المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الموضوع.

ولا يخفى عليك أنّه لا يلزم في الاستصحاب وجود الموضوع في صحة جريانه حال الشك ، بل لا بدّ من بقاء الموضوع كما كان ، فلو كان موضوع الحكم في السابق معرّى عن الوجود والعدم مثل أن تكون الماهية موضوع الحكم فلا بدّ من بقاء ذلك ، ولو كان موضوع الحكم موجودا خارجيا فلا بدّ من بقائه حال الشك ، فعلى هذا لا بدّ من بقاء الموضوع على ما هو عليه ، أعني ما يكون مقوّما للموضوع ولو عند العرف لا بدّ من بقائه ، فتدبر.

ثمّ إنّه بعد ما ثبت لك اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب فهل يمكن في الشك في بقاء موضوعه جريان الاستصحاب والتعبد ببقائه ، ثم بعد إحراز بقاء الموضوع يجري الاستصحاب ، كما أنّه يمكن إحراز بقاء الموضوع بالامارة ، أو لا؟

اعلم : أنّ كلام الشيخ رحمه‌الله في المقام مشوب ، ونحن نبيّن الحقّ في المقام بعونه تعالى ، فنقول : إنّ الشك في بقاء الموضوع تارة يكون لأجل الشك في بعض قيوده ومقوّمات نفس الموضوع ، مثل ما لو شك في بقاء المطهّرية لأجل الشك في بقاء اطلاقه فإنّ الإطلاق مقوّم وقيد لنفس المطهّرية ، فإنّ موضوع المطهّرية مقيد ومتقوّم بالإطلاق.

وتارة لا يكون كذلك ، بل يكون ترتب الأثر على المستصحب موقوف عليه ، وإلّا فليس نفس موضوع المستصحب مقوّما له مثل الطهارة بالنسبة الى الكرّية ، فإنّ موضوع الاستصحاب لو كان الكرّية فليس الطهارة مقوّمة لنفس الكرية ، بل يكفي في صدق موضوعها صرف المائعية ، لكنّ ترتّب الأثر الشرعي على الكرّية متوقّف على الطهارة.

وفي القسم الأول أيضا : تارة يكون الشكّ في الموضوع لأجل الشك في بقاء هذا الشيء المتقوم به الموضوع ، وتارة ليس كذلك ، بل ولو كان الشك في هذا المتقوم لكن ليس الشك في بقاء الموضوع لأجل ذلك ، فقط بل يكون الشك في شيء أخر

٤٤١

أيضا.

أما في القسم الأول من القسم الأول فلا إشكال في استصحاب ما شك في بقائه ويترتب الأثر ، وأما في القسم الثاني من القسم الأول فلا مجال لاستصحاب المتقوم به الموضوع ؛ لأنّ استصحابه لا يكفي لترتب الأثر ؛ لأنّ الشكّ في أمر آخر أيضا ، وحيث إنّ الأمر كذلك فلا فائدة ولا أثر في استصحابه ؛ لعدم ترتب الأثر بمجرّده ؛ لأنّ الشكّ في أمر آخر أيضا واستصحاب أمر آخر مشكوك أيضا لا يجري ؛ لأنّه ليس له موضوع ، مثلا لو شك في بقاء الطهارة لأجل الشك في الإطلاق ولكن له شكّ آخر بأن يكون لهذا الحكم أمد فاستصحاب الإطلاق لا يجري ؛ لأنّ الأثر في المستصحب مترتب عليه مع عدم كون الأمد له ، فحيث هو مشكوك فلا يترتب عليه الأثر ، فلا يجري استصحاب بقاء الإطلاق ، وأمّا جريان الاستصحاب لأجل رفع شكّ آخر وعدم كون الأمد له فهو محتاج الى كون موضوع له وهو الإطلاق ، وهو مشكوك فلا يجري فيه الاستصحاب.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو قسيم القسم الأول الذي كان له القسمان ـ فهو أن يكون ترتب الأثر موقوفا على هذا المشكوك ، وغالبا يكون استصحاب الأحكام من هذا القبيل ، كما أنّ استصحاب الموضوعات غالبا يكون من قبيل القسم الأول.

فنقول بعونه تعالى : إنّ بعد الشك يجري الاستصحاب ويترتب عليه الأثر ، لأنّ موضوع الاستصحاب على الفرض ليس مقيدا عليه فيجري الاستصحاب ، ويبقى الاشكال في الأثر للشك في بقائه ، وهو أيضا يحكم ببقائه بالاستصحاب فيترتب على المستصحب. ولا فرق بين إحراز الاثر بالعلم أو بالأمارة أو بالاستصحاب ، ولا يلزم في الاستصحاب إلّا دخل الأثر فيه ، ويكفي في ذلك استصحاب الأثر.

فظهر لك ممّا قلنا أنّ ما استشكله النائيني رحمه‌الله في هذا المقام وما قاله ليس في محلّه ، والحق في المقام هو ما قلنا ، فتدبّر.

٤٤٢

ثمّ إنّه بعد مسلّمية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب يكون عمدة الكلام في أنّه لا بد من بقاء الموضوع بنظر العقل ، أو على ما يظهر من لسان الدليل ، أو بمقتضى نظر العرف ، ولا إشكال في أنّ هذه الأنظار الثلاثة مختلفة ، ومن الواضح أنّه لا يمكن مع الشك الحكم ببقاء الموضوع بنظر العقل ، ولا من لسان الدليل.

أمّا العقل فلأنّه بعد الشكّ في الموضوع إمّا متيقن بعدم الموضوع ولو لم يكن متيقنا بعدم بقاء الموضوع ولا أقلّ شاك ، ففي المستقلات العقلية بعد الشك في الموضوع فإنّ عدم الموضوع محرز عنده. وأمّا في غير المستقلات العقلية فلا أقلّ في الشك من بقاء الموضوع بنظره ، وصرف الشك يكفي في عدم جريان الاستصحاب ، لأنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من إحراز الموضوع. وأمّا لسان الدليل فهو أيضا بعد ظهوره في كون شيء موضوعا فبعد الشك ليس لسان الدليل كافيا لإحراز الموضوع ، فبعد عدم إحراز الموضوع بنظر العقل ولسان الدليل فلا بدّ من أخذه من العرف حتى يمكن جريان الاستصحاب.

