المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

فبلفظ «أكرم» جعل الوجوب ، وبلفظ «إن جاءك» جعل السببية.

وتارة يجعل الوجوب مستقلا بجعلين ، فيقول : أكرم زيدا بعد مجيئه ، فيجعل الحكم التكليفي ويقول بعد ذلك بأنّه جعل مجيء زيد سببا لإكرامه.

وتارة يجعله لا مستقلا ، بل بتبع جعل شيء آخر ، ففي هذا القسم أيضا يكون مجعولا ، غاية الأمر لا بجعل مستقلّ بل تبعا ، فكلّ مورد كان فيه الجعل بهذه الأنحاء يكون مجعولا ، فالمنكر لجعل الأحكام الوضعية يقول بعدم الجعل بأحد هذه الانحاء ، فيكون النزاع في أنّ الأحكام الوضعية هل هي مجعولة بأحد هذه الأنحاء المتقدمة ، أم لا؟ فهذا محلّ النزاع في أنّ الأحكام الوضعية مجعولات شرعية أو غير مجعولة بل هي امور انتزاعية انتزعها العقل من منشأ انتزاعها؟

المقدمة الثانية : اعلم أنّ الكلام والنزاع يكون في الأحكام الوضعية فقط ، بمعنى النزاع في أنّها هل هي مجعولة أو منجعلة ، أي منتزعة؟ وأمّا الأحكام التكليفية فلا ترديد في كونها مجعولات شرعية ، سواء كان الحكم عبارة عن نفس الإرادة ، وحيث إنّه على مذهب الحكماء تكون الإرادة من صفات الذات ، فلو كان الحكم عبارة عن إرادته تعالى يلزم المحذور ، فلذا قال بعض بأنّ بالإلهام تنبعث الإرادة في النبي ، كما قال بذلك المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وأمّا على مذهب المتكلّمين القائلين بكون الإرادة هي العلم بالأصلح فلا مانع من كون إرادة الله تعالى هي الحكم ، وعلى كل تقدير يكون الحكم هو الإرادة ، أو يكون الحكم هو مقام إظهار الارادة.

أو يكون الحكم عبارة عن أمر اعتباريّ فيكون هو من الامور الاعتبارية التي اعتبرها الشارع ، وعلى كلّ تقدير يكون الحكم على كلّ هذه المباني من المجعولات الشرعية بلا ريب ولا نزاع ، وخلاف فيه.

ومنشأ توهّم كون هذا النزاع ـ أعني نزاع كون الأحكام الوضعية مجعولات أو منتزعات ـ جار في الأحكام التكليفية أيضا ليس إلّا ما رأوا من انتزاع الإرادة

٣٦١

من الحكم : ولا يخفى عليك أنّ محلّ الكلام ليس في هذا الانتزاع والحمل ، وإلّا فكلّ مفهوم يحمل على المصداق ، بل النزاع في أنّ الأحكام الوضعية هل هي مجعولات ، أو العقل ينتزعها عن منشأ انتزاعها ليست قابلة للحمل على منشأ انتزاعها ، فالسببية لا تحمل على «إن جاءك» في قولك : إن جاءك زيد فأكرمه ، فافهم.

المقدمة الثالثة : لا يخفى عليك أنّه قد ذكرنا مفصّلا في كتاب البيع أن كلّ مفهوم إمّا أن يكون من الامور الحقيقية ، وإما أن يكون من الامور الانتزاعية ، وإمّا أن يكون من الامور الاعتبارية.

أمّا الامور الحقيقية فهي أشياء يكون لها تأصّل في الخارج ، ولها في الخارج كون ما بحذاء ، وتوجد بالتكوين ، والمقولات العشر ، إلّا بعضها الذي هو مورد الاختلاف يكون من هذا القبيل.

وأمّا الامور الانتزاعية فهي امور ليس لها تأصّل وما بحذاء في الخارج ، نعم ، لو كانت منتزعة عن الامور الحقيقية يكون لمنشا انتزاعها تأصّل وما بحذاء في الخارج ، كالفوقية المنتزعة من الفوق ، وأمّا ما كان منها منتزعا عن الامور الاعتبارية فليس لمنشا انتزاعها أيضا تأصّل وما بحذاء في الخارج.

وأمّا الامور الاعتبارية فهي في مقابل الامور الحقيقية والانتزاعية ، وليس لها تأصّل ولا حذاء لها في الخارج ، بل ليس لها إلّا الاعتبار ، فالمعتبر لا يكون له ما بحذاء في الخارج ، ولا وعاء له أيضا كما توهّم بعض ، بل ليس إلّا صرف الاعتبار ، ومن هذا القبيل الأحكام التكليفية على القول بكونها امورا اعتبارية.

اذا عرفت ما قدّمناه لك فيكون النزاع في المقام هو : أنّ الأحكام التكليفية بعد ما قيل بعدم الإشكال في عدم كونها من الامور الحقيقية إلّا ما قيل في الطهارة والنجاسة من أنّهما من الامور الحقيقية ، والشرع حكمه صرف الكشف عمّا هما عليهما ، وعدم كونها من الامور الانتزاعية أيضا بل هي من الامور الاعتبارية فإنّ

٣٦٢

الأحكام الوضعية هل تكون من الامور الاعتبارية التي اعتبرها الشارع وتعلّق بها جعل الشارع؟ بمعنى أنّه كما جعل السورة واجبة يكون لها جعل آخر وهو جعل جزئية السورة ، أو ليس كذلك ، بل الشارع لم يجعل إلّا أحكاما تكليفية ، والعقل بعد ما رأى فيها الحيثية انتزع من هذه الحيثية شيئا فتكون الأحكام الوضعية من الامور الانتزاعية التي انتزعها العقل؟

المقدمة الرابعة : قد ظهر لك ممّا مرّ أنّ النزاع فيما نحن فيه يكون في الجعل ، بمعنى أنّ الجعل ـ أعني الإيجاد ـ هل تعلق بالأحكام الوضعية ، أم لا؟

وليس هذا النزاع مرتبطا بكون مفهوم الحكم الوضعي غير مفهوم الحكم التكليفي ، أو لا يكونان مغايرين حتى يقال بأنّه بعد كونهما مغايرين مفهوما فلا يمكن الانتزاع ؛ لأنّ النزاع ليس في المفهوم ، بل بعد عدم الإشكال في اختلافهما مفهوما فلا يكون مفهوم السببية متّحدا مع مفهوم التكليف بوجوب الإكرام ، وعلى تقدير المجيء يكون النزاع في أنّه هل الجعل تعلق بمفهوم الحكم التكليفي فقط والحكم الوضعي منتزع منه فلا يكون في البين إلّا جعل واحد ، أو يكون جعلان : أحدهما تعلق بالحكم التكليفي والآخر بالحكم الوضعي؟

