المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومما قلنا ظهر لك أنّ النسبة بين أدلة الأحكام المتكفّلة للأحكام الواقعية مع الطرق والأمارات هي الحكومة ، يعني تكون أدلة الطرق والأمارات حاكمة عليها ولا تكون النسبة الورود ؛ لأنّه بعد ما قلنا من أنّ الورود عبارة عن التصرف في الموضوع والتوسعة في الموضوع تعبدا ، والحكومة عبارة عن التصرف في الحكم تعبدا لا الموضوع فحيث يكون العلم بالواقع موضوعا للحكم بخصوصية العلم فالموضوع الواقعي هو العلم ، غاية الأمر من باب كونه كاشفا عن الواقع ، لكن مع ذلك ما هو الموضوع هو العلم ، وبعد ما قلنا من أن دليل التنزيل ينزّل الطريق والأمارة منزلة العلم في الكاشفية فالطريق بما هو كاشف يكون بعد التنزيل كالعلم حكما في كشفه عن الواقع فيكون الموضوع للحكم الواقعي هو العلم ، ولكن بعد التنزيل يكون الطريق أو الأمارة في حكم العلم فتكون النسبة هي الحكومة لا الورود ، فافهم.

هذا كلّه في قيام الطرق والأمارات منزلة العلم ، وعرفت تفصيله من قيامها مقام العلم الطريقي الصرف والعلم الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفية ، ولا تقوم مقام العلم الموضوعي على وجه الصفتية.

وأمّا الكلام في قيام الاصول مقام العلم فنقول : إنّ الاصول على قسمين : قسم ليس فيها جهة نظر الى الواقع وكشف الى الواقع ، بل تكون اصولا عملية وليس دليلها دالّا إلّا على لزوم الجري العملي على طبقها بدون لحاظ الواقع فيها ، وليس فيها حيث إحراز الواقع والنظر اليه ، بل هي اصول تجري في مقام الجهل بالواقع بلا نظر الى الواقع ، بل تكون في قبال الواقع أحكاما عملية ، كأصالة البراءة وأصالة الطهارة ، وهذا القسم لا كلام فيه في عدم قيامها منزلة العلم أصلا ، لعدم جهة كشف ومرآتية للواقع فيها أصلا ، ويدخل في هذا القسم الاحتياط لأنه أيضا ليس كاشفا وناظرا الى الواقع ، بل هو عين الواقع فبالعمل به عمل بنفس الواقع لا بما هو طريق الى الواقع.

٤١

وقسم منها يكون فيه جهة كشف ونظر الى الواقع ، ولوحظ فيه إحراز الواقع ، ولذا يقال : بأنّها اصول محرزة ، كالاستصحاب ، وقاعدة التجاوز ، وقاعدة الفراغ ، فهذا القسم لا إشكال فيه في قيامها مقام العلم الطريقي الصرف والعلم الموضوعي الطريقي.

فنتكلم في الاستصحاب ، لأنّ بعد معلومية الأمر فيه يعرف الحكم في غيره من الاصول المحرزة ، فنقول : أمّا الاستصحاب فعلى مختارنا من أنّ بعد كون التنزيل تارة فعل نفس الشارع مثل تنزيله خبر الواحد منزلة العلم ، وتارة يأمر المكلف بالتنزيل بأن نزّل الشيء الفلاني منزلة الشيء الكذائي يكون الأمر في الاستصحاب كذلك ، فإنّ مقتضى أدلة الاستصحاب مثل قوله : «لا تنقض اليقين بالشك» هو أمر الشارع المكلف بأن نزّل الشك منزلة اليقين ، فعلى هذا بعد أمره بهذا التنزيل فيكون معناه أنّ الشك بمنزلة اليقين ، فبعد تنزيله منزلة اليقين يصير الشك كاليقين ، فكلّ أثر يكون لليقين يترتب عليه ، لأنّه بالأمر بالتنزيل صار كاليقين فيترتب عليه أثر اليقين ، وهذا على جعل نفس الاستصحاب أو الشك منزلة اليقين واضح.

وأمّا على كون حقيقة الاستصحاب تنزيل المستصحب والمشكوك منزلة المتيقن فيكون كجعل المؤدّى في الطرق ، ففي هذه الصورة يشكل الأمر ؛ لأنّ المستصحب صار منزلة المتيقن فيترتب على المشكوك والمستصحب أثر المتيقن ، وهذا سليم عن الإشكال في قيام الاستصحاب منزلة العلم الطريقي ، لأنّ في العلم الطريقي الأثر مترتب على الواقع والمعلوم والمتيقن ، فالمستصحب أيضا على كونه هو المجعول يصير منزلة المتيقن والمعلوم ، وأمّا قيامه مقام العلم الموضوعي الطريقي سواء كان العلم تمام الموضوع أو جزء الموضوع يصير على هذا مورد الإشكال ؛ لأنّ في العلم الموضوعي الطريقي الذي يكون العلم تمام الموضوع لا أثر للمتيقن والمعلوم والواقع أصلا ، والمستصحب نزّل منزلة المتيقن لا العلم ، فأثر العلم لا يترتب عليه ، وكذا في جزء الموضوع أيضا بعد كون العلم جزء الموضوع لا يكون الأثر لخصوص

٤٢

المتيقن والمعلوم ، بل يكون له وللعلم ، فالاستصحاب أيضا لا يقوم مقامه ؛ لأن دليل التنزيل نزّله منزلة المتيقن لا العلم ، ولكن على ما قلنا في قيام الطرق والأمارات مقام العلم الموضوعي ولو كان المجعول هو المؤدى نقول في المقام ويرفع الإشكال.

