المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومبناه في مقام العمل ، بل يكون إبداء هذه الاحتمالات لرفع التنافي ورد طعن العامّة العمياء ، ولهذا لا يمكن أخذ الفتوى من محتملاته ، ولا يمكن أن يقال : إنّ فتواه هو ما احتمل في الأخبار المتعارضة ، كيف والحال أنّ فتواه على خلاف محتملاته في بعض الموارد أولا ، وتكون الاحتمالات كلّ منها مخالفا للآخر ثانيا؟ فلا يمكن أن يكون كلّها فتواه.

فظهر لك أنّ نظرهم الى التفوه بهذا الكلام هو رفع التنافي بين الأخبار المتعارضة ، لا أن يكون هذا الجمع ورفع التنافي منشأ للعمل ، ولكن اشتبه ذلك على بعض المتأخّرين وأجرى هذا الكلام الى ما نحن فيه ، والحال أنّا في المقام نكون في مقام رفع التعارض حتى يصير مبنانا في مقام العمل عليها.

ففي ما نحن فيه في كلّ مورد يمكن الجمع العرفي كما قلنا لك موارده إجمالا ، وكان بحيث لا يرى العرف بين الدليلين تعارضا وتناف فليس من باب التعارض ، وإلّا فيكون من باب التعارض ، ويجري فيه ما يجري في باب التعارض. اذا عرفت معنى التعارض وأنّ أيّ محلّ مورده ، وأيّ محلّ خارج عنه؟ فبعونه تعالى نشرع في المقصود ، يعني في بيان الجهات التي يبحث فيها بعد تعارض الدليلين ، فالكلام في باب التعارض في مواضع :

الموضع الأول :

هو أنّ الدليلين المتعارضين : تارة تكون النسبة بينهما التباين ، بمعنى عدم إمكان صدق مورد من موارد أحدهما في مورد من موارد الآخر ، مثل أن يدل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته. وتارة تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، مثل أن يدلّ أحدهما على وجوب إكرام العلماء والآخر يدلّ على حرمة إكرام الفسّاق. فهنا مقامان :

٤٨١

المقام الأول : فيما تكون النسبة بين دليلي المتعارضين التباين. ومقدّمة لفهم المقصد نتعرّض لمقدّمتين :

المقدمة الاولى : هي أنّ الأمارة بعد إثبات حجيتها يكون العمل على طبقها من باب احتمال كونها موافقة للواقع ، أو الظنّ بكونها موافقة للواقع ، لا من باب كونها مقطوع المصادفة بالواقع حتّى بعد الحجية أيضا ليس إلّا احتمال المصادفة أو الظنّ ، لا العلم ، وهذا واضح ، وحتى على القول بالتصويب أيضا بعد قيام الأمارة على شيء ولو على أحد جانبيه يكون مؤدّى الأمارة حقيقة هو الواقع ، ولكن مع ذلك يحتمل في هذا الحال أيضا أن يكون هذا الخبر الذي قال به زرارة هو غير موافق للواقع ، ولو على التصويب يعتقد بكونه هو الواقع ، لأنّ كونه على هذا واقعا غير مناف مع احتمال عدم كون هذا الخبر على وفق الواقع.

وعلى كلّ حال على مختارنا وبطلان التصويب فواضح بأنّ الأمارة بعد حجيتها لا يكون العمل على وفقها إلّا من باب الاحتمال أو الظنّ بكون مؤدّاها هو الواقع ، وكذلك الحال في أصالة الظهور وأصالة عدم التّقية ، فمع أصالة الظهور أيضا يظنّ أو يحتمل كون هذا الظاهر مرادا أو كون هذا صدر على غير تقية ، فافهم.

المقدمة الثانية : أنّ حجية كلّ أمارة غير موقوفة على حجية الاخرى. وبعبارة اخرى : أنّ صدق العادل منحلّ بصدق العادل الكثير بعدد الأخبار ، فشموله لكلّ منها غير متوقف على شموله للآخر ، وهذا أيضا واضح.

اذا عرفت المقدمتين فنقول : إنّ كلّ خبر مع قطع النظر عن التعارض حجة ويشمله صدق العادل اذا احتمل كون مؤدّاه هو الواقع ، وأما اذا علم بكذبه فلا يشمله صدق العادل.

