المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

وبين أدلة هذه الأصول هو الحكومة ، لأنّ بعد تتميم الكشف والأمر بإلغاء احتمال الخلاف تكون الأمارة كالعلم تعبّدا ولا تكون النسبة بينهما الورود ؛ لأنّه قلنا في الورود بأنّه بعد قيام الدليل والخروج الموضوعي يكون خارجا حقيقيا لا تعبدا ، وليس الامارة بعد تتميم كشفه والتصرف في موضوعه وجعله منزلة العلم هي علم حقيقة ، بل بعد ذلك تكون علما تعبدا ، وهذا معنى الحكومة ، لأنّ الحكومة هو التصرف في الحكم بلسان الموضوع إمّا نفيا أو إثباتا ، فالشارع بمقتضى دليل حجية الأمارة جعلها كالعلم تعبدا ، فبعد الأمارة لا يرفع الاحتمال حقيقة ، بل الاحتمال باق وأمر بإلغائه ، وهذا معنى التصرف في الموضوع تعبدا. فعلى المختار تكون النسبة بين الأمارات والاصول هي الحكومة ، لكنّ الحكومة بمعناها الأوّلي يعني التصرف في الموضوع تعبدا وإخراج الموضوعي تعبدا.

وأمّا على مبنى الشيخ رحمه‌الله في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من أنّ لسان أدلة الأمارات هو تنزيل المؤدّى فيكون أيضا النسبة بينها وبين الاصول هي الحكومة ، لكن الحكومة بالمعنى الثاني ، أعني التصرف في الحكم لا الموضوع ، غاية الأمر التصرف في الحكم الثابت ، يعني تكون الحكومة بهذا المعنى ناظرة الى الحكم الثابت.

بيانه : أنّ الشيخ رحمه‌الله بعد كون مبناه تنزيل المؤدّى لكن ليس تنزيل المؤدّى بلا نظر الى نفس الطريق ، بل مراده تنزيل المؤدّى بهذا الطريق ، يعني من باب قيام الطريق بها ، فالمؤدّى مجعول بما هو مؤدّى الطريق.

فعلى هذا لسان الأمارة ناظر الى الحكم الثابت ، فإنّ بعد تعلّق الأمارة بنجاسة الثوب ـ مثلا ـ وكان مقتضى البراءة طهارته ففي كلّ منهما مع الشك وبقائه حكم الشارع بحكم ، ولكن مع ذلك لسان الأمارة بعد كونه ناظرا الى الواقع وأنّ المؤدى منزّل منزلة الواقع هو أنّ الحكم الثابت بمقتضى الأصل غير ثابت هنا ، فلو

٤٦١

ثبت الأصل ـ مثلا ـ الوجوب وقامت الأمارة على خلافه فيكون لسانها أنّ الحكم الثابت لم يكن هذا ، أو لو ثبت الأصل عدم وجوب شيء وقامت الأمارة على وجوبه أيضا لسانها أنّ حكم الإباحة الثابتة لم يكن في مورد الأمارة ، فعلى مذهب الشيخ رحمه‌الله تكون النسبة بين أدلة الأمارات والاصول ووجه الجمع بينهما هو الحكومة ، ولكن بالمعنى الثاني من الحكومة ، لأنّ لسان الأمارة يكون نفي الحكم الثابت.

وأمّا من توهّم بأنّ النسبة بين أدلة الأمارات والاصول هي الورود فيمكن أن يكون وجه توهّمه أحد الوجوه :

الأول : أنّ لسان الاستصحاب ـ مثلا ـ بعد كونه «لا تنقض اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين آخر» هو أنّ النقض لا يجوز إلّا باليقين ، ولا يجوز أن يكون النقض بالشك ، وحيث إنّ مقتضى الأمارة بعد حجيتها هو وجوب العمل على وفقها يقينا ، لأنّ بعد حجيتها العمل بها متيقن ، فلو قامت الأمارة في مورد الاستصحاب فيقول بأنّك متيقّن يعني أنت ذا يقين ليقينك على وجوب العمل بها ، فلو نقضت شكك بالأمارة فقد نقضت باليقين لا بالشك ، وما قلنا في توجيه كون النسبة هو الحكومة كان لأجل أنّا قلنا بأنّ لسان الأمارة جعلها منزلة العلم ، فهي علم تعبدا ، فيقدم العلم التعبدي على الشك بدليل حجيتها ، وهذا كان معنى الحكومة.

وأمّا على هذا الوجه فلا يكون من هذا الباب ، بل يقول بأنّ نقض اليقين لا بدّ وأن يكون باليقين ، فأنت بعد يقينك بالعمل بالأمارة بمقتضى ثبوت حجيتها فلو شككت في الطهارة السابقة في الآن الثاني ويكون مجرى الاستصحاب مع قطع النظر عن الأمارة ، فلو قامت أمارة على نجاسة ما شككت في طهارته في الآن الثاني بعد يقينك بطهارتها في الآن الاول تصير أنت متيقنا بالعمل بمؤدى الأمارة ، فأنت لو رفعت اليد عن الاستصحاب وبنيت على النجاسة فأنت نقضت اليقين باليقين لا

٤٦٢

بالشك ، فتكون النسبة هي الورود ، لأنّ معنى الورود ـ كما قلنا ـ كون الشيء بعد الدليل خارجا عن الموضوع حقيقة ، فأنت أيضا بعد اليقين بالعمل بالأمارة بمقتضى ثبوت حجيتها صرت ذا يقين ، ولم تكن ذا شكّ حقيقة وذا يقين حقيقة ، وهذا معنى الورود.