لأنّا نقول : إنّ المنزّل والمجعول وإن كان المستصحب والمشكوك ولكن يكون التنزيل باعتبار الكشف ، فالمستصحب باعتبار كشفه صار منزّلا منزلة المتيقن فحيث بهذا الاعتبار صار مجعولا يقوم مقام العلم الموضوعي الطريقي بكلا قسميه أيضا ، لأنّه لوحظ فيه جهة الكشف.

ومن هنا يظهر حال قاعدة التجاوز وغيره ، لأنّ فيها أيضا لوحظ حيث الكشف كما عبّر بأنّه حين العمل أذكر فيكون النظر الى الواقع ، وباعتبار كشفها عن الواقع صار مجعولا فتقوم مقام العلم الطريقي الصرف والعلم الموضوعي الطريقي ، سواء كان العلم جزء الموضوع أو تمام الموضوع.

وأمّا قيام هذه الاصول المحرزة مقام العلم الموضوعي الصفتي فلا يمكن ، لما قلنا سابقا من أنّ العلم في هذه الصورة موضوع باعتبار كونه صفة خاصّة في قبال سائر الصفات.

ثمّ إنّه بعد ما قلنا من الأقسام الخمسة للعلم وآثارها لا بدّ من فهم أنّ المورد من أيّ هذه الأقسام هو؟ وأنّه من أيّ هذه الموارد يكون؟ ثمّ إنّه كما يتصور هذه الأقسام الخمسة في العلم كذلك يأتي هذا التقسيم في الظنّ أيضا ، فيمكن أن يؤخذ طريقا صرفا ، ويمكن أن يؤخذ موضوعا ، وفي الموضوع يمكن أخذه على وجه الطريقية ، ويمكن أخذه على نحو الصفتية ، وفي كلّ منهما يمكن أن يكون الظنّ تمام الموضوع ، ويمكن أن يكون جزء الموضوع ، فافهم.

٤٣
٤٤

المقام الثالث

من المقامات التي يبحث فيها في المقصد الأول هو : أنّ ما قلنا من صيرورة العلم تارة مأخوذا في الموضوع يمكن أخذه في موضوع حكم آخر غير موضوعه ، مثلا يصير العلم بالخمر موضوعا لنجاسته ، أو العلم بنجاسته موضوعا لحرمته ، ولا يمكن أن يكون العلم موضوعا لنفس هذا الحكم ، مثلا لا يمكن أن يقال : اذا علمت بوجوب الاجتناب يجب الاجتناب ، لأنّ هذا يستلزم الدور ، فإنّ الموضوع مقدم على الحكم فالموضوع وهو وجوب الاجتناب لا يمكن أن يكون هو الحكم ، ولا يمكن أخذه في مثله لاجتماع المثلين ، ولا في ضدّه لاجتماع الضدين ، مثلا لا يمكن أن يقال : اذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربه ، فافهم.

٤٥
٤٦

المقام الرابع

في التجرّي

فنقول : إنّ الكلام في التجرّي يقع في جهات ثلاث :

الجهة الاولى : في أنّ التجرّي من باب كونه صفة في قبال الانقياد وهو عبارة عن حالة في الشخص بحيث يكون في مقام الجرأة على المولى ولا يبالي أن يخالف المولى ويعصيه في قبال الانقياد ، وهو كون الشخص له حالة يكون في مقام إطاعة المولى وانقياده ، ففي هذه الجهة يكون البحث في أنّ هذه الصفة صفة مذمومة كاشفة عن سوء السريرة وخبث الباطن أو لا ، بلا نظر الى حيث إعمال التجري في الخارج وحيث إبرازه؟

الجهة الثانية : يكون الكلام في أنّ التجرّي بنفسه مع قطع النظر عن الفعل المتجرّى به هل يوجب عقابا وفي قباله يوجب الانقياد ثوابا أو لا؟ ففي هذه الجهة يكون الكلام في حيث إبراز التجري وإبراز الانقياد ، وهو في ما اذا تجرّى وارتكب ما تخيل كونه مورد نهي المولى ، والحال أنّه في الواقع لم يكن منهيا عنه ، أو صار في مقام إتيان ما تخيل واعتقد كونه مورد أمر المولى وأتى به ، والحال أنّه لم يكن مأمورا به في الواقع ، فهل يكون في الأول نفس هذا التجري مع قطع النظر عن الفعل الذي حصل به التجري موجبا للعقاب ، وفي الثاني هذا الانقياد مع قطع النظر عن الفعل

٤٧

الذي حصل به الانقياد موجبا للثواب أم لا ، فلا يكون الكلام في أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به ما يكون حاله ، بل يكون الكلام في صرف أن على التجري يكون العقاب أو لا ولا يكون النظر أيضا في هذه الجهة الى أن التجري حرام ، أم لا؟