ففي فرض العلم بكذب خبر ليس فيه مقتضى الحجية برأسه مع قطع النظر عن التعارض فلو لم يكن له معارض أصلا لا يكون مع ذلك حجة ، وكما أنّه لو

٤٨٢

فرض العلم التفصيلي بكذب خبر نقول بعدم مقتضى الحجية فيه ، كذلك لو كان في البين خبرين وعلم بكذب أحدهما فإنّما نقول بعدم كون مقتضى الحجية لهما بمقتضى العلم الإجمالي ، فليس من موارد التعارض هذان الموردان ، يعني مورد العلم بكذب أحد الخبرين تفصيلا ، ومورد العلم بكذب أحد الخبرين إجمالا ، فكما قلنا ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في صورة التعارض بالعرض كما علم بكذب أحدهما ليس في محلّه ، فمورد التعارض ومحله هو بعد الفراغ عن إثبات المقتضي للخبرين ، يعني كون المقتضي للحجية لهما بحيث إنّه لو لم يكن المعارض كان كلا منهما حجة ، وليس المانع من العمل بهما إلّا تعارض كلّ منهما مع الآخر ، فاذا ثبت كون المقتضي للخبرين وظهر بينهما التعارض ، مثلا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته فيتولّد من نفسهما علم ، وهو أنّ الشخص بعد ما يرى أنّ الوجوب والحرمة ضدّان ولا يمكن الجمع بين الضدّين يتولّد له علم بعدم إمكان صدق هذا الاجتماع ، يعني لا يمكن أن يكون هذا الاجتماع صادقا ، فحيث الذي يتولّد منه العلم هو هذا الاجتماع ، وإلّا فمع قطع النظر عن اجتماعهما فلا مانع من الأخذ بكليهما ، وهذا العلم غير العلم بكذب أحدهما ، لأنّ في هذا العلم ومع تولّد هذا العلم لا يعلم الشخص بكذب أحدهما ، بل يعلم بكذب الاجتماع ، لأنّ العلم تولّد من جهة الاجتماع ، وبعد عدم إمكان اجتماعهما فالجمع لا يمكن له لأجل علمه ، فكلّ أثر يكون لهذا الاجتماع يرتفع لعلمه بكذب الاجتماع فلا يجب العمل ، بل ولا يجوز العمل بكلّ منهما يعني حفظ هذا الاجتماع ، ولكنّ كلّ من الخبرين باق في حد ذاته على الحجية لعدم انثلام العلم بهذا الحيث فكل منهما ينتفي الثالث لا أحدهما كما توهم المحقّق الخراساني ففي المثال ينفي القول بالاباحة بمقتضى دليلين دليل الحرمة ودليل الوجوب.

اذا تمّ ما تلوناه عليك من المقدمتين فنرجع الكلام الى أصل المطلب ، يعني بيان الحق فيما اذا كان التعارض بين الخبرين على وجه التباين.

فنقول : تارة نقول بحجية الأمارة من باب الطريقية ، وتارة من باب السببية ،

٤٨٣

فإن قلنا بالأول كما هو الحق فنقول على ما قلنا من أنّ العمل حتى بعد الحجية بالأمارة تكون من باب الظن أو احتمال كون مؤداها هو الواقع ، وأنّ شمول دليل الحجية في كلّ أمارة غير موقوف على شموله للآخر ، وهذا معنى انحلال صدق العادل بصدق كثيرة بعدد الأخبار ، فيكون مقتضى الحجية في كلا الخبرين حتى بعد تعارضهما موجودا ، غاية الأمر كما قلنا لا يمكن له حفظ هذا الجمع ، أي يعلم بعدم هذا الجمع ، فلا يمكن له حفظ هذا الجمع ، وبعد عدم إمكان ذلك لا يمكن له الأخذ بأحدهما المعين وترك الآخر ، فإنّ الأخذ بأحدهما وإن لم يكنّ منافيا مع هذا العلم ولكن الأخذ لكلّ منهما وترك الآخر يكون من قبيل الترجيح بلا مرجّح ، فحيث لا ترجيح لأحد الطرفين حتى يأخذ به ويترك الآخر لا بدّ من إسقاط كلّ منهما لأجل العلم بعدم صدق هذا الجمع ، فلهذا نقول على كون حجية الأمارات من باب الطريقية بأن مقتضى القاعدة هو التساقط ؛ لما قلنا وفهمت إنّ ذلك ليس من باب كون العلم بكذب أحدهما ، فإنّه كما قلنا حتى بعد العلم بعدم صدق هذا الجمع لم يكن العلم بكذب منشأ ، بل العلم هو عدم إمكان الجمع ، فما هو موضوع العلم هو هذا ، لا أحد الطرفين. هذا بالنسبة الى نفسهما وأنّهما يتساقطان.

وأمّا بالنسبة الى نفي الثالث مثلا بعد قيام الأمارة على وجوب شيء وقيام أمارة اخرى على حرمته فهل ينفيان الثالث أعني القول بالإباحة ، أو لا ينفيان؟

نقول في هذا المقام : بأنّه لو كان إحدى من الامارتين فقط مثلا الأمارة الدالة على الوجوب فهو بمقتضى حجّيتها ينفي الإباحة ؛ لأنّ معنى كونه واجبا هو عدم إباحته ، لأنّ لازم الوجوب عدم كونه مباحا ، وكذلك لو كانت الأمارة الدالة على الحرمة فقط أيضا تنفي الإباحة لأجل كون مقتضى الحجية فيها ، ومقتضى حجيتها هو عدم كون مؤداها مباحا ، وبعد تعارض الأمارتين أيضا بعد كون المقتضي في كليهما وليس العلم بكذب إحداهما بل العلم فقط يكون بعدم صدق الجمع فيتساقطان من هذا الحيث ، يعني لا يمكن الجمع بينهما ، وهذا الجمع غير صحيح ، فلا