وأيضا ليس النزاع فيما نحن فيه في لسان الدليل ، يعني أنّ من لسان الدليل هل يستفاد الحكم التكليفي والحكم الوضعي كليهما ، أو لا؟ لأنّه بعد عدم الإشكال في أنّ لسان الدليل مختلف فربّما يكون المستفاد من الدليل الحكم التكليفي كما يقول مثلا : يجب عليك الأداء كذلك ربّما يقول : أنت ضامن له ، وهذا الحكم الوضعي قد ورد نظائره في الفقه ، ولكن يكون النزاع في أنّ الجعل تعلق بالحكم الوضعي أيضا فيكون الدليل المتكفّل للحكم الوضعي في مقام بيان الحكم الوضعي ، أو ليس كذلك ، بل الجعل تعلق بالحكم التكليفي ، والدليل المستفاد منه الحكم الوضعي أيضا كان في مقام بيان ما يتبعه الحكم التكليفي ، وإلّا فأوّلا وبالذات كان الحكم هو الحكم التكليفي؟

٣٦٣

وربّما يتّفق استكشاف الحكم التكليفي من بيان الحكم الوضعي ، كما يتّفق بالعكس ، وهذا لا يضرّ بكون أحدهما منتزعا عن الآخر ، كما أنّه في التكوينات تارة يستكشف العلّة من المعلول ، أو بالعكس ، وصرف استكشاف العلّة من المعلول لا يضرّ بكونها علّة للمعلول ، فافهم.

وأيضا لا يخفى عليك بأنّه من يقول بكون الحكم الوضعي منتزعا من الحكم التكليفي لا يقول بأنّه يمكن انتزاع كلّ حكم وضعيّ من كلّ حكم تكليفي ، بل كما في التكوينات ترى أنّه لا يصحّ كون كلّ شيء علّة لكلّ شيء كذلك في المقام أيضا بعد ما كان الانتزاع عبارة عن كون هذا المفهوم المنتزع مطابقا مع الحيثية التي تكون في المنتزع منه فلا يمكن انتزاع كلّ شيء من كلّ شيء ، بل لا بدّ وأن يكون في الحكم التكليفي حيثية حتى يصحّ باعتبار هذه الحيثية انتزاع شيء منه ، مثلا من «يجب الإعادة» لا يمكن انتزاع الضمان ، بل يصحّ انتزاع الفساد ، وهكذا.

فعلى هذا قد ظهر لك أنّ النزاع ليس في ناحية المفهوم ، ولا في لسان الدليل ، ولا يكون المراد على القول بالانتزاعية صحة انتزاع كلّ شيء عن كلّ شيء ، ولو ترجع الى كلماتهم يكون غالب إيرادات الطرفين من باب خلط النزاع ، وتوهّم كون النزاع في ما قلنا ليس له وجه ، وظهر لك أنّ النزاع يكون في ناحية الجعل كما أسلفنا ذكره ، وممّا قلنا من أنّه لا يمكن انتزاع كلّ شيء عن كل شيء يظهر لك فساد ما استشكله السيد رحمه‌الله على كلام الشيخ رحمه‌الله في قاعدة اليد :

أمّا الشيخ رحمه‌الله فقال في المكاسب بما يرجع حاصل كلامه الى : أن بعد كون «على اليد» ظاهر في الحكم الوضعي لا التكليفي لأجل إسناد الظرف الى مال من الأموال فيتّجه صحة الاستدلال بخبر «على اليد» على ضمان الصغير والمجنون اذا لم تكن يدهما ضعيفة.

واستشكل عليه السيد رحمه‌الله بأنّه : أمّا أوّلا فهذا لا يتناسب مع عدم التزامه

٣٦٤

بالحكم الوضعي.

وثانيا : لو كان التكليف متوجّها الى الولي فيمكن الاستدلال مع إرادة الحكم التكليفي المتوجّه الى الولي.

أمّا بيان عدم ورود إشكال السيد رحمه‌الله على الشيخ رحمه‌الله فلأنّ الشيخ لم يقل بعدم الحكم الوضعي ، بل لو كان قائلا به فهو يقول بانتزاعيّة الحكم التكليفي ، ولو كان يقول بأنّه لا يمكن تعلّق الحكم التكليفي بالصغير والمجنون فليس في حال الصغر والجنون حكم تكليفيا حتى ينتزع منه الحكم الوضعي. فنقول بأنّه لا يلزم ذلك ، بل يكفي كون الحكم تكليفي ولو في زمان الكبر والعقل ، ولكن يكون هذا الحكم بحيث يمكن انتزاع الحكم الوضعي منه ، كما لو قيل : أيّها البالغ يجب عليك ردّ ما أخذت في حال صغرك ، فمن هذا ينتزع كونه ضامنا ، وانتزاعية الضمان في زمان الصغر يمكن أن يكون لها الأثر فعلا ، مثل أنّه يجب على وليّه ردّ ما أخذه الصغير ، أو ولو لم يكن له أثر فعلا لكن لا يلزم فعلية الأثر.

ولكن نحن لم نلتزم بصحة انتزاع الحكم الوضعي بمجرد كون الحكم تكليفيا ولو في غير زمان انتزاع الحكم الوضعي ؛ لأنّه لا بدّ وأن يكون المنتزع ومنشأ الانتزاع متّحد من حيث القوة والفعل.

وممّا قلنا يظهر لك جواب كلام ثان للسيد رحمه‌الله ، حيث قال بأنّه لو كان التكليف متوجّها الى الولي فيمكن الاستدلال به مع إرادة الحكم التكليفي المتوجّه الى الولي ، لأنّه قلنا بأنّه لا يصحّ انتزاع كلّ شيء من كلّ شيء ، بل لا بدّ وأن يكون في منشأ الانتزاع حيث يمكن باعتبار هذا الحيث الانتزاع ، فعلى هذا لا يصحّ من توجيه التكليف الى الولي انتزاع ضمان الصغير ؛ لأنّ حكم الولي لو لم يكن باعتبار كونه وليا بل كان باعتبار كونه فردا من الأفراد فلا يكون فيه الحيثية التي يصحّ انتزاع ضمان الصغير منها ، نعم ، لو كان باعتبار كونه وليا فيمكن انتزاع ضمان الصغير بهذا النحو

٣٦٥

من الحكم التكليفي. فظهر لك عدم ورود ما استشكله السيد رحمه‌الله في حاشيته على الشيخ رحمه‌الله.