الجهة الثالثة : يكون النزاع في أنّ الفعل المتجرّى به يصير حراما ، أم لا؟ مثلا لو اعتقد أنّ هذا خمر والحال أنّه خلّ وتجرّى وشرب هذا المائع يصير هذا الفعل حراما ، أم لا؟ ففي هذه الجهة يكون الكلام في أن الفعل المتجرى به ينقلب عمّا هو واقعا ويصير حراما أم لا؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى فنقول : لا ينبغي أن يقع مورد البحث أصلا ، ولا إشكال في أنّ من يكون فيه هذه الصفة ـ أعني التجري ـ ويكون بحيث لا يبالي على مخالفة المولى يكون شخصا مذموما وخبيثا في مقابل العبد المنقاد ، وأن كلّ عاقل يجعل التفاوت بين عبده الذي يكون من حاله الانقياد مع عبده الذي من حاله التجري والطغيان ، وهذا واضح.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية فيما يظهر من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله هو : أنّ التجرّي موجب للعقاب ، والانقياد موجب للثواب ، بل يظهر من كلامه أنّ الثواب مطلقا ولو في الإطاعة الواقعية يكون على الانقياد ، والعقاب حتى في المخالفات الواقعية يكون على التجري ، لأنّ الحاكم في باب الإطاعة والمعصية والثواب والعقاب هو العقل ، والعقل يحكم بأنّ الثواب على الانقياد والعقاب على التجري.

وبعبارة اخرى نقول في بيان مراده : إنّ في ترتّب الثواب والعقاب يكون نفس العلم موضوعا ، فما هو موضوع حكم العقل والثواب والعقاب يكون نفس الاعتقاد والعلم ، ولو أنّ موضوع حكم الشارع في حكمه يكون هو الواقع فبعد العلم بوجوب شيء لو أطاع انقاد ويحكم العقل بأن له الثواب ولو لم يكن هذا واجب في الواقع ، ولو تجرّى مع العلم وخالف فالعقل حاكم باستحقاقه للعقاب بمجرد تجرّيه ولو لم

٤٨

يكن واجبا واقعا ، ولكنّ الوجوب والحرمة من ناحية الشارع يكونان مترتّبين على الإتيان بالواجب الواقعي وترك الحرام الواقعي.

والشاهد على أنّ الثواب والعقاب على نفس الانقياد والتجرّي هو : أنّه كما ترى أنّك لو تخيّلت صورة العقرب تفرّ منه ولو لم يكن في الخارج عقرب أصلا ، وبالعكس لو كان في الخارج عقرب ولم تكن أنت معتقد بذلك لا تفرّ منه ، لأجل أنّ العلم بوجود العقرب موجب للفرار لا وجوده الخارجي ولو لم تعلم به ، كذلك العلم بالشيء موضوع للثواب والعقاب لا الواقع والخارج ، لأنّ العقل يحكم بذلك ، وإن تمّ هذا الكلام لازمه أن الثواب والعقاب يكونان على الانقياد والتجرّي ، لا على إتيان الواجب الواقعي وترك الحرام الواقعي.

فعلى هذا لا يرد عليه أنّ لازم كون العقاب على التجري هو كون العقابين في صورة الإصابة مع الحرام الواقعي مع تجريه ومخالفته نهي المولى فيلزم تداخل العقابين في هذه الصورة ، لأنّه على ما قلنا في بيان مراده لا يكون العقاب إلّا على التجرّي حتى في صورة مصادفة الواقع ، ولا يكون الثواب إلّا على الانقياد ولو في صورة مصادفة الواقع.

فدعوى هذا المحقق رحمه‌الله هو حكم العقل بذلك ، بل على ما يظهر من بعض كلماته أنّه ترقّى وقال بأنّ الثواب والعقاب لا يكون إلّا على القصد ، وعلى أيّ حال هذا مراده.

فظهر لك أنّ كلمات القائلين بالتجرّي متباينة ، فمن بعض كلماتهم يظهر أنّ العقاب على التجري ، ومن بعضها يظهر أنّ العقاب يكون على القصد المتعقّب به العمل ، لأنّ نفس القصد ليس له ثواب أو عقاب ، كما أنّ من كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضا يظهر تارة أنّ العقاب على التجرّي ، وتارة أنّ العقاب على القصد.

اذا عرفت مراده فنقول : إنّ التجرّي له إطلاقان :

٤٩

الأول : يقال لمن يكون في مقام الطغيان على المولى وعناده بحيث لو أمره المولى : إنّه تمرّد عن إطاعة أمره ، وبالاصطلاح يكون باغيا وطاغيا في قبال العبد الذي يكون مطيعا ومنقادا للمولى ، فعلى هذا يقال لهذا العبد الذي ليس له اعتناء بأمر المولى : إنّه متجرّي مع قطع النظر عن مخالفة منه ، مثل أنّ عبدا لم يتّفق الحال أن يأمره المولى أمرا فيخالفه ، ولكن يكون مع ذلك بحيث لو أمره به يخالفه ويعصيه لأجل عداوته مع مولاه ، مثل أن يقول : لو أمرني المولى لاخالفه ، فهذا الشخص تجرّيه ليس من باب مخالفة أمر المولى خارجا ، بل يكون فيه صفة التجري مع قطع النظر عن مخالفته خارجا ، فيقال لهذا العبد : متجرّ من باب كونه في مقام هتك المولى والطغيان عليه والبغض وعداوته معه ، وكون هذه الصفة فيه فيقابل العبد الذي من حاله كونه مطيعا للمولى وفيه هذه الصفة مع قطع النظر عن العمل الخارجي ، مثل من كان بناؤه على أنّ المولى لو أمره بشيء أطاعه.