٤٨٤

يمكن ـ كما قلنا ـ الأخذ بكلّ منهما بخصوصها ؛ للزوم الترجيح بلا مرجح ، ففي كل حيث يكون العمل بكلّ منهما منافيا لهذا العلم تسقطان عن الحجية ، وأمّا في جهات اخرى غير حيث المتعلق به العلم فلا مانع من الأخذ بكلّ منهما ، وحيث الذي يكون العلم مانعا ليس إلّا الجمع بينهما فلا يجمع بينهما ، ولكن في حيث آخر وهو الأخذ بلازميهما فلا مانع منه ، فللأمارة حيث وهو الأخذ بملزومه المطابقي ، وحيث وهو الأخذ بمدلوله الالتزامي ، فلو فرض وجود المانع من الأخذ بأحد الحيثين فلا مانع من الأخذ بحيث آخر.

ففي المقام حيث الأخذ بلزوم الأمارتين وهو الوجوب أو الحرمة غير ممكن لعلم الذي يكون في البين ، وأمّا حيث آخر وهو لازمهما معين عدم وجوب كون مؤداها مباحا فلم يكن منه مانع فنأخذ به ، فكلّ من الأمارتين بمدلولهما الأثر أي ينفي الثالث.

وبما قلنا يظهر لك فساد كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه بعد عدم إمكان الأخذ بالملزوم لأجل العلم ، فكيف يمكن الأخذ بحيث اللازم؟ لأنّ الأمارة ولو كانت لوازمها حجة أيضا كملزوماتها إلّا أن شمول دليل اعتبارها باللازم يتولّد من شمول دليل اعتبارها للملزوم ، فبعد عدم حجيتها بالنسبة الى الملزوم لا يبقى مجال لشمول دليل حجّيتها للّازم.

وأورد عليه النائيني رحمه‌الله : بأنّ شمول صدق العادل للملزوم واللازم في عرض واحد ، وليس شموله للّازم في طول الملزوم ومتولّدا منه حتى يرد هذا الإشكال.

ولكنّ كلام كلّ منهما في هذا المقام خلاف مشيهم في كيفية شمول دليل الأمارة للملزوم واللازم ، فإنّ الأول قال بشمول دليل الاعتبار للملزوم واللازم ، عرضا ، فإشكاله على خلاف مبناه ، والثاني قال بشمول دليل الاعتبار للّوازم في طول الملزوم ، ولكنّ بعد كون الحقّ هو انحلال صدق العادل بعدد اللوازم والملزوم عرضا لا يبقى لهذا الإشكال الذي أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله مجال ، فظهر لك أنّ على

٤٨٥

الطريقية الحقّ هو التساقط.

وأمّا بناء على كون الأمارات حجة من باب السببية فنقول : بأنّ بعد كون المقتضي لكلّ من الخبرين كما قلنا وهذا المقام هو مورد التعارض ، ففي مورد التعارض وإن كان عالما بعدم صحة هذا الجمع لكن مع ذلك يكون الحكم هو التخيير ويكون من باب التزاحم ؛ لأنّ بعد ثبوت المقتضي لا يمكن له الجمع ، فكما أنّ في المتزاحمين بعد إحراز المقتضي حيث لا يمكن له الجمع في مقام العمل يحكم العقل بالتخيير فكذلك في المقام فإنّ العلم مع هذا ، ولكن حيث إنّه على السببية يكون مؤدّى الأمارة حكما واقعا ففي كونهما حكما واقعيا لا ترديد له ، ولكن لا يمكن له الجمع ، فظهر أنّه يتخير بينهما ، يعني بين العمل بهما.

وأمّا لو علم بكذب أحدهما كما فرض المحقّق الخراساني رحمه‌الله هذا القسم صورة اخرى فكما قلنا : إنّ هذا القسم خارج عن باب التعارض ، ومحلّ الكلام هو فيما كان المقتضي لهما ، وبعد كون المقتضي لهما تكون النتيجة هي التخيير ، ولا فرق بين ما قلنا بين السببية التي قالت العامة بأنّ نتيجته التصويب وبين ما قال الشيخ رحمه‌الله ، يعني المصلحة في السلوك ، لأنّ على هذا أيضا بعد إثبات المقتضي لكلّ من الخبرين فلو لم يكن مؤدّاه هو الواقع ولكن يصل بالمصلحة على أيّ حال بعد إحراز المقتضي فأيضا تكون النتيجة هي التخيير ، ولا فرق في ما قلنا بين كون النسبة هي التضاد بين الخبرين أو التناقض ، فلا فرق بين كون أحدهما دالّا على وجوب شيء في حال والآخر على وجوب هذه في هذه الحال ، أو أن يكون أحدهما دالّا على وجوب شيء والآخر على حرمته ؛ لأنّ الملاك في كلّ منهما واحد ، وما قاله النائيني رحمه‌الله والتزم بالفرق بينهما وقال بعدم التخيير فيما لو كان لسان الأمارتين إثبات حكم مضادّ للآخر.

