المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الطهارة. لكنّ هذه الثمرة تكون فيما لو لم يكن هذا الأثر المطلوب منه ، كالطهارة ـ مثلا ـ ذات مراتب ، فإن كان شيء ذو مراتب كما لو قلنا بأنّ الطهارة والنجاسة تكونان ذوي مراتب فلو ثبتت مرتبة منها علم بأنّ النجاسة التي وقعت على اليد تذهب بالغسل مرّة ، ولكن لا يدري بأنّ هذه النجاسة هل تذهب بمرّة أو مرّتين؟ فلا مجال للاستصحاب بعد العلم بمرتبة منها ؛ لأنّه على هذا يكون من قبيل استصحاب الكلي من القسم الثّالث.

واعلم أيضا أنّه على القول بكون الحكم الوضعي مجعولا بالأقلّ والأكثر لو شكّ في جزئية جزء ويكون هذا الجزء ممّا كان بيانه وظيفة الشارع بحيث لو كان جزءا ولم يبيّن لأخلّ بالغرض يجوز التمسّك لعدم جزئية بالإطلاق المقامي بمثل ما قلنا في قصد الوجه ولا حاجة بعد الاطلاق الى الاستصحاب. وأما على كون الحكم الوضعي منتزعا فلا مجال للتمسك بالإطلاق المقامي ؛ لأنّه على هذا انتزع العقل الجزئية من التكليف ، وليس وظيفة الشارع بيانها حتى يكون عدم بيانها مع كونها جزءا مخلا بالغرض ، فافهم.

ينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل :

وهو الذي ذكره الشيخ رحمه‌الله في مطاوي كلماته وجعله المحقّق الخراساني رحمه‌الله أول تنبيهاته ، وهو : أنّه هل تعتبر فعلية الشكّ في الاستصحاب ، أم لا؟

اعلم مقدمة : أنّ النزاع يقع تارة في أنّ الأمارات والاصول مع فرض وجودها هل تحتاج في مقام العمل الى كون الشخص عالما بالأمارة أو بالأصل ، أم لا؟ بمعنى أنّه مع فرض وجود الأمارة بل حجّيتها في مقام العمل يكون موقوفا على وجود الأمارة أو الأصل واقعا ، أو لا يكفي صرف ذلك بل لا بدّ من علم الشخص

٣٨١

به؟ كالنزاع المعروف فيما لو لو كان شخص مقلّدا وصدر منه أفعال ولكن حين العمل لم يلتفت الى أن هذا العمل يكون مستندا الى تقليده للمجتهد وكان عمله في الواقع موافقا لفتوى المجتهد فهل يكفي وتصحّ أعماله ، أو لا بدّ من الرجوع الى من يقلده فعلا ، أو يقال بأنّ هذا تابع للواقع فلو كان واقعا عمله صحيحا فهو ، وإلّا فلا؟ غاية الأمر يكون رأي مقلّده الفعلي طريقا للواقع ، ومعنى هذا أنّ مجتهده الفعلي لو قال بصحة أعماله فهو ، وإلّا فلا ، ولكن لو أمر بالصحة فسقط منه ـ مثلا ـ قضاء ما فعل أو كفارته ، وأمّا آثاره الاخروية فلو لم يصادف واقعا ما قاله هذا المجتهد فتترتب عليه ، لأنّه قلنا بأن على هذا الفرض يكون تابعا للواقع ، فلو كان الصوم الذي أدّاه في حال عدم التفاته للتقليد فاسدا وحكم مجتهده الفعلي بصحته فالقضاء والكفارة وإن سقطتا عنه لكنّ العقاب لم يسقط عنه. فظهر لك أنّ في هذا النزاع وجود الأمارة والأصل يكون مفروغا عنه.

وتارة يكون النزاع في أنّ الاستصحاب هل يكون أصل وجوده محتاجا الى الشك الفعلي ، أم لا؟ ففي النزاع الأول يكون وجود الاستصحاب مفروغا عنه ، والكلام في مقام العمل هل يكون حجة لمن كان عالما به ، أو هو حجة له ولو لم يعلم به ، بل يكون موجودا واقعا؟ وأمّا في النزاع الثاني فيكون الكلام في أصل وجود الاستصحاب وأنّ أصل وجوده هل هو موقوف على الشك الفعلي ، أم لا؟

فما قاله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته من جعل النزاعين نزاعا واحدا ظهر لك فساده ، والكلام في المقام يكون في هذه الجهة.

والشيخ رحمه‌الله وكذا المحقّق الخراساني رحمه‌الله قالا بلزوم الشك الفعلي في الاستصحاب ، ولكنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله كان كلامه في التنبيه الثاني في الكفاية مخالفا لذلك ، حيث يقول بأنّه يكفي في الاستصحاب ثبوته ولو تقديرا ، بمعنى أنّه يكفي أن يكون شيء ثابتا ولو على تقدير ، وفي الآن الثاني يستصحبه ولو لم يكن شك

٣٨٢

فعلا ، ولكنّ كلامه في التنبيه الثاني فاسد ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى عليك أنّه لو قلنا بحجية الاستصحاب من باب بناء العقلاء فيدور الأمر مدار ما يكون بناؤهم عليه ، والعقلاء لو كان بناؤهم على العمل ولو مع عدم الشك الفعلي فهو ، وإلّا لا بدّ من الشك الفعلي.

وإن قلنا بحجية الاستصحاب من باب الأخبار على مذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله التي فيها لفظ «النقض» يكون إسناد النقض فيها لأجل استحكام اليقين فلا بدّ أن يكون يقين فعلا ، فكما لا بدّ من فعلية يقين مستحكم كذلك لا بدّ من الشك الفعلي الذي فيه الرخوة حتى لا يصحّ نقض المحكم بالشك الذي فيه الرخوة ، فكما أنّ اليقين يكون فعليا فكذلك الشك.

وأمّا بعض الأخبار التي ليس فيها لفظ «النقض» مثل «كلّ شيء لك حلال» بناء على كونه دليلا للاستصحاب فحيث إنّ من الغاية يستفاد الحكم الظاهري ـ أعني الاستصحاب ـ فهو حكم لحال الشك ، ولا بدّ أن يكون الشخص شاكّا ، وإلّا فمع عدم الشك لا معنى لذلك ، فهو ظاهر في اعتبار الشك الفعلي ، فمن أخبار الباب يستفاد اعتبار فعلية الشك في الاستصحاب.