وفيه : أنّه لو كان اليقين في باب الاستصحاب اليقين الموضوعي ، يعني اذا كان هذا وصف اليقين ولم يكن اليقين اليقين المرآتي ، يعني لم يكن اليقين بحكم الواقعي ميزانا صحّ ما قاله.

ولكن بعد ما قلنا بأنّ اليقين في الاستصحاب اليقين المرآتي فهو مرآة الى المتيقن ، فاليقين بالواقع موضوع في الاستصحاب ، يعني موضوع في حال الشك ، فلا بدّ أن يكون النقض بيقين مرآتي آخر ، وهو : أن يكون مرآة للواقع ، فيكون المراد من دليل الاستصحاب أنّه لا تنقض يقينك بالواقع بالشك ، ولكن تنقضه بيقين آخر متعلق بالواقع ، وما قاله وإن كان الشخص بعد ثبوت حجية الأمارة متيقن بأنّه لا بدّ من العمل به ولكن ليس متيقنا بأنّ هذا اليقين متعلق بالواقع ، ففي المثال لم يكن متيقنا بالنجاسة الواقعية ، بل هو متيقن بالنجاسة الظاهرية وهي تجمع مع الشك ، فهو مع شكه في الواقع متيقن بالنجاسة الظاهرية ، فهو ما خرج بهذا اليقين عن موضوع الشك حقيقة ، بل هو شاك ولكن أمر الشارع بعدم الاعتناء بشكه وجعله كلا شك ، وهذا معنى الحكومة.

الوجه الثاني : أنّ لسان الاصول هو إثبات الحكم أو نفيه من حيث كونه مؤدّى الاصل ، مثلا الاستصحاب مقتضاه عدم رفع اليد عن اليقين السابق بما هو شاك في بقاء الحكم السابق ، أو موضوع الحكم السابق ، فهو بهذا الحيث يثبت الحكم فيحرم ، أو يوجب شيئا بهذا الحيث ، وهذا لا ينافي إثبات حكم آخر على خلافه من حيث آخر ، كما أنّ كون شيء واجبا بالعنوان الأوليّ غير مناف مع حكم على خلافه

٤٦٣

بالعنوان الثانوي وبالعنوان الطاري ، فكذلك نقول بأنّ مورد الأصل ولو كان محكوما بالحكم الوجوبي بمقتضى الأصل ولكن لا منافاة في كون هذا المورد محكوما بالحكم التحريمي بمقتضى قيام الأمارة.

فمن كان متيقنا سابقا بطهارة شيء ، وكان في الآن الثاني اذا شك في الطهارة بمقتضى الاستصحاب محكوما بالطهارة يكون هذا الشيء محكوما بالنجاسة في هذا الحال ، أي حال الشك بمقتضى البينة مثلا ، ولا منافاة بين الحكمين ، لأنّ كلّا منهما بحيث غير حيث الآخر كالأحكام الحيثية ، وعلى هذا يكون نسبة دليل الأمارة مع دليل الأصل الورود ، لأنّ مورد الأمارة حقيقة حيث آخر غير حيث الأصل وكذلك يقال في البراءة ، فإنّ «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف الحرام» دالّ على كون المشكوك بهذا الحيث حكم الحلّية ، وهذا غير مناف مع كونه حراما بحيث آخر وهو حيث قيام الأمارة على حرمته.

وفيه : أنّ لازم ذلك أوّلا : التصويب ، لأنّ ما قلت من كون الشيء المستصحب المحكوم بالحرمة محكوم بالوجوب بمقتضى الأمارة وأنّ الامارة تثبت الحكم وهو التصويب المجمع على بطلانه ، لأنّ مؤدّى الأمارة لا يكون حكما حقيقيّا ، بل هو حكم طريقي.

وثانيا : هذا خارج عن الغرض ، لأنّ الغرض أنّ بعد الأمارة لا يجري الأصل أصلا ، لا أنّه يجري ويثبت به الحكم ، إلّا أنّ من جهة اخرى ينفي الحكم ، ففي الاستصحاب اذا قام في مورده الأمارة لا مجال لجريان الاستصحاب أصلا ، لا أنّه يجري ويثبت الحكم بحيث وتجري الأمارة وتثبت الحكم على حيث آخر ، فظهر لك فساد هذا الوجه أيضا.

الوجه الثالث : أن يقال بأنّ المأخوذ في الاصول وإن كان اليقين أو العلم بحسب الغاية ، مثلا في الاستصحاب لا يجوز النقض إلّا باليقين ، وفي البراءة يكون

٤٦٤

المشكوك حلالا ما لم يعلم بحرمته ، ولكنّ اليقين والعلم المأخوذ في كليهما ليس العلم بما هو علم ، أعني أنّ اعتقاد الجازم المطابق للواقع مأخوذ ، بل اليقين والعلم غاية رفع الحكم المشكوك بما هو محرز بما هو فيه جهة الإحراز ، فبعد كونهما مأخوذين بما هما محرزان فنحن ندور مدار المحرزية وحيث الإحراز ، فكلّما يكون الإحراز لا بدّ من نقض الشكّ به في ما اذا شك في بقائه ورفع اليد عن الشك لو شك في حلّيته وحرمته.

