المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

اذا عرفت هذا يظهر لك فساد ما يلوح من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وتصريح بعض آخر ، وهو : أنّ في أصل الزمان وحدة حقيقية فللاستصحاب مجال ؛ لأنّ في أصل الزمان وإن كانت وحدة حقيقية لأنّ وجوده وجود تدريجي ، لأنّ من أول الحركة الى يوم انتهائه له وحدة ، ولكن هذه الوحدة ليست مورد الأثر حتى يصحّ استصحابها بهذا الاعتبار ، بل الوحدة التي كانت مورد الأثر في أصل الزّمان هي الوحدة الاعتبارية التي أشرنا إليها ، وبهذا الاعتبار صحّ استصحابها.

وممّا قلنا ظهر لك أنّه لا فرق بين كون منشأ الشك هو في الكمّية والمقدار الزماني. وبعبارة اخرى : يكون الشك في المقتضي ، أو يكون الشك في وجود المانع والرافع ؛ لأنّ الوحدة التي كانت مورد الأثر لا فرق فيها بين الصورتين ، بل الوحدة صحّ استصحابها ، فلا إشكال في استصحاب نبع الماء وجريانه أو خروج الدم وسيلانه ـ مثلا ـ لو كان منشأ الشك في الجريان والسّيلان في أنّه بقي في المنبع أو الرّحم فعلا شيء من الماء أو الدّم غير ما جرى وسال فيصحّ استصحاب السيلان والجريان بلا إشكال.

وممّا قلنا يظهر لك أنّ في استصحاب الزمان يعقل استصحاب الفرد والكلّي بأقسامه ، فتارة يشك ـ مثلا ـ في أنّ سورة الحمد التي كان مشتغلا بها تمّت أولا فصحّ استصحاب الفرد والكلّي. وتارة يكون الشك في أنّ السورة التي شرع فيها هي سورة التوحيد حتى فرغ منها ، أو كانت سورة البقرة حتى لم يفرغ منها ، فهذا هو القسم الثاني من أقسام الكلي.

وتارة يعلم بأنّ سورة التوحيد التي شرع فيها فرغ عنها ، لكن لا يدري بأنّه هل شرع مقارنا لفراغه عنها بسورة اخرى ، أو لا؟ فهذا من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وأيضا ممّا مر ظهر لك ما في كلام النائيني رحمه‌الله من الفرق في الزمانيات بين ما

٤٠١

يكون من أول الأمر داعيه اليه وبين ما لا يكون كذلك ، مثلا لو كان داعيه من أول الأمر هو التكلّم ساعة ففي ضمن الساعة لو شك في بقاء التكلم يجري الاستصحاب.

وأمّا لو كان داعيه من الأول هو التكلّم ساعة ثمّ في الأثناء يحصل له داع آخر في التكلّم ساعة اخرى فشك في البقاء بعد ذلك فهو قاطع بارتفاع الداعي الأول ، ولكن يكون شكّه في إحداث داع آخر فلا يجري الاستصحاب.

وأمّا وجه فساد كلامه فهو : أنّه بعد كون الوحدة محفوظة فلا فرق في جريان الاستصحاب بين الصورتين.

ووجه توهّم الفرق هو : أنّه توهّم بأن مورد الأثر والوحدة يكون هو الداعي ، فاذا ارتفع الداعي فلا وجه للاستصحاب.

ولكنّ هذا فاسد ، وليس كذلك ، بل مورد الأثر إمّا أن يكون وحدة حقيقية ، وإما أن يكون وحدة اعتبارية ، وكلّ منهما ليستا بالداعي ، وهذا من الواضحات ، فإنّك ترى أنّ رجلا لو كان داعيه هو النطق ساعة ثم بعد الشروع لأجل سؤالات المستمعين يحدث له الداعي الى أزيد من ذلك فمع ذلك تكون الوحدة باقية ، فيعدّ عرفا بأنّ كلامه ونطقه كلام ونطق واحد ، فافهم.

أمّا الكلام في المورد الثالث ـ أعني في الامور القارة المقيدة بالزمان ـ فكما قال الشيخ رحمه‌الله : لو شكّ في بقاء القيد والمقيد معا بعد القطع بحدوثهما ، كما لو علم بصوم النهار فشك في بقاء الصوم المقيد بالنهار فيجري الاستصحاب ويحكم ببقاء القيد والمقيد ، وأمّا لو شك في بقاء المقيد فقط مع القطع بارتفاع القيد ، كما لو علم بوجوب صوم النهار الفلاني ثم قطع بارتفاع هذا النهار لكن شكّ في بقاء وجوب نفس الصوم فلا مجال للاستصحاب ؛ لأنّ المتيقّن هو المقيد مع القيد ، فبعد زوال القيد زال المقيد ، ولا وجه للتفصيل الذي ذكره النائيني رحمه‌الله من الفرق بين كون الزمان قيدا أو ظرفا ؛ لأنّ محلّ الكلام يكون فيما كان الزمان مأخوذا بنحو القيدية ، فالاستصحاب في

٤٠٢

المورد الأول كما قاله الشيخ رحمه‌الله يجري ، وفي المورد الثاني يعني مورد ارتفاع القيد لا يجري بلا ترديد.

ولكنّ النراقي رحمه‌الله قال في المورد الثاني ـ أعني مورد القطع ـ بارتفاع القيد بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي بأنّ مقتضى استصحاب وجوب السابق بقاؤه ، ومقتضى استصحاب العدم الأزلي عدم وجوبه فيتعارض الاستصحابان.

وقال الشيخ رحمه‌الله جوابا عن هذا الكلام بما يكون حاصله هو : أنّ الزمان إمّا أن يكون قيدا ، وإمّا أن يكون ظرفا.

فلو كان الزمان قيدا فبعد ارتفاع القيد يجري استصحاب العدم الأزلي ، ولا يجري استصحاب الوجود ؛ لأن الخارج من العدم هو هذا الفرد والباقي باق على العدم.

