المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

المقام الخامس

من المقامات التي يبحث عنها في المقصد الأول هو : أنّه يظهر من كلمات بعض الأخباريين على اختلاف كلماتهم عدم اعتبار القطع اذا حصل من غير المقدّمات الشرعية والسماع من المعصوم ، بل كان حاصلا من المقدمات العقلية.

فلا بدّ أولا من فهم أن ما ادّعوه يكون أمرا معقولا أم لا؟ وبعد فرض المعقولية هل يكون لهم دليل على كون اعتبار القطع في خصوص ما حصل من غير المقدّمات العقلية أم لا؟

فنقول بعونه تعالى : إنّه لو كان مرادهم عدم اعتبار العقل وعدم كونه مرجعا حتى في اصول الدين فلازمه هو عدم حجّية القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، بل يقولون بأخذ ذلك كله من الشرع ، فهذا واضح الفساد ، إذ أصل إثبات الشرع واثبات المبدأ والنبوة ثبت من باب حكم العقل ، فلو لم يكن العقل حجّة فكيف يثبت أصل الشرائع والأديان؟ فإنّ ذلك ثبت بالعقل ، وهو حجّة باطنية ، وكيف يمكن عزل العقل مطلقا؟

فإن كان مرادهم هذا فهو أمر غير معقول ، ولا يمكن إثبات الصانع بقول النبي أو المعصوم ، بل العقل حاكم بذلك.

٦١

وإن كان مرادهم هو أنّه بعد كون العقل له وظائف خاصة وهو ما يكون المرجع فيه ، وكذلك للعرف وظائف خاصة وهو المرجع فيه ، كذلك للشرع أيضا وظائف خاصة وهو المرجع فيه لا غيره ، ولا إشكال في أنّ بيان الحكم أمره بيده فلا بدّ من الرجوع في ذلك اليه ، فنقول : في الفروع وما يتعلق بالعمل يكون هو المرجع ، واذا كان هو المرجع فيكون أمره سعة وضيقا بيده فيمكن له تصرفات في كيفية الحكم وفي طريقه وغير ذلك ، فيمكن له أن يجعل حكمه في موضوع خاصّ ، مثلا : جعل الماء طاهرا اذا قطع بطهارته بأسباب عادية أو غير ذلك.

فاذا ظهر أن أمر بيان الحكم بيده فهل يكون لتوجيه قولهم أمر معقول حتى اذا ثبتت معقوليّته نتفحّص من دليله ، أم لا؟ فنقول : يمكن توجيه كلامهم تارة بأن يقال : إنّ القطع ولو اخذ طريقا لاثبات المتعلق ولكن بعد ما تكون مراتب للأحكام فيمكن أن يجعل الشارع القطع طريقا لمرتبة خاصّة موضوعا في مرتبة اخرى ، مثلا : القطع الذي هو طريق لمرتبة إنشاء حكم جعله طريقا موضوعا لمرتبة فعليّته ، ولا محذور في ذلك ؛ لأنه كما يمكن جعل القطع الذي هو طريق شيء موضوعا لاثبات حكم آخر كذلك يمكن جعل القطع الذي هو طريق لمرتبة إنشاء الحكم موضوعا لمرتبة الفعلية ، فيقال بأنّ القطع مطلقا من أي سبب حصل طريق لمرتبة إنشاء الأحكام ، ولكنّ الشارع جعل القطع الحاصل من غير المقدمات العقلية موضوعا لإثبات مرتبة فعلية هذه الأحكام ، وهذا وإن كان ليس أمرا غير معقول ولكن حيث إنّه في مقام الإثبات محتاج الى الدليل فلا يكون دليلا عليه ، لأنّ الأخبار الكثيرة تدلّ على اشتراط الولاية في صحة الأعمال ، أو في ترتّب الثواب والأجر على الكلام فيه ، ولكن ليس خبر دال على أنّه بعد الولاية لا بدّ وأن يكون طريق العلم بالأحكام هو غير المقدمات العقلية ، وكونه من السّماع من المعصوم رحمه‌الله.

وتارة يقال في توجيه كلامهم : بأنّ من المقدمات العقليّة لا يحصل القطع ، بل

٦٢

يحصل الظنّ وبحسب الخيال تخيّل أنّه القطع ، كما ترى في بعض موارد دعوى الأولويّة ، فإنّ الأولويّة القطعيّة التي تدّعى في بعض الموارد ليست قطعا أصلا ، فإن كان مرادهم هذا فنحن متّفقون معهم ، وأنّه متى لا يحصل القطع بها ليست حجّة ، ولكن ليست المقدّمات العقلية مطلقا غير موجبة لحصول القطع ، بل ربّما توجب القطع ، ولكن ليس كما تخيّل بعض من توهّم القطع في كلّ مورد ؛ لأنّه نرى في بعض الموارد الّتي ادّعيت الأولويّة القطعيّة عدم القطع ، بل الظنّ ، أو انزل من الظنّ وتوهّمه القطع ، فنحن لسنا مفرطين ولا مفرّطين.

