس عليه أنواع الكلام وأساليب الكتب والتأليف ومما يصح أن يعد أسلوبا خاصا فيقال إن اللغة العربية نظم ونثر وقرآن كما قاله كبير من أدباء العربية الحديثين بقطع النظر عن الباعث عنده على هذا القول ، ومما يصح أن يكون معينا لا ينضب في فنون النظم والسبك وسمو الطبقة.

ـ ٥ ـ

القرآن والبيئة والسيرة النبوية :

وعلى اعتباره أصدق مدونة دونت في عهد النبي ، بل وأوحد مدونة من عهد النبي احتفظت بصورتها الأصلية دون تحوير وتعديل فقد جاء بما احتواه من معان وأساليب واصطلاحات ومفردات وتشبيهات واستعارات وفنون خطاب ولغة دليلا قويا رائعا على ما وصل إليه العرب الذين نزل بلسانهم في عهد نزوله من الدرجة الرفيعة في سلّم الفصاحة خاصة وما كانوا عليه من حضارة مادية وعقلية وثقافية بصورة عامة خلافا لما حلا لبعضهم أن يرويه ويقوله على ما ذكرناه في كتابنا «عصر النبي» (١) وعلى ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة من التفسير.

واحتوى بالإضافة إلى ذلك أولا أصدق الصور وأوثقها لبيئة النبي وعصره من النواحي الاقتصادية والمعاشية والجغرافية ، وعمّا كان عليه أهلها من تقاليد وظروف وعادات دينية واجتماعية وأخلاقية وعقلية وثقافية واقتصادية اتصلت

__________________

والممتحنة [١ ـ ١٢] ، والحشر [٧ ـ ١٠] ، والحجرات [١ ـ ١٨] ، فإن الكتاب يضيق عن استيعابها لكثرتها. (١) صدر عام ١٣٦٦ ه‍ / ١٩٤٧ م.

٣٤

بظروف البعثة والسيرة النبوية وتطوراتهما أوثق اتصال ، وثانيا أصدق الصور وأوثقها للسيرة النبوية الشريفة في عهديهما المكي والمدني ، وسواء في ذلك ما كان روحاني المظهر من حيث الصلة بالله ووحيه وتلقينه وتوجيهه ومدده وتأييده وتعليمه وتأديبه وتثبيته ، أو ما كان متصلا بالناس من حيث مواقفهم من النبي عليه‌السلام ودعوته مسلمين وكتابين ومشركين ، ومن حيث تأثرهم بهذه السيرة وهم شهود العيان لحادث «نبوة النبي» في شخص محمد عليه‌السلام ، ثم من حيث موقف النبي من الناس ومن حيث تطور موقفهم منه وموقفه منهم بتطور الدعوة واتساع نطاقها.

فالقرآن من أجل ذلك كله كان وسيظل موضوع نظر وتدبر واستلهام واستنباط لدى الناس على مختلف الملل والنحل والأجناس بطبيعة الحال.

ونريد أن نستدرك بأننا لا نعني أن القرآن قد احتوى جميع صور السيرة النبوية والبيئة النبوية وأحداثها ، أو أن ما احتواه منها قد جاء قصدا لها بالذات. فهناك من دون ريب أحداث وصور كثيرة من البيئة والسيرة النبوية لم ترد في القرآن ، كما أن ما جاء منها فيه إنما جاء في الحقيقة عرضا وبسبيل الدعوة والموعظة والتذكير والتشريع والأمر والنهي مما اقتضته الحكمة ليكون مصدر إلهام وإيحاء وتوجيه ، ومرجع تشريع وتلقين للمسلمين في جميع العصور ، ولكن الذي نعنيه أن في القرآن من هذه الصور شيئا كثيرا منه ما جاء بصراحة ووضوح ومنه ما جاء إشارة وتلميحا.

ـ ٦ ـ

الوحي الرباني والوحي القرآني :

وصلة النبي عليه‌السلام بالوحي الرباني التي كان القرآن مظهرها الرئيسي وإن كانت وظلت في حقيقة كنهها سرا على غيره ، لأنها متصلة بسرّ النبوة فإن القرآن احتوى آيات عديدة قد تساعد بعض الشيء على فهم مظاهرها ومداها بقدر ما تسمح به اللغة البشرية وتتسع له أفهام البشر الذين يتخاطبون بها.

٣٥

منها ما جاء في سورة التكوير :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)).

حيث ترد الآيات كما هو واضح على نسبة الجنون وصلة الشيطان بالنبي التي نسبها الكفار إليه حينما أخذ يخبر بحادث رؤياه ملك الله وخطابه له ، وسماعه منه أولى آيات القرآن. ولعل هذه الآيات أقدم آيات واردة في الموضوع بهذه الصراحة والصميمية النافذة.

ومنها ما جاء في سورة النجم :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)).