وأمّا لو كان الزمان ظرفا فلا مجال لاستصحاب العدم الأزلي ؛ إذ العدم نقيض الوجود ، والوجود يكون مطلقا لا مقيدا ، ويجري استصحاب الوجود بعد ارتفاع القيد ، فعلى هذا في صورة كون الزمان قيدا يجري استصحاب العدم الأزلي ولا يجري استصحاب الوجود ، وفي صورة كون الزمان ظرفا يجري استصحاب الوجود ولا يجري استصحاب العدم الأزلي ، فلا يتّفق المورد الذي يتعارض فيه الاستصحابان.

ونقول لتوضيح كلام الشيخ رحمه‌الله حتى يتّضح فساد ما استشكل : إنّه لا إشكال في أنّ العدم عدم وليس قابلا لشئون وحيثيات ، بل ليس هو إلّا العدم ، فكل حيثية وشأن نسب الى العدم ليس باعتبار نفسه ؛ لأنّ العدم ليس قابلا لذلك ، بل يكون بعض الشئون والحيثيات المنتسبة الى العدم باعتبار الوجود ، فلو قيل ـ مثلا ـ للعدم أفراد يكون باعتبار الوجود ، أو يقال : عدم كذا عدم الفلان يكون كله باعتبار

٤٠٣

الوجود ، فاذا كان كذلك فكما أنّ في الوجود تارة تكون أفراد عرضية كذلك يعقل في العدم أيضا باعتبار الوجود ، وكذلك كما يمكن أن يكون الوجود وجودا واحدا مستمرّا كذلك العدم ، وكما يعقل أن يكون لوجود أفراد طولية كذلك يمكن في العدم ، فيكون عدم اليوم الكذائي ـ مثلا ـ غير عدم اليوم الآخر.

فاذا عرفت أنّ هذه الشئون في العدم تكون معقولة ولكن باعتبار الوجود فعدم المطلق يكون باعتبار وجود المطلق ، وعدم المقيّد يكون باعتبار وجود المقيّد يظهر لك مراد الشّيخ رحمه‌الله فإنّه لو كان الوجود قيدا والزّمان فيه بنحو التقيد فعدمه أيضا يكون كذلك ، فبعد ارتفاع هذا الوجود المقيّد يكون مجرى استصحاب العدم الأزلي. وأمّا لو كان الزمان بنحو الظرفية فمعناه أن وجود المطلق مورد الحكم ، فلا بدّ أن يكون عدمه أيضا باعتبار الوجود مطلقا ، فبعد نقض عدم المطلق بهذا الوجود المطلق ففي زمان الشك يكون المورد مجرى استصحاب الوجود ، إذ الوجود المطلق مورد الحكم ، ولا مجال لاستصحاب العدم الأزلي ، إذ هو عدم مطلق وقد انتقض بالوجود قطعا ، فعلى أيّ حال لا يوجد مورد يكون الاستصحابان فيه متعارضين ، فلا يرد على كلام الشيخ رحمه‌الله ما استشكله النائيني رحمه‌الله ، فتدبّر.

التنبيه الخامس :

لا إشكال في حجية الاستصحاب الفعلي ، مثل أنّك تدري سابقا بوجوب الصلاة ، ففي الآن الثاني شككت في ذلك ، فيحكم ببقاء الوجوب ببركة الاستصحاب.

وقد يقال بحجية الاستصحاب التعليقي وجريانه ، كالمثال المعروف في العنب اذا غلى يحرم ، فيقال في الزبيب أيضا بأنّ هذا الجسم لو غلى يحرم ، ولو لم يكن فعلا في حال الغليان فيحكم ببركة الاستصحاب بحرمة الزبيب لو غلى ، قال الشيخ رحمه‌الله

٤٠٤

بجريان الاستصحاب التعليقي ، وكذلك المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

والإشكال في جريان الاستصحاب التعليقي هو : أنّه لا بدّ في الاستصحاب من وجود المستصحب فعلا ، وفي المقام ليس فعلا شيء حتى يستصحب.

وقال الشيخ رحمه‌الله في ردّ الإشكال بأمرين :

أمّا أوّلا فإنّ الملازمة فعلية ، فبالاستصحاب تثبت الملازمة.

وثانيا : بأنّ الوجوب الفعلي وإن لم يكن في البين ولكن للوجوب التقديري أيضا نحو وجود ولو لم يكن هذا التقدير فعلا.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام. أمّا في الملازمة فإنّ الشيخ رحمه‌الله الملتزم بأنّ الأحكام الوصفية منتزعات وليست مجعولات شرعية ، فكيف تكون الملازمة قابلة للاستصحاب؟ إذ لا بدّ وأن يكون المستصحب مجعولا شرعيا.

وأمّا على مبنى المحقّق الخراساني رحمه‌الله فهو أيضا قال بأنّ الملازمة والسببية وغيرها ليست مجعولات ، بل تكون هذه العلّة فيها تكوينا للخصوصية التي فيها ، أو تكون معرّفات على ما شرحنا كلامه في الأحكام الوصفية ، فهو أيضا كيف يمكن له الالتزام بجريان الاستصحاب؟

وأمّا في كلامه الثاني فالشيخ رحمه‌الله الملتزم بكون الواجبات المشروطة لبّا راجعة الى الواجبات المعلقة فيكون الوجوب فعليا ، وإن كان الواجب استقباليا فهو يمكن له الالتزام باستصحاب هذا الوجوب التقديري.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه‌الله الملتزم بأنّ القيد في الواجب المشروط راجع الى الهيئة ، وقبل وجود الشرط لا وجوب ولا بعث ولا تحريك ، وإطلاق الواجب عليه مجاز وليس إلّا الإنشاء اللفظي فهو لا يمكن له الالتزام بجريان الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّه لا وجوب فعلا حتى يستصحب.

ونحن أيضا حيث اخترنا هذا المبنى لم نلتزم بالاستصحاب التعليقي.

٤٠٥

نعم ، يمكن أن يقال في مورد بجريان الاستصحاب التعليقي ، وهو : أن يكون لسان الدليل في مقام بيان إثبات الملازمة ، ونلتزم أيضا بكون الملازمة مجعولة ، فتدبّر.

وفي جريان الاستصحاب التعليقي بعض إشكالات أخر غير ما ذكر :

ومنها : عدم بقاء الموضوع ؛ لأنّ موضوع الحرمة هو العنب اذا غلى.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال : بأنّه بعد كون موضوع الاستصحاب عرفيا فالعرف يكون بناؤه على المسامحة ، فما هو الموضوع عندهم هو هذا الجسم المحفوظ في حال العنبية والزبيبية.