وقد فرّع الشيخ رحمه‌الله والمحقّق الخراساني رحمه‌الله على هذا النزاع ـ أعني اعتبار فعلية الشك وعدمه في الاستصحاب ـ فرعا ، وهو : أنّه لو أحدث ثم غفل وصلّى ثم بعد الصلاة شكّ في أنّه هل صلّى مع الطهارة لأجل احتمال أنّه تطهّر قبل الصلاة ، أو لا؟ فلو قلنا بأنّ المعتبر فعلية الشك في الاستصحاب فهو حيث كان غافلا قبل الصلاة فليس له استصحاب ، فبمقتضى قاعدة الفراغ يحكم بصحة صلاته ، ولو قلنا بعدم لزوم الشك الفعلي في الاستصحاب فبحكم الاستصحاب يكون بلا طهارة فصلاته فاسدة ولا مجال لقاعدة الفراغ ؛ لأنّ مورده هو الشك الحادث بعد الصلاة. وأمّا لو أحدث ثم التفت وشك ثم غفل ثم صلى ثم شك في أنّ صلاته كانت مع

٣٨٣

الطهارة أو بلا طهارة وقطع بأنّه بعد الالتفات لم يتطهّر؟ فصلاته فاسدة ؛ لعدم جريان قاعدة الفراغ مع الاستصحاب ، لأنّ الشك لم يكن حادثا.

وأشكل على هذا التفريع بعض المشايخ ، وهو الشيخ آقا ضياء الدين العراقي مدّ ظلّه :

أمّا أوّلا فلأنّه بعد ما تقولون بأنّ مورد قاعدة الفراغ هو الشكّ الحادث ففي الفرع الأول تكون الصحة لأجل قاعدة الفراغ ولو لم يكن استصحاب ، أو كان استصحاب ، لأنّه على كلّ حال حيث كان غافلا وشكّ بعد الصلاة فقاعدة الفراغ جارية. وأمّا في الفرع الثاني أيضا يكون بطلان الصلاة مستندا الى أصالة الاشتغال ؛ لأنّه حيث يكون شاكّا قبل الصلاة فشكّه ليس بحادث بعد الصلاة حتى تجري قاعدة الفراغ ، واذا لم تجر القاعدة فالاشتغال اليقيني يحكم ببطلان الصلاة والإتيان بصلاة اخرى ، وعلى كلّ حال ليس الفرعان متفرّعين على جريان الاستصحاب وعدمه ، فافهم.

وأمّا ثانيا فلأنّ في كلّ من الفرعين أيضا لا بدّ من جريان قاعدة الفراغ ، ولا أثر للاستصحاب. أمّا في الفرع الأول فأنت معترف به لعدم الشك الفعلي ، وأمّا في الفرع الثاني فلأنّه على الفرض المذكور بعد الالتفات غفل فيسقط الاستصحاب بالغفلة ، لعدم بقاء موضوع له وهو الشك الفعلي فلا يكون استصحاب ، فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ. فظهر لك عدم الفرق بين الفرعين ، ولا تأثير للاستصحاب أصلا.

ولا يخفى عليك أنّ كلّا من الإشكالين وارد ، ولكنّ هذا يكون على تقدير كون التفريع على كلّ من الفرعين ، وأنّ الفرق بينهما يكون لأجل الاستصحاب ، ولكن ليس كذلك ، بل التفريع راجع الى الفرع الأول ، أعني ما اذا أحدث وغفل وصلى. ومنشأ توهّم كون التفريع على كلّ من الفرعين ليس إلّا لأجل أنّ الشيخ رحمه‌الله ذكر

٣٨٤

الفرع الثاني أولا ، ولكنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله ذكر الفرعين بالترتيب الذي ذكرناه.

فعلى هذا نقول : إنّ التفريع عند كلّ من الشيخ رحمه‌الله والمحقّق الخراساني رحمه‌الله ليس إلّا في الفرع الأول ، وهو : أنّه لو أحدث وغفل وصلّى فصحة صلاته وفسادها متفرّعة على اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب وعدمه ، وهذا التفريع صحيح ومتين ؛ لأنّه على تقدير كونه غافلا لو لم يكن استصحاب ولا يجري الاستصحاب فصحة الصلاة بمقتضى قاعدة الفراغ لا إشكال فيها ، إذ من المفروض قبل الصلاة كان غافلا وليس شاكا ، بل شكه حدث بعد الصلاة ، وهذا هو مورد قاعدة الفراغ.

وأمّا على تقدير جريان الاستصحاب فهو محدث ، فلا مجال لصحة صلاته ، وقاعدة الفراغ وإن كانت حاكمة على الاستصحاب لكن تكون حكومتها في كلّ مورد كان جريان الاستصحاب في عرض جريان قاعدة الفراغ ، وأما مثل ما نحن فيه حيث كان جريان الاستصحاب قبل الصلاة وقاعدة الفراغ بعد الصلاة فلا معنى لجريان قاعدة الفراغ ، وهذا واضح ، فعلى هذا صحّ التفريع.

التنبيه الثاني :

لمّا لم يكن إشكال في أنّ المستفاد من الأخبار هو اعتبار الشكّ واليقين لصريح قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» فيرد الإشكال في استصحاب ما ثبت بالأمارة ، مثلا لو دلّ خبر الواحد على وجوب شيء ثم بعد ذلك شك في بقاء وجوبه فهل يكون مجال لاستصحابه ، أو لا؟ لكن إنّه اعتبر في الاستصحاب اليقين السابق فلا مجال للاستصحاب ؛ لأنّ ما ثبت بالأمارة ليس اليقين بوجوده ، بل يحتمل كونه خلاف الواقع فكيف يمكن استصحابه؟ هذا تقريب الإشكال.