وهي كسابقتها مضمونا وتوكيدا بصدق تقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلته بالله أو ملك الله ، ونزول وحي الله عليه. والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أن رؤية النبي لملك الله كانت بعين بصيرته وفؤاده ، وتتضمنان حجة قوية على انسداد مجال المماراة في هذه الرؤية الخاصة التي ليست قدرا مشتركا بين الناس. ولعل ما يصح التمثيل به ـ ولله ووحيه ونبيه المثل الأعلى ـ على سبيل التقريب لمفهوم الآيات ما يخطر ببال الإنسان من خواطر أو ما يراه الرائي في المنام ، فهذه وتلك إحساسات أو رؤى خاصة ليست قدرا مشتركا بين الرائي أو الهاجس وغيره حتى تصح فيها المماراة والتكذيب كما تصح في تقرير رواية مشهد من مشاهد الكون كالشمس والقمر والشجر وغيرها. فإذا قال أحد إنه يرى القمر ولم يكن بازغا أو يرى شجرا ولم يكن هناك شجر فالمماراة واردة وصحيحة.

٣٦

ومنها ما جاء في سورة الشعراء :

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥).

والسياق الذي جاء بعدها يلهم أنها هي الأخرى بسبيل الرد على نسبة الكفار صلة النبي إلى الشيطان دون الملائكة والتوكيد بأن القرآن وحي رباني حيث جاء بعد قليل :

١ ـ (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)).

٢ ـ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣)).

وفي الآيات الأولى ١٩٢ ـ ١٩٥ إشارة إلى كيفية صلة وحي الله القرآني بالنبي وهي نزوله به على قلبه مما يتسق مع تقرير آيات النجم الأخيرة.

ومنها ما جاء في سورة النحل :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)).

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)).

وهي مثل سابقاتها تؤكد صلة النبي بالله ووحيه القرآني وتنفي صلة الشيطان المزعومة من الكفار من جهة وتنطوي على كيفية مقاربة لما جاء في الآيات السابقة من جهة أخرى.

ومنها ما جاء في سورة البقرة :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

٣٧

يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)).

وقد جاءت الآية في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وإعلانهم العداء لجبريل عليه‌السلام ، وانطوت على كيفية مماثلة للكيفية التي احتوتها آيات الشعراء مع صراحة اسم ملك الله الذي كان اسمه معروفا في معرض الوحي الرباني عند اليهود والنصارى والذي ذكر اسمه في أحد الأناجيل في معرض بشارة مريم وحملها بالسيد المسيح عليه‌السلام.

وفي سورة الشورى آيات فيها بيان كيفيات اتصال الوحي الرباني بالبشر وبالنبي عليه‌السلام :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)).

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)).

ومع أن الوحي الرباني اصطلاحا هو ملك الله الذي يتصل بالنبي فإن الآية الثانية تلهم أنه أريد به المعنى اللغوي وهو القذف بالقلب والروع على ما فسّره العلماء مما هو متسق مع مضمون الآية الأولى التي احتوت إشارة إلى طريقتين أخريين كما هو ظاهر.

ومنها آيات في سورة القيامة :

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)).

وآية في سورة طه مقاربة لهذا المعنى :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)).

٣٨

وآيات القيامة خاصة احتوت نهيا صريحا للنبي عن حركة آنية كانت تبدو منه حينما كان ينزل عليه الوحي القرآني وفيها صورة عظيمة المدى لصلة الشعور النبوي بالوحي الرباني ، حيث كان النبي يردد ما كان يوحى إليه بلسانه مماشاة لإلقاء الوحي القرآني في آن نزوله عليه حرصا منه على أن لا يفلت منه آية أو كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به.

وفي سورتي النحل وغافر آيتان وإن كانتا ليستا في صدد صلة النبي محمد عليه‌السلام بالوحي خاصة وشخصية فإنهما في صدد معنى ومدى صلة الله ووحيه بمن يختاره لرسالته من عباده :

١ ـ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) النحل [٢].

٢ ـ (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) غافر [١٥].

والآية الثانية قد تلهم أن الروح فيها لا تعني جبريل الذي فسرت به الكلمة في أكثر ما ورد في صدد الوحي الربّاني وإنما قد تعني تجليا ربانيا يتصل بالشخص المختار. أما الآية الأولى فإنها تلهم أن هذا التجلي يحدث بمرافقة الملائكة وإطلاقا. وفي سورة فاطر آية تؤيد هذا الإطلاق والشمول :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)).

ولقد وردت في صدد صلة النبي بوحي الله أحاديث عديدة توضح أحيانا بعض ما احتوته الآيات من صور وتتسق أحيانا معها. منها حديث البخاري المشهور عن عائشة رضي الله عنها في كيفية بدء الوحي :

«أول ما بدأ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزح إلى أهله ويتزود إلى

٣٩

ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال اقرأ. قال ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم. فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة وأخبرها الخبر. لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك أبدا. إنك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة. وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع ابن أخيك. فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى. فأخبره رسول الله خبر ما رآه. فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على سيدنا موسى ويا ليتني فيها جذع. ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مخرجيّ هم قال نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا».

ومنها حديث رواه الطبري عن ابن الزبير :

«قال رسول الله فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ. فغطّني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ. وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي. قال اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله علّم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأته ثم انتهى ثم انصرف عني وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال ولم يكن من خلق الله أبغض عليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قال قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون. لا تحدّث بها عني قريش أبدا. لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحنّ. قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت

٤٠