منها : وهو الوارد على خصوص هذا المثال المشهور ، يعني العنب اذا غلى يحرم ، وهو : أنّ الدليل لو كان هو أنّ العنب اذا غلى يحرم كان لهذه الكلمات مجال بأن يقال بما قيل من مسامحة العرف وغير ذلك ، ولكن لو كان موضوع الحرمة على ما ورد عليه الدليل هو العصير فلا يكون مجال لجريان استصحاب التعليقي في الزبيب ، إذ العصير اسم لما يعصر من العنب ، والماء الحاصل من عصر العنب يكون عصيرا ، فالزبيب الذي ليس فيه ماء أصلا كيف يقال فيه بالحرمة والزبيب يدخل فيه ماء خارجي؟ فبين ماء العنب وماء الزبيب فرق واضح ، حيث إنّ الأول ماء حاصل من نفس العنب ، والثاني ماء من الخارج قد دخل فيه ، فبعد كون موضوع الحكم هو الأول فبأيّ وجه يمكن أن يقال بجريان الاستصحاب في أمر آخر لا دليل على حرمته؟ وليس هنا مجال للمسامحة ؛ لأنّ العرف أيضا لا يتسامحون في مثل المقام ، ويكون العصير عندهم أيضا غير الماء من الخارج داخل في الزبيب.

ومنها : تعارض الاستصحابين ، فنقول لتوضيح المطلب : إنّ ما يمكن أن يكون جاريا من الاستصحاب في مقابل الاستصحاب التعليقي يكون استصحابين :

الأول : أنّه كما يكون الاستصحاب التعليقي جاريا ، بمعنى أنّ هذا لو غلى يحرم

٤٠٦

فالآن نستصحب كونه كذلك سابقا بحيث لو لم يغل لم يحرم ، فنستصحب فيقع التعارض بين الاستصحابين ، وكان المحقّق الخراساني رحمه‌الله نظره الى هذا الاستصحاب ، فقال بأنّه لا تعارض بينهما أصلا ، لأنّ كلّا منهما يكون على موضوع خاصّ غير موضوع الآخر ، لأنّ موضوع أحدهما عدم الغليان ، والآخر الغليان ، فكما أنّه لو قطعنا بأنّ هذا الجسم في حال عدم الغليان حلال وفي حال الغليان حرام لم يكن تناف وتعارض بين الموضوعين ، كذلك في استصحابهما لأنّ بوجود موضوع كلّ منهما ينتفي موضوع الآخر فلا يبقى التعارض ، فإن كان التعارض كذلك فقد أجاب عنه ، ولكن في المقام استصحاب آخر وهو ما نريد أن نقوله الآن.

الثاني : وهو ما يكون مراد الشيخ رحمه‌الله ، وهو : أنّ هذا الجسم كان حلالا ذاتا فبعد الغليان نشكّ في بقاء حلّيته ، فببركة الاستصحاب نحكم بالحليّة ، والاستصحاب التعليقي أيضا يجري فيقع التعارض.

فإن كان الاستصحاب الفعلي هو ما قاله الشيخ رحمه‌الله فلا يكفي في رفع التعارض ما ذكره المحقق الخراساني رحمه‌الله من كون موضوع كلّ من الاستصحابين غير الآخر ؛ لأنّ بعد كون هذا الجسم حلالا مع قطع النظر عن الطوارئ فهذا الحكم ببركة الاستصحاب باق حتى في صورة الغليان ، فيقع التعارض بين الاستصحاب الفعلي والتعليقي. ولكن لا يخفى عليك أيضا بأنّ الاستصحابين ليسا سببيا ومسبّبيا ، بل كلّ منهما ضدّ للآخر ، فلا وجه لما قاله النائيني رحمه‌الله.

بل ما يمكن أن يقال هو : أنّ المستصحب لو كان موسّعا ، بمعنى أنّ هذا الجسم حلّيته غير مقيدة بشيء وكانت مطلقة وللتعارض مجال ، وأمّا لو كان المستصحب من أول الأمر مضيقا فلا يجري استصحاب الفعلي مع وجود موضوع استصحاب التعليقي ، وبالعكس ، وفي المقام يكون كذلك ، لأنّ الحلية من أول الأمر مقيدة بعدم الغليان ، ففي حال الغليان لا يجري استصحاب الفعلي حتى يقع التعارض ، فتدبّر.

٤٠٧

التنبيه السادس :

هل يجوز استصحاب أحكام الشرائع السابقة أم لا؟ لا يخفى عليك أنّه مع قطع النظر عن كلام الشيخ والمحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام فيتصوّر هنا اشكال ، وهو : أنّه مع أنّ معنى التديّن بالدين هو أن يكون الشخص تابعا له ، وكلّما يؤخذ منه فلا بدّ من أن يكون في كلّ شيء من أفعاله وأقواله مرجعا له ، وكلّما يكون في الدين يأخذ به ، وهذا واضح ، ولا إشكال أيضا في أنّ معنى تمامية شريعة ومجيء شرع آخر هو أنّه لا بدّ من التديّن بهذا اللاحق ، فكلّ ما صدر منه لا بدّ من اتّباعه.

وإنّ كلّ نبيّ في كلّ شيء يكون له حكم ، فالشرع اللاحق ولو كان في الحكم موافقا مع السابق ولكن يكون له جعل حكم آخر ، فيكون جعل الحكم الماثل فيما كان في الشرع السابق ، لا أن يكون نفس الحكم الأول باق ، غاية الأمر لو كان موافقا يكون جعله جعلا إمضائيا لا تأسيسيا ، والإمضائي أيضا يكون جعلا ، فعلى هذا ففي كلّ واقعة له جعل آخر غير ما جعل في الشرع السابق ولو كانا متوافقين.

