المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

والسرّ في ذلك هو : أنّ دليل حجية الأصل يثبت مؤدّى الأصل بحجيته وتمام صفحة وجوده ، فعلى هذا باستصحاب زيد يثبت وجود الإنسان ويترتب عليه أثره ، لأنّ التنزيل يشمل تمام وجود زيد ، وزيد في الخارج متحد مع الإنسان ، وليس للإنسان وراء وجوده وجود ، هذا من الواضحات ولا مجال للترديد فيه.

نعم ، ربّما يكون مورد الاستصحاب والتنزيل الفرد ، لكن لا بحيث فردية الغير المتميّزة مع فرد آخر ، بل باعتبار خصوصياته الفردية ، فلا مجال لإثبات أثر الكلّي ؛ لأنّه على هذا ليس مورد التنزيل هو الحيث المتّحد مع الكلي ، وأيضا لا بدّ وأن يكون الحيث المتّحد معه وجودا مسلّم البقاء على تقدير وجود مؤدّى الاستصحاب ، مثلا في زيد والعلم ، فالعلم متّحد معه ، وباستصحاب زيد يثبت العلم ، لكن بشرط كون العلم مسلّم البقاء على تقدير وجود زيد ، فلو كان مشكوك البقاء فيحتاج الى استصحاب آخر لإثباته.

ومن هنا ظهر لك حال الاعتباريات ، وأنه لو استصحب منشأ الاعتبار يثبت المعتبر ، وكذلك في الامور الانتزاعية ، لأن وجود المعتبر وكذلك وجود المنتزع ليس إلّا بوجود منشأ اعتباره ومنشأ انتزاعه فيثبت بالاستصحاب ويترتب عليه أثره ، فليس هذا القبيل من الاصول المثبتة ، لأنّ كثيرا ما يكون مورد الاستصحابات من هذا القبيل ، ولا وجه أصلا للإشكال في ذلك ، فافهم.

واعلم : أنّ في الاستصحاب إن كان استصحاب الموضوع لا بدّ فيه من الأثر ، وبدون الأثر لا معنى للاستصحاب ، وأمّا في استصحاب الأحكام فلا حاجة الى الأثر ، بل يكفي صرف الحكم الثابت بالاستصحاب.

نعم ، لا بدّ فيه من شرط آخر ، وهو : أن يكون للاستصحاب في الأحكام نتيجة عملية. وبعبارة اخرى : يكون له العمل خارجا ، وإلّا لو لم يكن له عمل في الخارج فلا معنى للاستصحاب ، مثلا استصحاب الوجوب أو الاستحباب لا بدّ وأن يكون

٤٢١

لهما نتيجة بحسب العمل ، وإلّا فجريان الاستصحاب يكون لغوا.

وأيضا لا يعتبر أثر المعتبر في الاستصحاب أن يكون بالحيث الذي كان من الأثر والمؤثر الاصطلاحي بأن يكون مؤدّى الاستصحاب مؤثّرا تاما للأثر ، بل يكفي أن يكون له دخل في الأثر ، وله مدخلية في ترتب الأثر الشرعي ، مثل أن يكون جزء المؤثّر يكفي كونه مقتض للأثر ، أو شرطا في ترتب الأثر ، أو مانعا من ترتّب الأثر ، ولا حاجة الى أن يكون تمام المؤثر في ترتب الأثر هو متعلق الاستصحاب ، فعلى هذا يجري استصحاب المقتضي أو الشرط أو المانع ، لأنّ لكلّ منها دخلا في ترتب الأثر ، غاية الأمر لا بدّ وأن يكون كلّ منها على فرض وجودها وعدمها باق على حاله ، مثلا في الطهارة ، لو كانت الطهارة باقية على شرطيتها فيستصحب وجودها ، ولو شكّ في بقائها على الشرطية فإنّها محتاجة في إثبات ذلك الى استصحاب آخر حتى يثبت بقاؤها على الشرطية. والسر في ذلك : هو ما قلناه من عدم اعتبار أزيد في دخل متعلق الاستصحاب لترتب الأثر ، فعلى هذا يجري استصحاب المانعية والشرطية.

نعم ، هنا كلام آخر وقد مرّ في الأحكام الوضعية : بأنّه لو قلنا بمجعولية الشرطية أو المانعية يجري الاستصحاب في نفسهما ، وإن قلنا بكونهما من الامور الانتزاعية يجري الاستصحاب في منشأ انتزاعهما ، وعلى أيّ حال لا إشكال في جريان استصحابهما.

نعم ، لو قلنا بانتزاعيتهما فلا بدّ من ملاحظة بقاء منشأ الانتزاع حتى يصحّ الانتزاع ، مثلا لو كان منشأ الانتزاع الزمان فيه مأخوذا بنحو التقييد ففي الآن الثاني لا مجال لمنشا الانتزاع ، فلا معنى لانتزاعهما منه ، فافهم.

وممّا مرّ ظهر لك : أنّ ما قاله الشيخ رحمه‌الله من أنّه لا مجال لاستصحاب عدم التكليف لعدم الأثر ، حيث إنّ استحقاق العقاب وعدمه ليس الأثر فيكون كلامه