والتخيير فيما كان لسانهما إثبات حكم متناقض وقياسا بالنذر ، بأنّه لو نذر شخص إعطاء شيء مخصوص لشخص ، ووكيله نذر في هذا الحال إعطاء هذا الشيء

٤٨٦

لآخر بعدم انعقاد النذر ليس في محلّه ، لأنّ في النذر شرط انعقاده من رأس ، هو القدرة على المتعلق فالمقتضي في النذر ليس إلّا في مورد القدرة ، ولهذا كلا النذرين باطل ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّ الكلام بعد تمامية المقتضي.

٤٨٧
٤٨٨

فصل

في الاجتهاد والتقليد

٤٨٩
٤٩٠

فصل

في الاجتهاد والتقليد

لا يخفى عليك أنّ الاجتهاد لو قيل بإفادته معنى الحدثي وصرف الحدث فيكون الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية ، ولو قيل بكون الملكة مأخوذة فيه فهو عبارة عن الملكة التي بها يتمكّن الشخص من تحصيل الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية.

والحقّ أنّ الملكة ليست مأخوذة في نفس لفظ «الاجتهاد» وإن كانت مأخوذة في بعض اشتقاقاته ، كالمجتهد ، فإنّ في بعض الموارد تأتي الملكة وتأخذ بعض المشتقّات بمناسبة الاشتقاق ، والحال أنّها ليست مأخوذة في المصدر ، والاجتهاد من هذا القبيل.

وعلى أيّ حال فالاجتهاد المصطلح عندنا هو هذا الذي بيّنّاه من أنّه عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية ، أو ملكة ذلك.

فهذا المعنى غير الاجتهاد المصطلح المتعارف عند العامة ، حيث إنّهم يتخيلون بأنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع لتحصيل الحكم لا من الأدلة الشرعية فقط ، بل من القياس والاستحسان أيضا ، كما يظهر ذلك من كلماتهم ، وهذا الاجتهاد اجتهاد باطل ، وليس ثمرته إلّا اندراس آثار الدين والعمل بما تقتضيه آراؤهم

٤٩١

وعقولهم الناقصة.

والأخباريّون إن كان طعنهم بالاجتهاد هو ما يكون في المتعارف عند العامة فنحن أيضا موافقون لهم ، وإن كان غرضهم الطعن بالاجتهاد الذي نحن نقول به والمتعارف عندنا فهو ليس في محلّه ، وليس مجال للطعن ؛ لأنّا لا نعني بالاجتهاد إلّا كشف الحكم الشرعي في الوقائع من دليل شرعي ، ولا إشكال في أنّ الأخباريّ أيضا يكون مثلنا في هذا الأمر ، فهو أيضا لا بدّ له من كشف الحكم الشرعي في الوقائع من الدليل الشرعي وإن كان إشكاله في الاسم فالعاقل يرى ما فيه.

فظهر لك معنى الاجتهاد المصطلح عندنا وكونه غير الاجتهاد المصطلح عند العامة ، وعدم ورود طعن الأخباريّين عليه ، ولو طعنوا بهذا المعنى من الاجتهاد ، فافهم.

اذا عرفت المراد من الاجتهاد فالكلام في الاجتهاد والتقليد يقع في ضمن مقاصد :

المقصد الأول

المجتهد إمّا مطلق ، أو متجزّئ. فالمجتهد المطلق هو الذي يكون قادرا على استنباط جميع الأحكام. والمجتهد المتجزّى هو القادر على استنباط بعض الاحكام.

ولا ترديد في وقوع اجتهاد المطلق كثيرا ، وصرف الترديد في الحكم الواقعي لواقعة ليس دليلا على عدم اجتهاد المطلق ، إذ معه قادر على حكمه الظاهري من جريان الأصل مثلا ، وكذلك لا إشكال في إمكان التجزي في الاجتهاد ، لأنه ربّ شخص قادر على فهم مباني استنباط بعض الأحكام ، والحال أنّه غير قادر في البعض الآخر ؛ لسهولة فهم بعض الأحكام وصعوبة بعضها ، فيقدر على الأول دون الثاني ، وهذا ممّا لا كلام فيه.

