المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

تدلّ على حجية الاستصحاب ، ولا يرد هذا الإشكال ؛ لأنّ مقتضى الاستصحاب هو عدم الإتيان بالركعة المشكوكة ، ومقتضى إطلاق الاستصحاب هو إتيان الركعة المشكوكة متصلة ، وفي المقام بمقتضى الدليل الخارجي من لزوم إتيان الركعة منفصلة نرفع اليد عن هذا الإطلاق ونقيده بالدليل الخارجي ، ولكنّ مقتضى أصل الاستصحاب وهو عدم الإتيان بالركعة فلا مانع من الأخذ به فلا يرد إشكال.

وزاد النائيني رحمه‌الله : بل يمكن أن يقال بأنّه ليس مقتضى الاستصحاب إلّا البناء العملي على عدم إتيان الركعة ، وأمّا كيفية إتيان هذه الركعة يكون على أيّ نحو فهو خارج عن الاستصحاب ، فعلى هذا لا يكون مقتضى إطلاق الاستصحاب إتيان الركعة متّصلة حتى يحتاج الى أن يقال بأنّه ترفع اليد عن إطلاقه ؛ لأنّه ليس هذا أصلا مقتضى الاستصحاب ، فعلى هذا أيضا يرفع الإشكال ، فيمكن التمسّك بالرواية على حجية الاستصحاب ، ولا تكون الرواية منافية لما دلّ على لزوم إتيان الركعة منفصلة ، بل في عبارة الرواية ما يدلّ على هذا.

ولكن لا يخفى عليك أولا : أنّ كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ليس بسديد. ونقول مقدّمة لتوضيح المطلب : إنّ في الاستصحاب الموضوعي ليس وظيفة الاستصحاب إلّا جرّ المتيقّن ، فما يكون مفاد الاستصحاب هو جرّ المتيقّن الى زمان الشكّ ، مثلا اذا شكّ ، في حياة زيد فبالاستصحاب لا يثبت إلّا حياته ، أمّا آثار الحياة فلا يكون ذلك مفاد الاستصحاب ، فالاستصحاب لا يكون مفاده إلّا جرّ المتيقّن في زمان الشكّ ، وأمّا الآثار المترتّبة على بقاء الموضوع يترتّب عليه بعد ، إلّا أن يكون ذلك أيضا أثره.

فعلى هذا فيما نحن فيه نقول بعونه تعالى : إنّ هذا الاستصحاب الذي نجريه في المقام هو الاستصحاب الموضوعي ، فجريان الاستصحاب لا يثبت إلّا عدم إتيان الركعة ، وأمّا ما يكون أثر إتيان الركعة هو إتيانها متصلة أو منفصلة فليس ذلك مفاد

٣٤١

الاستصحاب ، بل ذلك يثبت من الخارج ، فعلى هذا لا يقتضي ولو بإطلاق استصحاب إتيان الركعة متّصلة كما توهّم هذا المحقق رحمه‌الله.

بل كما قلنا لزوم إتيان أصل هذه الركعة المشكوكة أيضا ليس مفاد الاستصحاب ، بل لا بدّ من ثبوت ذلك من الخارج ، فكلام هذا المحقق رحمه‌الله ليس فيه وجه ، ولو قلنا بذلك دفعا لهذا الإشكال فلا بدّ أن نقول بما قاله النائيني رحمه‌الله من أنّ اقتضاء الاستصحاب ليس إلّا البناء على عدم إتيان الركعة ، وأمّا بعد ذلك ما هي الوظيفة فلا يعلم ذلك من الاستصحاب ، بل لا بدّ من إثبات الوظيفة من الخارج ، وهذا معنى ما قلنا من أنّ بعد الاستصحاب في الموضوعات يكون جعل الحكم من قبيل جعل المماثل.

ولكن ما قاله النائيني رحمه‌الله في المقام أيضا ليس في محلّه لمحذور آخر ، وهو : أنّه لا إشكال بأنّ جريان الاستصحاب في كلّ مورد يكون لسانه رفع الشك ، غاية الأمر أنّ في العلم يكون رفع الشك حقيقة وفيه تنزيلا ، فلسانه هو أنّك لا يمكنك أن تشكّ ولا أنّك شاكّ ومع ذلك ابن على اليقين ، وهذا هو السرّ في حكومة الاستصحاب على سائر الاصول ، لأنّ سائر الاصول لسانه إثبات الحكم في حال الشكّ ، فالشك يكون موضوعها ، بخلاف الاستصحاب فإنّ لسانه هو رفع الشّك تنزيلا ، ولذا فهو حاكم على سائر الاصول.