لا نقول بمقالة الأخباريين بعدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة مطلقا ، ولا نقول بمقالة بعض في حصول القطع منها مطلقا.

ويمكن أن يكون مرادهم هو : أنّه بعد كون القطع في صورة عدم الإصابة من باب كون القاطع جاهلا كما قلنا سابقا عذرا له ، لكن تكون معذوريّته في ما لم يقصّر في مقدّمات حصول القطع ، فلو قصّر في المقدّمات فلا عذر له ولم يكن جهله عذرا.

يقال : بأن القطع الحاصل من المقدمات العقلية إمّا دائم الخطأ أو أغلب الخطأ ، فحيث إنّ الأمر كذلك فمن يحصّل القطع من المقدّمات العقليّة يكون معذورا ، ولكنّ هذا موقوف على كون القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة دائم الخطأ أو أغلب الخطأ ، ولكن لو لم يكن الأمر كذلك وحصل القطع من بعض المقدّمات العقليّة التي تكون أغلب مطابقة فلم يكن مجال لهذا الكلام.

ويمكن أن يكون مرادهم هو بيان المانع ، لا عدم حصول الشرط ، ففي الصورة المتقدمة عدم اعتبار القطع يكون من أجل أنّ شرطه وهو حصوله من المقدّمات التي لا خطأ فيها دائما أو كانت أغلب مطابقة ، وأمّا فى هذه الصّورة فيكون المانع من حصول القطع لأنّه بعد كون المقدّمات عقليّة كما قال عليه‌السلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» لا يحصل القطع لوجود المانع ، وعلى أيّ حال لا بدّ من

٦٣

الدقّة في تحصيل مقدمات القطع ؛ لئلّا يخيّل الظنّ قطعا ، ويترتّب عليه آثار القطع كما ترى في بعض موارد دعوى تنقيح المناط أو الأولويّة.

٦٤

المقام السادس

في قطع القاطع

من المقامات المبحوثة في المقصد الأوّل هو : أنّ القاطع مع قطعه وبقائه على قطعه لا يمكن القول له بأنّك لا تعمل بقطعك.

نعم ، إنّه يمكن أن يخدش في مقدمات قطعه حتّى يرتفع قطعه ، وإلّا فمع القطع لا معنى لعدم اعتباره ، فلو قطع فإن حصل من المقدّمات الغير المتعارفة وكان القطع المأخوذ موضوعيّا يمكن أن يقال بأنّه حيث يكون ظاهر القطع الحاصل حصوله من الطريق المتعارف ، فمع التفاته بكونه غير متعارف لا اعتبار بقطعه ، وإن لم يلتفت بهذا أصلا فأيضا لا معنى لأن يردع عن العمل به ، نعم ، كما قلنا : لو قصّر في المقدّمات لا عذر له ، وإن لم يقصّر في المقدّمات فالجهل عذر له.

ثم إنّه من يكون في الخطأ وقطعه خطأ هل يجب تنبّهه ، أم لا؟ فهو كلام آخر يمكن أن يقال في غير إحراز أهمّيته عند الشرع كالأعراض والنفوس ـ مثلا ـ لا يلزم تنبّهه ورفع خطئه ، فافهم.

٦٥
٦٦

المقام السابع

في العلم الإجمالي

من المقامات التي يبحث عنها في المقصد الأول هو : العلم الاجمالي ، ولا يخفى عليك أنّ الكلام في العلم الإجمالي يقع في جهتين : فتارة يقع الكلام في إثبات التكليف به وعدمه ، وتارة يقع الكلام فيه في إسقاط التكليف ، وأنّه هل يكتفى في مقام الامتثال بالعلم الإجمالي ، أو لا؟ ولنقدم الجهة الثانية تبعا للشيخ رحمه‌الله فنقول : هل يصحّ ويجوز الاكتفاء بالعلم الإجمالي ، أو لا؟

والكلام في ذلك يقع في موارد :

منها : أنّه هل يكتفى في مقام الامتثال بالعلم الاجمالي بأن يحتاط ويأتي بكل ما يحتمل كونه هو الواجب ، أو يترك كل ما يحتمل كونه هو الحرام مع علمه الإجمالي بكون الواجب أو الحرام في هذه المحتملات مع عدم تمكنه في مقام الامتثال إلّا بالعلم الاجمالي ، أو لا يصح الاكتفاء؟