واعلم : أنّه على ما قلنا في باب حجية الأمارات من كونها طرقا ومتمّمة

٣٨٥

للكشف فعدم ورود هذا الإشكال واضح ، ولا مانع من جريان الاستصحاب ، لأنّه بعد ما ورد في أخبار الاستصحاب «لا تنقض اليقين بالشك بل تنقضه بيقين آخر» فلو تقول : إنّه لا يمكن نقض اليقين بالأمارة ، بمعنى أنّه بعد الشك وجريان الاستصحاب لو قامت أمارة على خلافه لا يمكن رفع اليد عن الاستصحاب ، فتقول بعدم جريان الاستصحاب في مؤدّى الأمارة ، ولكن بعد تسليمك وعدم الإشكال فإنّ الاستصحاب يرتفع بمجرّد قيام الأمارة ، وهذا معنى حكومة الأمارات على الاستصحاب ؛ لأنّ معنى حجية الأمارة هو إلغاء احتمال خلافه وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف ، ولأجل هذا تكون الأمارة حاكما على الأصل ، فكما أنّ في ذيل قوله عليه‌السلام في بعض أخبار الاستصحاب : «بل ينقضه بيقين آخر» ينقض بالأمارة أيضا مع أنّه قال عليه‌السلام : «ينقض باليقين» فكذلك لا بدّ من الالتزام بصدر قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشك» الذي هو أعمّ من اليقين والأمارة.

وبعبارة اخرى : اليقين الذي يكون في بعض أخبار الاستصحاب ليس اليقين الطريقي في مقابل الموضوعي ، بل هو اليقين الموضوعي لكن على وجه الطريقية ، وحيث قلنا في مبحث القطع بأنّ الأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي على وجه الطريقية كما تقوم مقام القطع الطريقي المقابل للموضوعي فعلى هذا نقول بأنّه في الاستصحاب أيضا ولو اعتبر فيه اليقين لكنّ الأمارة تقوم مقامه ، فعلى هذا على ما اخترنا يجري الاستصحاب في ما ثبت بالأمارة.

ولكنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث لم يقل بقيام الأمارات مقام القطع الموضوعي مطلقا حتى الموضوعي على وجه الطريقية ، ولا يقول بحكومة الأمارات على الاصول ، ولا يقول بأنّ مؤدّيات الأمارات أحكام ، بل يقول بأنّها ليست إلّا الأعذار ، فعلى هذا في المقام وقع في الإشكال ؛ لأنّه لعدم التزامه بما قلنا لا يمكن له

٣٨٦

الالتزام بجريان الاستصحاب فيما ثبت بالامارة ، فلهذا قال بأنّ ما يعتبر في الاستصحاب ليس إلّا التعبّد بالبقاء ، فالتعبّد بالبقاء يحتاج فقط الى ثبوت شيء ، ولا يحتاج الى اليقين بثبوت الشيء ، بل يكفي في التعبد بالبقاء صرف ثبوت الشيء ولو على تقدير.

فعلى هذا فما ثبت بالأمارة ولو لم يكن يقينا بكونه واقعا ولكن حيث ثبت بالأمارة ففي حال الشك معنى جريان الاستصحاب هو التعبد ببقاء ذلك ولو على تقدير ثبوته ، فالتعبد بالبقاء لا ينافي الثبوت على التقدير ، فمثلا العصير العنبي الذي ثبتت حرمته بالأمارة ففي حال الشك في بقاء الحرمة لا يقين بحرمته سابقا ، ولكن يمكن التعبد ببقائه ، بمعنى أنّه لو كان ثابتا وعلى تقدير ثبوته واقعا يكون في هذا الحال باقيا.

ولا يخفى عليك أنّ نظر المحقّق الخراساني رحمه‌الله ليس الى أنّ الاستصحاب يثبت بالملازمة ، بل نظره الى أنّ حقيقة الاستصحاب ليس إلّا التعبد بالبقاء ، ولا يلزم في ذلك إلّا ثبوت شيء ولو على وجه التقدير ؛ لأنّه على فرض التقدير يحكم بالتعبد بالبقاء.

فعلى هذا أنّ ما قاله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته من الإشكال عليه بأنّ الاستصحاب ليس عبارة عن الملازمة بين الثبوت والبقاء ، لأنّ الملازمة ليست مجعولة ليس في محلّه ، فتدبر.

ثمّ اعلم : أنّ كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله يصحّ لو كان دليل الاستصحاب عبارة عمّا قيل من أنّ ما ثبت دام ، فيقال بأنّه على تقدير ثبوته دام.

وأمّا على ما اختاره واخترناه من حجية الاستصحاب من باب الأخبار فبعد عدم الإشكال في أنّ اليقين المأخوذ في الأخبار ليس اليقين الطريقي في مقابل

٣٨٧

الموضوعي ، لكن يكون المراد اليقين الموضوعي ، لكن لا بما هو صفة خاصّة ، بل بما هو كاشف وطريق ، فعلى هذا مع ما التزم من عدم قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي فليس مجال لاستصحاب ما ثبت بالأمارة ، فافهم.

وإن كان المراد من اليقين اليقين الطريقي فلا حاجة له الى هذه التكلّفات ، بل بعد قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في مقابل الموضوعي فدليل قيام الأمارة مقامه كاف لصحة استصحاب ما ثبت بالأمارة.

ثمّ إنّه لا وجه لاستصحاب ما ثبت بالاصول لو كان شاكا في طهارة شيء ، فبمقتضى «كلّ شيء طاهر» ثبت طهارته ففي الآن الثاني لو شك في هذا الحكم فلا مجال للاستصحاب ، ولا حاجة اليه ، لأنّه بعد كون مجرى قاعدة الطهارة هو الشك ففي الآن الثاني أيضا شاك فتجري القاعدة ، وكذلك ما ثبت بنفس الاستصحاب فإنّ بقاءه في الآن الثاني ليس محتاجا الى الاستصحاب ، بل الاستصحاب الأول كاف لهذا ؛ لأنّه شاكّ في المتيقن في الآن الثالث ، فكما به حكم بالبقاء في الآن الثاني فكذلك في الآن الثالث ، فافهم.