فعلى هذا نقول بأنّه بعد تمامية الدين السابق بمجيء اللاحق فلا بد من التدين بالدين اللاحق ، ومن المفروض أن يكون له جعل جديد في كلّ واقعة ، فلو قطعنا بحكم في الشرع السابق أيضا لا يمكن الأخذ به ، لأنّ بوجود النبيّ اللاحق تمّ شرعه ولا بد من التدين باللاحق وتم أحكامه وللّاحق جعل فلا بد من الأخذ به ، فبعد عدم إمكان الأخذ من السابق بعد وجود اللاحق فكيف يمكن استصحاب حكم الشرع السابق؟ فظهر لك أنّه لا مجال لاستصحاب الشرائع السابقة.

مضافا الى أنّه لا نحتاج هنا الى الاستصحاب ، فبعض الأحكام غير الاسلامية كيف يمكن أخذها من التوراة والإنجيل المحرّفين؟ وببعض آخر لو كان مسلّما يكون في مورده الأمارة أيضا فلا حاجة الى الاستصحاب ، فلا وجه للالتزام بحجية

٤٠٨

الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة أولا ، وعدم الأثر لحجية هذا الاستصحاب ثانيا ، فتدبر.

ولو قطع النظر عن هذا الإشكال الذي بيّنّاه فلا مجال للإشكال في استصحاب أحكام الشرائع السابقة.

وأمّا ما أورده من الإشكالين فلا يردان هنا ، وهما :

الأول : إشكال تبدّل الموضوع ، لأنّ موضوع حكم الشريعة السابقة هو المكلّف المدرك للشريعة السابقة ، ولا يكفي استصحاب هذا الحكم لمكلّف آخر غير المدرك للشريعة السابقة ، ويشترط في الاستصحاب بقاء الموضوع.

الثاني : العلم الإجمالي بوقوع النسخ في أحكام الشريعة السابقة ، وبعد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأحكام لا يجري الاستصحاب في كلّ الأحكام.

وقد أجاب الشيخ رحمه‌الله عن الإشكال الأول بأنّه :

أولا : نفرض الاستصحاب فيمن أدرك الشريعتين ، كبعض الصحابة في صدر الإسلام ونقول بحجّيته لغيرهم إمّا بالاشتراك في التكليف وإمّا بعدم القول بالفصل.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام بعيد من الشيخ رحمه‌الله ، حيث إنّ الأحكام الظاهرية حجة لخصوص من صار موضوعا له ، فمثلا أصل البراءة حجة لمن كان شاكّا في التكليف ، وأمّا من لم يكن كذلك فليس حجة له ، وكذلك الاستصحاب حجة لمن كان متيقنا وشك بعده ، لا لغيره ، فعلى هذا من كان مدركا للشريعتين حيث كان له اليقين سابقا فشك في الآن الثاني يكون الاستصحاب حجة له ، وأما من لم يكن كذلك فليس له بحجة ، ولا مجال هنا للاشتراك في التكليف ؛ لأنّه لا بدّ في ذلك من الاتحاد في جميع الجهات ، وليس في المقام هذا الاتحاد ، فافهم.

٤٠٩

وقال ثانيا وهو جواب متين : بأنّ الموضوع لو كان هذا وكان موضوع حكم الشريعة السابقة زيدا وعمرا كذلك فيكون المجال لأن يقال بأن الحكم ثابت لزيد وعمرو فلا وجه له. وبعبارة اخرى : لو كان الحكم موضوعه هو الفرد فللإشكال هنا مجال ، وأمّا لو كان الموضوع هو الطبيعة بأن يكون موضوع حكم الشريعة السابقة هو البالغ العاقل فكلّ من يبلغ بهذه المرتبة ينطبق عليه فلا إشكال في الاستصحاب ، إذ يكون هذا الحكم على هذا الموضوع متيقّنا وبعد شرعه يقع الشك ، فيستصحب هذا الحكم على هذا الموضوع ، وبعد إبقائه يكون هذا البالغ الغير مدرك للشريعة السابقة أيضا فردا له على هذا التقريب فيرتفع الاشكال.

ولا وجه لما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله إشكالا على الشيخ رحمه‌الله ، حيث إنّ الحكم تارة تكون متعلقا على الأفراد ، واخرى تكون على الطبيعة ، والحكم على الطبيعة أيضا يكون بلحاظ الوجود ، لا الطبيعة من حيث هي وبوجودها الذهني ، فعلى هذا ولو كان موضوع الحكم هو الطبيعة ولكن بلحاظ وجوده في الخارج ، ومراد الشيخ رحمه‌الله هو هذا ، وليس مراده أنّ موضوع الحكم هو الطبيعة من حيث هي هي حتى يرد عليه إيراد المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

وأمّا الجواب عن الإشكال الثاني فهو : أنّ العلم الإجمالي لو صار منحلّا لم يكن له الأثر ، كما أنّه لو علم بكون أحد الإناءين نجسا ثم علم تفصيلا بكون النجس في هذا الإناء كذلك لو صار منطبقا على بعض الأطراف لا أثر له ، وفي المقام لو علمنا بعد العلم الإجمالي بالنسخ بالمقدار المعلوم بأحكام منسوخة فقهرا يتنجّز العلم الإجمالي بهذا الطرف ، ويكون في البعض الآخر الشّك البدوي ، ولو كان الأمر كذلك فلا أثر للعلم الإجمالي الذي كان بالنسخ.

٤١٠

التنبيه السابع :

لا إشكال في أنّ مثبتات الاصول ومنها الاستصحاب ليس بحجة ، بمعنى أنّ ما يترتب على جريان الأصل ليس إلّا صرف آثاره الشرعية ، وآثاره الشرعية مترتبة على هذه الآثار الشرعية التي تكون للأصل.

وأمّا لوازم مؤدّى الأصل لوازمه العقلية والعادية أو ما يترتب من الآثار الشرعية بواسطة اللوازم العقلية أو العادية أو ملزومات مؤدّى الأصل فلا ، فدليل اعتبار الأصل لا يثبت إلّا كلّ ما يكون له من أثر شرعي ، أو ما يترتب على أثره الشرعي من الآثار الشرعية الاخرى أيضا.

ومعنى عدم كون مثبتات الاصول حجة هو : أنّه ليس للاصول مثبتات ، لا أنّ لها مثبتات وليست بحجة ، نظير ما قلناه في المفهوم بأنّ معنى النزاع في أنّ المفهوم حجة أو لا؟ هو أنّ المفهوم يكون للقضية ، أو لا؟ وإلّا فلو سلّم كون المفهوم للقضية فلا إشكال في حجّيته ، فعلى هذا يكون النزاع في كليهما صغرويا.