فنقول : إنّ في هذه الصورة لا إشكال في صحة الاكتفاء به ، لأنّ الأمر دائر بين ترك امتثال الحكم أصلا وبين امتثاله كذلك ، ولا إشكال بأنّه ما دام يمكن الامتثال لا بدّ من الامتثال ، ففي هذه الصورة لا إشكال فيه ، ولم يكن فيه مخالف سوى ما

٦٧

ينسب الى الحلي رحمه‌الله فإنّه قال : لو كان له ثوبان مشتبهان بأنّه يطرحهما ويصلّي عاريا مع علمه إجمالا بعدم مانع في أحد الثوبين كما يعلم إجمالا بالمانع في أحدهما.

ومنها : أنّه هل يكتفى به في مقام الامتثال مع التمكّن من العلم التفصيلي ، أو لا؟ وفي هذا المورد تارة يكون التكليف توصليا ، وتارة تعبديا ، فإن كان توصّليا فلا إشكال في جواز الاكتفاء به ولو تمكن من العلم التفصيلي ، لأنّ في التوصلي ليس الغرض إلّا حصول الشيء بأيّ نحو حصل ، ولذا لو أتى به الآخر يرفع عنه ، فمن يكون له ثوبان يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما مع تمكنه من أن يعلم أنّ أيّهما نجس تفصيلا فيغسله يجوز له أن يغسلهما ، فيعلم بالامتثال ، كما أنّه يحصل الغرض لو غسله شخص آخر.

وأمّا إن كان تعبديا : فإن كان الاحتياط وامتثال الإجمالي غير موجب لتكرار العمل فلا إشكال أيضا في جواز الاكتفاء ، لأنّه ليس لعبا بأمر المولى ، ولا يتنافى مع الخضوع المعتبر في العبادة ، وأمّا لو كان الاحتياط يوجب التكرار فالاكتفاء بالامتثال الإجمالي مطلقا مع التمكن من الامتثال التّفصيلي يكون مورد الإشكال ، لا لأجل الإجماع على عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي لعدم اجتماع تعبدي في المقام ، ولا لأجل اعتبار قصد الوجه والتميّز لعدم اعتبارهما ، بل لأنّ في بعض الموارد يوجب اللعب بأمر المولى مع اعتبار الخضوع وإظهار العبودية في التعبديات ، مثلا : من أمره المولى بغسل الثوب الكذائي وصار مردّدا بين ألف ثوب وفرض كون غسل الثوب تعبديا لمدخلية الخضوع وإظهار العبودية فيه وهو متمكن من أن يحصل العلم التفصيلي بأنّ أيّا منها هو الثّوب الواجب الغسل ، ومع ذلك يرفع اليد عن ذلك ويغسّل كلّ الألف ثوب فهذا لعب بأمر المولى عند العقلاء ، إلّا اذا كان في ذلك غرضا عقلائيا له فالحقّ هو التفصيل في المقام ، وأنّه إذا لم يكن اللعب بأمر المولى مثل ما إذا كانت أطراف المشتبه التي يأتي بها أو يتركها في مقام الامتثال قليلا ، مثلا كانت ثلاثة أو أربعة ، ومثل ما لو كانت الأطراف كثيرة ولكن

٦٨

كان الإتيان بها بمقتضى غرض عقلائيّ فلا إشكال في جواز الاكتفاء بالعلم الإجمالي والاحتياط في مقام الامتثال.

وأمّا إذا لم يكن كذلك مثل ما لو كانت الأطراف كثيرة ولم يكن في إتيان المحتملات غرض عقلائيّ فلا يصحّ الاكتفاء بالعلم الإجمالي.

ومنها : أنّه هل يصحّ الاكتفاء في مقام الامتثال به مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي ولكن يتمكّن من الامتثال بالظنّ الخاص التفصيلي ، أو لا؟