التنبيه الثالث :

اعلم أنّ مجرى الاستصحاب إمّا أن يكون الفرد المعيّن الخاصّ ، وإمّا أن يكون الكلي ، وإمّا أن يكون الفرد المردد ، ففي الخاصّ المعيّن لا إشكال في استصحابه ، مثلا لو كان عالما بحياة زيد في الآن الأول ففي الآن الثاني لو شك في حياته فيجري الاستصحاب اذا كان فيه الأثر الشرعي.

وأمّا استصحاب الكلّي فهو على أقسام ثلاثة :

الأول : هو ما يكون الشك في بقاء الكلي لأجل الشك في بقاء الفرد الذي كان

٣٨٨

الكلّي في ضمنه ، مثلا لو كان زيد موجودا سابقا في الدار فكان الإنسان في الدار ، ففي الآن الثاني يكون الشك في بقاء الانسان لأجل الشك في بقاء زيد ، ففي هذا القسم لا إشكال في جريان الاستصحاب لتمامية أركانه في الكلي ، وفي الفرد يترتّب على كلّ منهما أثرهما.

القسم الثاني : هو ما يكون الشك في الكلّي لأجل دوران الفرد الذي كان الكلّي في ضمنه بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، كما في المثل المعروف في البقّ والفيل ، ففي هذا القسم لا يجري الاستصحاب في الخاصّين ، أي لا يجري الاستصحاب لا في البقّ ولا في الفيل ؛ لأنّ ما هو الحادث إمّا أن يكون مقطوع الحدوث ومقطوع البقاء ، وإمّا أن يكون مقطوع الحدوث ومقطوع الزوال ، فعلى كلّ من التقديرين ليس شك.

وأمّا الكلّي فيجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّ الكلّي كان سابقا موجودا فبالاستصحاب يحكم ببقائه ، لأنّه ولو أنّ الفرد الذي كان الكلي في ضمنه غير متيقّن البقاء لكن حيث إنّ وجود الكلي كان ثابتا ووجوده على تقدير وجوده يكون بعين وجوده أولا فلا مانع من استصحابه.

ومنشأ توهّم عدم جريان الاستصحاب ليس إلّا ما قاله الشيخ رحمه‌الله ، وهو : أنّ مقتضى استصحاب عدم وجود الفرد الطويل هو عدم جريان استصحاب بقاء الكلي ؛ لأنّ الفرد سبب لبقاء الكلي ، وبعد عدم حدوثه لا استصحاب ، فيذهب موضوع الأصل المسبّبي ، ومسلّم بأنّ الاستصحاب السببي مقدم على الاستصحاب المسبّبي.

ولكنّ فيه أوّلا : أنّ نسبة الفرد مع الكلّي ليس نسبة السبب الى المسبّب ، وليس وجود الكلّي مسبّبا عن الفرد ، بل وجودهما في الخارج متّحد ، ويكون وجود الكلّي بعين وجود الفرد ، فبعد العينية لا معنى للسببية ، فليس الفرد سببا حتى يكون

٣٨٩

استصحابه حاكما على استصحاب الكلّي ، وإن قيل بأنّ بينهما تلازما كان أولى ، مع أنّه أيضا فاسد ، وعلى كون الكلي لازم الفرد فيقال بأنّ استصحاب العدم في الفرد يكون لازمه هو عدم وجود الكلي ، وهذا لا يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّه ليس أثره الشرعي ، فعلى هذا لا مانع من جريان استصحاب الكلي ، ولا يبقى مجال للتوهّم المتقدم ذكره.

وللنائيني رحمه‌الله هنا كلام ، وهو : أنّه قال بأنّ في الاستصحاب السببي وتقدّمه على الأصل المسببي ، مع ما قلنا من اشتراط كون الترتب بين السبب والمسبب شرعيا أن يكون الأصل الجاري في السبب رافعا لموضوع الأصل المسببي ومزيلا للشك فيه ، مثل الأصل الجاري في الماء المغسول به الثوب ، حيث إنّه ولو يشك في حصول طهارة الثوب ومقتضى الأصل بقاء نجاسته لكن الأصل الجاري في الماء يرفع ويزيل شكّه ؛ لأنّ منشأ شكّه في طهارة الثوب وعدمه كان لأجل الشك في طهارة الماء ، والأصل الجاري في الماء جعله طاهرا فزال شكّه.

وأمّا لو لم يكن الأصل السببي رافعا ومزيلا للأصل المسبّبي فالأصل المسبّبي يجري ولا يزاحم الأصل السببي ومثّل لهذا بمثال لو شك في كون اللباس متّخذا من مأكول اللحم أو من غيره فجريان أصالة الحلّ في الحيوان المتّخذ منه اللباس لا يرفع الشّك في جواز الصلاة فيه وعدمه ، مع أنّ الشّك في جواز الصلاة في اللباس مسبّب عن حلّية الحيوان المتّخذ منه وعدمها ، والترتب بينهما شرعي ، ومع ذلك فأصالة الحلّ في الحيوان لا تزيل الشك في جواز الصلاة في اللباس.

وهذا كلام في غير محلّه وفيه مغالطة ؛ لأنّه في الشك في السببي والمسبّبي بعد عدم كون المراد بالسبب هو السبب الاصطلاحي ، بل المراد هو كون المسبّب الأثر الشرعي للسبب فعلى هذا كيف يصحّ أن يكون الأصل هو الأصل السببي؟ ومع هذا لا يكون مقدما على الأصل المسببي ، ولا يعتبر أزيد من ذلك أن يكون رافعا للأصل

٣٩٠

المسبّبي ، بل مع قبول كون الأصل هو الأصل السببي فيكون مقدما على الأصل المسبّبي بلا حاجة الى قيد زائد ، فمثلا لو جرت أصالة الحلّية في حيوان فحيث إنّ أثره الطهارة نحكم بطهارته وهذا من الواضحات ، والمغالطة قد وقعت من أجل أنّ موضوع الحكم تارة يكون نفس اللحم والشحم وغيرهما ، واخرى يكون اللحم وغيره مرآة ومشيرا الى الحيوانات ، مثلا يكون موضوع الحكم الغنم والكلب ، فاذا كان موضوع الحكم حقيقة هو الغنم فأصالة الحلّية في هذا اللحم أو الشحم أو الروث لا يثبت كون هذا غنما ، والطهارة إن كانت أثر الغنم فلا تترتب على حلّية اللحم.