فعلى هذا نقول فيما نحن فيه : إنّ الاستصحاب ولو لم يقتض إلّا البناء العملي على عدم إتيان الركعة لكن حيث يكون لسانه رفع الشكّ فكأنّه يقول : أنت لست بشاكّ فاذا كنت غير شاكّ فتكون وظيفتك إتيان الركعة متّصلة ؛ لأن الأخبار الدالة على إتيان الركعة منفصلة يكون موردها الشك ، واذا جرى الاستصحاب فلم يبق شكّ حتى يكون مشمولا لهذه الأخبار ، فلو قلنا بما قاله النائيني رحمه‌الله يكون لازمه هو طرح الأخبار الدالة على إتيان الركعة منفصلة وما قال من أنّه «ابن على الأكثر» ولا

٣٤٢

يمكن الالتزام بذلك فهذه الأخبار أيضا شاهد قوي آخر غير ما قلناه على عدم حجية الاستصحاب في باب ركعات الصلاة ، فظهر لك عدم إمكان التمسّك بالرواية على حجّية الاستصحاب ، وعدم صحة ما قالا في توجيهها.

ثمّ إنّ النائيني رحمه‌الله أورد إشكالا على الشيخ رحمه‌الله : بأنّه بعد ما لم يوجد وما نرى موردا أطلق لفظ «نقض اليقين بالشكّ» عن الوظيفة المقرّرة للشاكّ في عدد الركعات ، بل المصحّح لهذا التعبير ليس إلّا في باب الاستصحاب وقاعدة اليقين ، فالرواية دالّة على الاستصحاب ويكون التقية في تطبيق المورد بالاستصحاب.

وفيه : أنّ المصحّح لإسناد النقض في الاستصحاب وقاعدة اليقين ليس إلّا جهة اليقين ، فهذه الجهة موجودة في الوظيفة المقررة للشاكّ في عدد الركعات ، فلا محذور من التعبير بالنقض ، وصرف عدم التعبير بذلك في سائر أخبار الباب لا يصير سببا لعدم كون هذه الرواية أيضا منزلة على الوظيفة المقررة.

وما قاله من أنّ التقية تكون في التطبيق ليس في محلّه ، حيث إنّه لو كان ذلك فهذا مناف لما قاله بعد هذا من أنّه «ولا يدخل الشكّ في اليقين ...» ، حيث إنّ هذه العبارة باعترافه تدلّ على لزوم انفصال الركعة فكيف كان المعصوم عليه‌السلام في مقام التقية في جهة التطبيق ثمّ قال بعده ما يكون خلاف التقية؟

ومنها : ما عن الخصال : بسنده ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشك لا ينقض اليقين».

وما قاله الشيخ رحمه‌الله من ضعف سند الرواية لأجل قاسم بن يحيى لا وجه له ، لأنّ هذه الرواية من جملة روايات أربعمائة هي من مفاخر أحاديث الشيعة ، وقالها أمير المؤمنين عليه‌السلام في مجلس واحد.

والقاسم أولا ليس من الضعاف بل هو حسن ، وثانيا هذه الرواية مسلّمة ولا

٣٤٣

وجه للإشكال فيها من حيث السند ، وأمّا دلالتها فليس فيها إشكال إلّا احتمال كونها متطابقة مع قاعدة اليقين فإنّه يعتبر في قاعدة اليقين اختلاف زمان الشكّ واليقين ، لأنّه لا بدّ أن يتعلق اليقين في زمان بشيء ثم بعد زمان آخر يشكّ في هذا الشيء في زمان اليقين ، ويعتبر أن يكون متعلق الشك واليقين متحدا في القاعدة ، فالشك لا بدّ وأن يتعلق بعين ما تعلق به اليقين ، مثلا لو تعلق اليقين بحياة زيد في يوم السبت ففي الآن الثاني لو شك فيكون الشك في حياة زيد في يوم السبت ، فزمان الشك واليقين مختلفان ؛ لأنّ في الآن الثاني يشك في ما تيقّن به في الآن الأول ومتعلق الشك واليقين ؛ متحدان لأنّ كلّا منهما تعلق بحياة زيد في يوم السبت.

وأمّا في الاستصحاب فليس كذلك ، بل لا بد من اختلاف متعلّق الشك واليقين ، فاليقين تعلّق ـ مثلا ـ بحياة زيد في يوم الجمعة والشك تعلق ببقاء حياته ، ولكنّ زمان الشك واليقين يمكن أن يكون مختلفين ويمكن أن يكون متّحدين.