إنّما الكلام في رجوع الغير الى المجتهد وقضائه ، فنقول : بأنّ المجتهد المطلق تارة

٤٩٢

يكون ممّن يقول بانفتاح باب العلم والعلمي ، واخرى يقول بالانسداد ، فإن قال بانفتاح باب العلم فلا إشكال في إفتائه ورجوع الغير اليه ؛ لأنّ القدر المسلّم ممّا لا بدّ من رجوع الجاهل اليه هو هذا المجتهد ، وكذلك لا إشكال في صحة قضائه ؛ لأنّه ممّن يعرف الأحكام. والمستفاد من الرواية هو أنّ القضاء حقّ لمن يعرف الأحكام ؛ لأنّه ورد في في الرواية ما يقرب من هذا المضمون : «وعرف أحكامنا».

وإن كان المجتهد المطلق قائلا بانسداد باب العلم : فتارة تكون نتيجة دليل الانسداد عنده هو الحكومة ، فلا إشكال في عدم صحة قضائه ؛ لأنّه لم يعرف الأحكام ، بل يعمل بالظن بمقتضى حكم العقل ، وكذلك إفتاؤه ورجوع الغير اليه ، لأنّه غير عالم بالحكم الشرعي.

وتارة يقول بالكشف ، فأيضا لا يجوز له القضاء ؛ لعدم معرفته بالأحكام ، وكذلك رجوع الغير اليه ، لأنّ بعد جريانه مقدمات الانسداد على الكشف تكون النتيجة هي أنّ الشارع جعل الظنّ حجة ، فالظنّ حجة له لا للغير ، فالغير لا يجوز له الرجوع بظنّه ، فافهم.

وأما المجتهد المتجزّئ فلا إشكال في جواز عمل نفسه بما استنبطه من بعض الأحكام ، ولكن لا بدّ وأن يكون هذا الاستنباط ولو في بعض الأحكام عن ملكة ، وكان اجتهاد نفسه لا بصرف أنّه إن رأى مطلبا في كتاب أو سمع من استاذ واستحسنه كان اجتهادا. وعلى أيّ حال لو كان اجتهاده عن ملكة فلا إشكال في حجّيته لنفسه ، وأما رجوع الغير اليه في الفتوى فلا يجوز ؛ لأنّ الميزان في باب التقليد ليس فقط من باب صرف رجوع الجاهل الى العالم فقط ، بل ما يستفاد من مذاق الشرع هو أنّ الإفتاء منصب ؛ لأنّه بعد كون المراد من ما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هو أهل البيت عليهم‌السلام ، فهذا المنصب مختصّ بهم ، ثمّ إنّهم أمروا بالرجوع الى البعض وأعطوا هذا المنصب للبعض ، والقدر المتيقن

٤٩٣

من هذا البعض هو المجتهد المطلق ، وأما المجتهد المتجزّئ فغير معلوم. كما أنّ كلّ ما احتملناه أن يكون شرطا لهذا المنصب نلتزم باشتراطه لأجل لزوم الأخذ بالقدر المتيقن ، مثل الحياة والأعلمية.

وأمّا قضاؤه أيضا فغير جائز ، لأنّه بمقتضى «عرف أحكامنا» لا بدّ وأن يكون القاضي عارفا بجميع الأحكام ؛ لأنّ «أحكامنا» جمع المضاف وهو يفيد العموم ، فما قاله المحقق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لو كان بحيث يعدّ عرفا أنّه يعرف الأحكام يكفي ليس في محلّه ؛ لأنّه لا مجال للرجوع الى العرف ، بل لا بدّ وأن يكون عارفا بجميع الأحكام ، فإن كان كذلك فيكون أهلا للقضاء ، وإلّا فلا ، فافهم.

المقصد الثاني

لا إشكال في أنّ الاجتهاد موقوف على معرفة بعض العلوم ، كالنحو والصرف والتفسير والرجال وعلم الحديث والاصول وغير ذلك ، ولا بد من فهم ذلك اجتهادا ، وإلّا فهو تقليد وليس باجتهاد ، ولا فائدة في التطويل في هذا الباب أزيد من هذا.

المقصد الثالث

في التخطئة والتصويب

لا إشكال في استحالة التصويب في العقليات ، إذ الواقع واحد فإمّا يصادف الشخص به ، أو لا ، وليست العقليات كالامور الجعلية التي يحتمل فيها التصويب. وأمّا في الفرعيات فحيث إنّها من الامور الجعلية يتصور فيها التصويب ، فالعامة لأجل بعض ما التزموا من الآراء الفاسدة التزموا بالتصويب في الفرعيات ، وقالوا بأنّ الكلّ مصيبون ، مثلا أنّهم يعتقدون أنّ عليا عليه‌السلام مصيب ، ومعاوية ـ لعنه الله ـ

٤٩٤

أيضا مصيب ، فالأشاعرة الغير قائلين بالحسن والقبح التزموا بأنّه ليس حكم لله أصلا ، بل المجتهد بعد فحصه فكل ما فهم هو حكم الله الواقعي ، وهذا دور واضح ، إذ لا بدّ وأن يكون حكم حتى يفحص عنه المجتهد فكيف يمكن أن يحدث الحكم بعد فحص المجتهد؟ وهذا هو الدور المحال.