وأمّا إن كان موضوع الحكم هو نفس اللحم والشحم وغيرهما فأصالة الحلّية فيهما تثبت الطهارة.

اذا عرفت هذا فحيث إنّه في باب اللباس قال بعض بأنّ المعتبر هو كون اللباس من أجزاء حيوان مأكول اللحم فلا بدّ من إثبات هذا ، فهو أيضا توهّم وقال بعدم إثبات أصالة الحلّية لكون هذا من أجزاء حيوان مأكول اللحم ، ولكنّ من يراجع أخبار اللباس في باب الصلاة يظهر له عدم اعتبار ذلك ، بل فقط يلزم أن يكون حلالا ، وأمّا إثبات كونه من أيّ حيوان فلا ، ولو سلّم هذا فليس أصالة الحلية بالنسبة اليه هو الشك في الأصل السببي والمسبّبي ، فعلى هذا لو سلّم كون الأصل هو الأصل السببي فيقدّم على الاصل المسبّبي.

هذا ، فقد ظهر لك عدم جريان الاستصحاب في الخاصّين في القسم الثاني من استصحاب الكلّي. وأمّا استصحاب الجامع فيجري لو كان له أثر ، مثلا في من شك في أنّ الخارج منه البول أو المني مع عدم احتماله غيرهما فلو كان لجامع الحدث أثر يترتب بالاستصحاب ـ مثل ـ عدم جواز مسّ كتابة القرآن أثر الجامع فلا يجوز ، وأمّا أثر خصوص خروج المني وهو عدم جواز دخول المسجدين ـ مثلا ـ يترتب ؛ لعدم جريان الاستصحاب في الخاصّ.

نعم ، يختلف أمر الاستصحاب من جهة اخرى ، وهي : أنّه كما في المثال المتقدم

٣٩١

من يعلم بأنّ الخارج منه إمّا البول وإمّا المنيّ فهو إما أن يكون جنبا أو محدثا بالحدث الأصغر مسبقا ، أو تكون حالته السابقة الطهارة.

أمّا الكلام في ما كانت حالته السابقة الطهارة فقلنا بجريان استصحاب الجامع إن كان له أثر ، وعدم جريان الاستصحاب في الخاصّ.

وأمّا فيما لو كانت الحالة السابقة الجنابة فيجب الغسل ، ولا يجري الاستصحاب حتى في الجامع ؛ لعدم أثر له ؛ لأنّه لو كان الخارج هو المنيّ فغسله للجنابة يرفعه ، وإن كان البول فأيضا غسل الجنابة بعد كونه مجز عن الوضوء يرفعه.

وأمّا اذا كانت حالته السابقة هي الحدث الأصغر : فتارة نقول بأنّ الحدث الأصغر والأكبر كليهما مأخوذان على حدة ، بحيث إنّه في صورة كون الشخص محدثا بالحدث الأصغر لو حدث بالحدث الأكبر لا يتبدّل الحدث الأصغر بالأكبر ، غاية الأمر هو أنّ الغسل يرفع أثر كلّ منهما.

وتارة نقول بأنّ الحدث الأصغر مرتبة من الحدث ، والأكبر مرتبة اخرى منه ، فلو حدث في الفرض بالحدث الأكبر يتبدّل الحدث الأصغر بالأكبر.

فإن قلنا بالأول فلا مجال لاستصحاب الجامع إلّا على القول بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي ؛ لأنّ الفرد المتيقّن الحدوث ـ وهو الحدث الأصغر ـ ارتفع بالوضوء قطعا ، وأمّا الحدث الأكبر فهو حدوثه مشكوك فلا وجه لاستصحاب الجامع إلّا على جريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثالث.

وإن قلنا بالثاني فعلى القول بأنّ الاستصحاب هو جعل المماثل فالحدث الأصغر ارتفع بالوضوء ، والأكبر وإن كان الشكّ في حدوثه ومقتضى الاستصحاب عدم حدوثه لكن مع ذلك في هذا الحال هو شاكّ في أنّه ارتفع حدثه أم لا ، وكان جامع الحدث متيقّن الحدوث فيجري استصحاب الجامع ، وأثره وجوب الغسل.

وأمّا على ما قلنا من كون معنى الاستصحاب هو معاملته معاملة اليقين فبعد الوضوء وجريان استصحاب العدم بالنسبة الى الحدث الأكبر لا معنى لاستصحاب

٣٩٢

الجامع ، لعدم الأثر له ، حيث إنّ أثره إمّا الوضوء فحاصل ، وإمّا الغسل فهو مرتفع بالأصل ، فلا يجري استصحاب الجامع ، فهذا المورد من الموارد التي يكون فيها الفرق بين جعل المماثل وبين ما اخترناه من أنّ حقيقة الاستصحاب هو معاملته معاملة اليقين.

وقد يتوهّم عدم جريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثاني لأجل ما قاله المحقق الخراساني رحمه‌الله ، وهو : أنّه قال بأن المعتبر في الاستصحاب عدم تخلّل بين زمان الشك واليقين ، بمعنى أنّه لا بدّ وأن يكون الشك مستمرّا الى زمان اليقين ولا يتخلل شيء بين أزمنة الشك ، فلو احتمل وقوع الناقض بين زمان الشك باليقين ، مثلا لو تيقّن بشيء في اليوم السابق ثم شك في الحال ، ولكن يحتمل أنّه تيقن بنقض اليقين السابق فلا مجال للاستصحاب هنا ؛ لأنّ هذا يحتمل أن يكون نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشك ، فيكون من الشبهة المصداقية لنقض اليقين بالشك.

فعلى هذا يأتي الإشكال ، وهو : أنّه في القسم الثاني يحتمل أن يكون الموجود هو الفرد القصير ، وعلى تقدير هذا يكون مقطوع الزوال ، فلا ندري بأنّ الموجود هو القصير أو الطويل ، ويحتمل أن يكون القصير ، فعلى هذا يحتمل انتقاض يقينه باليقين ؛ لأنّه لو كان الموجود هو القصير ارتفع يقينا ، لكن لا يعلم بذلك ولكن احتماله موجود ، فبصرف الاحتمال تكون الشبهة مصداقية ولا مجال لاستصحاب الجامع.