ومن مطاوي كلماتنا يظهر لك أنّ بعض الإشكالات التي أوردها على القائلين بالانتزاعية غير واردة ، مثل ما استشكله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته على الشيخ رحمه‌الله ، حيث قال بأنّ في مورد الشكّ في الفسخ لو كان يصحّ انتزاع اللزوم من حرمة التصرف في ما انتقل عنه فنقول بصحة انتزاع اللزوم في الغصب أيضا من حرمة التصرف في ما انتقل عنه ، والحال أنّك لم تقل بهذا.

وجه عدم ورود الإشكال هو : ما قلنا من أنّه لا يقول القائل بانتزاعية الأحكام الوضعية بأنّه يصحّ انتزاع كلّ حكم وضعيّ من كلّ حكم تكليفي ، بل لا بدّ وأن يكون في منشأ الانتزاع جهة وحيث كي يمكن من هذا الحيث انتزاع الحكم الوضعي ، والسرّ في صحة انتزاع اللزوم في العقد وعدم صحته في الغصب هو هذا. وكذلك ما قاله مستشكلا على الشيخ رحمه‌الله من أنّه لو كان الحكم الوضعي منتزعا من الحكم التكليفي فلا بدّ وأن يكون في البين حكم تكليفي حتى يصحّ منه انتزاع الحكم الوضعي ، فما تقول في بعض الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي كي ينتزع منه مثل الحجية والطريقية فإنّه لا يوجد حكم تكليفي في البين حتى ينتزع منه الحجية والطريقية ليس في محله.

إذ نقول في الجواب أولا نقضا : إنّه على القول بكون الحكم الوضعي مجعولا ولكن لا بد وأن يكون في مورده حكم تكليفي ، وإلّا لا معنى لجعل الحكم الوضعي ، فالحجية والطريقية على القول بكونهما مجعولين فما هو الحكم التكليفي في موردهما؟

وثانيا : أنّ معنى الحجية والطريقية وأثرهما هو الجري على طبقهما والبناء عملا عليهما ، وهذا حكم تكليفي فيمكن انتزاع الحجية والطريقية من هذا الحكم التكليفي ، فلا يرد إيراده.

٣٦٦

ثمّ إنّه لا يخفى عليك بأنّ هذا الكلام ـ أعني كون الحكم الوضعي مجعولا أو منتزعا ـ ليس له اختصاص بشرعنا ، بل يجري في غير شرعنا أيضا ، وحتى عند العرف مع قطع النظر عن الشرع ، ولو رأينا كونه متداولا عند العرف أيضا فإمّا أن يكون مجعولا أو منتزعا ، فلو كان مجعولا وتكون انتزاعيته محالا فلا يمكن أن ينتزعه العرف من أمر مجعول ، لأنّه كيف يمكن للعرف الإقدام على أمر محال؟ أو لو فرض كونه منتزعا ومجعوليته كانت محالا فليس للعرف أيضا الذهاب الى مجعوليته بعد استحالته.

فظهر لك من هذا البيان فساد كلام النائيني رحمه‌الله ، حيث قال بأنّ في الامور التي أمضاها الشرع وليس من مجعولاته لا معنى لكونها منتزعة كالزوجيّة والملكية والرقّية والحرية ؛ لأنّها من اعتبارات العرف ، فتكون من الامور الاعتبارية ، لا من الامور الانتزاعية ؛ لأنّه لو فرض كون مجعوليتها محالا فكيف يعتبرها العرف؟ فافهم.

المقدمة الخامسة : لا يخفى عليك أنّه كما قلنا سابقا في مطاوي كلماتنا : يكون الجعل على أنحاء :

الأول : الجعل بالأصالة أعني الجعل الأصلي ، وهو : أن يجعل شيئا بالأصالة والاستقلال ، مثل أن يقول : جعلت الشيء الفلانيّ طريقا.

الثاني : الجعل بالتبع ، أعني الجعل التبعي ، وهو عبارة عن جعل شيء بتبع شيء آخر ، بأن يجعل شيئا بالأصالة وبتبعه يجعل شيئا آخر ، وهذا أيضا جعل ، ويكون الشيء الآخر مجعولا ، غاية الأمر بالتبع ، مثل جعل وجوب المقدمة فهو مجعول لكن بتبع جعل ذي المقدمة.

الثالث : الجعل بالعرض ، وهو أن يجعل شيئا فمن جعله بالعرض يستند الى شيء آخر أنّه مجعول ، وفي هذا القسم ليس الشيء الآخر حقيقة ولا تبعا مجعولا ، بل لا يتعلق به جعل أصلا ، غاية الأمر بلحاظ الشيء المجعول حيث ينتزع منه هذا

٣٦٧

الشيء يستند اليه الجعل بالعرض ، فالشيء المنتزع من الأمر المجعول ليس مجعولا ، وإسناد الجعل اليه لا يكون إلّا بالعرض. وفي المقام من يقول بكون الأحكام الوضعية منتزعات من الامور المجعولة ـ أعني التكاليف ـ يقول بعدم تعلق الجعل بالأحكام الوضعية لا أصالة ولا تبعا ، فهي ليست مجعولة لا بالجعل الأصلي ولا التبعي ، وهذا التقسيم الذي ذكرناه هو في اصطلاح الاصوليين ، وإلّا فعند الحكماء وبحسب اصطلاحهم ليس الجعل إلّا قسمين :

الأول : الجعل الأصلي.

الثاني : الجعل بالأصالة وبالتبع ، فالجعل بالتبع وبالعرض عندهم قسم واحد.

اذا عرفت هذا فاعلم : أنّ كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام يكون بحسب الظاهر موردا للإشكال ، إلّا أن يوجّه كلامه.

أمّا كلامه فهو قال : (والتحقيق : أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء : منها ما لا يكاد يتطرّق اليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه ، كذلك منها ما لا يكاد يتطرّق اليه الجعل التشريعي إلّا تبعا للتكليف ... الى آخره).