وبعضهم حيث رأى فضاحة ذلك التزم بأن نفرض شيئا بحيث إنّ الله تعالى لو أراد أن يجعل له حكما كان هو حكمه ، ولكن لم يجعل ، فالمجتهد كل ما يحصل له هو حكم الله الواقعي ، لكن لا يلزم الدور ، لأنّه تفحّص عن الشيء الذي فرض أنّ الله لو أراد أن يجعل حكما كان مجعوله هو هذا الشيء ، وهذا أيضا محال ، إلّا أنّ يوجّه بما قلنا.

وبعضهم قالوا بأنّ لله حكما إلّا أنّه لو صادف المجتهد به فهو حكمه ، ولو لم يصادف به كان ما صادف رأيه به هو حكم الله أيضا ، مثل الفرق بين العالم والجاهل في الأحكام.

ولا يخفى أنّ هذه الأقوال مع قطع النظر عن كون بعضها محالا خلاف المستفاد من أخبار الإمامية ، فالإمامية ملتزمون بالتخطئة ، وأنّ من صادف رأيه مع الحكم الواقعي فهو ، ومن لم يصادف فإن كان غير مقصّر في المقدمات فهو ولو لم يبلغ بالحكم الواقعي لكنه معذور. وإن كان مقصّرا في المقدمات فغير معذور ، وما هو المسموع والمعروف من أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا أيضا لم يكن واردا في طرقنا وغير صحيح ، والمخطئ بعنوان خطئه لا أجر له ، نعم بعنوان تحصيله يمكن أن يكون له الأجر ، فنحن نلتزم بالتخطئة في الشرعيات.

ولو التزم أحد بالمصلحة في الطرق فليست مصلحة في مقابل الواقع ، بل هو ملتزم بالمصلحة السلوكية ، ويمكن أن يتدارك هذه المصلحة السلوكية بمصلحة الواقع الفائتة عنه ، فتدبّر.

٤٩٥

المقصد الرابع

لا يخفى عليك أنّه لو التزم أحد بالتصويب في الفرعيات فلا إشكال في أنّه لو تبدّل رأيه برأي آخر ، أو رأيه السابق بالاحتياط في المسألة تصحّ أعماله السابقة لكون مؤدّى رأيه هو الواقع على التصويب ، وأمّا على ما هو الحق وهو مختارنا من الالتزام بالتخطئة في الفروع فلو تبدّل رأي المجتهد فهل تكون أعماله السابقة التي عملها على طبق رأيه السابق صحيحا ومجزيا ، أو ليس كذلك ، أو التفصيل بين العبادات والمعاملات؟

اعلم : أنّ مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء ، مطلقا ، سواء كان الطريق الذي أدّى الى رأيه السابق هو القطع ، أو الأمارة ؛ لأنّ حجيتهما تكون ما دام لم ينكشف الخلاف ، فاذا انكشف الخلاف فلا مقتضى للإجزاء. نعم ، ما يفوت منه بسبب الطريق حيث كان بأمر الشارع سلوكه لهذا الطريق وليس قابلا للجبران ، مثل مصلحة الوقت فلو ذهب من يده فلا جبران له ، فعلى هذا كلّ ما كان قابلا للجبران والتدارك كقضاء الصلاة مثلا فعليه الجبران بمقتضى القاعدة ، وقد يقال في خصوص الصلاة بعدم لزوم الإعادة والقضاء لو صلّى بنحو بمقتضى رأيه ثم تبدّل رأيه بمقتضى حديث «لا تعاد» لو كان ما فات منه بسبب اشتباهه غير المستثنى.

ولكنّ فيه : أنّ حديث لا تعاد لا يشمل صورة الجهل ، فعلى هذا لا وجه للتمسّك به للمورد ، وكذا بحديث الرفع ، لأنّ حديث الرفع أيضا يرفع ما دام لا يعلم ، وأمّا مع العلم فلا وجه لرفعه ، ولكن مع هذا في خصوص العبادات نلتزم بالإجزاء لأجل الإجماع القائم على هذا ، وأما في المعاملات فلا وجه للقول بالإجزاء ، بل كما قلنا : عدم الإجزاء يكون مقتضى القاعدة. والتمسك بدليل العسر والحرج بأنّ عدم الإجزاء بعد تبدّل الرأي موجب للعسر والحرج في غير محلّه ، إذ على تقدير كون

٤٩٦

العسر والحرج في بعض الموارد لا بدّ من الاكتفاء في المورد ، ولا يمكن التعدي والقول بالإجزاء مطلقا ؛ لأنّ دليل العسر والحرج موجب لرفع ما يوجب منه العسر والحرج ، فكل مورد يكون فيه العسر والحرج نلتزم بالإجزاء ، فافهم.