٤٢٢

راجعا الى ما ذكرنا من أن استصحاب الأحكام لا بدّ وأن يكون له نتيجة عملية وعمل خارجي ، وإلّا لا معنى للاستصحاب ، فمراد الشيخ رحمه‌الله هو : أن استصحاب عدم التكليف إن كان لرفع أثر الشك الذي كان للمكلف من أنّه هل تعلق التكليف بالمشكوك أو لا؟ فنفس الشكّ رافع لهذا الاحتمال ، إذ البراءة بمجرد الشك تنفي التكليف ، ولا مجال للاستصحاب ، كما قال بذلك في أول الظنّ في الشك في الحجية بأنّ صرف الشك كاف لعدم الحجية ولا حاجة الى الاستصحاب ، وقلنا بأنّ كلامه في محلّه. وإن كان لرفع العقاب فالعقاب وعدمه ليس نتيجة عملية وعملا خارجيا للاستصحاب وراجعا الى المكلف ، فليس لهذا الاستصحاب عمل في الخارج ، فلا مجال لجريانه ، وليس كلامه راجعا الى أنّ لهذا الاستصحاب أثرا حتى يستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ له الأثر ، وهذا ـ أعني ترتب العقاب وعدمه ـ أثر ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فإنّه ولو نقول بكون هذا أثرا وأنّ العقاب وعدمه ولو كان بحكم العقل لكن يثبت ويرفع بالاستصحاب لكونه أثرا له ، ولكن مع ذلك حيث لم يكن لجريان الاستصحاب عمل في الخارج للمكلف وراجع اليه فليس لجريانه مجال ، فكلام الشيخ رحمه‌الله في غاية المتانة ، ووجه اشتباه المحقّق الخراساني رحمه‌الله كان من ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله ، حيث قال ما مضمونه : إن ترتب العقاب وعدمه ليس هو أثر الاستصحاب ، فتوهّم المحقّق الخراساني رحمه‌الله في ذكر الأثر هو في الأثر الاصطلاحي الذي يعتبر في جريان الاستصحاب ، فاستشكل عليه بأنّ هذا أثر له.

وقد ظهر لك أنّ مراد الشيخ رحمه‌الله هو ما قلنا من أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون له عمل خارجي راجع الى المكلف ، فتدبر.

التنبيه الثامن :

اعلم أنّه بعد كون الحكم في الاستصحاب بعدم نقض اليقين بالشك فلا بدّ فيه

٤٢٣

من اليقين والشكّ وقوامه بهما ، وبمجرّد ذلك يجري الاستصحاب في كلّ زمان كان الشخص شاكا ، سواء كان في آن البعد من زمان الشك متيقّنا بالخلاف أو لا ، مثلا لو كان اليقين بحياة زيد سابقا ثم شك بعد ذلك فيها فيستصحب الحياة ، سواء كان في الآن الثالث أيضا شاكا ، أو تيقن بموته ، فعلى كلّ حال في حال الشك يجري الاستصحاب ، فاليقين بالخلاف في الآن الذي بعد زمان الشك ليس مانعا من الاستصحاب لزمان الشك من حيث الاستصحاب.

نعم ، لو كان مانع آخر من الاستصحاب فيما كان بعد زمان الشك اليقين بالخلاف فمن حيث المانع لا يجري الاستصحاب ، فعلى هذا المهمّ في المقام هو البحث في هذا الحيث أعني شرح ما وجد مانع من جريان الاستصحاب.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الحادث تارة يلاحظ مع الزمان وبالقياس اليه ، وتارة يلاحظ بالقياس الى حادث آخر.

أمّا الكلام فيما يلاحظ بالقياس الى الزمان فنقول بعونه تعالى : إنّه لا مانع من جريان الاستصحاب لوجود أركانه لو كان الزمان مأخوذا بنحو الظرفية ، وأمّا لو كان الزمان مأخوذا بنحو القيدية فلا مجال للاستصحاب ؛ لأنّ الأثر لو كان على الحادث بالقياس الى زمان المقيد فلا يكون للاستصحاب حالة سابقة.

نعم ، في صورة كون الزمان مأخوذا على نحو الظرفية لا يترتب على الاستصحاب بعض لوازم الآخر غير أثره ، فلو استصحب عدم حياة زيد في يوم الجمعة لم يثبت حياته في يوم السبت. والحاصل : أنّه لا يثبت التأخّر أو التقدّم أو التقارن ، بل لا يثبته إلّا صرف العدم في هذا اليوم.

وما قاله الشيخ رحمه‌الله من أنّه بعد جريان الاستصحاب في يوم الجمعة ـ مثلا ـ وكان وجوده في يوم السبت محرزا فيثبت كون الحياة في يوم السبت ، لأنّ هذا المركّب ثبت جزء منه بالاستصحاب وهو العدم في يوم الجمعة ، وجزء منه محرز

٤٢٤

بالوجدان لوجوده في يوم السبت ، ويكون الحدوث مركبا من العدم في السابق والوجود في اللاحق ليس بسديد ؛ لأنّ الحدوث أيضا يكون كالوجوب والإمكان من المعقولات الثانوية وهي منتزعات ، ولا يكون مركبا حتى يصحّ ما قاله ، هذا لو لوحظ بالقياس الى الزمان ، وأمّا لو لوحظ بالقياس الى حادث آخر : فتارة يكون الحادثان مجهولي التاريخ ، واخرى معلومي التاريخ.

أمّا الكلام فيما لو كانا مجهولي التاريخ : فتارة يكون الأثر مترتبا على عدم الحادث ، واخرى على وجوده ، أمّا لو كان الأثر مترتبا على وجود الحادث عند الآخر : فتارة يكون وجود المطلق موضوعا للأثر ، ففي هذه الصورة لو كان للاستصحابين أثر فيجري الاستصحاب ، لكنّ الاستصحابين متعارضان فيسقطان إلّا اذا كان الأثر لأحدهما فقط.

وتارة يكون الأثر على وجود المقيّد لكن بمفاد ليس التامة ، بمعنى أنّ عدم الخاصّ موضوع للأثر ، ففي هذه الصورة أيضا لو لم يكن لحادث آخر أثر ، ولم يكن لعدم تأخّره الحادث أو تقدم هذا الحادث ، مثلا فيما لو ترتب لاستصحاب عدم التقارن أثر فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فيستصحب عدم تقارن هذا الحادث ويترتب عليه أثره ، ولكن لو كان إمّا لحادث آخر أو لبعض حالات نفس هذا الحادث كتقدمه أو تقارنه أو تأخره فاستصحاب عدم التأخر أو التقارن أو التقدم يسقط بالمعارضة.

وتارة يكون الأثر على وجود الحادث مقيّدا ولكن بمفاد ليس الناقصة ، أعني التوصيف وبنحو التقييد ، ففي هذه الصورة لا يجري الاستصحاب أصلا ، لا أنّه يجري وبالتعارض يسقط ؛ لأنّ عدم المقيّد ليس له حالة سابقة حتى يستصحب ، فتدبّر.