اعلم : أنّ الكلام في هذا المورد يكون مثل المورد السابق ، فكما أنّه مع التمكن من العلم التفصيلي قلنا بالتفصيل كذلك نقول هنا ، لأنّه بعد فرض حجّية الظنّ فهو متمكّن من الامتثال التفصيلي ولو ظنّا ، فهو مقدم على الامتثال الإجمالي اذا كان الإجمالي لعبا بأمر المولى بالنحو الذي قلنا. نعم ، يمكن له بعد الإتيان بالفرد المظنون الإتيان بالفرد الآخر ، فهو أطاع لإتيانه المظنون ، وانقاد لإتيانه المحتمل بعد ذلك ، فالأولى الإتيان أوّلا بما هو المظنون ثم الفرد الآخر المحتمل ، كما ترى أنّ دأب بعض المحقّقين من العلماء على ذلك ، مثلا : في الموارد التي حكموا احتياطا بالجمع بين القصر والإتمام فمن قدّم بنظره بحسب الدليل والأمارة القصر حكم بإتيان الصلاة قصرا ثم يحتاط ويأتي بصلاة اخرى تماما ، وبالعكس من قوى بنظره الإتمام حكم بإتيان الصلاة تاما أوّلا ثمّ الإتيان بصلاة القصر احتياطا ، فافهم.

ومنها : أنّه هل يجوز الاكتفاء به مع التمكّن من الامتثال التفصيلي بالظنّ الذي صار حجة بمقتضى دليل الانسداد أعني الظنّ المطلق ، أو لا؟

اعلم : أنّ في هذا المورد لا إشكال في جواز الاكتفاء بامتثال العلم الإجمالي والاحتياط ، وعدم وصول النوبة الى الامتثال بالظنّ المطلق ، لأنّ إحدى مقدمات دليل الانسداد لو تمّت فتثبت حجية مطلق الظنّ وهي عدم وجوب الاحتياط ، وأمّا جوازه فلا إشكال فيه. نعم ، لو لزم العسر والحرج منه فهو أمر آخر ، وإلّا فمع قطع النظر عن ذلك فالاكتفاء به في مقابل الظنّ المطلق لا إشكال فيه. هذا كلّه في مقام

٦٩

السقوط ، وأنّه هل يسقط التكليف بالعلم الإجمالي والاحتياط ، أو لا؟

وأمّا الكلام في الجهة الاخرى يعني في إثبات التكليف به وعدمه فالكلام فيه في مقامين :

أحدهما : في أنّ العلم الإجمالي هل يكون كالعلم التفصيلي في التنجّز وعلّيّته لإثبات الحكم ، أو لا يكون كذلك ، بل يكون كالجهل؟

الثاني : في أنه بعد كونه منجزا للتكليف كالعلم التفصيلي فهل تجب موافقته القطعية وتحرم مخالفته القطعية ، أو لا؟

والكلام في المقام الثاني يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في مسألة البراءة والاشتغال ، إنّما الكلام هنا في المقام الأوّل ، يعني في أنّ العلم الإجمالي يكون كالعلم التفصيلي في إثبات التكليف به وتنجّز الواقع معه ، أو لا يكون كذلك ، بل يكون حاله حال الجهل؟

اعلم : أنّ ما يتراءى من كلماتهم هو جعل العلم الإجمالي قسيما للتفصيلي ، وتوهّم كونهما مختلفين سنخا ، وأنّ الإجمالي ليس من سنخ التفصيلي ، فمن أجل توهّم ذلك وقعوا في الإشكال ، فمنشأ الإشكال وتوهّم الفرق بينهما من حيث العلّية وعدمها هو من أجل هذا التوهّم ، يعني تخيّل كونهما سنخين ، لا من سنخ واحد ، ولكن على ما هو التحقيق في المقام هو كون العلم الاجمالي من سنخ العلم التفصيلي ، وأن كليهما علم ، ولا معنى للإجمال في العلم أصلا ، ولا يعقل كون العلم مجملا ، لأنّ بعد كونه من الصفات النفسانية وصورة ترتسم في النفس فكيف يعقل أن ترتسم في النفس صورة إجمالية؟ فكلّ ما يرتسم في النفس معلوم ومبيّن ، ولا يعقل أن يكون العلم الصّورة الحاصلة ومع ذلك كان فيه الإجمال.

ولذا ترى أنّ أهل الاصطلاح قسّموا الصّورة الحاصلة في هذين الى : العلم والظنّ ، وكذا الوهم ، ولكن لم يقل أحد منهم بأنّ العلم تارة مبيّنا وتارة يكون مجملا ، فالعلم مطلقا فيه الانكشاف وليس فيه الإجمال ، غاية الأمر العلم مختلف باعتبار

٧٠

كون انكشافه في مورد بالحدّ الكامل وفي مورد ليس انكشافه كاملا بحيث كان مرئيا عن تمام الخصوصيات.