ولكن في أخذ موضوع الاستصحاب من العرف أيضا إشكال ، وكان مبتكره السيد حسين رحمه‌الله وكان إشكاله هو : أنّ المقام الذي يرجع فيه الى العرف هو في المفاهيم ، فالمرجع في المفاهيم هو العرف ، وأما في غير ذلك بعد تعيين المفاهيم فلا تكون المسامحات العرفية حجة وكافية لنا ، وهذا مسلّم عند من يقول بأخذ الموضوع من العرف بأنه لا عبرة بالمسامحات العرضية ، فمع التسليم بذلك فكيف يمكن أخذ الموضوع من العرف؟ وهل هذا إلّا الرجوع الى المسامحات العرفية؟

والحاصل : أنّه بعد التسليم بالكبرى وهي الرجوع الى العرف في تعيين المفاهيم ، وبعد التسليم بكبرى اخرى وهي عدم إمكان الرجوع الى المسامحات العرفية ولا عبرة بمسامحاته فيرد الإشكال : بأنّ الرجوع في موضوع الاستصحاب الى العرف بعد ما لم يكن في تعيين المفهوم فلا بدّ أن يكون في مسامحاتهم وهي غير متبعة ولأجل هذا الإشكال تصدّى لدفعه ببعض البيانات.

٤٤٣

فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله إجمالا : بأنّ الرجوع في صدق «لا تنقض اليقين بالشك» وبعبارة اخرى في صدق النقض وعدمه يكون الى العرف ، فكلامه مجمل ومختصر ، ولعلّنا نتعرّض لكلامه بعد ذلك.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ المرجع ـ كما قلنا سابقا ـ في تعيين المفاهيم هو العرف ، ومن الواضح أنّه بعد تبيّن المفهوم يكون صدقه على مورد وعدم صدقه وكذلك تعيين مصداقه بنظر العقل ، وهذا وظيفته ، لأنّ العقل بعد ما يرى بأنّ ما كان جنسا وفصلا للمفهوم موجود في هذا الفرد فيحكم بصدق المفهوم عليه ، وكونه مصداقا له فالمرجع في الصدق وعدمه هو العقل.

نعم ، تارة يكون المفهوم غير مبيّن فالعقل بعد ما يرى أنّ العرف يطلقون على هذا المصداق ويحسبونه فردا له فيكشف أنّ المفهوم أوسع ، وتكون دائرته موسّعة بحيث لو كان هذا فردا له ويصدق عليه فمرجع العرف فيه في المفهوم لا المصداق ، بل العقل يحكم بمصداقيته وعدمها ، لكن طريقه هو ما يرى من حكم العرف بأنّ المفهوم يكون بحيث الذي يشمل عليه فالعقل أيضا ، ولو لم يبيّن المفهوم ولكن يرى أنّ الجنس والفصل الموجودين في المفهوم موجودان في المصداق فيحكم بالصدق ، وهذا واضح.

كما أنّه من الواضح أنّ في الألفاظ المركّبة بعد تعيين معنى مفرداتها وفهم القرائن من العرف فلم يكن العرف في ما يستفاد من ألفاظها المركبة مرجعا.

فعلى هذا ما قاله النائيني رحمه‌الله في هذا المقام بأنّ الرجوع الى العرف في موضوع الاستصحاب لم يكن لا الى تعيين المفهوم ، ولا من باب مسامحاتهم ، بل الرجوع اليهم يكون في الصدق وعدمه ليس في محلّه ؛ لما بيّنا من أنّ المرجع في هذا أيضا هو العقل.

ثمّ لمّا رأى بأنّ هذا الكلام غير تامّ قال بأنّ المرجع يكون العرف في تمام الجمل والمركبات ...

٤٤٤

وفيه : أنّه كما قلنا بعد تعيين معنى المفردات ومعرفة القرائن ليس العرف مرجعا في الألفاظ المركبة ، ثمّ بعد ذلك أيضا قال بأنّ الرجوع الى العرف يكون كالرجوع الى لسان الدليل ولا فرق بينهما ؛ لأنّ من لسان الدليل أيضا يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع ما يستفاد من نظر العرف.

ولا يخفى عليك أنّ نظر العرف غير لسان الدليل وغير نظر العقل ، فبهذا التقريب لا يمكن رفع الإشكال.

اذا عرفت ذلك فاعلم أنّه كلّما يكون وظيفة العقل وعهدته عليه يكون المرجع هو العقل ، وكلّ مورد يكون بيانه ووظيفته على الشرع فالمرجع هو الشرع ، وكلّ مورد تكون وظيفة العرف فيه فالمرجع هو العرف.

ومن الواضح أنّ كل مورد يكون فيه المرجع العقل أو الشرع أو العرف فليس لغيره التصرف فيه ، ولو تصرف فلا بدّ وأن يكون بهذا النظر ، مثلا في باب الإطاعة والمعصية حيث يكون بيانه وأنحاؤه بيد العقل فالمرجع هو العقل ، فليس للعرف تصرف في ذلك إلّا بمقتضى عقلائيّته ، وكذلك في باب بيان الأحكام حيث يكون بيانه على الشارع فهو المرجع وليس للعقل والعرف تصرف ، وكذلك في باب الألفاظ وتعيين مفاهيمها فحيث عهدتها على العرف فليس لغيره تصرف ولو تصرف الشرع فيما كان أمره بيد العرف فيكون بمقتضى عرفيّته لا بمقتضى شارعيّته ، فعلى هذا اعلم : أنّ في بعض الموارد يكون العرف مرجعا بلا إشكال ، فلا بد من فهم موارده وما هو ملاك في الرجوع اليه ، حتى أنّ في كلّ مورد كان هذه الملاكات نحكم بكونه مرجعا ، وإلّا فلا.