فهذا الكلام بحسب ظاهره غير صحيح ، إذ بعد عدم كون قسم الأول مجعولا لا استقلالا ولا تبعا ، بل مجعولا بالعرض فالقسم الثاني أيضا يكون كذلك على ما يقول بعد ذلك في شرحه ، ويقول بأنّه منتزع ، فما الفرق بين القسمين؟ ولم جعل كلّا منهما قسيما للآخر مع عدم فرق بينهما؟

وإنه لو كان مشيه على الاصطلاح الاصولي فلم قال في القسم الثاني بأنّه مجعول تبعا للتكليف ، والحال على ما يقول بعد ذلك : هو منتزع فيكون هو مجعول بالعرض لا بالتبع؟ وإن كان مشيه على طبق الاصطلاح الحكمي فلم قال في القسم الأول بأنّه ليس مجعولا لا استقلالا ولا تبعا بل هو مجعول عرضا؟

٣٦٨

ولكن يمكن توجيه كلامه بأن يقال : إنّ نظره الى الاصطلاح الحكمي ، ولكن جعل القسمين قسمين لا قسما واحدا إنّما هو لأجل أنّ القسم الأول ليس مجعولا استقلالا ، ولا مجعولا بالتبع والعرض بجعل التكليف ، بل هو مجعول تكوينا عرضا ، فهو مجعول بعرض ما حصل تكوينا.

وأمّا القسم الثاني فهو وإن لم يكن مجعولا لا استقلالا ولا تبعا ولكنّه مجعول بالعرض الى التكليف ، بمعنى أنّه منتزع عن التكليف ، والقسم الأول منتزع عن التكوين ، فلهذا يكون الفرق بينهما ، فجعل كلّ واحد منهما قسما على حدة. وعلى كلّ حال ظهر لك أنّ الجعل باصطلاحنا على ثلاثة أقسام.

اذا عرفت ما بينّا لك من المقدمات فنشرع بعون الله تعالى في أصل المطلب ، فنقول بأنّه كما قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : يكون الجعل على أقسام :

القسم الأوّل : وهو ما ليس قابلا للجعل التشريعي لا استقلالا ولا تبعا للتكليف ، بل يكون مجعولا تكوينا عرضا ، ويكون من هذا القسم السببية والشرطية والرافعية والمانعية لما هو سبب أو شرط أو رافع أو مانع للتكليف ، وأقام على هذا المدّعى دليلين :

الدليل الأوّل : بأنّه بعد عدم الإشكال في أنّ الأمر الانتزاعي لا بد من تأخره بحسب الرتبة عن المنتزع عنه ، فما هو سبب للتكليف أو شرط له أو رافع أو مانع له كيف يمكن انتزاعها من التكليف المتأخر عنها رتبة ويكون نسبتها كنسبة العلّة الى المعلول بالنسبة الى التكليف؟ لأنّها من أجزاء العلة فكيف ينتزع من المعلول المتأخر عنها؟ وليس هذا إلّا الدور ، لأنّه لا بدّ من أن يكون التكليف متأخرا عنها من حيث إنها بالنسبة اليه من أجزاء العلة ، ويكون التكليف مقدما عليها من حيث إنّها منتزعة منه ، وكذلك فيها فإنّها لا بدّ وأن تكون مقدمة على التكليف من حيث كونها سببا أو شرطا أو رافعا أو مانعا ولا بد أن تكون متأخّرة عن التكليف من حيث

٣٦٩

كونها منتزعة عن التكليف ، وهذا دور واضح.

الدليل الثاني : أنّه بعد بداهة لا بدّيّة ربط خاصّ بين العلة والمعلول ، بمعنى أن يكون في العلّة الحيثية التي يتولّد منها المعلول ، وإلّا لو لم يلزم ذلك فيلزم أن يمكن أن يكون كلّ شيء علّة لكلّ شيء ، فعلى هذا لو كان في السبب هذه الحيثية التي يتولّد منها المسبّب فيمكن أن يكون سببا له ، وإن لم يكن هذه الحيثية فلا يصير سببا له ، وجعل الشارع وعدم جعله لا تأثير له ؛ لأنّه لو كان فيه هذه الحيثية فيصير سببا ولو لم يجعله الشارع سببا ، ولو لم يكن فيه هذه الحيثية فلا يصير سببا ولو يجعله الشارع سببا ، مثلا دلوك الشمس لو كان فيه تكوينا سبب لوجوب الصلاة لأجل ما فيه من الخصوصية فلو لم يجعله الشارع سببا يكون سببا ، ولو فرض أنّه لم يكن فيه الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا فحتى لو جعله الشارع سببا لا يصير سببا.

فظهر لك أنّ السببية والشرطية والمانعية والرافعية للتكليف لا تكون مجعولة استقلالا ولا تبعا ، ولا منتزعة من التكليف ؛ لما قلنا ، بل هي منتزعة تكوينا ؛ لأنّه بعد ما كان في السبب خصوصية صيرورته سببا وكذلك في أخواتها فالعقل ينتزع السببية وأخواتها من هذا التكوين.

ولكن لا يخفى عليك أنّ ما قاله هذا المحقّق صحيح ، ونحن أيضا متّفقون معه في التكوينيّات ، ولكنّ فيه : أنّ هذا لم يكن مرتبطا بما نحن فيه أصلا ؛ لأنّ كلامنا كان في أنّ الأحكام الوضعية هل هي منتزعات أو مجعولات وقلنا بأنّ مرادنا من الحكم هو المحمول الذي يحمل على الموضوع من ناحية دخل الشارع ، بحيث إنّه لو لم يكن الشارع لا تحمل هذه المحمولات على الموضوعات ، سواء كان دخل الشارع دخلا تأسيسيا ، أو إمضائيا ، وقلنا بأنّ النزاع يكون في أنّ الأحكام الوضعية مجعولات كالأحكام التكليفية ، أو منتزعات من التكاليف ، فعلى هذا أنّ ما قاله لا ربط له في المقام أصلا ، بل نزاعنا في أنّه بعد كون الأحكام التكليفية ليست من الامور الحقيقية

٣٧٠

إلّا ما قيل في النجاسة والطهارة ، وليست من الامور الانتزاعية فهل تكون الأحكام الوضعية أيضا كذلك ، أو تكون من الأمور الانتزاعية؟ فعلى هذا لو قلنا بمجعولية الأحكام الوضعية فالسببية والشرطية والرافعية والمانعية لما هو سبب أو شرط أو رافع أو مانع للتكليف تكون بنفسها مجعولة ، فلا يرد ما قاله أوّلا ، ولا ما قاله ثانيا ، لأنّ هذا في الامور التكوينية ، وأمّا في الاعتباريات فلا تجري هذه المقالات.