وعلى الفرض بعد كون الدليل قائما على حجية الأمارة فتصير الأمارة محرزة ، ويكون فيها أيضا حيث الإحراز ، فلا بدّ من رفع اليد عن الأصل بعد وجود المحرز وما فيه حيث الإحراز ، والأمارة بعد حجيتها كالعلم واليقين من حيث الإحراز ، ففي مورد الأمارة بعد كونها محرزة فلما فيها حيث الإحراز فليس موضوعها مورد الشك ، لأنّ الشك يكون في مورد عدم المحرز ، والأمارة بعد حجيتها تكون محرزة ، فتكون النسبة بينها وبين الاصول هي الورود ، وقد يعبّر عن مقام المحرز بالحجة ، يعني يقال : إنّ العلم واليقين المأخوذين في الاصول مأخوذان بما هما حجّة ، فمع الحجة لا مورد للأصل ، وخارج موضوعا عن تحت الأصل ، والأمارة بعد حجيتها أيضا حجة كالعلم واليقين فورود الأمارة خارج موضوعا عن مورد الأصل ، لأنّ الأصل جار مع عدم الحجة ، والأمارة تكون حجة.

وفيه : أنّ ما قلت من كون العلم واليقين مأخوذين من حيث الإحراز أو بما هما حجة لا وجه له ، بل العلم واليقين بنفسهما مأخوذان ويكونان غاية للأصل ، لا بما هما حجة أو محرزان ، خصوصا لو قلنا في الاستصحاب بأنّ اليقين مأخوذ لما فيه جهة الاستحكام ، بخلاف الظن والشك ، ولذا اسند اليه النقض ، فاليقين مأخوذ بما هو يقين ، والعلم أيضا مأخوذ بما هو علم.

ونقول بأنّه أوّلا : لو فرض كونهما مأخوذين بما هما محرزان فأيضا لا تكون النسبة بين الأمارات والاصول الورود ؛ لأنّه ولو فرض كون الأمارة محرزة لكن مع

٤٦٥

ذلك ليست كالعلم ، لأنّه محرز حقيقي ، والأمارة محرز تعبّدي ، فتكون النسبة الحكومة لا الورود ، لأنّ في الورود لا بدّ وأن يكون دليل الوارد بعد قيام الدليل خارج عن موضوع الورود عليه حقيقة لا تعبدا ، كما يكون في الحكومة ، وعلى ما قلنا الامارة محرز تعبدي لا حقيقي حتى بعد الحجية.

وأمّا هذا الإشكال لا يرد على من يقول بأنّهما مأخوذان بما هما حجة ، لأنّه لو فرض صحة ذلك فتكون الأمارة حجة حقيقة ، لأنّ هذا معنى حجية الأمارة ، فبعد قيام الدليل على كونها حجة فهي حجة حقيقة كالعلم واليقين ، فتكون واردة على الاصول ، كما قلنا في مقام الجواب عمّن يقول بأنّ النسبة بين الأمارات والاصول هي الورود ، لأنّ العلم واليقين المأخوذين غاية للاصول وبهما يرتفع حكم الأصل مأخوذان بما هما حجة ، بما قلنا أولا من أنّ العلم واليقين مأخوذان بما هما علما ويقينا لا بما هما حجة. هذا كلّه في الاصول التي اخذ فيها ذلك ، يعني غير الاصول التي مدركها حكم العقل.

وأمّا القسم الثاني ، أعني الاصول العقلية كالبراءة الثابتة من باب قبح العقاب بلا بيان ، وكذا قاعدة دفع الضرر المحتمل ، وأصالة الاشتغال فتكون النسبة بينها وبين الأمارات هي الورود ، أعني أنّ الأمارة واردة فيها ، لأنّ بعد كون الحكم بالبراءة العقلية لعدم البيان وكون هذه القاعدة بيانا فلو ورد البيان يرتفع المؤمّن ، فمع البيان لا يكون موضوعا أصلا لقبح العقاب بلا بيان ، فصورة البيان خارجة موضوعا عن مورد القاعدة ، والأمارة معنى قيام الدليل على حجيتها هو كونها بيانا وحجة من قبل المولى ، فصورة قيام الأمارة بعد قيام الدليل على اعتبارها خارجة عن موضوع القاعدة ، وهذا معنى الورود ، وكذلك دفع الضرر المحتمل يكون لأجل احتمال الضرر لعدم كون المؤمّن للشخص ، والأمارة بعد اعتبارها مؤمّنا فتكون واردة بينها ، لكون مورد الأمارة خارج عن هذه القاعدة حقيقة ، لأنّ القاعدة جارية مع عدم المؤمّن ،

٤٦٦

والأمارة تكون مؤمّنا.

وكذلك بالنسبة الى الاشتغال فإنّ حكم العقل بذلك يكون لأجل شيء آخر يجاب عن الاشتغال ، وعدم وجود المؤمّن ، والأمارة تكون مؤمّنا ، فيكون موردها خارجا حقيقة بعد اعتبارها من موضوع أصالة الاشتغال ويكون واردا على الاشتغال. فظهر لك أنّ النسبة بينها وبين الاصول العقلية هي الورود ، وبينها وبين الاصول الغير العقلية الحكومة. هذا كلّه في النسبة بين الأمارات والاصول.