فعلى هذا نذكر بعض الموارد الراجعة الى العرف :

المورد الأول : هو باب الألفاظ ، بمعنى أنّه في ألفاظ الموضوع لا بدّ من الرجوع الى العرف. وبعبارة اخرى : في فهم أنّ اللفظ الكذائي غالبا هو للمعنى

٤٤٥

الكذائي يكون العرف مرجعا ، والسرّ في ذلك هو : أنّه بعد ما كان وضع اللفظ لإفادة المعنى فلا بدّ من الرجوع الى أهل اللغة من أجل فهم ذلك لأنّهم عالمون ومستحضرون لمعاني الألفاظ. فلو سمّى أب ابنه زيدا فمن أين يعلم ويكشف أنّ اسم ابنه كان كذا؟ فإذا لا بد من الرجوع الى الواضع وهو أبوه ، ولو لم يكن أبوه أو لم يمكن الكشف منه فلا بد من الرجوع الى أهل بيته فكذلك في الموضوع له الألفاظ الى أهل اللغة ، وبعد عدم الكشف من الواضع فلا بد من الرجوع الى أهل لسانه لأنّهم عارفون بذلك.

وملاك الرجوع الى العرف هو ما قلنا من كونهم أهل لغة ، ولهذا لا يعتبر في الرجوع اليهم بشيء زائد عن كونهم أهل لغة. ولا يحتاج الرجوع الى مئونة اخرى غير كونهم كذلك ، ولا يلزم أزيد من ذلك ، مثلا لا يلزم كونهم متشرّعين ، نعم في الألفاظ الّتي تكون متداولة عند الشارع لو كان لها وضع خاص لا بدّ من الرجوع الى عرف المتشرعة ، ولا يخفى عليك أنّه كما قلنا سابقا : رجوعنا الى العرف يكون في فهم أنّ هذا اللفظ غالبا لأيّ معنى؟

وأمّا بعد فهم ذلك فصدقه على المصداق ليس بحكمهم ، بل المرجع هو العقل ، إلّا أن يكون الرجوع اليهم لأجل الشك في السعة والضيق في المفهوم ، فمن إطلاق العرف المفهوم ـ على المصداق نكشف بأنّ المفهوم دائرته واسعة بحيث يشمل هذا المصداق ، ولا فرق فيما قلنا من الرجوع اليهم في وضع اللفظ للمعنى سواء كان تصريحا من الوضّاع أو يفهم من استعمالهم ، بل لو نرى من أفعالهم ذلك فهو كاف لنا ، ولهذا نقول بأنّ صحة وعدم صحة السلب علامة للحقيقة ؛ لأنّه بعد ما نرى من إطلاقهم بلا قرينة ويفهمون منه المعنى الفلاني نفهم بأنّ اللفظ موضوع له ، فلا يبقى لك الشك في أنّ المرجع في هذا المقام هو العرف ، وقد فهمت ملاك الرجوع اليهم.

المورد الثاني : وهو الرجوع اليهم لكشف مخترعاتهم ومبتدعاتهم اذا كانت

٤٤٦

لهم مخترعات ، مثلا لو قلنا بأنّ المعاملات من مخترعات العرف فلا بدّ في فهم ذلك من الرجوع اليهم ، ولكن لا بالملاك الذي قلناه في المورد الأول ؛ لأنّ الرجوع اليهم في هذا القسم ليس من باب كونهم أهل لغة ، بل من باب أنّه لو كان أحد قد ابتدع شيئا فلا بدّ في فهم حقيقته من الرجوع اليه ؛ لأنّه عارف بذلك.

والحاصل : أنّ العرف مرجع في مخترعاته لكشف ما اخترعه ، كما في المعاملات والتجارة ، فلو فرض في بعض البيوع والمعاملات أنّ كذا لفظ من الألفاظ مستخدم من قبل العرف لمعرفة ذلك المعنى في البيع فلا بدّ من الرجوع الى العرف لفهم حقيقة ذلك اللفظ الموضوع له المعنى في تلك المعاملة أو ذلك البيع ، كما في الأوزان والأوراق النقدية ، ولا يحقّ لغير أهل العرف أو غير الواضع التصرف في ذلك اللفظ الموضوع له المعنى ويقول : إنّ هذا لا يسمّى بيعا ، حتى الشارع لا يحق له التصرّف في مبتدعات العرف وموضوعات.

نعم ، الشارع له حق التصرّف في الحكم إن كان هذا الحكم ينفذ في هكذا بيع أو معاملة نتيجة لبطلان العقد أو المعاملة ، أو لفساد البيع والمعاملة وغير ذلك من الامور. وأمّا في المعاملات الربوية لا يمكن صرف النظر عن هكذا معاملات لكونها معتبرة في العرف ، بل يجب الرجوع فيها الى امضاء الشارع لها أو الردع عنها لما لها من ترتب أثر البيعية عليها. وهذا القسم بخلاف القسم الأول فإنّه يكفي في اعتبار قول العرف صرف عدم ردع الشارع ، وسرّ الفرق هو : أنّ في القسم الأول حيث يكون الرجوع اليهم لكونهم أهل لغة ، وحيث إنّ طريق التفهيم والتفهّم بحسب المرتكز يكون هو العرف ، فالشارع لو كان له رويّة خاصّة وطريق خاصّ لا بد له من البيان ، وإلّا لأخلّ بغرضه ، فمن عدم الردع نكشف امضاء الشارع.

وأمّا في هذا القسم فحيث إنّ بيان الأحكام وظيفة الشارع ولا بدّ من رجوعنا اليه فلا بدّ من الأخذ منه ، فعلى هذا لا بدّ من اعتبار طريق العرف في

٤٤٧

مخترعاتهم من امضاء الشارع ، وبمجرد عدم الإمضاء لا يمكن الأخذ بمعتبرات العرف إلّا بورود دليل خاصّ أو عامّ على الإمضاء ، ولا يكفي الدليل المجمل.

ومن هنا ظهر لك أنّ من قال بأنّ العمل وفق العرف يصحّ ويكفي في الإمضاء بعض ما ورد من الشرع ليس في محلّه ؛ لأنّه لا بدّ وأن يكون لما ورد إطلاق بحيث يشمل المورد ، ولا يكون ما ورد كذلك ، بل يكون مجملا. وأيضا اعلم أنّ في هذا القسم في الصدق أيضا يرجع الى العرف لأنّه مخترعه ، فلا بدّ من الرجوع اليه ، بخلاف القسم الأول فإنّه لا يمكن في الصدق من الرجوع إلّا الى العقل.