أمّا الكلام فيما لو كان الأثر مترتبا على العدم : فتارة يكون الأثر مترتبا عليه بنحو الاتصاف والتقييد فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم حالة سابقة لها ، لأنّ

٤٢٥

الاتّصاف ليس له حالة سابقة. وتارة يترتب الأثر على عدم المطلق فأيضا لو كان لعدم كلا الحادثين أثر فيجري الاستصحاب فيهما ، لكن يسقط بالتعارض ، ولو كان لعدم أحدهما الأثر فقط دون الآخر فيجري الاستصحاب ويترتب عليه أثره ، فمن أجل ذلك لا إشكال في شمول أدلة الاستصحاب للموردين ، لكن في الأول يسقط بالتعارض.

ولكن هنا إشكال ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وهذا الاشكال جار في كلّ من صورة كون الأثر للعدم ، أو للوجود ، وهو غير ما قلنا من عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي بالبيان الذي قلناه ، بل هو : أنّه لا بدّ في الاستصحاب من اتّصال زمان الشك باليقين ، بمعنى كون زمان الشك متصلا بزمان اليقين وعدم فصل اليقين بالخلاف ، ففي سائر الاستصحابات يكون هذا الاتّصال موجودا فلا مانع من جريان الاستصحاب وأمّا في المورد فليس الاتّصال محفوظا.

بيانه : أنّه يكون في البين أزمنة ثلاثة :

الأوّل : زمان اليقين بعدم حدوث كليهما.

الثاني : زمان اليقين بحدوث أحدهما.

الثالث : زمان اليقين بحدوث كلّ منهما.

ففي الزمان الثاني الذي هو زمان الشك بعد العلم بحدوث أحد الحادثين لا يمكن جرّ اليقين الى زمان الشك ؛ لعدم إحراز اتّصال زمانه بزمان اليقين ، إذ في كلّ من الحادثين يمكن أن يكون الحادث في الزمان الثاني منطبقا عليه ، فبعد احتمال الانطباق لا يمكن إحراز الاتّصال ، والحال أنّه يلزم إحراز ذلك ووجه لزوم إحراز الاتصال هو أنّه لو لم يحرز اتصال زمان الشك باليقين فيحتمل أن يكون نقض اليقين باليقين ، لا بالشك.

وبعبارة مصطلحة : يكون من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ؛ لأنّ بعد حدوث أحد الحادثين في الزمان الثاني يحتمل أن يكون في كلّ منهما جرّ اليقين

٤٢٦

من قبيل نقض اليقين باليقين ، لا بالشّك ، فيكون المورد من الشبهة المصداقية «لا تنقض» فقد عرفت أنّ هذا الإشكال غير الإشكال الذي يرد في أنّه بعد العلم التفصيلي بحدوث حادث لا يمكن جريان الأصل ؛ لأنّ العلم مانع عنه ، لأنّه ولو نلتزم بأنّ جريان الأصل في أطراف العلم لا مانع منه مع ذلك لا يجري الاستصحاب في المقام ، لأنّ المورد من الشبهة المصداقية «لا تنقض».

ونقول توضيحا للمطلب : بأنّه لا بدّ وأن يكون زمان الشكّ متّصلا بزمان اليقين ، ولا بدّ من إحراز ذلك ، وهذا معتبر في الاستصحاب بلا ترديد ، فبعد اعتبار إحراز الاتّصال نقول فيما نحن فيه.

أمّا فيما لو لوحظ الحادث بالقياس الى الزمان ففي الآن الأوّل يكون آن اليقين ، وفي الآن الثاني وإن علم بحدوث حادث لكن مع ذلك بالنسبة الى خصوص كلّ من الحادثين يكون شاكا في حدوث كلّ منهما ، فيكون زمان شكه متّصلا بزمان اليقين ، لأنّه قلنا بأنّه في الآن الثاني هو شاك في خصوص حدوث هذا الحادث ، وكذلك في حدوث الآخر ، فالاستصحاب يجري ، لكن لو كان لكلّ من الحادثين أثر فيسقطان بالتعارض.

وأمّا لو لوحظ الحادث بالقياس الى حادث آخر ، ومعناه هو : أنّ عدم هذا الحادث عند وجود حادث آخر مورد للأثر. وبعبارة اخرى : يكون عدم تقدمه أو تقارنه أو تأخره عند وجود الآخر مورد الأثر فنقول بأنّ في الآن الاول يكون متيقنا بعدمهما ، وفي الآن الثاني وهو زمان العلم بحدوث أحدهما ، فحيث إنّه يعتبر في استصحاب عدم أحدهما عدمه مقيدا بكون عدمه عند وجود الآخر ففي الآن الثاني لا يعلم بوجود الآخر ، ولا يحرز ما هو قوام الاستصحاب ؛ لاحتمال كون الحادث غير ما يكون قوام الاستصحاب به.

وأمّا في الآن الثالث أعني زمان حدوث كلا الحادثين فهو وإن علم بوجودها ولذا يعلم بوجود ما هو قوام الاستصحاب به ، ولكن مع ذلك حيث إنّ زمان الشك

٤٢٧

هو الآن الثاني ففي الحال استصحاب العدم الى الآن الثاني غير صحيح ؛ لاحتمال كون الحادث ما يستصحب عدمه ، فلو كان الحادث هو هذا فيكون نقض اليقين باليقين ، لا بالشك ، فبمجرّد احتمال ذلك لا يمكن الاستصحاب ، لعدم إحراز الاتصال ، وهذا معنى كون المورد من الشبهات المصداقية «لا تنقض» ، فتدبّر.

فظهر لك الفرق بين ما يكون الحادث ملحوظا بالقياس الى الزمان فيجري الاستصحاب لو لم يكن متعارضا باستصحاب حادث آخر ، وبين ما لو لوحظ الحادث بالقياس الى حادث آخر فلا يجري الاستصحاب أصلا ، لا أنّه يجري ويسقط بالتعارض ، فافهم.