وأمّا الكلام في النسبة بين بعض الاصول وبعضها الآخر ، يعني في وجه تقدم بعضها على بعض :

أمّا الاستصحاب فمقدم على أصالة البراءة لأنّ اصالة البراءة الشرعية تثبت الحكم في موضوع الشك ، والاستصحاب يكون لسانه رفع الشك ، غاية الأمر تختلف المباني في وجه تقدمه عليها.

أمّا على مبنى من يقول بأنّ لسان الاستصحاب هو أنّه جعل الشك يقينا أو فرض الشك يقينا يكون الاستصحاب حاكما عليها ، لكنّ الحكومة بالمعنى الأوّل ، أعني التصرف في الموضوع وإخراجه تعبدا لأنّ بعد حجية الاستصحاب لو كان لسانه جعل الشك منزلة اليقين ، أو فرض الشك يقينا فهو شاك مع ذلك مسلّما ، غاية الأمر فرض الشك يقينا فخرج مورد الاستصحاب عن الشك تعبدا.

وأمّا على مختارنا من أنّ لسان الاستصحاب هو أنّك تعامل معاملة اليقين مع الشك فالاستصحاب حاكما عليها ، لكنّ بالمعنى الثاني من الحكومة ، أعني التصرف في الحكم أي الحكم الثابت ، لأنّ على هذا لا يكون لسانه أنّك ذو يقين ولو تعبدا ، بل في مقام العمل عامل معاملة اليقين مع هذا الشك ، فيقول : إنّ الحكم الثابت على الشك بمقتضى البراءة لم يكن هذا الحكم في مورد الاستصحاب فلا يتصرف في الموضوع ، لأنّ مع الشك وبقائه أمر بالبناء العملي على اليقين ، والبناء العملي هو

٤٦٧

الأخذ بحكم اليقين ، فبعد الأخذ بحكم اليقين في حال الشك في مورد الاستصحاب ترفع اليد عن الحكم الثابت بمقتضى البراءة.

وكذلك على مبنى الشيخ رحمه‌الله ، لأنّه بعد كون مبناه تنزيل المؤدّى في الاستصحاب ، يعني أنّ دليله يقول : نزّل المشكوك منزلة المتيقن ، وليس نظره باليقين والشك فيكون المستفاد أنّ الشاك يبقى متيقنا بالسابق وهو الحكم ، فلم يخرج مورد الاستصحاب من مورد الشك لا حقيقة ولا تعبدا ، بل الحكم الثابت في حال الشك بالبراءة مرتفع بمقتضى الاستصحاب ، فافهم.

وأمّا وجه تقدم الاستصحاب على الاصول العقلية فهو الورود ؛ لأنّ مورد البراءة هو عدم وجود الحجة ، ولهذا يحكم العقل بأنّ صرف ذلك مؤمّن من العقاب ، وبعد حجية الاستصحاب ليس مؤمّنا للشخص ، فمورد الاستصحاب خارج بعد حجّيته حقيقة عن موضوع البراءة العقلية ، وكذلك الاشتغال ، فإنّ حكم العقل ليس إلّا من باب عدم مؤمن للشخص لو خالف الاحتياط والتكليف الإجمالي ، واذا جاء المؤمن يرتفع موضوعه ، والاستصحاب بعد حجّيته مؤمّن ووارد على الاشتغال ، وهذا واضح ، وهذا معنى كون الاستصحاب برزخا بين الأمارة والأصل ، فإنّه مع الأمارة لا أثر له ؛ لما قلنا من ذهاب موضوعه تعبدا على ما اخترنا ، ومقدم على سائر الاصول ، لعدم موضوع لقبح العقاب بلا بيان معه ، وكونه مؤمّنا في مقابل الاشتغال ، وكونه رافعا للشك إمّا موضوعا تعبدا وإمّا حكما في البراءة الشرعية. ومما قلنا يظهر لك حال سائر الاصول أيضا.

ووجه تقديم بعضها على بعض :

تارة يكون البراءة العقلية ، أعني قبح العقاب بلا بيان مقدما على الاشتغال وعلى دفع الضرر المحتمل فيما اذا لم يكن بيان من الشارع وما وصل بيان فبمقتضى قبح العقاب بلا بيان نكشف عدم الضرر ، ومعه لا مجال لجريان دفع الضرر المحتمل ،

٤٦٨

ولا موضوع له لأنّ موضوع هذا الضّرر وقبح العقاب بلا بيان ينفي الضرر ووارد على دفع الضرر.

وتارة يكون الأمر بالعكس فيما لو ورد من الشارع ما يمكن أن يكون بيانا ، فمع هذا تصل النوبة الى قاعدة دفع الضرر المحتمل ، وهذه القاعدة واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ موردها عدم البيان ، فمع البيان لا موضوع لها أصلا.

وأمّا حال الاصول بالنسبة الى قاعدة التجاوز فقاعدة التجاوز مقدمة عليها ، أمّا بالحكومة لو كان مفاد قاعدة التجاوز مفاد الأمارة وكانت من الأمارات.