المورد الثالث : وهو الرجوع اليهم في الموضوع له وفقا لأحكام الشارع ، وهو يكون في المورد الذي بيّنه الشارع حكما ولم يبيّن ما هو موضوع الحكم.

وبعبارة اخرى : يكون للشارع مخترعات فلو بيّن ما هو موضوع مخترعه فهو ، وأمّا لو لم يبيّن موضوع مخترعه وكان للعرف أيضا نظير مخترع الشارع فوظيفة الشارع هي بيان ما اخترعه ، فلو لم يبيّن فيكون العرف طريقا لفهم موضوع مخترع الشارع له لوجود نظيره عند العرف أيضا.

والسرّ في ذلك هو : أنّ الشارع لو اخترع شيئا ولم يبيّن موضوع مخترعه ولم يتّكل الى ما هو نظير مخترعه عند العرف فقد أخلّ بغرضه ، فعدم بيانه شاهد على أنّه جعل العرف طريقا لكشف الموضوع الذي اخترعه ، وفي هذا القسم وإن كان لا بدّ من الرجوع الى العرف لكن لا بالملاك الذي قدّم في القسم الأول أو القسم الثاني ، بل بملاك آخر ، وهو : أنّ الرجوع في القسم الأول وكذا الثاني يكون الى العرف لكشف ما هو الموضوع له اللفظ في الأول عندهم ، وما هو حقيقة مخترعهم في الثاني ، فيكون لكشف الموضوع له اللفظ أو الحقيقة موضوعيته بنفسه.

وأمّا في هذا القسم فيكون الرجوع اليهم لا لموضوعية في مخترعهم ، بل لأجل كون نظر العرف طريقا في كشف ما هو حقيقة مخترع الشارع ، فالفرق واضح ، كما

٤٤٨

ترى في البيع على القول بكونه من مخترعات العرف ، فالشارع لو قال : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ولم يبيّن ما هو موضوع حكمه فالمرجع في تشخيص موضوعه هو العرف ، فعدم بيان الشارع لموضوعه يكفي في إثبات أنّ المرجع هو العرف في تعيين الموضوع وتشخيصه ؛ لأنّه بعد ما كان وظيفته بيان الأحكام فلو بيّن الحكم ولم يبيّن موضوعه فقد أخلّ بالغرض ، وهذا غير صحيح منه ، فظهر أنّ المرجع في هذا المورد أيضا هو العرف لكن بملاك آخر غير ملاك الموردين السابقين ، وهو ما قلنا.

وممّا ذكرنا في هذا المقام يظهر لك مقصود الشيخ رحمه‌الله من كلامه في أول بيع المكاسب قوله قبل المعاطاة بسطرين : (وأمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلة البيع ... الى آخره) حيث إنّ غرضه هو أنّه ولو كان البيع من مخترعات الشارع ولكن حيث لم يبيّن موضوع حكمه وكان له نظير عند العرف فلا بدّ من الرجوع في فهم موضوع حكمه اليهم.

المورد الرابع : وهو الرجوع الى العرف في المصداق ، ومعنى الرجوع اليهم في المصداق ليس هو ما قلناه بعدم جواز الرجوع اليهم ، بل المرجع بعد تبيّن المفهوم هو العقل ، ولكن في موردين يكون المرجع في المصداق هو العرف ، وهما :

الأول : فيما يرجع الى العرف في المصداق لكشف ما هو المفهوم ، فيكون الرجوع الى المصداق لأجل درك ما هو المفهوم عند العرف ، فمن فهم العرف من كون هذا مصداقا للمفهوم وعدم حكمهم يكشف السعة والضيق وعدم السعة والضيق في المفهوم ، فمن صدقهم نكشف أنّ المفهوم يكون من السعة بحيث يشمل هذا المصداق ، مثلا في الدم ولو أنّ مفهوم الدم معيّن ولكن بعد حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن الدم وعدم تعيين موضوع حكمه ، وبعد فرض أنّ العرف في بعض الموارد يحكم بكونه دما ، وبالعكس ، ولو أنّ العقل بعد تبيّن المفهوم يحكم بكون هذا الفرد المردّد مصداقا له أو عدم كونه مصداقا له ، ولكنّ العرف بعد فهمه للفرد المردّد بكونه دما أو

٤٤٩

في مورد آخر بعدم كونه دما ولو لم يحكم العقل في الأول بكونه دما وحكمه في الثاني بكونه دما نكشف بأنّ موضوع حكم الشارع هو ما يفهمه العرف ، لأنّه لو كان موضوع حكم الشارع غير متعارف عند عرف الناس فلا بدّ من بيانه بعد علمه بأنّ العرف لا يفهمون من حكمه إلا ما هو المتعارف عندهم ، فمن عدم بيانه والحال أنّه كان في مقام البيان نكشف أنّ موضوع حكمه هو ما يكون المتعارف عندهم ، وهذا هو معنى الإطلاق المقامي الذي نتمسّك به في بعض الموارد ، وموردنا أيضا من موارده.

الثاني : أن يرجع الى العرف في المصداق لا لكشف ما هو المفهوم وفهم الموضوع ، بل يكون الرجوع اليهم فقط لأجل فهم حكم المفهوم في هذا المصداق وعدمه. ولا يخفى عليك أنّ الرجوع في هذين الموردين لا يكون بملاك الرجوع في المورد الأول والثاني والثالث ، بل ملاكه هو ما قلنا من الرجوع الى العرف في المصداق لكشفنا من حكمهم بصدق المفهوم على المصداق سعة المفهوم ، فالرجوع في المصداق اليهم يكون لكشف سعة وضيق المفهوم ، أو لفهم أن حكم المفهوم يكون في هذا المصداق أو لا؟

واعلم أنّ لهذا المورد ـ أي المورد الرابع ـ أمثلة كثيرة ليس هنا محلّ ذكرها.