وإن قلنا بكونها منتزعة من التكليف فالسببية وأخواتها تنتزع من التكليف بعد التكليف ولو كان سببا أو شرطا أو رافعا أو مانعا للتكليف ؛ لأنّ السببية وأخواتها ينتزعها العقل من التكاليف.

فعلى هذا لا بدّ من قطع النظر عما قاله ، ولا بدّ من البحث في أنّها مجعولات أو منتزعات ، ولا يخفى عليك أنّ اشتباه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام هو ما قلنا ، لا ما قاله بعض من أنّه خلط بين علل التشريع وموضوعات الأحكام.

لأنّ علل التشريع عبارة عن العلل الغائية ، والعلل الغائية تكون بحسب الرتبة متأخّرة عن معلولات العلل الفاعلية ؛ لأنّ بعد وجود معلول العلّة الفاعلية تترتّب العلّة الغائية ، فالعلّة الغائية تكون في الرتبة متأخرة عن العلة الفاعلية ومعلولها ، ولهذا تسمّى بالعلّة الغائية ، ونظر المحقّق الخراساني رحمه‌الله يكون الى العلّة الفاعلية ، وما هو سبب أو شرط لمعلولها فلم يكن خلطه في هذا ، بل كان خلطه هو ما قلنا من أنّه خلط الأسباب التكوينية بالتشريعية ، فافهم.

ثمّ إنّه بعد عدم ارتباط كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله بالمقام فيقع الكلام في أنّه بعد وضوح كون الأحكام الوضعية محمولات تعرض للموضوعات باعتبار الشرع بحيث لو لم يكن الشرع لم تعرض هذه المحمولات للموضوعات في أنّه هل هذه الأحكام المتقدمة السببية وأخواتها مجعولات ، أو منتزعات؟ فنقول أولا ما يحتمل في الباب ، ثم بعد ذلك نقول ما هو حقّ في المقام.

٣٧١

الاحتمال الأول : وهو الذي يظهر من ذيل كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام أيضا هو : أنّ السبب ليس سببا حقيقة ، وليس فيه تأثير ولا تأثّر ، وليس فيه الحيثية التي كانت سببا ، وما حصل ليس علة وسببا حقيقيا ، بل ليس له دخل في الوجوب أصلا ، بل من باب الاتّفاق صار مقارنا مع الوجوب ، وإلّا ليس له دخل في الوجوب ، وإطلاق السبب عليه يكون لأجل مقارنته مع الوجوب ، وإلّا فهو ليس سببا حقيقيا ، وهذا هو معنى أنّ أداة الشرط وما يعقبها هل هو شرط وسبب حقيقة ، أو ليس كذلك ، بل الشارع أوجب الشيء عنده ومقارنا له ، لا أن يكون فيه تأثير في الوجوب؟ وهذا معنى ما يكون في بعض الكلمات من أنّ الأسباب الشرعية معرّفات ، فالاختلاف في أنّ الأسباب الشرعية معرّفات أو أسباب يكون معنى كونها أسباب هو أنّ فيها تأثيرا في المسببات ، ومعنى كونها معرّفات أنّه ليس فيها تأثير وعلّية أصلا.

وعلى هذا القول تكون الأسباب الشرعية معرّفات ليس لازمه هو عدم مفهوم للقضية الشرطية ، بل يجري النزاع مع ذلك في أنّه هل هذا معرّف فقط بحيث يستفاد منه المفهوم ، أم لا؟ فللقائل بالمفهوم مع التزامه بكون الأسباب الشرعية معرّفات أن يقول بأنّ بعد كون الشيء الفلاني معرّفا فمعه يكون المعرّف ـ بالفتح ـ الوجوب وبانتفاء المعرّف ليس وجوب ، فافهم.

الاحتمال الثاني : وهو أنّ السببية سببية حقيقية ، ولكن حيث إنّه لا بدّ في تأثير العلّة في المعلول وتأثّر المعلول به هو أن يكون بينهما السنخية ، فعلى هذا بعد ما يكون المسبب أمرا اعتباريا وليس من الامور الحقيقية فلا بدّ وأن يكون السبب أيضا سببا اعتباريا حتى يكون بين العلة والمعلول السنخية ، فالسببية تكون سببية اعتبارية ، فعلى هذا الاحتمال لا ينفي العلّية والمعلولية والتأثير والتأثر ، بل السببية سببية حقيقية ولكن اعتبارا لأجل أنّ سببها يكون من الامور الاعتبارية.

٣٧٢

وبهذا التقريب لا يرد إشكال النائيني رحمه‌الله من أنّ السببية انتزاعية وليست مجعولة وما كانت قابلة للجعل ؛ لأنّ السببية عبارة عن رشح ، والإضافة التي تأتي فهي من الجهة التكوينية ، وليس هذا من ناحية جعل الشارع ؛ لأنّه بعد كون سببيته سببية اعتبارية نزّلها الشارع اعتبارا منزلة السبب فلا مانع من جعله ، ولكن لا يمكن الذهاب الى هذا الاحتمال ، لأنّ معنى كون السببية سببية اعتبارية وتعلّق بها الاعتبار إن كان معناه أنّ اعتبار السبب يكفي في اعتبار المسبّب كما لو اعتبر الدلوك سببا يكفي اعتباره عن اعتبار وجوب الصلاة ، أو لو اعتبر «بعت» سببا للملك يكفي اعتباره عن اعتبار الملكية فيكون لازم ذلك هو أن لا يكون الوجوب وكذا اعتبار الملكية تحت اختيار الشارع ، ويلزم أن لا يكون الوجوب مستندا اليه ، وهذا واضح الفساد.

وإن كان معناه أنّه يكون اعتبارين وجعلين : أحدهما متعلقا بالسبب ، والآخر بالمسبب ، بمعنى أنّ الشارع اعتبر الدلوك واعتبر وجوب الصلاة أيضا ، فيكون لازم ذلك عدم كون السبب سببا ؛ لأنّه لو كان سببا فلا بدّ من ترتّب مسبّبه عليه ولا حاجة الى اعتبار آخر ، بل جعل المسبّب مغن عنه ، فهذا شاهد على أنّ الشارع لم يعتبر السبب ولم يجعله ، بل فعله ليس إلّا صرف الوجوب عنده ومقارنا له.