المقصد الخامس

الكلام في التقليد

قد عرّفوا التقليد بتعاريف ، فقيل : هو الأخذ بقول الغير ، وقيل : هو نفس العمل وغير ذلك ، وترى أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله قال بأنّ التقليد لا يمكن أن يكون نفس العمل ، بل لا بدّ وأن يكون العمل مستندا به ، ولكن لا يخفى عليك أنّه ليس في آية ورواية لفظ «التقليد» ، وما ورد من الأخبار لا يدلّ على كونه موضوع حكم مطلقا ، بل ما يكون في البين هو أنّ بعض الأحكام يكون موضوعه التقليد ، وليس موضوع كلّ حكم كموضوع الحكم الآخر ، بل يكون مختلفا ، فلا بد من حساب هذه الأحكام حتى يثبت أنّ ما هو موضوعه والأحكام عرضت لأيّ موضوع؟

فنقول بعونه تعالى : إنّ من الأحكام هو أن الشخص لا بدّ وأن يكون إمّا مجتهدا ، أو محتاطا ، أو مقلّدا ، فلا بدّ من أن تكون أعماله ناشئة إمّا عن اجتهاد نفسه ، أو الاحتياط ، أو تقليد غيره ، فهذا الحكم التخييري مقتضاه كون العمل ناشئا عن تقليد الغير ، فلا بدّ وأن يكون في هذا الحكم التقليد عن الأخذ بالعمل ، وليس نفس العمل ؛ لما قلنا من أنّ الحكم هو كون عمله ناشئا عن التقليد ، فلا بد أن يكون للعمل منشأ ، ومن أحكامه جواز الرجوع من مجتهد الى مجتهد آخر ، ففي هذا الحكم وهو التقليد الذي هو موضوع هذا الحكم عبارة عن العمل ، فلو عمل بالمسائل على طبق رأي المجتهد لا يجوز له العدول ، وإلّا يجوز ، وكذا في حكم البقاء ، فلو عمل يجوز البقاء ، وإلّا فلا. فظهر لك أنّه لا يمكن أن يعرّف للتقليد تعريفا ثم يجعله ميزانا في كلّ

٤٩٧

مورد ، بل لا بدّ وأن يحاسب الموارد الذي صار موضوعا للحكم حتى يعلم كيفية أخذه.

اذا عرفت هذا فنقول : بأنّه ولو قيل بعدم جواز التقليد حتى من بعض علماء الشيعة ، وكما يظهر من الأخباريّين ولكن مع ذلك فجواز التقليد في الجملة ليس محلّ إشكال ، ولا مجال للشبهة فيه. واعلم أنّه كما ترى في كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّه قال بأنّ التقليد يكون من باب حكم العقل برجوع الجاهل الى العالم ، ولا وجه للتمسّك على جوازه أو وجوبه بالإجماع والسيرة ؛ لأنّ نظر المجمعين لعلّه كان من باب بناء العقلاء وكذلك السيرة لأجل احتمال كون سيرتهم من باب أنّهم عقلاء ، لا من باب أنّهم متديّنون ، ويمكن التمسك بما ورد في بعض الاخبار من جواز الإفتاء فيدل بالملازمة على جواز التقليد وليس هذا مثل مورد السؤال أو غير ذلك ، بل في المورد تكون الملازمة بين جواز الإفتاء وبين جواز قبوله ، أو بين وجوب الإفتاء وبين وجوب قبوله ، هذا حاصل كلامه.

أقول : اعلم أنّ رجوع الجاهل الى العالم فطري ولا يحتاج إثبات ذلك الى دليل ، وهذا من المسلّمات ، والحاكم على ذلك هو الفطرة ، ولا مجال للترديد في ذلك ، كما ترى أنّ ذلك دأب كلّ الناس وديدنهم ، فكلّ جاهل يرجع بمقتضى فطرته الى العالم فيما جهله ، ويكون ذلك ديدن كلّ من الطوائف حتى من لم يتديّن بدين ، ولو كان رجوع الجاهل الى العالم بمقتضى الدليل الوارد من شرعنا فكيف يكون هذا دأب غير المتديّن بالاسلام من أهل الملل وغيرهم؟ فهذا يكون شاهدا على أنّ ذلك يكون من أجل جهة أنّ كلّ الناس مشتركون فيها ، وهذه الجهة هي الفطرة ، فنحن في هذا الحيث ـ أعني كون رجوع الجاهل الى العالم فطريا ـ متّفقون مع المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

ولكنّ الذي ينبغي أن يتكلّم فيه حتى يظهر لك مورد اشتباهه رحمه‌الله هو : أنّ

٤٩٨

رجوع الجاهل الى العالم يكون مختلفا بحسب الموارد ، فتارة يرجع الجاهل الى العالم من باب أنّ بسبب الرجوع اليه يصير عالما ، مثل رجوع المتعلّم الى العالم فهو يرجع اليه حتى بالرجوع يتعلّم منه ويعلم بنفسه ، وليس في هذه الصورة الرجوع اليه لأخذ قول العالم تعبدا ومن غير دليل ، بل يرجع اليه وأن يأخذ منه شيئا مع الدليل لا بلا دليل ، ففي الحقيقة فهذا الرجوع يكون الجاهل فيه عالما لا لأن يأخذ بقوله ولو لم يحصل للمتعلّم العلم.