وأمّا لو كان مفادها مفاد الاصول وتكون أصلا فأيضا مقدمة على الاصول حتى الاستصحاب ، ولو كان وجه تقديمها التّخصيص ، لأنّ بعد كون قاعدة التجاوز حجّة وكانت مورد تعيين الشّارع فلو أنّ دليلها يخصّص بدليل الاستصحاب فلازم ذلك عدم بقاء مورد للقاعدة أصلا ، لأنّ ما من مورد من موارد جريانها إلّا وفيه استصحاب مخالف لها ، مثلا إذا دخل في الركوع وشك في أنّه أتى بالقراءة أم لا فمقتضى قاعدة التجاوز هو عدم لزوم الإتيان وعدم بطلان الصلاة ، والحال أنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالقراءة ، فلو خصّص دليلها بدليل الاستصحاب لم يبق لها مورد أصلا ، وأمّا لو خصّص بها دليل الاستصحاب وكان الاستصحاب حجة إلّا في مورد قاعدة التجاوز فلا يلزم هذا المحظور لبقاء المورد ؛ لكثرة الاستصحاب في غير موارد جريان قاعدة التجاوز ، فدفعا لمحذور اللغوية لا بدّ من الالتزام لتخصيص دليل الاستصحاب بالقاعدة ، لانه لو لم نصنع ذلك يلزم عدم مورد للقاعدة ، ويلزم لغويتها ، وهذا غير ممكن الالتزام به.

ونحن لم نتعرّض لباقي الاصول ووجه تقديم بعضها بالبعض ، وأنت اذا أمعنت النظر فيما قلنا يظهر لك الميزان وأن أيّا منها مقدم على الآخر ، فافهم. هذا كلّه حال

٤٦٩

الاستصحاب مع سائر الاصول.

وأمّا حال تعارض الاستصحابين وأنّه ما التكليف فيما لو تعارضا؟ فنقول بعون الله تعالى : إنّ الاستصحابين المتعارضين : إمّا أن يكون أحد منهما مسبّبا عن الآخر فيكون أحدهما سببا والآخر مسبّبا ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل يكون كلّ منهما مسببا عن سبب ثالث.

أمّا لو كان أحدهما سببا للآخر والآخر شكه مسبّب عنه فالأصل يجري في السبب ويرفع موضوع المسبب ، ويكون الأصل في السبب واردا على المسبّب ، مثلا لو كان ماء قبلا طاهرا ثم بعد ذلك شك في طهارته وغسل بهذا الماء ثوب فاستصحاب طهارة الماء متعارض بحسب الظاهر مع استصحاب نجاسة الثوب ؛ لأنّ أثر طهارة الماء طهارة ثوب المغسول به ، فجريان الأصل في السبب ـ أعني الماء ـ يرفع موضوع المسبّب ، فبعد جريان استصحاب طهارة الماء يرتفع موضوع الشك الثاني ، أعني الشك في بقاء نجاسة الثوب.

بيانه توضيحا هو : أنّ في مورد اليقين لو تيقن بشيء وتيقن بشيء آخر ، ففي المثال السابق لو شك في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك طهارته ، لو تيقن بطهارة الماء يتيقن بواسطة هذا اليقين بطهارة الثوب أيضا مسلّما لو تيقن ببقاء نجاسة الثوب المغسول به يتيقن بنجاسة الماء بالملازمة ، وكذلك لو قامت الأمارة على طهارة الماء فهو متيقن بطهارة الثوب ، وبالعكس بالملازمة ، وأمّا في الأصل فلو جرى الأصل في طهارة الماء يوجب الاستصحاب في طهارة الماء طهارة الثّوب المغسول به ، لأنّ هذا أثره الشرعي ، فإنّ من الآثار الشرعية لطهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ، وأمّا استصحاب نجاسة الثوب لا يثبت بنجاسة الماء ، لعدم إثبات الملازمة في الأصل ، فعلى هذا بجريان الأصل في السبب يرتفع موضوع الشك في

٤٧٠

المسبّب وهو نجاسة الثوب ، ولا عكس ، يعني باستصحاب نجاسة الثوب لا يرتفع الشك في السبب ، ولا يوجب نجاسة الماء ؛ لما قلنا من عدم إثبات اللازم بالأصل ، فبجريان الأصل في السبب يرتفع الشك عن المسبّب ، ولا نحتاج الى إثبات ذلك الى بعض الوجوه التي نقلها الشيخ رحمه‌الله ، بل يثبت ذلك بما قلنا.

ومن هنا يظهر لك أنّ ما قاله الشيخ رحمه‌الله من أنّ الأصل في السبب لو لم يكن مقدّما على الأصل في المسبّب يمكن أن لا يكون موردا لجريان الاستصحاب ، لأنّه في كلّ مورد اذا جرى الاستصحاب لترتب أثره ، فالأثر ان كان فيه استصحاب موافق فلا حاجة الى جريان الاستصحاب فيما يكون منشأ هذا الأثر ، وإن كان مخالفا فجريان الاستصحاب في الأثر يكون معارضا لجريان الاستصحاب في منشئه ، فلا يبقى مورد جريان للاستصحاب إلّا نادرا ، أو لا يوجد أصلا ، مثلا لو شك في وجوب إنفاق ولده لأجل الشك في حياته فلو استصحب حياته فمقتضاه وجوب الإنفاق ، ولكن على فرض جريان الأصل في المسبّب يمكن استصحاب عدم وجوب إنفاقه قبلا فيستصحب ويكون في محلّه ؛ لما قلنا من البيان في توجيه كلامه.