الاحتمال الثالث : وقد يقال فرارا عن الإشكال المتقدم في الاحتمال الثاني : بأنّ الشارع جعل السبب سببا لنفس الاعتبار لا للمعتبر ، بمعنى أنّ السبب اذا وجد يعتبر الشارع وجوب الفلاني أو الملكية ، فالسبب سبب لنفس اعتبار الشارع ، وبهذا الوجه لا يرد الإشكال المتقدم ، إذ لا يكون سببا للمعتبر حتى يقال تارة بأنّه لو كان جعلين فلا معنى لسببيته ، ولو كان جعل واحد فالمسبب ليس فعل الشارع ، لأنّه لم يقل بأنّه سبب للمعتبر ، بل هو سبب لنفس الاعتبار.

لكن مع ذلك يرد عليه اشكال آخر ، وهو : أنّه بعد ما قلنا في مطاوي كلماتنا

٣٧٣

من أنّ المعتبر يكون اعتباريّا ووجوده وجود الاعتباري ، وأمّا نفس الاعتبار فليس بكذلك ، بل له وجود حقيقي فعلى هذا كيف يصير سبب الاعتباري سببا لأمر حقيقي؟

الاحتمال الرابع : وهو أنّ السببية لم تكن كذلك ، بل بعد تعلق الجعل بالمسبّب عنده والشارع طلب الوجوب في هذا الحال فالعقل من هذه الخصوصية ينتزع السببية ، مثلا بعد وجوب الصلاة عند دلوك الشمس فلأجل هذه الخصوصية التي حصلت للدلوك من ناحية الشرع ينتزع العقل السببية ، فعلى هذا تكون السببية مجعولة بالعرض ، أي مجعولة بالمعنى الثابت الذي قلناه سابقا من تعلّق الجعل بشيء ينتزع العقل السببية منه لأجل الخصوصية ، فبهذا الاعتبار يستند اليه الجعل ويقال : هي مجعولة بالعرض ، وهذه الخصوصية التي انتزع العقل منها السببية تكون من أجل حكم الشارع ، لا لأجل ما في السبب تكوينا ؛ لأنّ صرف اختصاص الشارع حكمه بهذا الحال خصوصية بعد تعلق الوجوب وجعل الوجوب عند الدلوك ـ مثلا ـ فالدلوك ولو كان باقيا عمّا هو عليه تكوينا ولكن مع ذلك لأجل هذا الحكم يقع فيه خصوصية ، ولا إشكال بأنّ دلوك الشمس بعد جعل الوجوب عنده يكون بينه وبين دلوك القمر فرق ، وهذا الفرق جاء من ناحية الشرع ، وهذا الفرق يكفي في إيجاد الخصوصية ، فالعقل لأجل هذه الخصوصية ينتزع السببية ، وهذا الاحتمال وإن كان ظاهره هو انتزاعية السببية لكن لو حاسب لبّه لم يكن كذلك ، لأنّه بعد ما لم يكن في السبب خصوصية حقيقية فكيف يصحّ الانتزاع؟ فهذا أيضا معنى كون الوجوب عنده ومقارنا له ، فالحقّ هو الاحتمال الأول.

القسم الثاني : وهو الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية للمكلف به ، فلا إشكال في أنّ كلّا منها منتزعات ، بمعنى أنّه بعد ما أوجب شيئان معا فيكون وحدة بينهما ، ويكون المركّب عبارة عنهما ، فالعقل بعد ما يرى بأنّ في كلّ منهما خصوصية

٣٧٤

ودخل في المركّب فينتزع الجزئية ، فعلى هذا ليست الجزئية وأخواتها مجعولة من الشارع لا أصلا ولا تبعا ، بل هي مجعولات عرضا بجعل منشأ انتزاعها ، فالشارع بعد جعل وجوب السورة ـ مثلا ـ وجعل أشياء أخر فحيث يظهر بينها جهة وحدة إمّا لأجل دخلها في غرض واحد فبهذا الاعتبار يكون واحدا ، أو باعتبار كونها ذات دخل في مصلحة واحدة أو غير ذلك فبهذا الاعتبار بينها جهة الوحدة ، فبعد ما رأى العقل أنّ بينها جهة وحدة وكلّ من هذه الأشياء له مدخلية في هذه الوحدة فبهذا الاعتبار ينتزع العقل من كلّ منهما الجزئية ، فليست الجزئية مجعولة من الشارع إلّا بتبع منشأ انتزاعها ، أعني الجزء ، وهكذا الكلام في الشرطية والمانعية والقاطعية ، ولأجل كونها منتزعات ترى أنّ في البراءة لا يتعلق الرفع بها ، بل معنى رفعها رفع منشأ انتزاعها ، وكذلك في الاستصحاب لو يجري فإنّه يجري في منشأ الانتزاع لا فيها ، وليس السرّ في ذلك إلّا ما قلنا من كونها منتزعات ، ولكنّ كلّ هذه الأقسام الأربعة المتقدمة منتزعات من الخصوصية التي جاءت من قبل الشارع ، ولذا نقول بأنّها مجعولات بالعرض بجعل منشأ انتزاعها.

ثمّ إنّ الصحة والفساد أيضا مجعولان بهذا المعنى ، أعني بجعل منشأ انتزاعهما ، وهما من الأحكام الوضعية ؛ لأنّه قلنا بأنّ المحمولات التي تعرض للموضوعات لو كانت بحيث لو لم يكن الشارع لم تحمل على الموضوعات فهي عبارة عن الأحكام والصحة والفساد كذلك ، فلو لم يكن حكم الشارع بالصلاة ـ مثلا ـ فكيف ينتزع الصحة أو الفساد؟ وحيث ليستا من الأحكام الخمسة فتكونان من الأحكام الوضعية ، وليستا مجعولتين بالأصالة ولا بالتبع ، بل هما مجعولتان بالعرض ، بمعنى أنّ العقل ينتزع منهما الصحة أو الفساد ، ولكنّ الفرق بينهما وبين الجزئية وأخواتها هو : أنّ الجزئية واخواتها منتزعات من خصوصية حكم الشارع ، بمعنى أنّه بعد حكم الشارع يحدث فيها خصوصية ، والعقل بهذا الاعتبار ينتزع الجزئية وأخواتها.