واعلم : أنّ هذا الإشكال غير ما أورده الشيخ رحمه‌الله من عدم جريان جميع الاصول في أطراف العلم الإجمالي ، من أجل أنّ الأصل يجري مع الشك ، فأطراف العلم الإجمالي وإن كان بالنسبة الى كلّ منها شاكا لكن مع العلم لا مجال للأصل ، وكذلك غير كلامنا في العلم الإجمالي في وجه عدم جريان الاصول في أطرافه لأجل أن كلّا من الأطراف وإن كان في حدّ ذاتها مورد الأصل لأجل كونه شاكا فيها ، ولكن باعتبار العلم لم يكن شاكا فلا مجال لجريان الأصول.

ووجه كون هذا الإشكال غير إشكال العلم الإجمالي هو ما قلنا من أنّ إشكال المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المقام يكون من أجل عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، كما بيّنا ، ولكن مع ذلك ليس كلامه في محلّه : أمّا أولا فلأنّه إمّا أنّ يقول بأنّه يعلم إجمالا بحدوث أحد الحادثين في الآن الثاني ، وإمّا أن يقول بالعلم التفصيلي بحدوث خصوص أحد الحادثين ، غاية الأمر في الآن الثالث لم يدر بأنّ أيّهما كان ما علم به تفصيلا؟ فإن قال بالأول فتارة يقول بقابلية انطباق العلم لأحد الحادثين ، واخرى لم يقل بهذا ، فإن قال بالانطباق فيرد عليه : أنّه على هذا لم يكن هذا الإشكال مخصوصا بالمقام ، بل في كلّ استصحاب يجري هذا الإشكال ، وإن قال بعدم الانطباق فالعلم لا يضرّ بالشك ولا يصير مانعا من اتصاله باليقين ؛ لفرض عدم

٤٢٨

انطباقه بالحادثين.

وإن قال بأنّ العلم التفصيلي كان بحدوث خصوص أحد الحادثين ولكن في الزمان الثالث لا يدري بهذا فنقول : بأنّه مع التزامه بأن زمان جريان الاستصحاب هو الزمان الثالث لا الزمان الثاني ؛ لأنّ في الزمان الثاني لم يحرز وجود حادث آخر حتى يستصحب عدم الحادث عند وجوده ، فعلى هذا من المفروض أنّ في الزمان الثالث لم يبق له علم تفصيلي ، بل هو شاك ، فكما أنّه قلنا في بعض الموارد بأنّ العلم لو كان مرآة واخذ مرآتيا تكون مرآتيته حال وجوده ، فما دام هو موجودا فهو مرآة ، واذا زال زالت مرآتيته ، ففي ما نحن فيه أيضا بعد كون اليقين مرآة ففي الزمان الثالث حيث لم يكن باقيا لعدم بقاء علمه بما علم في الزمان الثالث بحدوثه تفصيلا فليس لهذا العلم تأثير ، فلا مانع من جريان الاستصحاب.

فإن قلت : في الآن الثالث وإن لم يعلم خصوص ما حدث تفصيلا ولكن يعلم إجمالا بحدوث حادث ، وهذا كاف في عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين.

قلنا : إنّ العلم الإجمالي وإن كان موجودا ولكن مرّ كلامه من أنّه إمّا قابل للانطباق ، وإمّا لم يكن قابلا ، ومضى ما فيه. فظهر لك عدم مانع من جريان الاستصحاب من هذا الحيث.

وقد ذكر الاستاذ : أنّ هنا إشكالا آخر ، وجوابه هو عين جواب الإشكال المتقدم ، ولكن لمّا فهمت الفرق بين الإشكالين لم نذكره هنا.

ثمّ اعلم : أنّه بعد عدم ورود إشكال المحقّق الخراساني رحمه‌الله على استصحاب مجهولي التاريخ فيجري الاستصحاب ، ولكن لو كان لكلّ من الحادثين أثر فيسقط الاستصحاب بالتعارض ، ولو كان الأثر لواحد منهما فيجري الاستصحاب ويترتب عليه أثره. هذا كلّه في مجهولي التاريخ.

وأمّا لو كان أحدهما معلوم التاريخ فالاستصحاب في مجهول التاريخ من الحادثين ممّا لا إشكال في جريانه عندنا ، وكذلك عند المحقّق الخراساني رحمه‌الله

٤٢٩

المستشكل في مجهولي التاريخ ؛ لأنّ شبهة عدم اتّصال زمان الشك باليقين لم تجر هنا ، بل في مجهول التاريخ زمان شكه متصل الى زمان اليقين ولم يكن يقين فاصلا بين زمان الشكّ وزمان اليقين أصلا.

وأمّا في معلوم التاريخ من الحادثين فلم يكن الاستصحاب جاريا ؛ لأنّه لم يكن في البين زمان الشك حتى يجري اليقين الى هذا الزمان ، بل لم يكن إلّا زمانان : الأول زمان اليقين بعدمه ، الثاني زمان اليقين بحدوثه فلم يكن زمان شك ؛ لأنّه قبل اليقين بالحدوث متيقّن بالعدم ولم يكن له شك أصلا.

وما قاله الشيخ رحمه‌الله من أنّه يمكن فرض الشك لمعلوم التاريخ أيضا بأنّه ولو كان حدوث معلوم التاريخ في الزمان الأول مقطوع العدم وفي الزمان الثاني مقطوع الحدوث ولكنّ اتّصافه مورد الشك ، بمعنى أنّ وجوده بوصف كونه عند عدم الآخر أو عدمه عند وجود الآخر مشكوك فللاستصحاب مجال.

وفيه : أنّ وجود معلوم التاريخ وعدمه بنحو الاتّصاف ليس له حالة سابقة حتى يستصحب ، كما قلنا في مجهولي التاريخ أيضا بأنّ استصحاب وجود الحادثين أو عدمهما لو كان الاثر مترتبا على الاتصاف حيث ليس له حالة سابقة لم يجر ، فافهم.

التنبيه التاسع :

اعلم أنّ في الاستصحاب لا بدّ من اليقين والشك فيجري اليقين الى حال الشك ، ففي كلّ مورد يكون اليقين بشيء ثم شك وكان حكم شرعي في مورده أو موضوع ذو حكم يجري الاستصحاب ، سواء كان من الأحكام الفرعية ، أو الموضوعات اللغوية ، أو الامور الاعتقادية.