ومن الموارد التي يرجع بها في المصداق الى العرف بالملاك المتقدم هو باب الاستصحاب ، فإنّه بعد حكم الشارع بعدم النقض وعدم رفع اليد عن اليقين بمجرد الشك ، ولزوم بقاء الموضوع في صدق النقض وعدمه ، فبعد الشك ولو أنّ العقل يرى أنّ ما هو الموضوع إمّا باق لعدم دخل ما ارتفع فيه ، وإما لم يبق الموضوع لأجل دخل ما ارتفع فيه ، لكن حيث إنّ العرف في بعض الموارد يحكم ببقاء الموضوع ولو لم يحكم العقل ، أو يحكم بزوال الموضوع ولو يحكم العقل ببقائه فحكم الشارع لو لم يكن موضوعه هو المتفاهم عند العرف مع علمه بأنّ الموضوع ما هو عندهم وكونه

٤٥٠

في مقام البيان فلو كان موضوع حكمه غير المتعارف فلا بدّ له من بيانه.

وبعد عدم بيانه نكشف أنّ الموضوع له عنده هو الموضوع له عند العرف ، لأنّه لو لم يكن كذلك ولم يبيّن موضوع حكمه مع كونه بخلاف المتعارف فقد أخلّ بغرضه ، وهو قبيح عليه ، فنتمسّك بالإطلاق المقامي ، فيثبت بذلك أنّ الموضوع له هو الموضوع العرفي ، ولا بدّ من الرجوع اليهم في صدق النقض وعدمه ، والرجوع الى العرف وإن كان غير الرجوع الى العقل ولسان الدليل ولكنّه هو المتّبع ، ولسان الدليل وإن كان ظاهرا في شيء فلو فهمنا أن الموضوع هو الذي يدلّ عليه لسان الدليل وإن كان ظاهرا في شيء لكن بعد حكم العرف بكون هذا مصداقا أو لا فما لم يبلغ البيان من الشارع لا بدّ من اتّباعه.

ويظهر لك ممّا قلنا أنّ الرجوع الى العرف في تشخيص الموضوع غير الرجوع الى العقل ؛ لأنّ في مورد يحكم العقل بصدق النقض ولا يحكم العرف ، أو بالعكس. وكذلك لسان الدليل غير الرجوع الى العرف على ما قلنا ؛ لأنّ لسان الدليل وإن كان ظاهرا في اعتبار شرط أو قيد في الموضوع أو عدم اعتبارهما ولكن لا ينافي كون العرف متبعا في المصداق لكشف الحقيقة وفهم السعة وضيق المفهوم.

فما قاله النائيني رحمه‌الله من أنّ الرجوع الى العرف ولسان الدليل لا يكون بينهما فرق يظهر لك فساده.

المورد الخامس : وهو الرجوع اليهم في الامور الاعتبارية ، بمعنى أنّ في كلّ أمر اعتباريّ يكون العرف مرجعا ، والسر في ذلك هو : أنّ الامور الاعتبارية حيث إنّها ليست إلّا الاعتبار ، والعرف لأجل مقاصد واغراض يعتبرون امورا فلا بدّ في فهم ذلك من الرجوع اليهم ، مثل أنّه لو اعتبرت وحدة اعتبارية فالعرف مرجع في أنّ هذه الوحدة حاصلة ، وكذلك في القيام وغير ذلك فلو أمر الشارع بالقيام فالمرجع فيه هو العرف ، والأمثلة لذلك كثيرة وليس هنا مجال ذكرها. ومن موارد

٤٥١

الامور الاعتبارية التي يكون العرف مرجعا فيها هو فيما نحن فيه في بهذا المقام ، بمعنى أنّه بعد ما يلزم في الاستصحاب بقاء الموضوع لاجل أنّ النقض يصدق مع اتحاد قضية يرجع فيها الى العرف.

واعلم أنّ الكلام في المقام ليس في أنّ الوحدة المعتبرة في الاستصحاب هل هي الوحدة الحقيقية أو الوحدة الاعتبارية؟ بل يكون الكلام في أنّ هذه الوحدة هل يعتبر أن تكون موجودة بنظر العقل أو بلسان الدليل أو بنظر العرف؟ فيمكن أن يكون بنظر العقل ، ومعناه أنّه كلما حكم العقل بالبقاء فهو ، وإلّا فلا ولو كان لسان الدليل أو حكم العرف بخلاف ذلك.

ويمكن أن يكون المعتبر هو لسان الدليل ، ويمكن أن يكون بنظر العرف ، وفي كلّ منها : تارة يقال بأن الرجوع اليهم يكون في صدق النقض وعدمه ، واخرى يقال بالرجوع اليهم في بقاء الوحدة وعدمه ، وثالثة يقال بأن الرجوع اليهم يكون في بقاء الموضوع وعدمه.

فلو قلنا بالاولى فيدور الأمر مدار صدق النقض وعدمه ولو لم تكن الوحدة باقية.

ولو قلنا بالثانية فيدور الأمر مدار بقاء الوحدة وعدمه.

ولو قلنا بالثالثة فيدور الأمر مدار بقاء الموضوع وعدمه ولو لم يصدق النقض ، أو لم تكن الوحدة باقية.

ولا يخفى أنّ المرجع هو العرف ، ويكون الرجوع اليهم في بقاء الموضوع وعدمه.

وكلام بعض العلماء كالمحقّق الخراساني رحمه‌الله وإن يوهم ظاهره بأنّ الرجوع الى العرف يكون في صدق النقض وعدمه لكن يمكن أن يكون نظرهم الى الثالث ، أعني الرجوع اليهم في بقاء الموضوع وعدمه.

٤٥٢

نعم يبقى الإشكال الذي تقدّم ذكره منّا بأن العرف لم يكن المرجع في بقاء موضوع الاستصحاب وعدمه. واذا بلغ الكلام الى هنا فيقال : إنّه بعد ما كان لسان الدليل ظاهرا في كون شيء موضوعا لحكم الشارع فلا معنى بعد ذلك للرجوع الى العرف ؛ لأنّ مع بيان الشارع ما هو موضوع حكمه فالعرف ليس مرجعا فيه ، ففي بقاء الموضوع وعدمه لا معنى للرجوع الى العرف.

نعم ، يمكن أن يقال بأنّ المرجع في الموضوع ولو لم يكن العرف لكن يرجع الى العرف في أمر آخر ، وهو صدق النقض وعدمه ، فإنّه يمكن أن يقال بأنّ مع معلومية الموضوع لكن حيث لا بدّ في جريان الاستصحاب وعدمه صدق النقض وعدمه فالمرجع في صدق النقض وعدمه يكون هو العرف ، لأنّه بعد حكم الشارع بعدم النقض فالمرجع هو العرف في صدق النقض وعدمه ، ولهذا يظهر من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّ الرجوع الى العرف يكون في صدق النقض وعدمه ، فتأمّل.