وأمّا لو لم يكن أحد الاستصحابين مسبّبا عن الآخر وتعارضا لجهة ، مثلا هذا الإناء كان سابقا طاهرا والآخر كذلك ، ثم علم إجمالا بنجاسة أحدهما فكلا الاستصحابين لا يجريان ؛ للزوم مخالفة العلم الإجمالي ، وجريان أحدهما فقط ترجيح بلا مرجّح فيتساقط كلّ منهما ، ولا يمكن الالتزام في ذلك ببعض المرجّحات التي تقول في الخبرين ، لأنّا نقول : إنّ مورد ذلك هو غير الاصول.

نعم ، لو أمكن جريان الاستصحابين كليهما بحيث لا يلزم مخالفة عملية فلا مانع من جريانهما ، مثلا لو كان ماء مشكوك النجاسة والطهارة فتوضّأ به فجريان استصحاب الحدث لو كان محدثا سابقا وجريان طهارة اليد لو كان طاهرا سابقا لا

٤٧١

يكون فيها بأس ؛ لعدم المخالفة العملية من جريان الاستصحابين ، وأمّا لو لم يكن كذلك مثل الصّورة الاولى ، مثلا في الماء المتمّم كرّا لا يمكن استصحاب طهارة مقداره الذي كان طاهرا سابقا واستصحاب نجاسة ما كان نجسا سابقا ؛ للعلم بعدم كون ماء واحد محكوما بحكمين فلا يجري الاستصحابان.

٤٧٢

فصل

في التعادل والتراجيح

٤٧٣
٤٧٤

فصل

في التعادل والتراجيح

اعلم : أنّ مسألة التعادل والتراجيح من المسائل الاصولية ، ولو كان موضوع علم الاصول هو الأدلة الأربعة بما هي أدلة فإنّ واحدا منها هو السنّة ، وهذا البحث يكون عن عوارضها ، فإنّ النزاع فيه هو في أنّ السنّة ـ يعني الدليل ـ هل تثبت بأيّ من الخبرين وتكون هذه المسألة من أهمّ مطالب الاصول ومسائله ، فلنتكلّم فيها بعون الله تعالى.

فنقول : إنّ في التعادل والتراجيح حيث تصل النوبة الى التعادل أو الترجيح بعد تعارض الخبرين فلا بدّ قبلا من فهم معنى التعارض.

فنقول : إنّه قيل في معنى التعارض : هو تنافي الدليلين ، وحيث إنّ نفس الدليلين ليس بينهما في حدّ ذاتهما تعارض وتناف فإنّ الدّليل الدالّ على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ مع الدليل الدالّ على حرمتها ـ مثلا ـ لا يكون بينهما تناف في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن مدلوليهما.

وقد عدل عن هذا التعريف شيخنا الأنصاري رحمه‌الله ، وقال : إنّ التعارض هو تنافي الدليلين باعتبار مدلوليهما ، فإنّه بعد التنافي بين مدلول الدليل الدالّ على حرمة هذا وبين مدلول الدليل الدالّ على وجوبه التنافي ، وهذا واضح في أنّ التنافي بين

٤٧٥

المدلولين يوجب التنافي بين الدليلين ويسري تنافي المدلولين الى الدليلين أيضا ، وهذا التعريف تعريف جيد ولا يرد عليه الإشكال المتقدم في التعريف الأوّل ؛ لأنّ على هذا التّعريف التّنافي وإن كان بين الدّليلين إلّا انّه ليس في حدّ ذاتهما ، بل باعتبار المدلولين ، والمحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث توهّم أنّ تعريف الشيخ رحمه‌الله ليس بمانع ؛ لأنّه يدخل على هذا التعريف في باب التعارض موارد الجمع العرفي ، فإنّ في موارد الجمع العرفي أيضا يكون التنافي بين المدلولين ، لأنّ مدلول «أكرم العلماء» هو إكرام العلماء ومنهم زيد ، ومدلول «لا تكرم زيدا» هو حرمة إكرامه فبين مدلوليهما يكون التنافي ، فيكون مورد الظاهر والأظهر وكلّ مورد يوافق العرف بينهما أيّ بين المدلولين أيضا من التعارض المصطلح ، والحال أنّ موارد الجمع العرفي خارج عن عنوان التعارض المصطلح ؛ لأنّ مورد التعارض هو فيما تصل النوبة الى التعارض بالمرجّحات ، أو السقوط ، أو التوقف ، وفي موارد الجمع العرفي لا تصل النوبة الى هذا المقام.

وقال في مقام تعريف التعارض : بأنّ التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ، ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضا بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا. وتخيّل أنّ بهذا البيان يرتفع الإشكال ، ويخرج موارد الجمع العرفي عن باب التعارض بتوهّم أنّه بحسب الدلالة ومقام الإثبات لا يكون تعارض في موارد الجمع العرفي ، بل في هذا المقام العرف يرى التوفيق بين الدليلين ولو كان مدلولاهما متنافيين بحسب الظاهر.