وبعبارة اخرى : كلّ مورد يكون فيه أخذ اليقين في الموضوع بنحو المرآتية يجري الاستصحاب في هذا المورد ، ولا فرق بعد تمامية ذلك ـ كما قلنا ـ بين الأحكام

٤٣٠

الفرعية والموضوعات اللغوية والامور الاعتقادية ؛ لأنّ في كلّ مورد منها حكم شرعي أو موضوع ذو حكم شرعي فيجري الاستصحاب بلا ارتياب ، حتى ـ كما قلنا ـ لو فرض في الامور الاعتقادية ذلك ، كاليقين بالمعاد ولكنّ اليقين مرآتي له أثر ، فباليقين كما يترتب هذا الأثر كذلك بشكّه بمقتضى الاستصحاب ويثبت هذا الأثر.

ومما قلنا ظهر لك أنّ الامور الاعتقادية ليس فيها مورد لجريان الاستصحاب إلّا بالنّحو الذي قلنا ، وهذا النّحو الذي قلنا ليس من قبيل جريان الاستصحاب في الامور الاعتقادية ، بل هذا مغالطة ، ففي هذه الصورة يكون كسائر موارد الاستصحاب في الأحكام الفرعية ، غاية الأمر في بعض الحالات يكون مورد الاستصحاب هو الجوارح ، وفي هذا المورد يكون الجوانح والقلب.

والسرّ في عدم جريان الاستصحاب في نفس الامور الاعتقادية مثل ما اذا كان متيقنا بالله ثم شك فليس للاستصحاب مجال حتى يقال : يجري ويترتب عليه آثار اليقين هو : أنّ اليقين المأخوذ في باب الامور الاعتقادية اخذ موضوعا لا مرآة ، فلذا لا مجال للاستصحاب ، وهذا واضح ، وكذلك في الشك في بقاء نبوة النبي فأيضا لا مجال للاستصحاب ، سواء كان من المناصب المجعولة أو لا ؛ لأنّه لا معنى للشك في ذلك ، فإنّ النبيّ نبيّ مطلقا ولو نسخت الشريعة ، فما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المقام في غير محلّه.

وكذا الإمامة ، والعجب أنّ الاستصحاب كيف ترقّى مرتبة بحيث يتمسّك به في هذه الامور ، فلو شك في بقاء إمامة إمام لأجل بقاء حياته فلا مجال للاستصحاب ، لأنّه باق بإمامته ولو مات.

نعم ، لو كان أثر شرعيّ آخر مترتبا على حياة الإمام ، كما لو أنّ حكما كان راجعا ـ مثلا ـ الى زمان حياة جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه فببركة الاستصحاب يحكم ببقاء هذا الحكم ، فافهم.

٤٣١

وممّا قلنا ظهر لك عدم جريان الاستصحاب فيما لو شك في النبوة ؛ لأنه مع اعتبار اليقين وموضوعيّته فيها فلا يثبت بغيره ، لا بالظن ولا بالاستصحاب. ومباحثة الجاثليق مع الرضا عليه‌السلام ليس من باب الاستصحاب أصلا ، أعني لم يكن إشكاله هو أنّكم بعد التسليم بحجّية الاستصحاب عندكم فنبوة عيسى ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ نسلّم بها ونستصحبها ، بل يكون كلامه راجعا الى أنّ نبوته مسلّمة وأنتم مدّعون لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا بدّ لكم من إثباته. والرضا عليه‌السلام أجاب بما حاصله راجع الى أنّه بصرف التسليم بنبوة عيسى لا يمكن لك إلزامنا بنبوته ؛ لأنّه إما أن تقول بأنّ طريق إثبات نبوة عيسى هو نبينا فلا بدّ أولا من الاعتراف بنبوة نبينا حتى تثبت نبوته ؛ لأنّه طريق الى نبوته ، وإمّا أن تقول بالتسليم مع قطع النظر عن نبينا فنقول بأنّه نحن نعتقد بنبوة عيسى التي أخبر بها نبوة نبينا ، فبالملازمة أيضا تثبت نبوة نبينا ؛ لأنّا معتقدون بالملازمة بين نبوة عيسى ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ وبين نبوة نبينا صلوات الله وسلامه عليه وآله ؛ لما قلنا من أنّنا معتقدون بعيسى عليه‌السلام الّذي أخبر بنبوّة نبينا صلوات الله عليه وعلى آله ، فلا يمكن له إلزامنا أصلا ، فصحّ ما قال المعصوم صلوات الله وسلام عليه ، ويكون في غاية المتانة ، فافهم.

التنبيه العاشر :

الكبرى المحرزة ، وهي أنّ العام لو كان بنحو المفردية ، بمعنى أنّه لو اخذ العموم أفراديا بأن اخذ كلّ فرد موضوعا مستقلا ويصير الحكم العام منحلا الى أحكام عديدة فلو وقع التخصيص على أحد أفراده فلا مانع من التمسّك بأصالة العموم في سائر أفراده ؛ لأنّ في كلّ فرد أصل على حدة ، فلو رفع أصل في فرد فلا مانع من جريان أصل سائر الأفراد ، وأصالة العموم أصل اجتهادي وهو مقدم على الاصول

٤٣٢

العملية. وأمّا لو كان أخذ العموم لبيان الاستمرار ، وبعبارة اخرى : لا يكون منحلا الى أحكام عديدة بل يكون حكما واحدا فلو ورد التخصيص فلا يمكن التمسك بأصالة العموم في سائر الأفراد ؛ لأنّه ليس الأصل واحد وهو قد ارتفع بالتخصيص ، وهذه الكبرى واضحة.

إنّما الإشكال في بعض صغرياتها ، فنقول بعونه تعالى : إنّ الشيخ رحمه‌الله قال في الرسائل : (إنّه لو اخذ العموم أفراديا ثم ورد التخصيص بالنسبة الى فرد فيعمل عند الشك بالعموم ، ولا مجال لجريان الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم أيضا فلا مجال لاستصحاب الحكم الخاصّ) ، وقد مثّل لذلك ببعض الأمثلة.

والسرّ في ذلك هو : أنّ أصالة العموم في فرد لو رفع اليد عنها بمقتضى دليل التخصيص ففي فرد آخر لا مانع من التمسّك بأصالة العموم.