ولكنّ فيه أولا : بأنّا لا نلتزم بذلك ، يعني بأنّه بالاحتمال لا مجال للاستصحاب لأجل كون الشبهة مصداقية ، وهذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

وثانيا : أنّه لو قلنا بما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله وذهابه الى ما قلنا في الاستصحاب ولكن لا يوجب ذلك عدم جريان الاستصحاب فيما نحن فيه ؛ لأنّ اليقين والشك من الصفات النفسانية ، وحيث إنّهما من الصفات القائمة في النفس فحصول صورة اليقين لو طابق صورة الشك فيرفع الشك ، وبالعكس ، وأمّا لو لم

٣٩٣

يكن التطبيق فموضوع الشك أمر آخر غير موضوع القائم عليه اليقين فلا يزيل الشك ، وبالعكس ، فعلى هذا فصورة اليقين بالفرد القصير بعد حصول اليقين بزواله ترتفع هذه الصورة ، وأمّا اليقين بالجامع فليس منطبقا عليه في النفس إلّا بالملازمة ، وكذلك بالطويل أيضا ليس منطبقا إلّا بالملازمة ، فاحتمال النقض باليقين ينطبق على الخاصّ لا على الصورة الحاصلة في النفس وهو اليقين بالجامع ، فعلى هذا لا مجال لهذا التوهّم ، ولا يبقى اشكال ، فالحقّ هو جريان الاستصحاب في القسم الثاني.

القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي : وهو أنّه يقطع بأنّ الفرد الذي كان الكلّي في ضمنه مقطوع الزوال ، ولكن يحتمل بقاء الجامع لأجل احتماله حدوث فرد آخر مقارنا مع حدوث الفرد المقطوع الزوال ، أو لأجل احتمال حدوث فرد آخر مقارن مع زوال الفرد المقطوع الزوال.

والحقّ هو عدم جريان استصحاب الكلّي في هذا القسم ؛ لأنّه بعد ما قلنا من أنّ وجود الطبيعي في الخارج يكون بعين وجود فرده ، وأنّ وجود حصّة في ضمن فرد غير وجوده في ضمن الآخر ، فعلى هذا ما قطع بوجود الجامع في ضمنه فهو مقطوع الزوال ، والجامع الآخر في ضمن فرد آخر يكون مشكوك الحدوث ، فلا يبقى مجال لاستصحاب الجامع.

ولا يخفى عليك فرق هذا القسم مع القسم الثاني ، فإنّ في القسم الثاني لا إشكال في أنّه على تقدير كون الفرد هو الطويل يكون الكلّي وجوده في الآن الثاني بعين وجوده في الآن الأول ، وهذا بخلاف ذلك القسم ، فإنّ وجود الكلي في الآن الثاني غير وجوده في الآن الأول ؛ لأنّه في الآن الأول كان في ضمن فرد مقطوع الزوال ، وفي الآن الثاني على تقدير وجوده يكون في ضمن فرد آخر وهو الفرد المشكوك الحدوث فلا يجري الاستصحاب ، فافهم.

٣٩٤

نعم ، في مورد واحد يجري الاستصحاب ، وهو ما كان الفرد المقطوع الزوال نسبته مع مشكوك الحدوث نسبة الشيء ذي مراتب ، ولا يكون كلّ منهما بالنسبة الى الآخر فرد مباين ، بل كل منهما مرتبة من مراتب الشيء الواحد ، والسر في ذلك هو : أنّه على هذا يكون هذا الفرد المشكوك أيضا مورد تعلق اليقين في ضمن الفرد المقطوع الزوال ، مثل الخطّ الطويل والقصير ، فالفرد الطويل لو لم يكن الحدّ مأخوذا فيه ، بل اخذ صرف ذاته فهو الفرد القصير مع الزيادة ، لا أن يكون فردا آخر ؛ لأنّ زيادة المقدار بالخطّ القصير يحدث الخطّ الطويل ، فلو تعلق اليقين بوجود الخط الطويل فحيث إن اليقين تعلق بتمام هذا الخط فلو تيقّن بعد ذلك بزوال هذا الخطّ الطويل وشك في أنّه بقي مرتبة ناقصة منه وهو الخط القصير فيكون استصحاب جامع الخط بلا مانع ؛ لأنّ اليقين بالجامع الذي كان سابقا متعلّقا بتمام الخطّ والخطّ القصير أيضا يكون مورد اليقين فيجري الاستصحاب في الجامع.

ولكنّ هذا القسم حقيقة ليس من قبيل استصحاب القسم الثالث ، لأنّ في القسم الثالث لا بدّ وأن يكون فردين : فرد مقطوع الزوال ، وفرد مشكوك الحدوث ، وفي هذا المورد لم يكن كذلك ، نعم ، في مثل هذا المورد أيضا لا بدّ وأن يكون مشكوك الحدوث مرتبة ضعيفة من مقطوع الزوال بنظر العرف ، وإلّا فلو كان بنظرهم فردين لا يجري الاستصحاب ، لأنّه على هذا ما تعلق به اليقين غير هذا الفرد ، ولأجل ذلك لو قطع بزوال الوجوب لا مجال لبقاء الاستحباب ، لأنّه ولو كان الاستحباب عند الدقّة مرتبة ضعيفة من الإرادة والوجوب مرتبة قوية ولكن عند العرف ليس كذلك ، فافهم. هذا كلّه في حال استصحاب الكلي.

وأمّا الكلام في المردّد فاعلم : أنّه على قول المشهور بأنّ الأثر يكون لأحدهما المردّد فلا مجال للاستصحاب ؛ لأنّ الأثر خارجا يكون للأطراف ، لا لأحدهما المردّد ، فاستصحاب المردّد لا فائدة فيه ، مثلا لو استصحب نجاسة أحدهما المردّد بين

٣٩٥

الإناءين فالأثر في الخارج يكون لهذا ولهذا ، لا لأحدهما المردّد ، فاستصحاب أحدهما المردّد لا يترتب عليه النجاسة إلّا بالملازمة وهي مثبتة.