فتارة يتعلق العلم بوجود زيد البيّن من كلّ جهة ويتعلّق العلم بكلّ خصوصياته ومشخّصاته ، وتارة يكون مرئيا لبعض خصوصيات زيد ، ولكن في كلتا الصورتين في المقدار المشترك بينهما يكون مرئيا ، ولا فرق بينهما من حيث العلم ، بل إراءة العلم في كلّ منهما في المقدار المشترك يكون على نحو واحد ، غاية الأمر أنّ في أحدهما ليس العلم مشوبا بالجهل لإراءته لكلّ جهاته ، وفي الثاني يكون العلم مشوبا بالجهل لعدم إراءته كلّ جهاته ، ولكنّ هذا لا يوجب الفرق بين العلم في المثالين ، بل في كليهما يكون العلم بنحو واحد ، وليس كلامنا في حيث مشوبيته بالجهل حتى يقال بالفرق بينهما ، بل يكون نظرنا في الجهة التي تعلق بها العلم ، وفي هذه الجهة لا تفاوت بينهما وفي كليهما يكون العلم بنحو واحد.

فمن علم بكون هذا الإناء المعيّن خمرا كما يجب عليه الاجتناب لانطباق هذه الصغرى على الكبرى الواقعية وهي كلّ خمر يجب الاجتناب عنه كذلك لو علم بكون إناء زيد خمرا ، ولكن لا يتعلق العلم إلّا بهذا الحيث منه لا بجميع خصوصياته ، ولم يكن مبيّنا من جميع الجهات كي يجب الاجتناب عنه ، لانطباق هذه الصغرى على الكبرى الواقعية ، فينطبق على هذه الصغرى المعلوم بهذا المقدار الكبرى الواقعية ، فكما أنّ في الصورة الاولى لو حكم العقل أو الشرع بعدم وجوب الاجتناب عنه يكون التناقض ولو في نظر العالم ، كذلك في المثال الثاني النهي عنه موجب للتناقض ، لأنّ المنجّز وعلّة إثبات التكليف يكون في كليهما هو العلم ، ولا فرق في العلم الحاصل في الأول مع العلم الحاصل في الثاني.

ونقول توضيحا لبيان المطلب : إنّ الفلاسفة يقسّمون الصّورة الحاصلة في الذهن بأنّها : تارة تكون هذه الصورة انكشافا تاما ، وتارة تكون انكشافا ناقصا ، وتارة يكون فيها الترديد ، فالأول هو العلم ، والثاني هو الظنّ ، والثالث هو الشك

٧١

فالانكشاف التام عبارة عن العلم ، فكلّ انكشاف يكون تاما هو العلم بلا كلام ، فعلى هذا نقول بأنّ العلم الإجمالي يكون انكشافه تاما بالنسبة الى منكشفه كالعلم التفصيلي ، ولا فرق بينهما في هذا الحيث ، غاية الأمر العلم التفصيلي مرأى لشيء أوسع وما يرى يكون بجميع خصوصياته ، والعلم الاجمالي لا يرى إلّا بعض جهاته ، ولكن في الجهة أو الجهات التي يكون كلاهما مرئيان لها ، ولا فرق من حيث الإراءة والانكشاف بينهما ، فيترتّب على العلم الإجمالي كلّ أثر ترتّب على العلم التفصيلي من حيث الانكشاف ، بمعنى أنّه لو كان له الكبرى تنطبق على الصغرى التي تعلق بها العلم في العلم الاجمالي ، فلو تعلق العلم بكون إناء زيد خمرا فهو لأجل اشتباهه بالإناءين الخارجيين ، وأن يقال له : إجماليّ ، ولكن حيث لا إجمال في حيث العلم والإراءة والانكشاف فتنطبق هذه الصغرى على الكبرى الواقعية ، وهي كل خمر يجب الاجتناب عنه ، فلو كان للعلم كبرى واقعية ويكون له التنجيز في كلّ حال ولم يكن علم مخصوص موضوعا لإثبات الحكم فلا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي ؛ لما قلنا ، وهذا واضح ، فعند كونه كالعلم التفصيلي فكما لا يمكن النهي عنه لا يمكن النهي عن الإجمالي للتناقض ، ففي العلم الإجمالي بالحيث الذي تعلق به العلم لا يمكن الحكم في مورده إثباتا ونفيا ، وفي الحيث الآخر الذي فيه سترة ولو لم يمكن الحكم فيه في حدّ ذاته ، مثل أن جوّز ارتكاب الأطراف ويحكم فيها بحكم ظاهري ، ولكن بعد العلم وانكشاف الواقع لا إشكال في تنجّزه وكونه علّة تامة كالعلم التفصيلي ، فعند ذلك يكون للعقل حكم بأنّه لا يجوز ارتكاب الأطراف ، لأنه لو كان ما تعلق علمك به في هذه الأطراف لا عذر لك في ارتكابها.