واعلم بأنّ الأمارات ليست كذلك ، بل مثبتاتها حجة ، بخلاف الاصول ، ولا بدّ من فهم سرّ الفرق ، وأنّه لم تكون مثبتات الأمارات حجة ولا تكون مثبتات الاصول بحجة؟ وتوضيح ذلك يحتاج الى بيان الفرق بين الأمارات والاصول.

فنقول بعون الله تعالى مقدمة : إنّ العلم اذا حصل بشيء يحصل العلم بلوازمه ، فمثلا لو علمت بوجود النار تعلم بإحراقه ، وحيث إنّ العلم بالشيء كونه موجبا للعلم بلوازمه يكون لأجل العلم بالملازمة بينهما ، فالعلم باللازم يحصل من العلم بالملزوم ، أو بالعكس بعد علم شخص العالم بالملازمة بينهما ، وإلّا لو لم يعلم بالملازمة فلا يحصل له بالعلم بالملزوم العلم باللازم ، أو بالعكس ، كما ترى في بعض الموارد لا يحصل بمجرد العلم باللازم العلم بالملزوم ، مثلا ترى حرارة في بدنك ولكن لا تدري بكونك محموما ، والحال أنّ الحرارة لازم الحمّى وأنت عالم بالحرارة ، والسرّ فيه هو

٤١١

ما قلناه من عدم علمك بالملازمة ، وأمّا الطّبيب فبمجرّد علمه بالحرارة يعلم بالحمّى لعلمه بالملازمة. ولا إشكال أيضا بأنّ العلم بالملزوم يتولّد من العلم باللازم لو كان العلم أوّلا باللازم ، أو لو كان العلم أولا بالملزوم يتولّد منه العلم باللازم ، لأنّك بسبب علمه صرت عالما بالآخر.

فاذا فهمت حال العلم لا إشكال بأنّ الأمر في الظنّ أيضا كذلك ، فلو حصل لك الظنّ بالنار يحصل لك الظن بوجود الإحراق أيضا ، لكن كما قلنا مع علمك بالملازمة فبصرف الظنّ باللازم يتولّد الظن بالملزوم ، وبالعكس مع العلم بالملازمة ، وهذا واضح ، فلو كان دليل دالّا على حجية مطلق الظن ، مثلا إذا ظننت بأحد المتلازمين كما يجب عليك الأخذ به كذلك لا بدّ من أخذك بلازمه ، لأنّه أيضا صار مظنونا لك للظنّ الذي تولّد من الظنّ بأحدهما.

وأمّا لو كانت الحكاية أو الإخبار عن اللازم أو الملزوم فلا يوجب الإخبار به الإخبار والحكاية عن الآخر ، لأنّه لم يخبر إلّا بأحدهما وإخباره بأحدهما ليس إخبار بالآخر ، فلو دلّ الدليل على الأخذ بما يخبر أو ما يحكي والمخبر لم يخبر إلّا عن أحدهما فليس هذا إخبارا بالآخر ، ولذا لم يمكن الأخذ بالآخر ، والشاهد على عدم كون إخباره بأحدهما إخبارا بالآخر هو : أنّه في بعض المواقع يمكن أن يصرّح المخبر بعدم إخباره عن الآخر ، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم كون إخباره بأحدهما إخبارا بالآخر ، وحيث إنّ الجهات العقلية غير قابلة للتفكيك فواضح أن إخبار المخبر عن أحدهما في صورة عدم تصريحه بعدم إخباره عن الآخر أيضا ليس إخبارا إلّا عن أحدهما دون الآخر.

اذا عرفت ذلك فما قيل في توجيه الفرق بين الأمارات والأصول وجوه :

الوجه الأول : وهو مختار المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهو : أنّ في الأمارة يكون إخبار المخبر منحلّا إلى إخبارات ، فهو وإن كان مخبرا عن اللازم ولكنّ هذا الإخبار ينحلّ الى إخبارات وحكايات ، فهو إخبار عن اللازم والملزوم ، ودليل اعتبار

٤١٢

الطرق والأمارات يشمل كلّ هذه الحكايات ، وأمّا في الاصول فحيث لم يكن الأمر كذلك فليس مثبت الاصول بحجة.

وفيه : أنّه لا إشكال في أنّ المخبر والحاكي عن أحد المتلازمين لا يكون مخبرا إلّا عمّا أخبر عنهما ، لا عن الآخر أيضا ، فمن يخبر عن النار لا يخبر عن الحرارة بل ربّما يكون هو غير ملتفت أصلا بالآخر ، بل ربّما يصرّح بعدم إخباره عنه ، فواضح أنّ الحكاية عن أحدهما ليس حكاية عن الآخر ، فلو أخبر عن اللازم يكون إخباره إخبارا عنه فقط ، وليس إخبارا عن الملزوم أيضا ، فعلى هذا بعد عدم كون الإخبار عن الملزوم إخبارا عن اللازم والإخبار عن اللازم إخبار عن الملزوم فليس الإخبار عن أحدهما إخبارا عن الآخر حتى تشمله أدلة حجية الطرق والأمارات.

الوجه الثاني : هو أنّه بعد ما كان لسان أدلة الطرق والأمارات هو تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف ، وجعل مؤدّاها هو الواقع فقيام الأمارة على شيء جعله واقعا ويكون مؤدّاها الواقع ، واذا صار المؤدّى هو الواقع فالواقع بعد ما انكشف فكلّ ما يكون ملزوم الواقع أو لازمه أيضا يثبت بالأمارة ، لأنّ بالأمارة احرز الواقع ، وهذا الواقع بعد ما احرز فيحرز لازمه وملزومه كما لو علم بالواقع ، وأمّا الاصول فحيث يكون لسانها هو التعبد في مقام العمل وليس فيه جهة تتميم الكشف فليس مثبتها بحجة.