الثاني : أن يقال : إنّ كون الشخص متجرّ من باب المخالفة التي صدرت منه في الخارج بأنّه خالف أمر المولى ، فينتزع من هذه المخالفة الخارجية التجري في قبال انتزاع الانقياد من العبد الذي أطاع أمر مولاه ، ففي هذه الصورة ليس تجرّيه من باب كونه في مقام هتك المولى والعناد معه ، بل صدرت منه المخالفة من باب غلبة هوى النفس ، ولو أنّ منشأ ذلك أيضا ضعف اليقين ولكن ليس من باب كونه في مقام هتك المولى والعناد معه ، بل ربّما يكون في هذا الحال خائفا من المخالفة ومتنفرا عن هذا الفعل ، ولكن كما قلنا : إنّ غلبة النفس صارت سببا لهذه المخالفة كما قيل في المروي عن سيدنا السجاد عليه‌السلام في دعاء أبي حمزة : «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ، ولا بأمرك مستخف ، ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي» فيكون العصيان من باب غلبة الهوى لا من باب الاستخفاف بالمولى ، كما كان في الإطلاق الأول فيطلق التجري على هذا القسم أيضا.

اذا عرفت أنّ التجري يطلق على هذين القسمين نقول : إنّ القائل بكون

٥٠

العقاب للتجرّي والثواب للانقياد يكون مراده من التجري في أيّ من الإطلاقين؟ فإن كان مراده هو التجري بالإطلاق الأول فلا شكّ فيه ، ونحن أيضا نعترف بكون العقاب لهذا القسم من التجري ، بل يمكن أن يكون موجبا للكفر أيضا لا للعقاب فقط ، لأنّ هذا العبد معاند ومستخفّ بالمولى.

وإن كان مراده من العقاب على التجري هو التجري بالإطلاق الثاني ـ يعني التجري الذي يتنزع من العمل الخارجي ، مثل أن علم بكون هذا خمر وشربه فيقال : إنّه تجرى على المولى ـ فليس كلامه في محلّه ؛ لأنّ العقل مستقلّ بعدم عقاب على هذا التجري ، ولو كان عقاب فيكون على نفس العمل ، فإن كان العمل حراما واقعا فيستوجب العقاب لمخالفته الواقع لا للتجري ، وليس هذا التجري بعنوان هتك المولى واستخفافه حتى لأجل هذا يحكم العقل بكون ذلك سببا للعقاب بلا إشكال.

والتجري الذي يكون مورد البحث هو التجري بهذا الإطلاق ، لا التجري بالإطلاق الأول فكما قلنا : هذا القسم من التجري يعني ما لا يكون بعنوان الهتك والعداوة مع المولى ليس موجبا لاستحقاق العقاب بحكم العقل ، فدعوى استقلال العقل والوجدان على كون العقاب على التجري إن كان على هذا القسم من التجري يكون دعوى بلا برهان ، والعقل والوجدان مستقلّان على خلافه وعدم العقاب عليه ، فليس عقاب على التجري لعدم كون التجري بهذا المعنى موجبا للعقاب.

ولكن لو صدر منه الفعل بعنوان الإطاعة والانقياد ولو لم يصادف ما تخيّل من كونه واجبا وفعل مع الواقع يعني لم يكن واجبا واقعا ، ولكنّ هذا الانقياد موجب للثواب ؛ لأنّ محرّك هذا الشخص الى الفعل ليس إلّا إطاعة المولى والقيام بوظائف العبودية فحيث أتى هذا الفعل من باب انتسابه الى المولى فنفس ذلك موجب للثواب.

فظهر بذلك الفرق بين الانقياد وبين التجري بالمعنى الثاني ، لأنّ في الانقياد حيث إتيان الفعل ليس إلّا بداعي أمر المولى فمستحق هذا الشخص من جهة انقياده

٥١

للثواب ، وأمّا تجرّيه فحيث لا يكون بعنوان عناد المولى وهتك حرمته بل هوى النفس بعثه على ذلك العمل المحرّم ظاهرا فلا يوجب صرف هذا التجري عقابا.

وما قلنا من كون الثواب على الانقياد لا يوجب أن يكون في صورة الإصابة ثوابان ، مثلا لو اعتقد كون هذا واجبا وفعله بعنوان الانقياد ثم كان واقعا واجبا لم يكن مع ذلك عليه ثوابان : ثواب للانقياد وثواب للإتيان بنفس الواجب ، لأنّه لو كان الواجب تعبديا فليس عنوان الانقياد إلّا عنوان قصد التقرّب والتعبّد المعتبر في العبادة فأتى به ، أمّا العبادة بما هي عبادة فلا توجب إلّا ثواب العبادة.