فممّا ظهر لك أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي وبين العلم الإجمالي في ثبوت التكليف بهما. هذا كلّه في مقام ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.

ثمّ بعد ذلك يكون الكلام في جهة اخرى وهي : أنّه بعد ثبوت التكليف به وان العلم منجّز لا يمكن الحكم على خلاف حيث الذي تعلق به العلم ، ولكن يأتي الكلام

٧٢

في الجهة الاخرى ، وأنّ الشارع هل يمكن أن يرخّص في الأطراف ، ولازمه جواز ارتكاب جميع الأطراف من باب كونها مشكوكا بها ، أو لا يمكن ذلك؟ ولو فرض عدم جواز ذلك يصل البحث الى جهة اخرى ، وأنّه هل يمكن له التّرخيص في بعض الأطراف ، أو لا؟ يعني تجب الموافقة القطعيّة كما تحرم الموافقة القطعية ، أو لا تجب الموافقة القطعية ، بل تحرم الموافقة القطعية فقط؟ ويأتي الكلام فيه في مبحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.

وممّا قلنا من أنّ كلامنا في ما تعلق به العلم وأنّه منجّز بالنسبة الى متعلّقه ، وليس الأطراف مورد نظرنا ، ولو أنّ العقل بعد تنجيز العلم يحكم في الأطراف مقدمة ليحفظ المعلوم في البين يظهر أنّ العلم بالنسبة الى ما تعلق به تنجيزيّ لا تعليقي ، ولا يتوجّه الى الأطراف حتى يقال بأنّ العلم في الأطراف تعليقي ، بمعنى أنّه لو كان فيها منجّز فمن قال بأنّ العلم تعليقيّ بالنسبة الى الأطراف لا وجه له.

وممّا ظهر لك أنّ الكلام في العلم الطريقي ، وأنّه في ما اذا كان العلم طريقيا لا فرق بين التفصيلي والإجمالي في تنجيز الواقع ، فلو كان العلم في مورد موضوعيا فهو خارج عن محلّ الكلام ، ويكون تابعا للنحو الذي اخذ فيه الموضوع ، فيمكن أن يؤخذ العلم التفصيلي موضوعا ، ويمكن أن يؤخذ مطلق العلم موضوعا ، كان تفصيليّا أو إجماليا ، فما قاله صاحب الحدائق في باب النجاسة والطهارة من كون العلم موضوعيا على تقدير صحة كلامه خارج عن المبحث ، ويكون تابعا للنحو الذي اخذ الموضوع ، وكذلك هذا خارج عن محلّ الكلام لو قلنا بما قيل من أنّ التكليف لا يكون إلّا في صورة العلم ، ومع عدم العلم لا تكليف أصلا ، فإن كان هذا الكلام تاما فخارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ العلم اخذ موضوعا فيكون تابعا لنحو ما أخذ فيه ، ووجهه أنّه قيل بهذه المقالة ، يعني كون التكليف في صورة العلم التفصيلي يمكن أن يكون امورا :

الأوّل : أن تكون الألفاظ للمعاني المعلومة ، مثلا يكون الخمر موضوعا للخمر

٧٣

المعلوم ، فلو قال : اجتنب عن الخمر يكون معناه اجتنب عن الخمر المعلوم.

وفيه : أنّ ذلك فاسد ، وثبت أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعية ، والشاهد على ذلك : أنّك ترى أن الخمر المعلوم ليس تكرارا وزائدا ، فلو كان الخمر هو الخمر المعلوم فاللفظ المعلوم ذكره يكون زائدا ، وكذلك قولك : الخمر المجهول ليس استعماله في معنى مضادّ لمعنى الخمر.

الثاني : أنّه حيث يكون التكليف بالجاهل تكليف بما لا يطاق فلا بد أن يكون مورد التكليف صورة العلم.

وفيه : أنّ التكليف لا بدّ في مقام الامتثال أن يكون مقدورا لا في حال الخطاب ، فيصحّ تكليف الجاهل ولو كان جاهلا. نعم ، يمكن أن يقال بعدم إمكان تكليف الغافل بما هو غافل ، غاية الأمر امتثاله موقوف على العلم ، وهذا معنى أنّ التكليف ينجّز بالعلم ، أو يصير فعليا ، والشاهد على ذلك : هو إمكان الاحتياط في المجهول ، فلو كان التكليف في غير حال العلم محالا وتكليفا بغير مقدور فلا معنى لذلك ؛ لأنّ على ما فرضه لا تكليف قبل العلم حتى يحتاط المكلف ، مع أنّه علاوة على إمكان الاحتياط فالعقل حاكم بحسنه ولو في غير مورد العلم الاجمالي ، ولذا فهو حسن في الشبهات البدوية.