وفيه : أنّ دليل حجية الأمارة وإن كان كذلك ولكن مع ذلك حيث يكون فيه التعبد فمعنى حجية الأمارة هو جعل الواقع التعبدي كالواقع الحقيقي ، فعلى هذا ما يكون ملازما مع الواقع التعبدي يثبت ، وأمّا ما هو الأثر للواقع الحقيقي فلا ، فإنّ بقيام الأمارة يكون الواقع القائم عليه الأمارة ، فكلّ ما كان ملازما له يثبت ، وأما نفس الواقع فلا ، كما ترى في صورة العلم فالعلم بالواقع لو حصل فكلّ ما هو لازم للعلم بالواقع فيثبت ، وأمّا ما كان لازما للواقع فلا ، ففي مورد العلم أيضا حيث يتولّد

٤١٣

من هذا العلم باللازم علم آخر بالملزوم ، والعلم حجة من أيّ سبب حصل فالعلم يحصل باللازم بواسطة العلم بالملزوم ويثبت لا لأجل الواقع.

وأمّا في مورد الأمارة فحيث إنّه ليس كالعلم فما يثبت هو الواقع الذي قامت عليه الأمارة ، وأمّا الملزوم الدالّ عليه الأمارة فلا يثبت ؛ لأنّه لا دليل على حجية الأمارة في هذا الوجه.

وبعبارة اخرى : أن الواقع الحقيقي يلازم واقعية ملازمة ، وكذا العلم بالواقع لازمه العلم بما يلازم العلم بالواقع ، ولا يلازم العلم بالواقع مع العلم بما يلازم واقع هذا الشيء ؛ لاحتمال عدم إصابة علمه ، فكذلك في الطرق فالواقع الثابت بالطريق يلازم لازم الواقع الطريقي ، لا أصل الواقع ، فالدليل دالّ على حجية الطريق ، وأمّا على حجية ما يتولّد من هذا الطريق فلا ؛ لأنّ الملازمة بين واقع الشيء ولازمه وملزومه ، وأمّا بين الواقع الطريقي ولازم الواقع الحقيقي فلا تلازم أصلا ، فافهم ، وحاصل الجواب هو ما قلناه في الحاشية.

الوجه الثالث : وهو أنّ دليل الأمارات يكون له الإطلاق فيشمل لمثبتاتها ، بخلاف دليل الاصول فليس له الإطلاق.

وفيه : أنّ هذا ممنوع ، وليس الأمر مطلقا كذلك ، بل يتّفق في بعض الأمارات عدم إطلاق لدليله ، وكذا يتّفق في بعض الاصول أنّ لدليله الإطلاق ، فليس الأمر كما توهّم. فبهذه الوجوه لم يظهر الفرق بين الأمارات والاصول.

والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام ولعل هذا يكون أيضا مراد المحقّق الخراساني رحمه‌الله هو : أنّ ما يكون في البين تارة هو مقام الحكاية ، وتارة مقام الدلالة.

أمّا مقام الحكاية والإخبار فمن الواضح أنّه لا يمكن أن يكون الشيء إخبارا عن المخبر إلّا مع توجّه المخبر وإخباره به وحكايته عنه ، وأمّا لو لم يكن حاكيا ومخبرا عنه فلا يعدّ حكاية وإخبارا.

٤١٤

وأمّا مقام دلالة الشيء على الشيء فلا يحتاج الى كون المتكلّم متوجّها اليه وفي مقام بيان دلالته ، بل يمكن أن يقول الشخص كلاما ولا يلتفت الى ما يدلّ هذا الكلام به ومع ذلك يكون دالّا عليه ، مثلا لو أخبر زيد بحياة عمرو في هذا اليوم وهو ليس إلّا في مقام حكاية ذلك ، ولكنّ هذا الكلام دالّ على حياة الإنسان في هذا اليوم مع عدم التفات زيد له أصلا ، فالدلالة غير محتاجة الى ما تحتاج اليه الحكاية.

اذا عرفت الفرق بين الحكاية والدلالة فنقول بعونه تعالى : إنّ لسان الاصول ليس إلّا التعبّد في مقام العمل ، وأمّا كونه حكاية عن الواقع أو دلالته عنه فلا.

وأمّا الأمارات فلو كان لسان أدلة الطرق والأمارات هو حجية خصوص ما يحكي عنه المخبر فلا يمكن الالتزام بالفرق بين الأمارات والاصول ، وأمّا لو كان لسان أدلّتها هو الأخذ بمدلول كلام المخبر فيكون مثبتات الأمارة حجة ؛ لأنّ قول المخبر دالّ على اللوازم والملزومات ، ولا يحتاج ـ كما قلنا ـ الى كون المخبر في مقام دلالتها ، بل كلامه دالّ ولو كان غير ملتفت اليه ، واذا بلغ الأمر الى هذا المقام فأنت لو تأمّلت ستعرف أنّ لسان أدلة الطرق والأمارات هو جعل الواقع الذي أخبر عنه المخبر مقام الواقع ، فلو كنت أنت عالم بالواقع فكيف تتعامل؟ فكذلك تعامل مع الأمارة ، ولا إشكال بأنّ حكايته لا دخل لها في حجّيته وكان بحيث لو انكشف لك الواقع من غير الطريق كان حجة لك ، فليس حجية قوله إلّا لأجل كشف الواقع وحكايته لا دخل لها ، واذا انكشف الواقع فلا بدّ من ترتيب آثار الواقع.

وبعبارة اخرى : لو كنت أنت تسمع هذا الكلام عن الصادق عليه‌السلام تعامل أيّ معاملة؟ كذلك حاسب قول زرارة قول الصادق عليه‌السلام ، فكما أنّ بعد قول الصادق عليه‌السلام تأخذ بما هو آثار الواقع وبلوازمه وملزوماته كذلك تفعل هذا بقول زرارة.

فالسرّ في الفرق بين الأمارات والاصول هو : أنّ الأمارة تدلّ على لوازم

٤١٥

المؤدّى وملزوماته ، فلا تكون لوازمه وملزوماته حجّة ، بخلاف الاصول فإنّ لسان أدلّتها ليس إلّا التعبّد في مقام العلم ، فتدبّر.