المورد السادس : اعلم أنّه في بعض الموارد يكون المرجع نفس الشخص ، لا العقل ولا العرف ولا لسان الدليل ، كما هو الحال في الامور الوجدانية ، فإنّ في الوجدانيات يكون المرجع نفس الشخص ؛ لأنّه لا بدّ وأن يراجع بنفسه بأنّه هل يكون الأمر الكذائي وجدانيا له أو لا؟ مثلا في النهار أنت اذا راجعت نفسك تفهم بأنّ الشمس طالعة ولا يمكن صيرورة ذلك وجدانيا لك إلّا بعد الرجوع الى نفسك ، ولو فرض أنّ ذلك كان عندك وجدانيا والعرف لا يحكمون بذلك فلا ينفعك بشيء ، وبالعكس لو لم يكن ذلك عندك وجدانيا فتصديق العرف بكونه أمرا وجدانيا لا يفيد.

وهذه الامور تارة تكون للشخص فيها جهة واحدة ، مثل أنّه ليس لك إلّا جهة عقلية فبمجرّد أنّك ترى في نفسك بأنّ العقل حاكم بكذا يظهر لك التصديق.

وتارة تكون للشخص جهات متعددة ، مثل أن تكون له جهة عقلية وشرعية

٤٥٣

وعرفية فالمرجع وإن كان نفس الشخص إلّا أنّ الشخص بعد ما يرى بأنّ له جهات متعدّدة فلا يمكن له الحكم على طبق أحدها بدون جهة.

اذا عرفت هذه الكبرى وأنّ بعض الامور يكون مرجعه نفس الشخص فنقول فيما نحن فيه : إنّه لا إشكال في أنّ اليقين أيضا من الامور التي يكون وجودها وعدمها بنظر الشخص ولا يكفي لحصوله وعدم حصوله حصوله وعدم حصوله عند الآخر ، فعلى هذا في المقام ليس لنا إلّا الحكم بأنّه «لا تنقض اليقين بالشك» ، فلا بدّ للشخص من مراجعة نفسه ، فإن كان «نقض اليقين بالشك» فلا يجوز ، وإلّا يجوز ، غاية الأمر كما قلنا يكون الشخص في بعض الموارد لنفسه جهات مختلفة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، حيث إنّه بعد ما يراجع بنظره العقلي يرى ـ مثلا ـ أنّ النقض غير صادق ، ويرى من باب كونه من أهل اللغة أنّه بحسب لسان الدليل لا يكون النقض ، ويرى من باب كونه من أهل العرف أنّ بنظره العرفي يكون النقض صادقا ، فعلى هذا في مثل ذلك الشخص الذي له جهات مختلفة فلا بدّ له من الرجوع الى نظره العرفي ؛ لأنّ الأحكام منزّلة على ما هو المتعارف ، وهذا الكلام يكون منّا في هذا المقام ، وبذلك يتمّ المطلب ويرتفع الإشكال عن موضوع الاستصحاب ، فافهم.

الأمر الثاني : اعلم أنّه كما مرّ سابقا يكون الكلام في الاستصحاب في صورة الشك في البقاء. وبعبارة اخرى : أن حقيقة الاستصحاب هو الحكم بالبقاء بعد الفراغ من الحدوث ، بمعنى أنّ الحدوث يكون مفروغا عنه ويكون الشك في بقاء ما حدث ، والكلام ومورد النقض والإبرام يكون في هذا المقام ، أعني الشك في البقاء ، سواء كان حجّة من باب حكم العقل لأنّ مقتضاه هو بقاء ما ثبت ، فأصل الثبوت ليس محلّ إشكال.

أو كان من باب الأخبار بأنّ مقتضاها أيضا هو عدم نقض اليقين بالشك ، فاليقين السابق مفروغ عنه ، وإنّما الحكم ببقائه مع الشك في الآن الثاني.

٤٥٤

اذا عرفت هذا فاعلم : أنّه لو كان الشك في الآن الثاني في يقين الأول ، بمعنى أنّه كان الشخص متيقنا بشيء في يوم كذا ثمّ بعد ذلك يشك في يقينه السابق ، بمعنى أنّه يشك في أنّه هل حصل له اليقين بالشيء الكذائي في يوم كذا أم لا؟ ففي الاستصحاب لا يكون شكه في الآن الثاني في متيقن الأول ، يعني في الحدوث ، بل يكون في البقاء ، وأن اليقين السابق باق حتى في الحال ، أعني المتيقن ثابتا الى الحال أم لا؟ وأمّا في هذا يكون الشك في أصل الحدوث.

وبعبارة اخرى : تارة يكون المتيقن عنده مشكوك الحدوث حال الشك ، واخرى لا يكون مشكوك الحدوث حال الشك ، فإن كان الأمر كذلك ـ يعني كان الشك في أصل الحدوث ـ فيكون قاعدة اليقين. إذا فهمت معنى قاعدة اليقين فيقع الكلام في حجّيتها وعدمها ، وأنّها هل تكون حجة كالاستصحاب ، أو لا؟

فنقول بعونه تعالى : إنّه لا دليل على حجيتها إلّا ما قد يتوهّم من شمول أخبار الاستصحاب لها بتقريبين :

الأول : بأنّ «لا تنقض اليقين بالشك» عام ويكون فرد منه اليقين الذي باق حدوثه ولو حال الشك ويكون الشك في بقائه حال الشك ، كما في الاستصحاب ، وفرد منه يكون اليقين بحدوثه في حال الشك غير باق كما في القاعدة.

الثاني : التمسّك بالإطلاق ، بأن يقال : إنّ «لا تنقض» له إطلاق ، فاليقين له حالتان :

إحداهما : حالة الشك في حدوثه حال الشك ، كما تكون في القاعدة.