الثالث : أنّه ولو كان التكليف في حدّ ذاته غير موقوف على العلم ، بل أدلة الأحكام ناظرة الى الواقع ولكن بمقتضى بعض الأخبار الدالّة على كون العلم غاية لرفع الحلّية ، وبمقتضى الجمع بين الدليلين يحكم بكون التّكليف في مورد العلم ، مثل قوله : «كلّ شيء حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» وغير ذلك.

وفيه أوّلا : أنّ ظاهر العلم هو كونه طريقيا ، فظاهر أدلة الاصول الّتي جعل غايتها العلم هو العلم الطريقي ، وبعد كون العلم طريقيا فلا بدّ من كون الحلّية قبل العلم حلية ظاهرية لا واقعية لمنافاة ذلك مع كون العلم طريقيّا ؛ لأنّ معنى كون العلم طريقا هو كونه طريقا الى الواقع ، فالحكم في الواقع محفوظ فبالعلم يصير منجزا ،

٧٤

فلا بدّ وأن تكون الحلية حلية ظاهرية ، فعلى هذا يكون التكليف في صورة الجهل أيضا. غاية الأمر لم يصر منجزا إلّا اذا تعلق به العلم ، لا أن يكون التكليف في صورة العلم فقط.

وثانيا : أنّ في مورد العلم الإجمالي نسأل منك أنّ الأصل هل يجري في متعلق العلم وما تعلق به العلم وهو إناء زيد مثلا ، أو يجري في الأطراف؟ فلا بدّ أن يجري في الأطراف ؛ لعدم إمكان الجري في الحيث الذي تعلق به العلم لعدم جريان الأصل فيه ، فعلى هذا نقول بأنّ المقدار الذي تعلق به العلم بعد الانكشاف صار منجزا ولا بد من امتثاله ، فبعد كون هذا الحيث منجزا كيف تقول بعدم التّكليف إلّا في صورة العلم التفصيلي؟ فافهم.

فمن كلّ ما ذكرنا ظهر لك عدم الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي ، وأنّ التعبير بالإجمالي مسامحة ، ففي كلّ مورد يحصل العلم ففي الحيث الذي انكشف به لو كان له كبرى ينجّز اذا كان واجدا للشرائط التي تأتي ـ إن شاء الله ـ في البراءة والاشتغال من كونه منجزا على كلّ حال ، وعدم كون بعض الأطراف خارجا عن القدرة ، مثل صورة الخروج عن مورد الابتلاء وغير ذلك.

ثمّ إنّه قال الشيخ رحمه‌الله في الرسائل : بأنّه على فرض كون العلم الإجمالي غير منجّز لو تولّد منه العلم التفصيلي لا إشكال في تنجز العلم التفصيلي ، ولكن في بعض الموارد التي يتولّد فيها العلم التفصيلي من العلم الإجمالي لا يحكم بالتنجّز.

فنقول أولا : لو التزم أحد بعدم كون العلم الإجمالي منجّزا كيف يكون العلم التفصيلي الذي تولّد منه منجزا؟ لأنه بعد عدم كون العلم الإجمالي علّة تامة على هذا للتنجّز فيجري الأصل في الأطراف ، وبعد جريان الأصل في الأطراف كيف يحصل العلم التفصيلي من هذا العلم الاجمالي حتى لا يجوز مخالفته؟ مثلا لو علم بأنّه إمّا في ثوبه المني أو في ثوب الإمام الذي اقتدى به ، فبعد عدم تنجّز هذا العلم الإجمالي وعدم مجيء تكليف من ناحيته فيجري الأصل في الطرفين ، فيقول : الأصل عدم

٧٥

كون المنيّ في ثوبي ، وكذلك الأصل عدم كون المني في ثوب إمامه الذي اقتدى به ؛ لأنّه على الفرض لا مانع من جريان الأصل في الطرفين ، فبعد ذلك كيف يحصل له العلم بفساد صلاته؟ فإما لفساد صلاته أو لفساد صلاة مقتداه ، لأنّ هذا العلم التفصيلي يكون على تقدير كون العلم الإجمالي الأول منجزا ، وأمّا مع عدم تنجّزه وجريان الأصل في الأطراف فهو لا يعلم بفساد صلاته.