فظهر لك أنّ في الطرق والأمارات حيث يكون معنى تصديق قوله هو جعل المخبر منزلة الإمام الصادق وكأنّه سمع منه ، فكما أنّ الصادق صلوات الله وسلامه عليه لو قال بما أخبر المخبر يثبت كلّ ما يكون لازم كلامه كذلك في قول المخبر ، ولا يحتاج الى كونه مخبرا عنه ، بل يكفي صرف الدلالة على اللازم أو على الملزوم ، فهذا وجه حجية مثبتات الطرق والأمارات ، فقد عرفت أنّ دليل تنزيل الأمارة كاف لإثبات لازمها وملزومها ؛ لأنّ معنى تتميم الكشف هو جعل الكشف الناقص منزلة الكشف التام ، فكما أن الكشف التام وإحراز الواقع موجب لإحراز لوازمه وملزوماته كذلك في الكشف الناقص ، وهذا هو السرّ في الفرق بين الاصول والأمارات حيث إنّه بعد كون شمول الدليل في الأمارة للّوازم طوليا وثبوت تتميم الكشف فيصير اللازم حجّة أيضا ، وأمّا في الاصول فحيث إنّ لسان الدليل فيها ليس إلّا التعبد في مقام العمل فالتعبّد العملي باللازم والملزوم يكون عرضيا فكلّ منهما يشمله دليل الأصل نأخذ به ، وإلّا فلا ، ومن الواضح أنّ التعبّد ليس إلّا لخصوص المؤدّى ، لا بلازمه وملزومه.

وما يمكن أن يقال في وجه حجية مثبتات الاصول هو : أنّه إما أن يقال بأنّ دليل الأصل يشمل أثر المؤدّى ، سواء كان بلا واسطة أو كان مع الواسطة ، مثل الأثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي. أو أن يقال بأنّ الدليل يثبت كلّ أثر ولازم ، وسواء كان الأثر واللازم شرعيا أو عقليا.

وفيه : أنّ دليل الأصل بعد ما لم يكن لسانه إلّا التعبّد في مقام العمل فيكون ظاهره هو إثبات ما هو أثر له أوّلا وبالذات ، فلا يمكن أن يقال بشموله للأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي ، وحيث إنّ الشارع يبيّن ما هو وظيفته وتنزيله

٤١٦

أيضا في هذه الجهة فلا يمكن له إلّا التعبّد بما هو من ناحيته وهو الأثر الشرعي. وأمّا الأثر العقلي فخارج عن وظيفته ، فلا يمكن أن يقال بشمول دليل الأصل للأثر العقلي ، فافهم.

فاذا ظهر لك الفرق بين الأمارات والاصول فنقول بعونه تعالى : إنّ الشيخ رحمه‌الله قال بأنّ مثبتات الاصول وإن لم تكن بحجة لكن لو كانت الواسطة خفية بحيث إنّ العرف يعدّونه أثر نفس المؤدّى لا للواسطة فيترتّب هذا الأثر على جريان الأصل.

وألحق المحقّق الخراساني رحمه‌الله على هذا صورة كون الواسطة جلية.

ولا يخفى عليك أنّ مراد الشيخ رحمه‌الله إن كان في هذا المقام أنّ الأثر أثر لنفس المؤدّى بنظر العرف فهذا ليس مثبتا للأصل ، بل هو أثر له حقيقة ، وإن كان الأثر للواسطة ولكنّ العرف يتسامحون في ذلك ومن باب المسامحة يعدّونه أثر نفس المؤدى فلا دليل على حجية قولهم في ذلك ، وقول العرف والتزامهم وإن كان متّبعا في بعض الموارد لكن ليس ذلك مطلقا ، بل لا بدّ وأن يكون الموضوع بحسب نظرهم موضوعا حقيقة. كما أنّ معنى كون موضوع الاستصحاب هو بنظر العرف هو هذا ، كما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وقد مثّل رحمه‌الله لذلك أمثلة :

منها : هو رطوبة أحد المتلاقين ، فمن استصحاب رطوبته نحكم بنجاسة الآخر اذا كان أحدهما نجسا. ولا يخفى عليك أنّ هذا مثبت بلا إشكال ، إذ لازم كونه مرطوبا هو أن يكون ساريا به. وبعبارة اخرى : اذا قلت : كان رطبا فسرى الى الآخر فهذا معنى كونه مثبتا.

ومنها : أصالة عدم دخول هلال شهر شوّال في يوم الشك المثبت لكون غده يوم العيد فتترتب عليه أحكام العيد من الصلاة وغيرها.

ولا يخفى عليك أن البعدية والقبلية والأولية والثانوية وهكذا لو كانت من

٤١٧

الامور المركّبة ، مثل أن تكون الأولية مركّبة من الوجود الكذائي والعدم الكذائي فللاستصحاب مجال ، ويثبت به جزء من هذا المركّب ، والآخر محرز. وأمّا لو كانت من الامور الانتزاعية ولها منشأ انتزاع فليس الاستصحاب مثبتا له ، فمثلا أول شهر شوّال ، فاستصحاب عدم دخول هلال شهر شوّال لا يثبت كون الغد أول شهر شوال منتزعا من اليوم الذي لم يتحقق مثله ، والأصل الجاري لا يثبت هذه الأولية.

وللنائيني رحمه‌الله هنا كلام ، وهو : أنّ موضوع الأحكام الخاصة مثلا في أول الشهر أو الثاني الى آخره هو اليوم الذي وقع فيه رؤية الهلال في ليلته فعلى هذا بعد عدم رؤية الهلال لم يتحقّق هذا الموضوع ، وبرؤيته يتحقق هذا الموضوع ، فيكون الموضوع محرزا حقيقة ، فيكون هذا موضوع الحكم واقعا.

وفيه : أنّ هذا الكلام وإن كان لظاهره وجه حسن ولكن بالدقة يظهر لك عدم إمكان الالتزام به ؛ لتواليه الفاسدة ، فمثلا لو نذر أحد بأن يعطي درهما في أول الشهر ، فلو أعطى ثم انكشف عدمه فلا بدّ من الالتزام بالكفاية ، والحال عدم الالتزام به ، وهكذا لو كان هذا الكلام تماما ، فلو أنّه لو ثبت له من هذا أول اليوم وهكذا الى اليوم التاسع من شهر ذي الحجة فعمل بالوظائف الخاصّة بهذا اليوم وهو في الحجّ فانكشف خلافه فهل يلتزم بصحة أعماله؟ فظهر لك فساد هذا الكلام ، فافهم.