وأمّا على ما اخترناه في العلم الإجمالي من أنّ ما تعلّق به العلم هو إناء زيد ـ مثلا ـ الذي هو في الخارج مردّد بين الإناءين ، والأثر أيضا يكون لإناء زيد فاستصحابه لا مانع منه من هذا الحيث.

لكن مع ذلك كما قلنا في أصل العلم الإجمالي بأنّه لا بدّ في تنجّزه من أن يكون بحيث لو وقع في كلّ من الأطراف يكون مع الأثر ، ولذا قلنا بعدم التنجّز لو كان لأحدهما استصحاب ، أو أصل بلا معارض ، أو خرج أحدهما من محلّ الابتلاء ، فعلى هذا في استصحابه أيضا بعد عدم الأثر في كلّ من الأطراف فلا مجال للاستصحاب ، مثلا لو وقع التطهير على أحدهما فاستصحاب نجاسة إناء زيد لا أثر له ، إذ لو كان في هذا الإناء فقط فقد طهر ، فلا أثر له على كلّ حال ، فافهم.

التنبيه الرابع :

قد يقع الإشكال في استصحاب الزمانيات ، وينبغي التكلّم في موارد ثلاثة حتى يتّضح كاملا ما هو الحق في المقام الأول في استصحاب نفس الزمان الثاني في الزمانيات ، أعني الامور المتدرجة ضمن الثالث في الامور القارة المقيّدة بالزمان.

أمّا الكلام في المورد الأول ، ـ أعني استصحاب نفس الزمان ـ وهو أهمّ الموارد فنقول بعونه تعالى : إنّ منشأ الإشكال في جريان الاستصحاب هو : أنّ الزمان حيث يكون أمرا انتزاعيا من الحركة ، وهو في الحركة دائما وينقضي ويتصرم كلّ جزء منه ويحدث جزء آخر ، وفي الاستصحاب لا بدّ في جريانه من بقاء الموضوع ، وفي الزمان لا يكون الموضوع باقيا ، لأنّ جزءا من الزمان المتيقن قطع بانقضائه وتصرمه فكيف يجري الاستصحاب؟ ولا يخفى عليك بأنّ هذا الإشكال لا

٣٩٦

يرد على القول بكون الزمان عبارة عن الحركة التوسطية ؛ لأنّه على تقدير كونه عبارة عن ذلك فهو باق ولا شك في بقائه ، بل هو في الآن الثاني أيضا يكون بين المبدأ والمنتهى ، فافهم.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها : ما قاله الشيخ رحمه‌الله مختصرا ، ونحن نوضّح مراده ، وحاصل كلامه يرجع الى ما سبق منّا كلامه في بعض المقامات ، وهو : أنّه يمكن أن تكون أشياء متباينة متنافية على كثرتها ولا يكون بينها وحدة حقيقية ، ولكن مع ذلك يمكن اعتبار وحدة بينها بحسب نظر وغرض عقلائي ، ويعتبر الجامع بين هذه الكثرات هو الجامع الاعتباري كما ترى ، مثلا في الصلاة مع كونها عبارة عن السجود والركوع وغير ذلك وهي وحدات مختلفة وليس بينها وحدة حقيقية ، ولكن مع ذلك باعتبار دخل كلّ منها في غرض واحد نتصور لها جامعا اعتباريا.

فكذلك نقول فيما نحن فيه بأنّ الزمان تنقضي أجزاؤه وتتصرم ، ولكن مع ذلك لا مانع من اعتبار جامع لهذه الأجزاء المختلفة باعتبار غرض ، ويكون الحكم موضوعه ، ومركّبه هذا الجامع الاعتباري ، كما قلنا في الصلاة في الصحيح والأعمّ ، فعلى هذا لا مانع من استصحاب الزمان ، يعني استصحاب هذا الجامع بعد كون هذا الجامع موضوعا للأثر. نعم ، لو كان الأثر للأجزاء المتصرّمة لا يمكن استصحابها ؛ لانقضائها وتصرّمها ، لكنّ الأثر يكون للجامع ، فالإشكال يرد لو كان الغرض من استصحاب الزمان هو استصحاب بعض أجزائه المتصرمة ، ولكن على ما قلنا ولو بعض الأجزاء يتصرم لكنّ الجامع محفوظ فيستصحب بلا إشكال.

فحاصل الكلام يرجع الى أنّ مورد الأثر لو كان هو كلّ جزء جزء من الزمان فيكون للإشكال مجال ، ولكن بعد كون الأثر مترتبا على حيث وحدته فلا يرد الإشكال ؛ لما قلنا من الوحدة اعتبارية بين أجزاء الزمان ، وهذه الوحدة ليست

٣٩٧

وحدة عرفية ، بل هي وحدة حقيقية لكن بحسب الاعتبار ، وهذه الوحدة كما يشارك أجزاء الزمان فيها تحت جامع واحد كذلك يمتاز بعضها مع البعض الآخر ، مثلا أجزاء زمان شهر الصيام وإن كانت متباينة لكن بعد اعتبار وحدة بينها بحسب الغرض ، فكما أنّ هذه الآنات يحصل بينها حيث وحدة كذلك بهذا الاعتبار تمتاز هذه الآنات عن آنات شهر آخر ؛ لأنه لا توجد هذه الوحدة في آنات شهر آخر. اذا عرفت ما قلناه ظهر لك أنّ استصحاب الزمان يكون سليما عن الإشكال المتقدّم ذكره من هذا الحيث.

لكن يرد في المقام إشكال آخر ، وهو : أنّ استصحاب الزمان بعد جريانه لا يكون مثبتا إلّا إذا كان الزمان المتيقن باقيا ، وأمّا وقوع الفعل المقيّد بالزمان في هذا الزمان فلا يثبت بهذا الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : لو كان فعل مقيدا بالزمان فاستصحاب الزمان وإن أثبت بقاءه لكن لا يثبت أن هذا الفعل المقيّد بالزمان وقع في هذا الزمان ، مثلا عنوان أداء الصلاة لا يثبت بالاستصحاب ، كما لو شك في بقاء النهار فالاستصحاب وإن كان يثبت أنّ النهار باق ولكن لو صلّى في هذا الوقت فالاستصحاب لا يثبت أنّ الصلاة وقعت أداء وفي وقتها إلّا على القول بحجّية الأصل المثبت ، وهو باطل.