وإن كان توصّليا فحيث إنّ نفس إتيان العمل في التوصّلي بلا قصد الانقياد لا يوجب ثوابا عليه ، فلو أتى بعنوان الانقياد والعبودية فيوجب ترتب الثواب الواحد على هذا الفعل لأجل هذا الانقياد ، لا لنفس العمل ، فافهم.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة وهي : أنّه مع قطع النظر عن نفس التجرّي هل يكون الفعل المتجرى به منقلبا عمّا هو عليه بنفس الاعتقاد والقطع أو لا؟ مثلا لو اعتقد كون هذا ابن المولى ، والحال أنّه عدوه ومع الاعتقاد بكونه ابنه كان واقعا في الهلكة وتجرى ولم ينجه مع وجوب نجاته ، والحال أنّه في الواقع عدوه وواجب الهلاك فهل يصير بذلك الاعتقاد هذا الفعل الواجب واقعا وهو هلاك هذا الشخص المتوهّم أنه ابن المولى حراما لاعتقاده بكون هذا ابن المولى أم لا؟ قد يقال بذلك ، ومنشأ هذا يمكن أن يكون وجوها :

الوجه الأول : أنّه كما ترى أنّ بعض العناوين يكون لها أحكام في حدّ ذاتها ، ولكن باعتبار بعض الجهات الخارجية يطرأ عليها أحكام بالعناوين الثانوية ، مثلا يكون الضرب بنفسه حراما ولكن حيث يكون لتربية الطفل ـ مثلا ـ واجبا فتارة يصير الضرب بعنوان ثانويّ واجبا اذا كان تربية الطفل موقوفا عليه ، فكذلك نقول في المقام بأن الشيء الذي يكون واجبا ـ مثلا ـ واقعا وفي حدّ ذاته وبقطع النظر عن الجهات الخارجية يصير بعنوان ثانويّ حراما ، والعنوان الثانوي هو تعلّق القطع به

٥٢

فلأجل تعلّق القطع به يصير حراما بعنوان ثانويّ وإن كان واجبا بعنوان أوّليّ ، وهذا الوجه يظهر من بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

ولكن لا يخفى ما في هذا الوجه من الفساد :

أمّا أوّلا فإنّ القطع مسلّما ليس من العناوين الثانوية التي توجب تغيير العنوان الأوّلي والعنوان الواقعي.

وثانيا : أنّ العنوان الثانوي وإن كان يوجب تغيير ما عليه الشيء من العنوان الأولي لكنّ هذا تحت ميزان ولا يمكن الالتزام به في كلّ مورد ، فمورده هو أن يكون الحكم بالعنوان الثانوي فيكون كبرى محكوم بحكم ، فيصير ما هو محكوم بحكم بالعنوان الأولي مصداقا وصغرى لهذا العنوان الثانوي فيغير حكمه ويصير محكوما بالعنوان الثانوي ، مثلا في المثال المتقدم التأديب واجب وهذا كبرى مسلّمة ويكون الضرب أيضا بالعنوان الأولي حراما ، ففي مورد لزوم تأديب طفل في هذا المصداق والصغرى ولو كان بالعنوان الأولي ضربه حراما ولكن لأجل انطباقه على هذه الكبرى المعنون بالعنوان الثانوي يصير ضربه واجبا.

والمورد ليس كذلك ، فإنّ القطع ليس محكوما بحكم حتى في مورد لو صار منطبقا صغرى عليه صار محكوما بحكمه فعلى هذا فهذا الوجه ليس في محله ، فافهم.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : بأنّه لا يمكن أن يكون الفعل المتجرّى به بعنوان تعلق القطع به حراما تحت الاختيار ، حيث إنّه تجرّى بعنوان كون الواقع هو ما تجرى وخالف فكان تجريه بهذا العنوان ، فليس عنوان كونه حراما لأجل تعلّق القطع به تحت اختياره ، لأنّ تجرّيه كان بعنوان آخر لا بهذا العنوان ، فلم يكن بهذا العنوان تحت اختياره حتى يمكن أن يصبح حراما عليه بهذا العنوان ، لأنّه على الفرض في التجري اخذ القطع طريقا الى الواقع ، فتجرّيه يكون بعنوان الواقع وليس القطع مأخوذا موضوعا حتى يكون التجري بهذا العنوان ، فاذا كان تجرّيه بهذا العنوان كان الفعل بهذا العنوان تحت اختياره فيمكن أن يكون حراما عليه ، لأنّه تجرّ

٥٣

بعنوان الواقع لا بعنوان نفس تعلق القطع ، فعلى هذا لا يمكن أصلا كون الفعل حراما من باب تعلق القطع به.

واستشكل عليه النائيني رحمه‌الله : بأنّه على هذا لا يمكن فرض القطع الموضوعي ، لأنّه لو تمّ كلامه يلزم أن لا يكون تحت اختياره ، فلا يمكن كون القطع موضوعا للحرمة أو الوجوب.