ولكن اعلم أولا : أنّ تعريف الشيخ رحمه‌الله يخرج موارد الجمع العرفي عن باب التعارض.

وثانيا : أنّ كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله وتعريفه لا يدفع الإشكال لو أغمضنا عن كلام الشيخ رحمه‌الله ، أمّا بيان كون كلام الشيخ رحمه‌الله تامّا لأنّ مراده هو أنّه بما أنّ الدليل قد دلّ على أن بين المدلولين تناف ، فباعتبار المدلولين يكون التنافي بين

٤٧٦

الدليلين ، ويكون التنافي بين المدلولين بما هما مدلولا الدليل فيدل الدليلان على أن بين المدلولين يكون التنافي ، وأنّ التنافي لو كان بين المدلولين ففي مقام الدلالة يحصل تناف بينهما ، والتّنافي بينهما أيضا يكون باعتبار التنافي بين مدلوليهما ، وإلّا فكيف تكون الدلالة بين الدليلين؟ ومن هنا يظهر لك أنّ كلام الشيخ رحمه‌الله لو لم يكن تامّا وكان في موارد الجمع العرفي التنافي بين المدلولين ففي مقام الدلالة ومقام الإثبات أيضا يكون بينهما التنافي ، فلا يمكن التفكيك بينهما ، فكلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله لا يدفع الإشكال لو كان هناك إشكال في البين ، ولكن قلنا بعدم إشكال أصلا في كلام الشيخ رحمه‌الله وفي تعريفه.

فاذا عرفت تعريف التعارض فاعلم : أنّ مورد التعارض بين الخبرين هو فيما يكون لكلّ منهما مقتضى الحجية ولا يكون لهما القصور من حيث المقتضي ، بل محلّ التعارض بعد تمامية مقتضى الحجية في كلّ من الدليلين وفيما لا يكون مانع من العمل بكلّ من الخبرين إلّا الخبر المعارض ، وإلّا لو لم يكن الخبر الآخر مانعا فلا مانع من العمل بالآخر ، فعلى هذا ليس من موارد التعارض اشتباه الحجة بلا حجة ؛ لأنّ في أحدهما ليس مقتضى الحجية.

وما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من انّه فيما لو علم إجمالا بكذب أحدهما يكون من موارد التعارض ليس في محلّه ، لأن مع العلم بكذب أحدهما يعلم بعدم مقتضى الحجية في أحدهما ، وبعد عدم مقتضى الحجية في أحدهما فلا يكون من موارد التعارض ، لأنّ مورد التعارض هو في صورة كون المقتضي لكلّ من الخبرين في حدّ ذاتهما ، فليس هذا المورد من التعارض.

ثمّ اعلم : أنّه كما قلنا في موارد الجمع العرفي وكلّ مورد يمكن الوفق بين الدليلين فيخرج عن مورد التعارض ، فاذا كان لسان دليل واردا على الآخر ، يعني يكون نسبة أحد الدليلين بالآخر الورود أو الحكومة بكلا معنييه فيقدّم دليل الوارد

٤٧٧

والحاكم ، ويمكن الوفق بينهما ، ولا يرى العرف بينهما تعارض. أمّا في صورة الورود فواضح ، لأنّ دليل الوارد خارج عن موضوع دليل المورود حقيقة فلا يكون التنافي بين مدلولي الدليلين ، وأمّا في صورة الحكومة فأيضا يكون دليل الحاكم شارحا لدليل المحكوم ولا يلزم أن يكون لسانه لسانا (أي الشارطي) كما قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، بل اذا كان بحيث الذي بسببه يوسع موضوع دليل المحكوم أو يضيق وكان شارحا له فيقدم عليه وليس بينهما تناف ، فلا يكون بين دليل الأمارات والاصول وكذا بين بعض الاصول المقدم على بعض الآخر تعارض ؛ لما قلنا من أن على مختارنا تكون الأمارات بدليلها حاكمة على أدلة الاصول بالحكومة بالمعنى الأول ، أعني التصرف في الموضوع تعبدا. وعلى مختار الشيخ رحمه‌الله كما صرّح هنا بالحكومة بالمعنى الثاني ، يعني التصرف في الحكم ، لكن في الحكم الثابت ، وكذلك قلنا وجه تقدّم الاصول بعضها على بعض ، ولا نتعرّض في المقام مجدّدا.

وأيضا لا يكون من موارد التعارض الدليلان المتعرّض أحدهما لحكم بعنوان أوّلي ، والآخر لحكم بعنوان ثانوي ، مثلا الدليل المتكفّل لحلّية الغنم في حدّ ذاته غير معارض مع الدليل المتكفّل لحرمة الموطوء منه ؛ لأنّ الحكم بعنوان أولي متعرض لحيث ، ودليل الثاني متعرض للحكم بحيث آخر ، ولهذا لا يكون الحكم الطاري معارضا مع الحكم الحيثي والذاتي الغير الناظر لحيث الطاري.