ثانيتهما : حالة الشك في بقائه حال الشك مع بقاء اليقين بحدوثه. ولا يخفى عليك أنّه لا وجه في المقام للتمسّك بالإطلاق ، لأنّه بعد كون اليقين من الصفات النفسانية وهو كسائر الصور العلمية تابع لصورته فاليقين تابع للمتيقن ، وبعد كون المتيقن له خصوصيتان : إحداهما خصوصية الشك في البقاء الذي في الاستصحاب ،

٤٥٥

وليس في القاعدة هذه الخصوصية و «لا تنقض» في الاستصحاب يكون باعتبار هذه الخصوصية ، بمعنى أنّ الكلام يكون في البقاء بعد الفراغ عن الحدوث ، ثم بعد كون الكلام في القاعدة في أصل الحدوث فليس لهما جامع حتى يقال بشمول «لا تنقض» لهما باعتبار هذا الجامع ، لأنّهما خصوصيتان مختلفتان ، وبين الخصوصيتين بخصوصيتهما مورد للحكم.

وبعد ما يلزم في الإطلاق من وجود جامع في البين وهو مورد الحكم لا الخصوصيات ففي المقام لا وجه للاطلاق لعدم كون جامع في البين المشمول للحكم ، بل ما يشمله الحكم هو الخصوصية ، وبعد شمول «لا تنقض» لخصوص الاستصحاب بخصوصيّته فلا يمكن شموله بقاعدة اليقين ، فعلى هذا لا وجه للإطلاق في المقام.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ اليقين المأخوذ في باب الاستصحاب وكذا في باب القاعدة على تقدير الالتزام به هو اليقين الطريقي ، ولو فرض كونه حجة يكون كأصل من الاصول حجة في حال الشك ومرجعا في هذا الحال ، وليس اليقين مأخوذا فيها موضوعا ، بل اليقين الطريقي ، لكن بعد الدليل يكون الشك قائما مقامه كسائر الاصول والأمارات القائمة مقام القطع. والشاهد على عدم كون اليقين فيها موضوعيا هو : أنّ معنى كون اليقين موضوعيا أنّ له موضوعية ، وبمجرد وجود ذلك لا بدّ من ترتيب الآثار الكذائية ، سواء كان واقع له أو لا ، وسواء كشف الخلاف بعد ذلك أو لا ، فلو قطع بعد ذلك أيضا بالخلاف فلا بدّ من كونه موضوعا هو الأخذ به لموضوعيّته ، فهذا شاهد على عدم كون اليقين في القاعدة اليقين الموضوعي.

وبعد ما قلنا لك يظهر ما في كلام النائيني رحمه‌الله في هذا المقام ، وهو قائل بأنّ الفرق بين القاعدة والاستصحاب يكون في أربع جهات :

الاولى : أنّ اليقين في الاستصحاب ملحوظ بما هو طريق ، بخلاف القاعدة.

وفيه ما قلنا من فساده.

٤٥٦

الثانية باعتبار المتيقن ، وهو ما قلنا سابقا.

الثالثة باعتبار النقض ، فإنّ في القاعدة يكون النقض باعتبار نفس اليقين ، وفي الاستصحاب يكون باعتبار المتيقن.

وفيه ما قلنا من أنّ اليقين في كليهما يكون طريقيا ، ففي كلّ منهما يكون باعتبار المتيقن.

الرابعة باعتبار الحكم ، فإنّ الحكم في القاعدة على ثبوت الحكم للمتيقن ، في حال اليقين وفي الاستصحاب يكون الحكم على بقاء المتيقن حال الشك.

وقد ظهر لك أنّ في كلامه بعض مواقع للنظر ، وهو ما قلنا ، فافهم.

الأمر الثالث : لا إشكال في تقدّم الأمارات على الاستصحاب ، وأنّه لا وجه مع الأمارة للأصل ، سواء كانت الأمارة مخالفة للاستصحاب ، أو موافقة له ، وهذا واضح.

إنّما الكلام في أنّ تقدّم الأمارات على الاستصحاب يكون من باب الحكومة أو الورود أو التخصيص؟

اعلم : أنّ ما هو المصطلح عند الاصوليين هو : التخصّص والورود والحكومة والتّخصيص ، فلا بدّ أولا من فهم معنى هذه الأربعة على طبق الاصطلاح ، ثمّ بعد ذلك نتكلّم في أنّ تقدّم الأمارات في أيّ باب منها؟

فنقول بعونه تعالى : إنّ التخصّص عبارة عن الإخراج الحقيقي ، بمعنى أنّ إخراج شيء عن شيء حقيقة يكون تخصّصا ، وليس ذلك موقوفا على قيام دليل من الشرع ، بل ولو لم يكن دليل في العالم أصلا لكان هذا خارجا ، مثل الجاهل فإنّه خارج عن العالم ، ولا يحتاج ذلك الى دليل ، بل في مورد قيام الدليل أيضا لو كان تخصيصا ليس ذلك من باب قيام الدليل أيضا ، بل يكون من باب خروجه الحقيقي.

وأمّا الورود فهو تارة يطلق مع التّخصّص فيراد منه ما يراد من التّخصّص ،

٤٥٧

ولكن على الاصطلاح لو اطلق يكون المراد منه إخراج شيء عن شيء حقيقة لكن بعد ورود الدليل ليس الإخراج تعبديا ، بل الإخراج حقيقي ، فالفرق بين التخصص والورود ليس إلّا أنّ في الأول لا يحتاج الإخراج الحقيقي الى قيام الدليل ، بخلاف الثاني ، ولكن في الثاني أيضا بعد قيام الدليل يكون الإخراج حقيقيا كالأول ، لا التعبدي كما توهّمه النائيني رحمه‌الله لأنّ الاصطلاح يكون على هذا ، ولو وضع في اصطلاح خاصّ فلا مشاحّة في الاصطلاح ، فظهر لك الفرق بين التخصّص والورود.

وأمّا التخصيص فهو عبارة عن الإخراج الحكمي ، يعني الإخراج يكون في الحكم ، لا في الموضوع ، كما ترى في موارد التخصيص.