وفيه : أنّ نظره رحمه‌الله ليس الى عدم إمكان فرض القطع الموضوعي مطلقا ، بل نظره الى أنّ في التجري حيث يكون القطع طريقيا فالمتجري يكون تجرّيه باعتقاد مخالفة الواقع ، لا مخالفة نفس القطع ، فالفعل المتجرّى به لو كان حراما بعنوان تعلق القطع به ليس تحت اختياره فلا معنى لحرمته عليه بهذا العنوان ، وإلّا فأخذ العلم موضوعا بمكان من الإمكان ، ولا يرد هذا الإشكال ، لأنّه لو اخذ موضوعا يكون النظر الى نفس القطع والانقياد أو التجري يكون بنفس هذا العنوان ، فكلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ليس في هذا الحيث مورد الإشكال.

ولكن يرد عليه : أنّه لو أغمضنا عمّا قلنا في جواب كون الفعل المتجرّى به حراما بالعنوان الثانوي وهو تعلق القطع به أنّه لا يلزم من العنوان في إتيان الفعل أو تركه التوجّه الى نفس المصداق ، وأمّا التوجّه الى عنوانه الكلي في صيرورة الفعل اختياريا فلا يلزم ذلك ـ مثلا ـ في الضرب وكونه اختياريا حتّى يصير حراما لا يلزم كون الشخص متوجّها الى أنّ هذا ضرب محرّم ، ولا يلزم توجّهه الى أنّ هذا الضرب المحرّم بأيّ عنوان كان حراما ويكون ملتفتا الى ذلك ، فعلى هذا فيما نحن فيه مع القطع يعلم بكون هذا حراما ولو لم يلتفت أنّ حرمته كانت لأجل تعلق القطع به ؛ لأنّ هذا المقدار يكفي في كون الفعل تحت اختياره. نعم ، لو لم يلتفت حتى الى كونه معلوما أيضا ومورد تعلق القطع صحّ كلامه ولكن هو ملتفت بذلك.

الوجه الثاني من الوجوه التي قيل بها لإثبات كون الفعل المتجرى به حراما فهو يتمّ مع فرض تمامية كون التجري موجبا للعقاب وكونه قبيحا فيقال : إنّه بعد

٥٤

الفراغ من ذلك وبعد كون ذلك قبيحا يسري قبحه الى الفعل أيضا ، كما قيل بذلك في التشريع بأنّ بعد كون التشريع وبهذا القصد حراما تسري حرمته الى الفعل الذي أتى به بعنوان التشريع فكذلك يقال في المقام بأنّه لأجل التجري يصير الفعل أيضا حراما ، فنفس التجري قبحه لم يصر سببا لكونه إمّا لأجل أنّ ذلك يوجب التسلسل وإمّا أنّ الحاكم العقل في استحقاق العقوبة وقبح التجري ، وليس ذلك من وظائف الشرع حتى يحكم بحرمة التجري ، لكن اذا سرى قبحه الى الفعل فللشارع أن يحكم بحرمة الفعل ، وعدم لزوم التسلسل من جعل الشارع الفعل حراما.

وعلى هذا التقريب لا يلزم اجتماع حكمين متماثلين في محلّ واحد أحدهما حرمته للتجري والآخر لكونه حراما واقعا بنظره ؛ لأنّ كلّا من الحكمين يكون بعنوان غير العنوان الآخر ، فإنّ أحد الحكمين يكون على الواقع ، والآخر من باب كونه الفعل المتجرّى به ، وليسا في رتبة واحدة ، بل أحدهما متأخّر عن الآخر بمرتبتين ، فإنّ مرتبة الحكم الذي على الواقع مقدم على الحرمة المتعلقة بالفعل بمرتبتين ؛ لأنّ هذا الحكم يسري من التجري به فهو مؤخر عن نفس التجري ، ونفس التجري تأخر عن الواقع ، لأنّه بعد اعتقاده بالواقع تجرّى بهذا الحكم الواقعي ، فحكم الساري من التجري تأخر عن الأول بمرتبتين ، وأيضا على هذا لا يلزم من حرمة العمل التسلسل الذي يلزم التجري ، فإنّ التجري لو كان حراما فيوجب التسلسل ، لأنّ ترك هذا الحرام أيضا تجرّي ، وهكذا الى أن يتسلسل ، ولكن حرمة الفعل لا توجب ذلك ؛ لأنّ بالفعل تسري الحرمة من التجري اليه ، وأيضا لا يوجب عقابين ؛ لما قلنا في التجري : إنّ العقاب ليس على مخالفة الحكم الواقعي ، بل يكون العقاب على التجري وليس إلّا عقاب واحد.

ولكن مع ذلك فإنّه بهذا الوجه أيضا لا يمكن الالتزام بكون الفعل المتجرّى به حراما ؛ لأنّه لو كان التجرّي هو نفس القصد فلا يمكن سراية الحرمة منه الى الفعل الخارجي ، لأنّ الميزان في سراية حكم الى موضوع آخر هو كون الاتحاد ونحو

٥٥

وحدة بين الموضوعين ، كما يكون كذلك في الأمر الانتزاعي ومنشأ انتزاعه ، وأمّا فيما ليس بين الموضوعين نحو وحدة فلا يمكن سراية الحكم من أحدهما الى الآخر ، ففي المقام حيث يكون القصد من الأمور القلبية والفعل من الامور الخارجية فلا يمكن سراية حكم الأمر القلبي إلى الفعل الخارجي.