نعم ، لو كان الدليل المتكفل للحكم بعنوان أولي متعرضا لحيث الحكم المتعرّض للعنوان الثانوي فيقع بينهما التعارض ، وأيضا ليس بين ما هو لا اقتضاء معارض مع ما فيه المقتضي ، لعدم معارضة لا بشرط مع بشرط الشيء ، وهذا واضح ، وعلى هذا بعض العقود الغير اقتضائية من حيث الجواز واللزوم لا أن يكون مقتضيه الجواز غير معارض مع العقود المقتضية للزوم ، فعقد الوكالة لو كان لا اقتضائيا من حيث الجواز واللزوم بحسب دليله لا مانع من صيرورته لازما بعقد آخر مقتض

٤٧٨

بحسب دليله للّزوم.

وأيضا ليس من موارد التعارض ما يكون حكمه تعليقيا والآخر تنجيزيا ؛ لأنّ التعليقي معلق على عدم الآخر ، فمع وجود الآخر لم يكن له مورد أصلا فلا تعارض بينهما ، كما قلنا في أنّ السيرة في باب خبر الواحد كذلك فإنّ السيرة لا تحتاج أعمالها بعدم كشف الردع والإمضاء ، وأمّا العمومات الدالة على عدم حجية الظن فمعلقة على عدم تخصيصها بالسيرة ، والسيرة أعمالها غير معلقة على عدم جريان العمومات ، بل بعد كون البناء من العقلاء على العمل بالخبر وكان من وظائفهم فقولهم وسيرتهم متبعة ما لم يثبت الردع فلا يكون جريان السيرة معلقا على شيء ، بخلاف العمومات فالسيرة حيث تكون منجزة لا يعارضها المعلق وهو العمومات.

وأيضا ليس من باب التعارض النصّ والظاهر ؛ لأنّ أصالة الظهور إما أن يكون موردها عدم القرينة أو حجّيتها مع عدم القرينة ، والنص يكون قرينة فمع النصّ على خلاف الظاهر لا مورد للظاهر ، أو لا حجية للظهور أصلا فلا تعارض بينهما.

وكذلك لا تعارض بين الظاهر والأظهر ؛ لأنّه اذا تعارض الظهوران فيمكن أن يكون كلّ منهما قرينة على الآخر ، وحيث لا ترجيح لأحدهما فيقع التعارض ، وأمّا اذا كان أحدهما الأظهر فبعد احتمال كون الظاهر قرينة على الأظهر وكذا احتمال العكس أيضا فلا بدّ من الالتزام بكون الأظهر قرينة على الظاهر ، لأنّ الأظهرية موجبة لترجيحه على الظاهر ، وليس كالظاهرين لأنّه في الظاهرين لا ترجيح لأحدهما حتى تقول بكونه قرينة على الآخر لحيث ترجيحه ، بخلاف الأظهر فإنّه يصلح لكونه قرينة وله الترجيح ، ففي كلّ مورد من العموم والخصوص والمطلق والمقيّد لو فرض كون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا ، أو فرض كون أحدهما ظاهرا والآخر أظهر فليس بينهما تعارض ، ويمكن الوفق بينهما ، فمورد التعارض لا بدّ وأن

٤٧٩

يكون غير هذه الموارد ، ففي موارد الجمع العرفي لا تعارض بين الدليلين حتى تصل النوبة الى قضايا باب التعارض.

وفي غير هذه الموارد لا بدّ من إعمال ما يعمل في باب التعارض ، ولو أمكن الجمع بين الدليلين بنحو لا يساعده العرف ؛ لأنّ هذا جمع تبرّعيّ ولا شاهد عليه.

وما قيل من أنّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) إن كان المراد فيما يمكن الجمع العرفي فيكون كلاما في محلّه ، وإن كان المراد فى غير الموارد الّتي قلنا فلا وجه لهذا الكلام ، وهذا الكلام أعني (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) ولو أنّه يرى في كلمات القدماء فإنّ هذا الكلام موجود في الرسالة التي كتبها المفيد رحمه‌الله في اصول الفقه ، وهذه الرسالة هي أول كتاب ألّف في اصول الشيعة ، وفي كلام شيخ الطائفة رحمه‌الله الكثير من هذا خصوصا في الاستبصار ، ولكن ليس نظرهم من أنّ «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» الى ما يريد المتأخرون منه ، فإنّ المتأخرين إن قالوا بهذا في فيقولون في مقام كون التعارض بين الدليلين ويكونون في مقام رفع التعارض للعمل بهما ويجمعون بنحو بأنّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح).

وأمّا المتقدمون فيقولون بذلك في مقام دفع التنافي بين الخبرين مع قطع النظر عن مقام العمل ، فيلقون بعض الاحتمالات لرفع التنافي بين الخبرين المتعارضين ، ولكن لا يعلمون بهذه الاحتمالات ، ويقولون بعد بيان بعض الاحتمالات في توجيه الخبرين بحيث يرفع التعارض بأن (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) ويكون تدوين خصوص كتاب الاستبصار أصلا لأجل هذا ، فإنّه بعد ما رأى الشيخ رحمه‌الله أنّ العامة طعنوا على الشيعة بأنّ بين أخبارهم التّنافي فصار الشيخ رحمه‌الله في مقام دفع هذا الإيراد ، وألّف كتاب الاستبصار ، ولم يتعرض في هذا الكتاب إلّا للأخبار المتعارضة ، وبعد التعرض لكلّ من الخبرين المتعارضين أو الأخبار المتعارضات أبدى بعض الاحتمالات لرفع التنافي بينها ، وما أبدى من الاحتمالات ليس فتواه

٤٨٠