وأمّا لو اخذ العموم مستمرّا وكان حكم واحد ثمّ ورد التخصيص ففي حال الشك لا مجال للتمسّك بأصالة العموم ، ويكون استصحاب الحكم الخاصّ جاريا.

والسر في ذلك : هو أنّه ليس للعامّ إلّا أصل واحد وهو قد ارتفع بالتخصيص ، فليس أصل اجتهادي يرجع اليه في حال الشك ، فيكون المرجع هو الاستصحاب.

وكلام الشيخ رحمه‌الله في كلا الصورتين بعضه صحيح وبعضه فيه إشكال ، وكان أول من استشكل عليه هو السيد حسين رحمه‌الله ، ثم بعده بعض آخر.

أمّا كلام الشيخ في الصورة الاولى فما قاله من أنّ المرجع يكون العموم فهو كلام متين ، وأمّا ما قاله من أنّه لو لم يكن العموم أيضا لم يكن المرجع هو الاستصحاب ليس في محلّه ، بل كان الحقّ أن يقول بأنّ الخاصّ أيضا لو اخذ بنحو المفردية لم يكن في مورد الشك مرجعنا هو الاستصحاب ، وإن كان بنحو الاستمرار فيجري استصحاب الحكم المخصّص في مورد الشك ، فليس مطلقا كلامه صحيحا.

٤٣٣

وأمّا في الصورة الثانية فأيضا ما قاله من أنّ المرجع ليس العموم صحيح ، وأما ما قاله من أنّ المرجع في الشكّ هو الاستصحاب ليس في محلّه بطريق للإطلاق ، بل لا بدّ أن يقال أيضا بأنّ الخاصّ لو اخذ على نحو الاستمرار فالمرجع عند الشك هو الاستصحاب ، وأما لو كان الخاصّ مأخوذا بنحو المفردية فالمرجع عند الشك ليس هو الاستصحاب.

ولكنّ ما يقتضيه التحقيق هو : أنّ الاشكال يكون واردا ، ويكون الأمر كما قال المستشكل ، ولكن هذا الإشكال لم يكن واردا على الشيخ رحمه‌الله ، حيث إنّ نظر الشيخ رحمه‌الله كان على أنّ العام بعد كون الخاصّ ظاهرا في المفردية فالعام أيضا يكون كذلك ؛ لأنّ الخاصّ ينفي الحكم عن مورده بالنحو الذي كان ثابتا له بمقتضى ظهور العام ، فمن ظهور الخاصّ في المفردية نكشف كون العام أيضا كذلك ، ولذا مثّل له بأنّه لو قال : «أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة» فالخاصّ ظاهر في المفردية ، وهكذا العام يكون كذلك ، وكذلك في ما كان العام ظاهرا في الاستمرار ، كما في المثال الذي مثّل له في الصورة الثانية ، وهو : أكرم العلماء دائما ، فلو ورد التخصيص فظاهره أيضا هو الاستمرار ، لما قلنا من أنّ النفي يكون بعين ما كان الإثبات.

نعم ، لو كان الدليل الخاص نصّا في خلاف العام ، أو العام يكون نصّا على خلاف الخاصّ فلا مجال لأن يعامل مع كلّ منهما معاملة الآخر ، ولكنّ هذا المورد ليس مورد نظر الشيخ رحمه‌الله ، فالإشكال في محلّه لو كان الخاصّ لسانه غير لسان العام ، فلا بد من حسابه بأنّه على نحو الفردية أو الاستمرار ، ففي صورة الاستمرار يكون للاستصحاب مجال ، وإلّا فلا ، لكنّ مورد نظر الشيخ رحمه‌الله هو صورة توافقهما ، لعدم صراحة في أحدهما على خلاف الآخر ، وصراحة أحدهما في الاستمرار أو المفردية. هذا كلّه فيما كان راجعا الى كلام الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام.

وأمّا المحقق الخراساني رحمه‌الله فله أيضا في المقام كلام ، وهو أنّه قال : لو كان العام والخاص على نحو الاستمرار فالمرجع عند الشك هو استصحاب الخاصّ ، لكن لو

٤٣٤

كان التخصيص من الأول فلا مانع من التمسّك بعده بالعام ، مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّه ولو خصّص بخيار المجلس ولكن حيث إنّ التخصيص به من أول الأمر لا من الوسط والآخر فلا مانع بعد ذلك من التمسّك بالعام.

وفيه : أنّه لا بدّ وأن يفرض الكلام فيما لم تكن القرينة على كون اللسان هو التقييد ، فإنّ خيار المجلس يكون تقييدا للعموم فلا يقاس به غيره ، فعلى هذا نقول بأنّه لو فرض أنّ التخصيص لو كان من الأول لا ينافي ظهور العام والتمسك بأصالة العموم ، فعلى هذا لو كان من الأول تخصيصه بفرد الوسط أو الآخر أيضا لا ينافي انعقاد الظهور ؛ لأنّ التخصيص يكون من الأول ، فهذا الكلام ليس في محلّه.

نعم ، لو كان فرد من الأول لم يكن فردا للعام ثم بعد ذلك صار فردا فعدم شمول العام له من الاول لا ينافي التمسّك بأصالة العموم.

وأيضا كما قلنا لو كان لسان الدليل هو تقييد الفرد ، بمعنى أنّ صيرورته فردا مقيّد بزمان ثان ، كما أن في خيار المجلس ـ مثلا ـ يكون البيع فردا بعد انقضاء المجلس ففرديته مقيّدة بانقضائه ، ففي هذه الصورة أيضا يمكن التمسّك بأصالة العموم.

ثمّ إنّه بعد ما قلنا لو تدبّرت في كلام الشيخ رحمه‌الله يظهر لك الصحة وفساد ما استشكله السيد رحمه‌الله في حاشيته على المكاسب على الشيخ رحمه‌الله ؛ لأنّه بعد كون نظر الشيخ رحمه‌الله على ما يظهر من كلماته في خيار غبن المكاسب وفي الرسائل الى أنّ الزمان تارة يكون فردا للعام فيكون كلّ آن آن فردا للعام ، ويكون أخذ العموم على نحو المفردية ، فلو خرج فرد لا مانع من التمسّك بأصالة العموم فيما بقي من الأفراد.