وأمّا الحكومة فهو عبارة عن الإخراج عن الموضوع ، لكن لا حقيقة بل تنزيلا ، بمعنى أنّ الشارع يخرجه تنزيلا عن تحت الموضوع ، وأنّه منه حقيقة ، والفرق على هذا بين التخصيص والحكومة واضح ؛ لأنّ الأول إخراج عن الحكم ، والثاني إخراج عن الموضوع ، غاية الأمر تنزيلا. كما أنّ بذلك ظهر الفرق بين الحكومة وبين الورود والتخصّص ، لأنّ في الأول يكون الإخراج عن الموضوع تنزيلا ، بخلاف الثاني والثالث فإنّ الإخراج فيهما يكون حقيقيّا وغير محتاج الى التنزيل.

ثم اعلم : أنّ التخصيص وإن كان متّحدا في النتيجة مع الحكومة ، لأنّ في كلّ منهما يكون الخارج غير مشمول لحكم الداخل ولكن مع ذلك لهما فرق في بعض الآثار ، فإنّه لو كان لسان الدليل هو التخصيص فحيث إنّ موضوع حكمه داخل تحت ما يكون هذا تخصيصا له فيقع التعارض بين الدليلين ، غاية الأمر بعد التعارض نأخذ بما هو الأظهر ، فتارة يكون الخاصّ مقدّما فيما كان أظهر دلالة ، واخرى يتفق تقديم العام لأجل كون ظهوره أقوى ، وكذا في المطلق والمقيد.

وأمّا لو كان لسان الدليل هو الحكومة فحيث إنّ لسانه إخراج عن الموضوع

٤٥٨

ولو تنزيلا فيكون ناظرا الى غيره ، حيث الذي يكون دليل المحكوم راجعا اليه ، مثلا اذا قال : «أكرم العلماء» وورد دليل على عدم كون زيد منهم ورد الحال أنّه عالم فيكون لسان الدليل تنزيله منزلة غير العلماء ، فلسان المحكوم ناظر الى إكرام العلماء ، ولسان دليل الحاكم ناظر الى عدم كون زيد عالما ، فهو ناظر الى الموضوع وراجع الى أمر آخر غير ما يكون دليل المحكوم راجعا اليه ، فعلى هذا ليس بين الدليلين تعارض أصلا ؛ لما قلنا من كون كلّ منهما راجعا الى غير ما يكون الآخر راجعا اليه.

ومن هنا يظهر لك أمر ، وهو : أنّه لا يعتبر في الحكومة إلّا ما قلنا من كون دليل الحاكم راجعا وناظرا الى ما يكون دليل المحكوم راجعا وناظرا اليه ، فلا يعتبر فيه أن يكون لسانه لسان أيّ تفصيل ، أو كان شارحا ، فما يظهر من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله من اعتبار ذلك كما توهّم ذلك من ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله لا وجه له ، فافهم.

ونقول لك توضيحا : إنّ الفرق بين الحكومة والتخصيص هو : أنّ في الثّاني يكون إخراج عن الحكم ، لا الموضوع ، وفي الحكومة ولو كان الإخراج عن الحكم لكن الإخراج عن الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا قسم من الحكومة.

ويمكن أن يكون للحكومة قسم آخر ، وهو : أن يكون الإخراج عن الحكم ، ولكنّ هذا الإخراج يكون عن إخراج الحكم الثابت ، مثلا يمكن أن يكون من هذا القبيل «لا ضرر» بالنسبة الى الأحكام بعناوينها الأولية ، فإنّ لسان «لا ضرر» نفي الحكم الثابت ، فهو ناظر الى الحكم الثابت ، لا أن يكون ناظرا لدليل آخر وليس هذا تخصيصا ، لأنّ في التخصيص كما قلنا الإخراج عن الحكم ، سواء كان الحكم الآخر ثابتا أم لا.

اذا عرفت ما تلونا عليك وأنّه لا إشكال في تقدم الأمارات على الاصول ، سواء كان وجهه الورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص ، لأنّه لو لم يكن تقدمها على الاصول من باب الورود أو الحكومة فلا أقلّ من كون نسبة أدلتها لأدلّة الاصول

٤٥٩

هي التخصيص ، واذا بلغ الأمر الى التخصيص فلا إشكال في تقدم الأمارات على الاصول ولو كان دليل كلّ منهما عاما ، لأنّ دليل الأمارات خاصّ بالنسبة الى دليل الاصول ، فإنّ في كلّ مورد من موارد الأمارات يكون أصل ، ولا أقلّ من البراءة أو الاشتغال.

وهذا بخلاف الاصول فإنّ في بعض مواردها لا تكون أمارة أصلا ، فلو أخذنا بعموم أدلة الاصول لم يبق محل للأمارة أصلا ، لأنّ في كلّ من موارد الأمارة يجري أصل كما قلنا ، وأمّا لو أخذنا بعموم أدلة الأمارة فلا يلزم ذلك ، بل موارد كثيرة باقية تحت العموم ، يعني عموم أدلة الاصول ، فتخصيص عموم الأمارات بالاصول موجب لعدم بقاء فرد لعموم أدلة الأمارات ، بخلاف تخصيص عموم أدلة الاصول بالأمارات فإنّه يبقى لعموم أدلة الاصول بعد التخصيص أيضا أفراد كثيرة ، فلا بدّ من تخصيص أدلة الاصول بدليل الأمارات ، لا العكس ، فافهم.

فأصل المطلب يعني كون الأمارات بأدلتها مقدمة على الاصول ممّا لا شبهة فيه ؛ إنّما الكلام في أنّه وجه التقدم هل هو الورود أو الحكومة أو التخصيص؟

اعلم : أنّ الكلام تارة يكون في فهم النسبة بين الأمارات والاصول التي يؤخذ فيها الشك. وبعبارة اخرى : غير الاصول التي مدركها حكم العقل ، مثل البراءة الشرعية والاستصحاب.

وتارة يكون الكلام في النسبة بين الأمارات والاصول الثابتة بحكم العقل ، كالبراءة العقلية ، وقاعدة دفع الضرر المحتمل ، وقاعدة الاشتغال.

أمّا الكلام في القسم الأول فتأمّل على ما مشينا واخترنا في وجه حجية الأمارات وفي مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من أنّ لسان أدلة الأمارات هو إلغاء احتمال الخلاف أو تتميم الكشف ، بمعنى أنّ الشارع تمّم كشف ناقصها وجعلها منزلة العلم ، وأمر بإلغاء احتمال خلافها ، فلا بدّ من أن نلتزم بأنّ النسبة بينها

٤٦٠