وإن كان التجري الذي يسري قبحه الى الفعل هو التجري الذي ينتزع من الفعل الخارجي فهو وإن كان على هذا يمكن سرايته اليه لكونه منشأ انتزاع هذا التجري ولكنّ هذا موقوف أولا على كون العقاب على هذا النحو من التجري وكونه حراما حتى يسري الى الفعل ، وقلنا بعدم عقاب عليه ، ومع قطع النظر عن ذلك يلزم اجتماع المثلين ، ولا يكون في طول الحكم الواقعي بنظره.

الوجه الثالث من الوجوه الّتي قيلت بكون الفعل المتجرّى به لأجله حراما ـ ولعلّه يكون الى هذا نظر الشّيخ رحمه‌الله هو الالتزام بكونه حراما بحرمة ظاهرية لا بحرمة واقعية ـ بأن يقال بعد حكم الشرع بوجوب اتّباع القطع فيجب العمل بهذا الحكم ، فالواقع حكمه محفوظ ، ويكون في البين حكم آخر وهو الحكم الظاهري على وجوب اتباع القطع ، ومعنى وجوب اتباعه شرعا هو العمل بمؤدّاه ، فلو قطع بوجوب شيء يجب العمل به ، فلو خالف فعل حراما ، فلو شرب الخمر المقطوع حرمته ولو لم يكن خمرا واقعا فعل حراما ، لكون مؤدّى القطع على هذا حكما ظاهريا وهو الحرمة ، فإن كان حرمة الفعل المتجرّى به لأجل حرمته الظاهرية فلا يرد بعض ما أورد على الوجهين المتقدمين ، لأنّ كلها كان على تقدير كون الفعل حراما واقعيا ، وإلّا فالحرمة الظاهرية لا مانع منها كما نقول في الظنّ ، ومن بعض الأمثلة الّتي ذكرها الشيخ رحمه‌الله يظهر أنّ مراده هذا كما في مثاله بسلوك طريق مظنون الضرر.

ولكن هذا أيضا غير تمام ، حيث إنّ القطع ليس كالظنّ من مجعولات الشارع ، وليس للشارع حكم بوجوب اتّباعه ، بل على ما قلنا ليس حكما عقليا أيضا على

٥٦

وجوب اتّباعه ، وأيضا قلنا بعدم إمكان الالتزام بالحكم الظاهري حتى في مؤدّيات الظنون فكيف يمكن الالتزام بذلك في المقطوع؟

ثم على مبنى القدماء القائلين بالحكم الظاهري في الأمارات يمكن القول بذلك ، ولكن يرد عليه الإشكال الأول ، وهو : أنّ القطع ليس مجعولا ، وليس للشارع حكم فيه ، ويكون قطع المخالف للواقع جهلا لا طريقا الى الواقع ، وما هو طريق الى الواقع يكون هو العلم وهو دائما يصادف الواقع ، ومن قطع بشيء وليس واقعه كذلك ليس هذا إلّا جهلا لا علما.

الوجه الرابع : أن يقال بحرمة الفعل المتجرى به بحكم ظاهري ، ولكن لا بحكم الشرع بل بحكم العقل.

بيانه : أنّه بعد كون الواقع محكوما بحكم فهو لازم الإطاعة اذا تعلق به القطع ، وإلّا فما دام لم يقم القطع عليه ولم ينكشف بواسطته فلا يكون لنفس الواقع تنجيز فيكون للقطع موضوعية ، فعلى هذا نقول بأنّ القطع بالواقع يكون مؤثرا ، فاذا كان كذلك فالعقل حيث يرى أنّ المكلف تارة يكون قطعه مصادفا الواقع ، وتارة غير مصادف له ، وفي كلّ منهما يكون بنظره أنّ قطعه حجة وينكشف به الواقع ، ولا يحتمل الخلاف لكونه قاطعا ، فالعقل يحكم لأجل حفظ الواقع بحكم آخر وهو العمل بقطعه مطلقا ولو في صورة عدم الإصابة لأنّه بعد عدم كون المصادفة وعدم المصادفة ؛ تحت اختياره فلا يمكن الحكم عليه باتباع خصوص القطع المصادف ، فلو حكم بالعمل بخصوص المصادف فهو غير مقدور له ، ولو حكم بعدم العمل بالمصادف وغير المصادف فهو خلف ، فلا بد أن يحكم بالعمل بكلّ من المصادف وغير المصادف حتى يحرك المكلف نحو الواقع ، لأنّه لو أمره بخصوص المصادف للواقع فهو لا يحرك الى العمل ، لاحتمال أن يكون غير مصادف للواقع ، فالعقل له حكم آخر غير ما هو الواقع محكوم به على اتّباع مطلق القطع والعمل به ، فهذا حكم ظاهري حكم به العقل لحفظ الواقع ، ويمكن أن يكون نظر الشيخ رحمه‌الله الى هذا.