وتارة يكون الفرد العام أمرا آخر ، مثلا لو قال : «أكرم الشعراء دائما» ففي هذا المثال يكون الفرد العام هو الشعراء ، والزمان تابع للفرد ، وليس هو بنفسه فردا للعموم ، فحيث إنّ الزمان ليس فردا فلو خرج زمان لا يمكن التمسّك في زمان

٤٣٥

المشكوك بأصالة العموم ؛ لأنّ العموم بالنسبة اليه ليس مفردا ، فكلّ إيرادات السيد رحمه‌الله ليست واردة عليه.

أمّا ما قاله أولا من أنّ ملاك التمسّك بالعموم عند الشكّ إنّما هو ظهور العموم وشموله لمورد الشك بحسب نظره اللفظي ، لا جريان أصالة عدم التخصيص ففيه : أنّ كون الملاك عند الشك هو ظهور العموم أو أصالة عدم التخصيص لا فرق له في هذا الحيث ، بل كلاهما واحد ، وعلى كلّ حال يكون منشأ عدم جواز التمسّك بأصالة العموم فيما لم يكن الزمان فردا هو ما قلنا من عدم كون الزمان فردا ، بل مستتبعا للفرد.

ثمّ قال ثانيا : بأنّ كون الزمان فردا أو مستتبعا للفرد لا فرق له في هذا الحيث ، أعني جواز ذلك التمسّك وعدم جواز التمسّك بأصالة العموم.

وفيه : أنّه كما قلنا : له كمال الدخل ، وهو منشأ الفرق بين الجواز وعدم الجواز.

ثم قال ثالثا : بأنّه يمكن أن يكون الزمان في الثاني قيدا وفي الأول ظرفا ، بأن يكون الفرد أمرا آخر غير الزمان ، فالتخصيص بالزمان لا وجه له.

وفيه : أنّه كما يمكن أن يلاحظ ذلك بالنسبة الى الزمان يمكن أن يلاحظ بالنسبة الى أمر آخر ، وتخصيص الشيخ رحمه‌الله الكلام بالزمان ليس من باب أنّ هذا يختصّ بالزمان ، بل الكلام حيث كان فيه فاختصّه بالزمان.

ثمّ قال رابعا : بأنّه ما قال رحمه‌الله من أنّه لو اغمض عن العموم أيضا في القسم الثاني فلا وجه للتمسّك بالاستصحاب ليس في محلّه.

وفيه : أنّه ظهر لك جوابه ، لما مرّ سابقا من أنّ الخاصّ تارة يصير شاهدا على كون العام بنحو المفردية ، واخرى يكون بالعموم شاهدا على كون الخاصّ بنحو الاستمرار والدوام ؛ لأنّ لسانهما واحد ، فبعد كون لسانهما واحدا لا مجال للتمسّك بالاستصحاب.

٤٣٦

ثمّ قال خامسا : بأنّه لو كان كلامه في محلّه يلزم أن لا يجوز التعويل على العام في غير الفرد الخارج مطلقا في القسم الأول ؛ لأنّ المفروض كون المجموع فردا واحدا.

فيه : أنّه لو كان كذلك نلتزم به ، لكن في خيار المجلس ليس كذلك ، بل هو تقييد للفرد كما قلنا ، ففردية البيع للعقد مقيّدة بعدم خيار المجلس ، فبعده يكون فردا.

وللنائيني رحمه‌الله أيضا في هذا المقام كلام ، وهو : أنّه قال بعد ذكر مقدمات بكون الفرق بين ما يكون مصبّ العموم هو المتعلق وبين ما يكون مصبّ العموم هو الحكم ، ففي الأول يصحّ التمسّك بالعموم في الشكّ ولو كان لسان العموم هو الدوام والاستمرار بخلاف الثاني.

وفيه : أنّه لا فرق بينهما ، بل في كلّ منهما لو كان الزمان مأخوذا بنحو الفردية يجوز التمسك بالعموم ولو كان مصبّ العموم هو الحكم ، ولو كان مأخوذا بنحو الاستتباع فلا يجوز التمسك بالعموم ولو كان مصب العموم هو المتعلق ، فلا فرق بينهما من هذا الحيث ، فتدبّر.

التنبيه الحادي عشر :

هل يكون مجال لاستصحاب الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركب بالنسبة الى سائر الأجزاء ، أم لا؟ للشيخ رحمه‌الله تقريبات ثلاثة لجريان الاستصحاب :

التقريب الأول : وهو أنّ وجوب الأجزاء سابقا وإن كان وجوبا ضمنيا وغيريا وبعد تعذّر البعض لازم جرّ الوجوب هو الوجوب النفسي ولكن لا مانع من استصحاب أصل الوجوب ؛ لمسامحة العرف في الوجوب الغيري والنفسي ولم يعتن باختلاف نفسيته وغيريته.

التقريب الثاني : وهو القول بالمسامحة في الموضوع لا في الحكم بأن يقال : إنّ

٤٣٧

الموضوع سابقا قبل التعذر ولو كان الركوع والسجود وغير ذلك مع الطمأنينة وبعد التعذّر يكون بلا طمأنينة ولكنّ العرف يتسامح ويقول بأنّه لا مدخلية لها في الحكم فيجري استصحاب سائر الأجزاء.

التقريب الثالث : وهو غير المسامحة في الحكم كالتقريب الأول ، ولا في الموضوع كالتقريب الثاني ، بل هو عبارة عن استصحاب الوجوب النفسي الذي يكون مردّدا بين كونه متعلقا بواجد الجزء المتعذر حتى مع تعذره كي يسقط التكليف عن الفاقد للجزء المتعذر ، وبين كونه متعلقا بالواجد له مقيدا بحال التمكّن منه حتى يبقى التكليف بالفاقد للجزء المتعذر فيستصحب بقاء التكليف.