اذا عرفت هذا يظهر لك شاهدا على ما اخترنا في العلم الإجمالي ، وأنّه علّة تامة ، ولا فرق بين العلم أصلا ، ففي هذا المثال من الأول يكون العلم بالنسبة الى ما تعلق به تفصيليا ، وهو منجز ، ولا تجري الاصول في الطرفين وهو يعلم بفساد صلاته.

وثانيا نقول : إنّ الكلام يقع في بعض الموارد التي تولد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي ، ولازمه عدم إمكان مخالفته ، والحال أنّه لم يعمل على طبقه ، ففي هذه الموارد لا بد إما من الالتزام بطرح الدليل الدالّ على خلاف العلم ، وإما القول بعدم تنجزّ العلم الإجمالي في مورده.

٧٦

المقصد الثاني

في الظنّ

٧٧
٧٨

المقصد الثاني

في الظنّ

اعلم أنّه حيث لم يكن الظنّ كاشفا تاما كالقطع ، بل يكون فيه سترة تكون حجّيّته محتاجة الى الجعل لأجل هذا ، سواء كان جعل حجّيّته من قبل العقل أو الشّرع ، وهذا هو جهة الفرق بينه وبين القطع ، فعلى هذا يكون قابلا للجعل ، بل كما قلنا حجّيته محتاجة الى الجعل.

إنّما الكلام في أنّه هل يمكن التعبّد بالظنّ؟ أو هل يكون أصل في البين حتى نرجع اليه في مورد الشك في إمكانه وامتناعه ، أم لا؟ لا يخفى عليك عدم أصل في مورد الشك.

نعم ، قد يتراءى من ظاهر كلام الشيخ لمن لم يتفكر كلامه ذلك ، حيث قال : (بعد ما استدلّ المشهور على الإمكان بأنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق سلكه العقلاء في الحكم بالإمكان) فيظهر من عبارته أنّه بعد ما لا نعلم أنّ هذا الأمر ممكن أو محال ، فاذا رجعنا الى عقولنا فلم نتوجّه الى ما يوجب الاستحالة ونحكم بالامكان ، فكأن نظر الشيخ رحمه‌الله الى أنّ الأصل في مورد الشك هو الإمكان بذلك المعنى.

٧٩

ولكن لا يخفى عليك أنّ الشيخ رحمه‌الله لم يكن مقصوده ذلك ، بل كان مراده أنّنا حيث لم نكن ملتفتين لتمام الجهات وتكون عقولنا قاصرة عن إدراك الجهات المحسّنة والمقبّحة ، فبمجرّد أن لا نرى في عقولنا ما يوجب الاستحالة نحكم بالإمكان ، وهذه طريقة العقلاء حيث إنّهم في الحكم بالإمكان يكون ديدنهم كذلك ، لا أنّ الأصل في مورد الشك في الإمكان والاستحالة يكون هو الإمكان ، بل العقلاء يحكمون بالإمكان بمجرّد عدم ما يوجب الاستحالة عند عقولهم ، وهذا غير ما يقال من أن الأصل في الشك هو الإمكان ، وبعد ما قلنا لو تراجع كلامه يظهر فساد النسبة وأنّ كلامه هو ناظر الى ما قلنا.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ النزاع في الإمكان الوقوعي ، والّا فالإمكان الذاتي لا يكون محلّ إشكال ولا يلزم منه محذور.

إذا عرفت ذلك فيظهر من كلام ابن قبّة عدم إمكان التعبّد بالخبر الواحد ، ويجري كلامه في التعبد بمطلق الظنّ ، فإنّه يقال : لا يجوز التعبّد بالخبر لوجهين :

الوجه الأول : أنّه لو جاز التعبد بالخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ لجاز ذلك في الإخبار عن الله ، والثاني باطل إجماعا ، فالمقدّم مثله.

وقد أجاب الشيخ عن هذا الاستدلال : بأنّه انعقد الإجماع على عدم وقوع الإخبار عن الله بالخبر الواحد ، لا على امتناع الوقوع. وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله :

بأنّه لا معنى للإجماع هنا ، ولم يكن المقام ممّا يجري فيه الإجماع بل لم يقع الإخبار عن الله بالخبر الواحد والالتزام به.

ولكن لا يخفى عليك أنّ ابن قبة لم يكن مراده من الإجماع الإجماع المصطلح ، وأنّ الإجماع التعبدي قام على عدم جواز إخبار عن الله تعالى ، بل يكون مراده أنّ من المسلّم عند المتكلّمين أنّ مدّعي النبوة لا بدّله من المعجزة أو إخبار نبيّ سابق ، ولا يسمع قوله بمجرّد دعوى النبوة ، فالمناط الذي يلتزمون لأجله بلزوم الدليل من

٨٠