٣٧٥

وأمّا في الصحة والفساد فبناء على كونهما عبارة عن موافقة الامر وعدم موافقته كما فسّرها المتكلّمون فالشارع بعد وجوب الشيء لو أتى به المكلف ينتزع العقل الصحة من فعله ، والمطابقة وعدمها ليس وظيفة الشرع ، فالعقل ينتزع هذا من فعل المكلف ، مثلا بعد وجوب الحجّ لو أتى به المكلف عمّا هو عليه فالعقل حيث يرى أنّ هذا الفعل الخارجي صار موافقا مع المأمور به فباعتبار مطابقة هذا مع المأمور به ينتزع منه الصحة ، وكذلك الأمر في الصحة والفساد ، فالصحة والفساد منتزعان عن الخصوصية التي تكون في فعل المكلف ، ولكن مع ذلك تكونان من الأحكام الوضعية ومجعولتان بالعرض ؛ لأنّه لو لم يكن حكم الشارع فلا معنى للصحة والفساد ؛ لأنّه لم يكن أمر حتى اذا أتى به موافقا ينتزع منه الصحة أو غير موافق فينتزع منه الفساد ، فالفرق بين الجزئية وأخواتها وبين الصحة والفساد هو ما قلنا من أنّ الجزئية وأخواتها منتزعات من خصوصية نفس حكم الشارع ، سواء أتى به المكلف أم لا ، فبعد حكم الشارع بوجوب السورة في الصلاة ـ مثلا ـ انتزع الجزئية ، سواء أتى بها المكلف أو لا ، وهذا بخلاف الصحة والفساد فهما منتزعان عن خصوصية فعل المكلف بحيث ما لم يأت به المكلف لا معنى لانتزاع الصحة أو الفساد ، فافهم.

وكذلك على تفسير الصحة بإسقاط القضاء والفساد بعدم إسقاط القضاء باصطلاح الفقه ؛ لأنّه لا إشكال في أنّ الفعل بعد وقوعه في الخارج لو كان موافقا لما امر به فيسقط قضاؤه ، فأيضا العقل بعد ما يرى أنّ الفعل وقع في الخارج عمّا هو عليه فيكون مسقطا للقضاء ، فعلى هذا الصحة والفساد انتزعا عن حيث هذا الفعل الخارجي ، فبعد إتيان المكلّف بالحجّ ووقوعه في الخارج عمّا هو عليه فيسقط القضاء عنه فينتزع الصحّة ، فالعقل ينتزع الصحة من فعل المكلف الحجّ في الخارج ، وكذلك في الفساد ، فالصحة كما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله هي التمامية ، والتعبير بها بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء إنّما هو لأجل ما يرغب منه من الآثار التي بالقياس اليهما متّصف بالتمامية ، فعلى كلّ حال تمامية هذا الشيء تكون بحصول هذا الشيء المنتزع

٣٧٦

منه الصحة.

وأمّا الصحة في المعاملات ، وهي عبارة عن ترتيب الأثر فالأثر مجعول ، وأمّا أنّه هو السبب لهذا الأثر فقد مرّ الكلام فيه ، وأنّه مجعول أو منتزع؟ وأمّا الكلام في الصحة والفساد وكون هذا العقد ـ مثلا ـ صحيحا أو فاسدا فهو يكون بعد تسليم أنّ العقد ـ مثلا ـ يترتب عليه الملكية ، فلو وقع عقد في الخارج فيشكّ في أنّه هل هو سبب بمعنى أنّه واجد لتمام ما يعتبر فيه ، أم لا؟ فلو كان واجدا يترتّب عليه الأثر ، وإلّا فلا يترتّب الأثر عليه ، وهو عبارة عن الصحة ، وعدم ترتّب الأثر يعني الفساد ، وهما يترتّبان على الفعل الخارجي فينتزع العقل الصحة أو الفساد من هذا الفعل الخارجي ، فلو أنشأ زيد عقدا ـ مثلا ـ فشك في أنّه هل يترتّب عليه الالتزام؟ لا بمعنى أنّه هل يكون صحيحا أو فاسدا؟ فالصحة والفساد ينتزعان من الحيث الذي يكون في هذا العقد الذي أوقعه زيد ، فالصحة والفساد منتزعان من حيث الفعل الخارجي ، لا من حكم الشارع ، فتدبّر.

القسم الثالث : فهو كالقضاء والولاية والنيابة والحرّية والرقّية والزوجية والملكية ، الى غير ذلك ، فإنّها بعد ما نرى فيها من عدم خصوصية تكوينية في منشئاتها التي تنتزع عنها هذه الامور ، بل نرى في القضاء ـ مثلا ـ أنّ الشخص القاضي بصيرورته قاضيا لم يحدث فيه شيء تكوينا وليس فيه خصوصية في الوجود الخارجي ، بل هو باق بما كان قبل ذلك ، وكذلك في الزوجية فإنّ زيدا بعد صيرورته زوجا لهند ـ مثلا ـ فهو باق على الخصوصية التي كانت قبل ذلك ، وكذلك هند فبعد عدم كون خصوصية فيها تكوينا فلا يمكن الالتزام بأنّ هذه الامور منتزعة عن الخصوصية التكوينية ، ولكن مع قطع النظر عن كون هذه الامور من الامور التي تعلّق بها الاعتبار فيمكن أن يقال بأنّ مجرد حكم الشارع بالخصوصية التي يمكن انتزاع هذه الامور منها فبعد حكم الشارع ـ مثلا ـ بجواز النظر الى هذه المرأة بعد قول لفظ «زوّجت» فلا إشكال في أن لا يقع فرق بين الخصوصيات التكوينية لهذا

٣٧٧

القائل «زوجت» وهذه المرأة ، ولكن مع ذلك لا إشكال بأنّ بينهما يقع بعد ذلك الخصوصية التي ليس بينهما وبين غيرهما ، فبصرف جواز نظر كلّ منهما الى الآخر يوجد فيهما الحيث الذي ليس في غيرهما ، ومن الواضح بأن هذه المرأة ليس فيها تفاوت بينها وبين سائر النساء ، وكذلك بين الزوج وسائر الرجال ، فلا مانع من أن ينتزع العقل من هذه الخصوصية التي جاءت من قبل الشارع الزوجية ؛ وكذلك في القضاء وغيره ، فيمكن انتزاع القضاء من أمر الشارع بالرجوع اليه ، فعلى هذا تكون الانتزاعية معنى معقولا في هذه الامور ، فمع قطع النظر عن كون هذه الامور بنفسها مجعولات من الشارع يمكن أن يقال بكونها امورا منتزعة ويكون كلاما معقولا.