والتحقيق أن يقال : إنّ ما ورد في باب شهر رمضان وشوّال من قوله : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» في الرواية ورد نظيره في شهر ذي الحجة أيضا ، ويستفاد من هذا الكلام أنّ موضوع الصوم هو الرؤية ، وكذا الإفطار فهذا طريق لشهر رمضان وشوال ، فجعل الشارع رؤية الهلال طريقا ، ومن الواضح أنّ رؤية الهلال ليس طريقا لخصوص الصوم والإفطار ، بل هو طريق لكلّ حكم يكون لهذا اليوم ، ووجوب الصوم والإفطار أيضا يكون لأجل كونه أول الشهر أو آخره ، فالطريق الى الأول والآخر هو الرؤية ، واذا ثبت الأول بالرؤية يثبت الثاني أيضا ، وهذا

٤١٨

واضح ، فمن هذا البيان يمكن القول بأنّه بعد عدم رؤية الهلال لا يثبت أول الشهر ، وبالرؤية يثبت الأول ، فتدبّر.

ثمّ إنّ ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله أولا من حجية مثبت الأصل هو فيما كان تنزيل الملزوم ملازما مع تنزيل اللازم بحيث لا يمكن التفكيك بينهما.

فاعلم : أنّه لو ثبتت الصغرى يعني أنّ التنزيل ملازم مع تنزيل اللازم فكلامه صحيح ؛ لأنّ ما قلنا من عدم حجية مثبتات الاصول ليس إلّا لأجل عدم الدليل وعدم شمول دليل التنزيل ، وأمّا لو كانت الملازمة بين التنزيلين فدليل تنزيل الملزوم دليل على تنزيل اللازم ، غاية الأمر بالالتزام ، لأنّ دليل التنزيل دالّ على الأخذ بالملزوم بالمطابقة ، وحيث لا يمكن التفكيك بين تنزيل اللازم والملزوم فهذا الدليل دليل على تنزيل اللازم أيضا بالالتزام ، ولا فرق بين شمول الدليل بالمطابقة أو بالالتزام ، ولكن لا بدّ في شمول دليل التنزيل للّازم من أن يكون التنزيل بكلّ حيث يكون بينهما الملازمة.

وبعبارة اخرى : العنوان الذي يكون التلازم بينهما يشمل دليل التنزيل لأحدهما حتى يصير دليلا للآخر أيضا ، وإلّا لو لم يكن كذلك بأن يكون دليل التنزيل للملزوم بعنوان والتلازم بينه وبين لازمه كان بعنوان آخر ، فليس دليل التنزيل دليلا لتنزيل اللازم أيضا.

والسرّ في ذلك هو : أنّ وجه التنزيل ليس إلّا التلازم بينهما ، فلو نزّل الدليل الملزوم بهذا العنوان فيكون هذا تنزيلا للّازم أيضا ؛ لعدم إمكان التفكيك ، ولكن لو كان بحيث وعنوان آخر فاصلا ليس دليل التنزيل ناظرا الى هذا الحيث وهذا العنوان والتلازم فكيف يشمله؟ فمثلا الابوّة والبنوّة بينهما تلازم بهذا العنوان ، فلو دلّ الدليل على تنزيل الأب بعنوان الأبوة فحيث إنّ في التنزيل تلازم بينهما فيكون الدليل تنزيلا للابن أيضا ، فلو قلت : أنت بمنزلة أبي فهذا يكون تنزيلا للبنوّة أيضا ،

٤١٩

فأنت أيضا تصير بمنزلة ابنه ، وأمّا لو كان التنزيل لا بهذا العنوان بل بعنوان آخر فلا ، مثلا لو كان تنزيل الابوة بعنوان العلم فلا يكون تنزيلا إلّا لحيث العلم ، فليس ابنه أيضا منزّلا ، لأنّ التنزيل تعلّق بجهة علمه. اذا عرفت هذا ففي الاستصحاب يكون المشكوك منزلة المتيقّن بما أنّه متيقّن لا بعنوان آخر ، فلو كان شيء ملازما معه بعنوان آخر فدليل التنزيل لا يشمله.

فاعلم أنّه لم نجد موردا يكون التنزيل بالعنوان الذي يكون بين اللازم والملزوم التلازم حتى يكون دليل التنزيل على أحدهما دليلا على الآخر أيضا ، فما قاله هذا المحقق تامّا بحسب الكبرى ، لكنّه غير تامّ بحسب الصغرى.

وقال ثانيا بأنّ الأصل مثبته حجة اذا كانت الواسطة جلية.

وفيه : أنّه لم نفهم كلامه ، فهو كلام مخدوش ، إذ الواسطة لو كانت جلية فكيف يكون المثبت حجة؟ وكيف يعدّه العرف أثرا للمؤدى؟ ففي صورة جلاء الواسطة ليس لهذا المقال مجال.

نعم ، في قول الشيخ رحمه‌الله ـ يعني صورة خفاء الواسطة ـ يمكن أن يدّعى أنّ خفاء الواسطة موجب لأن يعدّ العرف الأثر أثرا للمؤدى. فظهر لك أنّ في خصوص صورة خفاء الواسطة بشرط كون الأثر بالحيث الذي يكون أثر نفس المؤدى بحسب نظر المتيقّن بنظره العرفي يكون المثبت في الاصول حجة ، وإلّا فلا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه ليس من قبيل الأصل المثبت كلّ مورد يكون وجود اللازم في الخارج متّحدا مع وجود الملزوم. وبعبارة اخرى : لو كان وجود مؤدّى الأصل بعين وجود لازمه أو ملزومه ولا إشكال في ترتيب آثار اللازم أو الملزوم ، وليس من قبيل الاصول المثبتة ، ويكون من هذا القبيل استصحاب الفرد والحكم ببقاء كلّيه ، وترتيب آثار الكلي ، حيث إنّ وجود الكلّي في الخارج ليس إلّا بوجود فرده ومتّحد مع وجود الفرد ، ووجوده عين وجود الفرد.

٤٢٠