٥٧

وفيه : أنّ بهذا الوجه أيضا لا يمكن الالتزام بحرمة الفعل المتجرّى به ، لأنّه بعد ما قلنا من أنّ ما يلزم اتباعه وطريق الى الواقع وكاشف له هو العلم ، والعلم ليس له إلّا صورة واحدة وهي صورة مصادفته الواقع ، لأنّ العلم هو الانكشاف التام الموافق للواقع ، فالعلم دائما مصادف للواقع وهذا طريق الى الواقع لا القطع الذي تارة يصادف وتارة لا يصادف.

فعلى هذا نقول : إنّ مع قطع الشخص بشيء والحال أنّ الواقع ليس كذلك فليس للعقل حكم أصلا في مورده ، لأنّ هذا ليس إلّا تخيّل صرف وجهل أيّ جهل ، فالعقل كيف يحكم عليه باتّباع جهله؟ فإنّ العقل لو لم يحكم بعدم اتباع هذا القطع فلم يقرره على اتّباعه فهذا الوجه أيضا غير وجيه.

فظهر لك أنّ في باب التجري ليس القطع مأخوذا على نحو الموضوعية أصلا ، فمن تخيل ذلك وبنى على هذا البناء الفاسد امورا ليس في محله كما فعله النائيني رحمه‌الله ، وعليك بالمراجعة في كلماته في هذا المقام فإنّ بعضها مورد الإشكال ، ولعلّ الاشتباه فيه من المقرر.

وممّا تلونا عليك سابقا في طيّ كلماتنا ظهر لك الفرق بين الانقياد وبين التجري ، وعدم العقاب في الثاني ، والثواب في الأول لحيث استناده الى المولى ، فإنّه يأتي بالفعل بعنوان إطاعة المولى وانقياده له ويثاب على ذلك مع ما قلنا في الفرق بين التعبدي والتوصلي.

وأمّا التجري فحيث لا يكون بالمعنى الثاني منه الذي قلنا سابقا هتكا للمولى ، بل غلبة النفس صار سببا له فلا يوجب عقابا أصلا ، فافهم.

إذا عرفت ما هو الحقّ في الأقسام الثلاثة من التجري نقول : في مقام الشهرة لهذا النزاع بعد كون العقاب عليه أو عدم العقاب عليه على اختلاف بأن الثّمرة في المسألة هي : أنّ العدالة المعتبرة في إمام الجماعة أو في الطلاق على القول بكون العدالة هي الملكة فلو لم تحرز عدالة شخص وتجرّى يعني كان متجريا على المولى فمع هذه

٥٨

الصفة فيه أو إبرازه منه لا يمكن الحكم بكون الملكة فيه ، لأنّ الملكة صفة نفسانية رادعة عن مخالفة المولى ، فمن تجرّى على المولى ولم تحرز عدالته الى الحال فهذا شاهد على عدم كون الملكة فيه ، ولا يمكن مع ذلك الحكم بكونه ذا ملكة ، وأمّا لو كان له ملكة سابقا ثم تجرّى فحيث إنّ الملكة لا تزول بصرف المخالفة ولم نعلم بأنّها بأيّ شيء تزول.

فنحتاج في فهم ذلك الى ورود التعبد من ناحية الشارع وتحديد الشارع في زوال الملكة لو كان التجرّي معصية حقيقة ، فصرف التجري لا يوجب زوال الملكة ، لأنّه ليس معصية حقيقية ، بل تزول الملكة بفعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة ، وأما لو قلنا بكون التجري حراما ظاهرا فيصير التجري معصية حقيقة فالاصرار عليه مسلما موجب لزوال الملكة ، لأنه لو كان من المعاصي الكبيرة فبارتكابها مرّة واحدة تزول الملكة ، وإن كانت صغيرة فالاصرار عليها يوجب الزوال.

نعم ، لو تجرى مرة واحدة وشككنا في أنّ التجري من الكبائر حتى كان فعله مرة يوجب زوال الملكة ، أو الصغيرة حتى لا يوجب إتيانه مرة زوال الملكة ، بل لا بدّ من إصرار عليه حتى تزول الملكة ، فنستصحب الملكة في هذا المورد ، فافهم.

هذا كلّه في التجري. وأمّا الكلام في القصد فإن قيل بكونه حراما من جهة حرمة التجري وأنّه بعد كونه حراما حيث إنّ القصد والعزم مقدمة له فهو حرام فلا وجه لذلك ، لأنّه مضى عدم حرمة التجري إلّا في القسم الأول.

وإن كان المراد بكونه حراما لا من باب كونه مقدمة للتجري بل يكون أحد المحرّمات بنفسه فلا بدّ أن يفهم ذلك من الأخبار ، وبعد المراجعة الى الأخبار نرى أنّ القصد على إتيان الواجب يكون الثواب ، وأما القصد على فعل الحرام فليس حراما ولا عقاب عليه إلا في مورد القتل ، لدلالة بعض النصوص على ذلك في خصوص القصد ، وأما كونه حراما مطلقا فلا دليل على ذلك أصلا ، فافهم.

٥٩
٦٠