فعلى هذا بعد عدم فائدة لاستصحاب الزمان في مثل ما كان الزمان قيدا للفعل فلا تبقى فائدة لاستصحاب الزمان ؛ لأنّه قلّ مورد لا يكون الزمان مأخوذا فيه بنحو القيدية ، بل يمكن أن يقال : ليس مورد يكون كذلك ، ولا إشكال في أنّ في الشرعيات يكون الزمان مأخوذا فيها بنحو القيدية فليس في هذا الاستصحاب أثر ، بل كما قاله النائيني رحمه‌الله يعود إشكال آخر على هذا ، وهو : أنّه بالاستصحاب يثبت شرط الوجوب ، والحال أنّه على ما ذكرنا لم يحصل قيد الواجب ، فالوجوب يكون فعلا ، وليس الواجب واجبا فعلا.

٣٩٨

اذا عرفت هذا فلا يرد اشكال ، ففي المقام قد يقال بأنّ استصحاب الزمان مثبت لوقوع الفعل المقيّد به في الزمان فإنّه ولو كان مثبتا إلّا أنّه حيث تكون الواسطة خفية فلا مانع من إثبات هذا القيد بالاستصحاب ، فيستراح من هذا الإشكال.

وأمّا مع عدم الالتزام بذلك كما لا يمكن الالتزام بهذا : فتارة يكون المشي طبق مبنى المحقق الخراساني رحمه‌الله وهو ما قال في باب الأجزاء من أنّ الاستصحاب كبعض اصول أخر يكون لسانه هو التوسعة في الواقع ، ففي المقام يكفي استصحاب الزمان لوقوع الفعل المقيّد به في هذا الزمان ، لأنّه كما لو تيقّنّا للوقت كان محرزا للشرط كذلك بعد جريان الاستصحاب يكون متيقّنا للوقت ، ويكون الوقت أعمّ من الواقع والظاهر على التوسعة.

ولو لم نقل بهذا كما أنّ الالتزام بذلك يكون مورد إشكال فلا بدّ بأن يقال : إمّا بعدم جريان الاستصحاب أصلا ، لعدم أثر لجريانه بعد عدم إثبات وقوع الفعل المقيد في هذا الزمان المستصحب ، وعدم مورد لا يكون الزمان فيه مأخوذا في شيء على نحو القيدية.

وإمّا أن يقال بأنّ بعد جريان الاستصحاب وإثبات بقاء الزمان يثبت كون الفعل المقيّد به واقعا فيه صونا للّغوية ؛ لأنّه بعد عموم أدلّة الاستصحاب وشموله للمورد فلو كان شاملا ولا يثبت هذا يكون لغوا ، فبالملازمة نكشف بأنّ الاستصحاب كما يثبت بقاء أصل الزمان كذلك يثبت بقاء الفعل المقيّد به ، كما قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله نظيره في الأمارات.

بل لو كان الإشكال في باب الأمارات بأنّ الدليل ليس إلّا العموم ويمكن تخصيصه في المورد ، ولا يمكن الإشكال في المقام ؛ لأنّ في المقام ورد دليل خاصّ على حجية الاستصحاب في هذا المورد ؛ لأنّ رواية القاساني وهي إحدى الروايات المتمسّك بها على الاستصحاب يكون موردها هو الصوم ، ولا إشكال في أنّ الصوم

٣٩٩

من الأفعال المقيّدة بالزمان ، فالحكم بالاستصحاب في هذا المورد شاهد على حجية الاستصحاب في أصل الزمان ، وإثبات وقوع الفعل المقيّد به في هذا الزمان ، واذا ورد دليل في خصوص الصوم فلا إشكال في صحة الالتزام بهذا الاستصحاب في كلّ مورد يكون كالصوم ؛ لعدم الفرق بينهما أصلا ، بل لا حاجة الى تنقيح المناط ، بل نقول بأنّه بعد ورود أخبار على حجّية الاستصحاب مطلقا ثمّ تطبيقه في رواية على مورد نفهم أنّ الاستصحاب حجة في كلّ ما يكون مثل هذا المورد ، فافهم.

أمّا الكلام في المورد الثاني ـ أعني في استصحاب الزمانيات ـ كالتكلّم أو جريان الماء فنقول بعونه تعالى : إنّ في هذا القسم يكون وحدتان :

الاولى : هي الوحدة التي تكون في حقيقة الزماني ، حيث إنّ الزماني ولو كان إذا وجد يكون له أجزاء وينعدم كل جزء ويوجد جزء آخر ولكن مع ذلك يكون بين هذه الأجزاء وحدة حقيقية لا اعتبارية ؛ لأنّ لها وجودا واحدا ، إذ الوجود التدريجي يكون له وجود واحد ، غاية الأمر يكون نحو وجوده هو التدرّج.

الثانية : هي الوحدة الاعتبارية التي تكون بين هذه الأجزاء المختلفة باعتبار معتبر لأجل غرض أو مقصد ، مثلا التكلّم يكون كذلك ، فمن كان متكلّما وإن كان كلّ كلمة من كلامه غير الاخرى وكلّما تنعدم كلمة تظهر اخرى مقامها إلّا أنّه حيث يكون التكلّم وجودا واحدا فيكون فيه وحدة حقيقية ، ويمكن أن يعتبر المعتبر أيضا بين هذه الكلمات حيث وحدة باعتبار غرض ، مثل كون كلّ منها دخيل في الثواب الكذائي ، فبهذا الاعتبار يعتبر فيها وحدة اعتبارية.

فعلى هذا في الزمانيات لا إشكال في جريان الاستصحاب باعتبار كلّ من الوحدتين ، لكن فيه شرط ، وهو : أن يكون لهذه الوحدة أثر وتكون هذه الوحدة مورد الأثر ، كما أنّ في الزمانيات يمكن أن يكون كلّ من الوحدتين المتقدّمتين مورد الأثر.

٤٠٠