ولا وجه لأن يقال بأنّ هذه الامور تكون ولو عند غير المتديّنين ، فلا معنى لكونها منتزعات من حكم الشارع ؛ لأنّه كما قلنا في بعض المقدمات : ليس النزاع في كون الأحكام الوضعية مجعولات أو منتزعات مختصّة بشرعنا بالمجعولات التأسيسية للشارع ، بل يعمّ غير شرعنا ، فعند عرف غير المتديّنين أيضا حدود وتكاليف وأحكام ، مثلا لا يجوز لهم النظر أو وطي كلّ أحد ، أو إطاعة كلّ أحد ، أو حرّية كل أحد وهكذا هذه الاحكام تكون في بعض الموارد ، فيمكن أن يقال بأنّ هذه الامور منتزعات من الأحكام ، والشارع أيضا أمضى طريقة العرف فيكون من مجعولاته الإمضائية.

نعم ، بعد ما فهمت من عدم استحالة كون هذه الامور من الامور الانتزاعية ينبغي التكلّم في أنّ هذه الامور هل تكون من الامور الانتزاعية أو مجعولات كالأحكام التكليفية ، بمعنى أنّ الجعل تعلق بهذه الامور؟

فنقول بعونه تعالى : إنّه من الواضح أنّ في العالم عند العرف والعقلاء مفاهيم تكون اعتبارية في مقابل الموجودات الحقيقية والانتزاعية ، ومنشأ الأثر عندهم ويرتّبون عليها الآثار ، حتى أنّ هذه الامور الاعتبارية متداولة عند الصبيان ، مثلا :

٣٧٨

أنّهم يجعلون أحدا بالاعتبار سلطانا وأحدا وزيرا وأحدا سارقا في مقام اللعب ويرتبون على كلّ منها آثارا ، فلا إشكال في اعتبارية بعض الأشياء وكونها موجودة في عالم الاعتبار ، وهذه المفاهيم في مقابل المفاهيم الحقيقية والانتزاعية ، وقد بسّطنا الكلام في ذلك في أول البيع ، فعلى هذا لا إشكال بأنّ هذه الامور ـ أعني القضاء وأخواته ـ عند العرف امور اعتبارية ، بمعنى أنّه باعتبار الآثار حتى يكون الاعتبار عقلائيّا ويقرّون هذه الامور ، وتكون الزوجية ـ مثلا ـ مورد اعتبارهم.

اذا عرفت ذلك فنقول : إنّه لا إشكال في معقولية كون القضاء وأخواته امورا منتزعة من التكاليف كما قدّمنا الكلام فيه ، ولا وجه لإشكال المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث قال : لا معنى لانتزاع الملكية من إباحة التصرف ؛ لأنّه ثبّتنا معقوليته ، وكذلك لا إشكال في معقولية كونها مجعولة وأن تكون بنفسها مورد اعتبار الشارع ، كالأحكام التكليفية ، فاذا كان كلاهما معقولين فنقول : إنّه بعد مساعدة العرف على كون هذه الامور بنفسها موردا للاعتبار ، وبمراجعة الأدلة الشرعية يظهر أنّ هذه الامور أمور تعلّق بها الجعل ، لا أن تكون منتزعات من الأحكام التكليفية كما في قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فإنّ الحلّية تعلّقت على نفس الأزواج وملك اليمين ولم تتعلّق على شيء آخر ، والعقل انتزع منه الزوجية ، وكذلك قول المعصوم في ذيل الخبر : «جعلته قاضيا» ، فالجعل تعلق بنفس القضاء لا بأمر آخر ، ويكون القضاء منتزعا عنها ، فظهر لك أنّ هذا القسم من الأحكام الوضعية مجعولات ، فافهم.

إذا عرفت ما هو الحقّ في المقام فاعلم أنّ لهذا النزاع ـ أعني النزاع في كون الأحكام الوضعية مجعولات أو منتزعات ـ ثمرات مهمّة كثيرة في الفقه ، ليس هنا مجال التعرض لكلّ هذه الثمرات ، ونكتفي هنا بذكر بعض الثمرات ، فنقول بعونه تعالى :

من الثمرات هو : الاستصحاب ، فلو قلنا بكون الأحكام الوضعية مجعولات

٣٧٩

فيجري الاستصحاب في نفسها ، مثلا سابقا كانت الملكية مجعولة ، ففي الزمان الثاني يشكّ في أنّ الملكية مجعولة وجعلها باق أم لا؟ فيستصحب الملكية نفسها لتعلّق الجعل بها. وأمّا لو كانت الأحكام الوضعية انتزاعية فمع الشكّ في منشأ الانتزاع لا ينتزعها العقل ، ولا مجال لاستصحابها ، ولكن يمكن استصحاب منشأ انتزاعها ، فاذا استصحب ذلك فبعد الاستصحاب ينتزع العقل أيضا ، ففي الأول يمكن استصحاب نفس الحكم الوضعي ، وفي الثاني لا مجال لاستصحابه ، بل يستصحب منشأ انتزاعه ، فينتزع العقل الحكم الوضعي بعد الاستصحاب.

ومن الثمرات هو : أنّه لو قلنا بكون الأحكام الوضعية مجعولات ففي الدوران بين الأقلّ والأكثر لو شكّ في جزئية شيء يحتاج الى جريان البراءة ، بل ولو قلنا بالاشتغال في الأقلّ والأكثر مع ذلك على القول بكون الأحكام الوضعية مجعولات يمكن القول بجريان الاستصحاب وعدم وجوب هذا الجزء المشكوك ؛ لأنّه سابقا لم يتعلّق به الجعل ، وفي هذا الزمان نشكّ في أنّه تعلّق به الجعل أم لا؟ فبحكم الاستصحاب نحكم بعدم تعلّق الجعل به.

وأمّا لو قلنا بكون الأحكام الوضعية انتزاعية فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم تعلق الجعل بالجزء المشكوك ، فلا يمكن رفعه إلّا بالبراءة.

ومن الثمرات : أنّه لو كان الواجب تحصيل ما يحصل من شيء آخر مثل الوضوء الحاصل من الغسلتين أو المسحتين ، أو الغسل أو الطهارة الحاصل من الغسل وشكّ في أنّ الشيء الفلاني له دخل في وجوده أو لا؟ فلو قلنا بكون الأحكام الوضعية مجعولات فنفس الطهارة ـ مثلا ـ مجعول ، فبعد الغسل يكون مجال لاستصحاب عدم الطهارة.

ولكن لو كان الحكم الوضعي منتزعا ففي الطهارة لا يجري الاستصحاب ، بل لا بدّ من جريان البراءة أو الاشتغال في محصّلة وهو الحكم التكليفي الذي انتزع منه

٣٨٠