وتارة يرجع الجاهل الى العالم لأجل كون قول العالم طريقا الى ما هو جاهل به ، وأنّه اذا كان جاهلا يريد أن يحصل طريقا الى مجهوله ، وحيث يرى أنّ قول العالم أقرب الطرق فيأخذ بقوله لأنّه أقرب الطرق ، والشخص لا يتنزل من طريق الأقرب الى الواقع بغير الأقرب ، والرجوع في هذه الصورة يكون من باب دليل الانسداد ، فإنّه بعد جهله بالواقع وتنزّله الى الظنّ فكلّ ظنّ أقرب يأخذ به ، والأخذ بقول العالم يكون من باب أقربية ظنّ الحاصل من قوله الى الواقع.

وتارة يأخذ الجاهل بقول العالم ويرجع اليه من باب صرف التعبد بقوله إمّا من باب حكم العقل ، أو النقل ، لا من باب حصول العلم من قوله ، ولا من باب دليل الانسداد.

اذا عرفت ذلك نقول : بأنّ في باب التقليد لا بدّ من فهم أنّ رجوع المقلّد الى المقلّد يعني الى العالم في أيّ جهة من الجهات؟ فإن كان الرجوع من أجل ما قلنا في الجهة الاولى يعني من باب أن يحصل له العلم بالرجوع الى العالم فهو فطري ولا إشكال في ذلك ، يعني أنّ الفطرة تحكم برجوع الجاهل الى العالم لحصول العلم ، وأن يصير بالرجوع اليه عالما ، ولكن ليس الرجوع في مقام التقليد من هذا الباب ، لأنّ التقليد عبارة عن الأخذ بقول الغير تعبدا ، ولا يتوقّف جواز الأخذ بقول العالم في مقام التقليد الى حصول العلم له بواقعيّة ما يقول المقلّد من الأحكام ، فما يقوله المحقّق

٤٩٩

الخراساني رحمه‌الله في الكفاية من كون التقليد من الفطريات من باب رجوع الجاهل الى العالم ليس في محلّه ؛ لأنّ ما هو فطري من الأقسام المذكورة التي قلنا برجوع الجاهل الى العالم هو القسم الأول ، وهو الرجوع به لأجل التعلم وصيرورته عالما ، وليس في التقليد الرجوع الى العالم من هذا الباب ، فلا يكون التقليد كما توهّم فطريا.

وأمّا في القسم الثاني : يعني الرجوع الى العالم من باب دليل الانسداد ـ فهو أيضا غير مربوط بالتقليد ؛ لأنّ المقلّد لا يرجع الى المجتهد من باب دليل الانسداد ، بل يكون الرجوع الى العالم في باب التقليد من أجل الجهة الثالثة ، وليس ذلك فطريا ، يعني ليس الرجوع الى العالم من باب الأخذ بقوله من غير حصول علم للجاهل من قوله فطريا ، بل يكون ذلك من باب حكم العقل ، فما قاله المحقّق المذكور رحمه‌الله من التمسّك بالفطرة في باب التقليد ليس في محلّه ، لأنّ الفطرة وحكمها غير العقل وحكمه.

فظهر لك أنّ التقليد وجوبه من باب حكم العقل ، ولا حاجة بعد حكم العقل الى دليل آخر ، فكلّ شخص اذا فهم بمقتضى عقله أنّ مع جهله بالأحكام وعدم كونه مجتهدا ومحتاطا لا بدّ من كشف الأحكام على وجه لا بدّ له من الرجوع الى العالم ، فيتبع قول العالم تعبّدا ، وهذا معنى التقليد ، وليس نفس التقليد تقليديا بمعنى أنّ في أصل التقليد لا يمكن التقليد للزوم الدور أو التسلسل ؛ لأنّه إذا قلّد في أصل وجوب التقليد بالغير فما الدليل على وجوب هذا التقليد؟ يعني تقليد شخص في وجوب التقليد فإن كان في هذا أيضا مقلّدا وهكذا يلزم التسلسل ، وإلّا لدار ، فلا بدّ من الانتهاء الى غير التقليد ، ولهذا نقول بأنّ التقليد في المسألة الاصولية ثابت بحكم العقل ، فإنّه بعد فهم أنّ لله أحكاما يجب اتّباعها فإن لم يتمكّن له بنفسه من تحصيل هذه الأحكام لعدم كونه عالما فعقله حاكم في المراجعة الى العالم ، فاذا رجع في ذلك الى العالم وأمر العالم ـ يعني المجتهد ـ بأنّ تكليفك إما التقليد فقط ، أو أنت مخير بينه وبين الاحتياط فيقلّد في مسألة فرعية بمقتضى تقليد العالم ، فهذا التقليد يعني التقليد

٥٠٠