ولا يخفى عليك أنّ من لم يلتزم بكفاية هذه المسامحات العرفية في الاستصحاب ـ كما سنقول إن شاء الله لاحقا بعدم كفايتها ـ فلا مجال للاستصحاب أصلا ، ومن التزم بالمسامحة العرفية فأيضا في التقريب الثالث لا يمكن له الالتزام بجريان الاستصحاب ؛ لأنّه ولو كان فرضا كان الحكم ثابتا ، ولكنّ هذا الحكم يكون عارضا على أيّ متعلّق ، وبعد الترديد في المتعلق فلا معنى للاستصحاب ، وأمّا في التقريبين الأوّلين فأيضا الالتزام بهذه المسامحات مشكل ، فتدبّر.

التنبيه الثاني عشر :

لا إشكال في أنّ كلّ مورد اخذ لفظ الشك في الأخبار والآثار يكون المراد منه خلاف اليقين فيشمل الظن أيضا ؛ لأنّ المتعارف منه عند أهل اللسان هو هذا ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب ، ففي كلّ استعمالاته ما لم يكن قرينة على خلافه لا بدّ من الالتزام بذلك ، وفي اللغة أيضا لم يعيّن معنى خلاف ما قلنا ، فبمجرد استعمال الشك لا بدّ من حمله على خلاف اليقين.

ولذا في باب الصلاة لو لم يكن دليل خاصّ واردا في أنّ الظن له آثار خاصّة

٤٣٨

في بعض الموارد فقلنا بأنّ كلّ حكم يكون للشك يكون للظن أيضا ، وهذا واضح ، فمن هنا يظهر لك أنّ الشك المأخوذ في أخبار الاستصحاب أيضا يكون عبارة عن خلاف اليقين ، ولا يحتاج لإثبات كون الشك في الأخبار خلاف اليقين الى دليل آخر وقرينة ؛ لأنّ الشك بحسب ظهوره الأوّليّ خلاف اليقين ، فمع الظن بالخلاف أيضا يكون الاستصحاب جاريا.

ثمّ إنّ ما قاله الشيخ رحمه‌الله بأنّ الظن لو دلّ الدليل على عدم حجّيته فمنزّل منزلة الشك ، ولو شك في اعتباره فأيضا بعد الشك في الاعتبار يكون شكا فيه أنه :

أمّا فيما دلّ الدليل على عدم حجية ظنّ فمعنى عدم اعتباره ليس تنزيله منزلة الشك ، بل معنى عدم اعتباره أنه ليس تنزيله منزلة العلم وليس ظنّ المعتبر ، وإلّا فهو مع عدم الحجية ظن ، ولكن ليس كظن المعتبر.

مضافا الى أنّ ذلك أكل من القفا ، فإنه لا حاجة الى هذا العناء وتنزيله بعد عدم الحجية بمقتضى الدليل منزلة الشك ؛ لأنّه كما هو شك حقيقة ، لأنّ الشك خلاف اليقين.

وأمّا كلامه فيما شك في الاعتبار فنقول : بأنّه لو كان مراده ما قلنا من أنّه شك فهو وإن كان مراده أنّ بعد الشك في الاعتبار يكون شكا ففيه : أنّ الأمر لو كان هكذا فيكون لازمه أن يكون في مورد القطع بالاعتبار نسبته مع الاستصحاب والشك نسبة الورود لا الحكومة ؛ لأنّ معنى كلامه هو : أنّ الظن ليس شكّا موضوعا ، بل يصير بمنزلة الشك ، فبعد عدم كونه شكا حقيقة فيكون واردا عليه لا حاكما ولا تخصيصا ، وهذا ممّا لا يلتزم به الشيخ رحمه‌الله ، فعلى هذا يكون الشك على ما قلنا خلاف اليقين فيشمل الظن أيضا ، إلّا اذا دلّ الدليل على اعتباره بالخصوص ، فبعد دليل الاعتبار يصير بمنزلة اليقين فليس شكّا.

٤٣٩

خاتمة في ذكر بعض امور :

الأول : لا إشكال في لزوم بقاء الموضوع في الاستصحاب ، وهذا بمثابة من الوضوح ، لأنّه بعد كون الاستصحاب عبارة عن الإبقاء فلا بدّ من بقاء ما تعلق به اليقين حين الشك ، سواء كان حجية الاستصحاب من باب بناء العقلاء ، أو من باب الأخبار ، فإنّه على الأول يكون لأجل أنّ البناء على أنّ ما ثبت دام ، فلا بد من أن يكون الثابت باقيا ، وهذا معنى اعتبار بقاء الموضوع.

وعلى الثاني يكون الأمر واضحا ، فإنّ لسان الأدلة كان عدم نقض اليقين بالشك ، فلا بد وأن يتعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ، فلا بد من بقاء الموضوع ، ومع قطع النظر عن ذلك تكون نسبة الحكم الى الموضوع نسبة العرض الى معروضه ، لا العرض الاصطلاحي ، بل باعتبار أنّ الحكم يتعلق بالموضوع نعبّر كذلك. وعلى أيّ حال بعد كون نسبة الحكم الى الموضوع نسبة العرض الى المعروض ، فلا يمكن أن يكون حكم واحد على موضوعين ، فلا بد من كون موضوع اليقين والحكم السابق هو عين موضوع الشك والحكم الثاني والتعبد بالبقاء ، ولا إشكال في أنّ حكم الشارع وتعبده في مورد الاستصحاب يكون هو الحكم والتعبد بالبقاء ، لما يستظهر من الأدلة ، لا أنّه جعل حكم آخر وتعبد آخر على موضوع آخر تعبدا ، فعلى هذا لا بد من بقاء الموضوع.

ويصحّ ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من أنّ النسبة بين الحكم والموضوع بعد كونها نسبة العرض الى المعروض وحكم الشارع وتعبده أيضا يكون على بقاء ما كان مسلّما فلا بد من بقاء الموضوع.

وما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله إشكالا عليه : بأنّه يمكن أن يكون التعبد الخاصّ واستحالة قوام عرض واحد بالمعروضين يكون في الامور الحقيقية ، ولكن لا مانع من أنّ الشارع تعبدا يحكم بكون الحكم السابق متعلقا بموضوع آخر ليس في محلّه ؛ لما قلنا من أنّ تعبد الشارع مسلّما يكون على بقاء ما كان فلا بد من بقاء

٤٤٠