اذا عرفت ذلك فظهور الرواية يكون في قاعدة اليقين ؛ لأنّه قال : «من كان على يقين فشك» ، وحذف المتعلق أيضا شاهد على ذلك ، ولكن لا يخفى عليك أنه بعد ما لم يكن إشكال في أنّه بقاعدة اليقين لا بدّ من أن يكون الشك متعلقا بعين ما تعلق به اليقين ، ولا بد أن يكون زمان الشك واليقين مختلفين ، ويكون الشك من حين حصوله يسري الى زمان اليقين ، وبهذا الاعتبار يعبّر عنه بالشكّ الساري ، فلا بدّ أن يكون الزمان في القاعدة مأخوذا بنحو القيدية ولا يمكن أخذه بنحو الظرفية ، لأنّه لو كان الزمان مأخوذا بنحو الظرفية لم يكن الشكّ متعلقا بما تعلق به اليقين ، مثلا لو تيقن بحياة زيد في يوم الجمعة ثم في يوم السبت شك فتطبيق المثال مع قاعدة اليقين لا يمكن إلّا بأن كان الشك في يوم السبت متعلقا بحياة زيد في يوم الجمعة ، وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون زمان يوم الجمعة مأخوذا بنحو القيدية حتى يقع الشك في متيقّن السابق لا في بقائه وإلّا لو كان الزمان ظرفا فليس هذا قاعدة اليقين ، إذ يمكن كون

٣٤٤

زيد متيقن الحياة في يوم الجمعة ومشكوك الحياة في يوم السبت في زمان الشك ، لأنّه بعد رفع قيد الزمان لم يبق إلّا نفس حياة زيد ، فحياة زيد يمكن أن تكون الآن مشكوكة ، والحال أنّ في هذا الحال متيقّن كونه حيا في الأمس ، وليس هذا قاعدة اليقين ؛ لأنّ قاعدة اليقين والشك الساري لا بدّ فيها أن يكون الشك فيما كان متيقنا.

اذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الرواية تدلّ على الاستصحاب وظاهرة فيه ، لأنّه قال : «من كان على يقين فشك» ، وهذا بعد عدم ذكر وحدة المتعلق ظاهر في الاستصحاب ، وصرف التعبير بقوله : «كان على يقين فشك» الذي يلوح منه تأخّر زمان الشك على زمان اليقين لا يصير دليلا على القاعدة بعد ما كان في الاستصحاب أيضا هذه التعبيرات ، ولو لم تكن الرواية ظاهرة في الاستصحاب فلم تكن ظاهرة في القاعدة أيضا.

ومنها : مكاتبة علي بن محمد القاساني قال : كتبت اليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان هل يصام ، ن أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : «اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية».

وهذه الرواية جعلها الشيخ رحمه‌الله من أظهر الروايات ، ولكن المحقّق الخراساني رحمه‌الله وبعض من تأخر عنه استشكلوا في الرواية ، فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّه بعد ورود الأخبار باعتبار العلم في دخول شهر رمضان فنفهم بأنّ العلم معتبر فيه بطريق الموضوعية ، لا بعنوان الطريقية ، فهذه الرواية أيضا دالة على هذا وأنّه لا بدّ من العلم ، فلا يدخل الشك في اليقين ، أعني لا يمكن الاعتناء بالشك في دخول شهر رمضان ، فلم يكن مربوطا بالاستصحاب ،

وفيه : أنّه مع أنّ الظاهر كون العلم مأخوذا على وجه الطريقية في المقام واحتمال الموضوعية في غاية البعد ، فظهر لك أنّ الرواية لو لم تكن من أظهر الروايات لكن هي من الروايات الدالّة على حجية الاستصحاب. هذا كلّه في روايات العامة

٣٤٥

المتمسّك بها على حجّيته.

وقد يستدلّ على حجية الاستصحاب برواية «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، ورواية «كلّ شيء حلال حتى تعلم الحرام منه بعينه» ورواية «الماء كلّه طاهر» ، والمتمسّك بها أيضا مختلف ، فصاحب الفصول رحمه‌الله تمسّك بها على قاعدة الحلّية والطهارة واستصحابها ، والمحقّق الخراساني تمسّك بها على ما في حاشيته على الحكم الواقعي والظاهري ، أعني قاعدة الطهارة والحلّية واستصحاب الحكم الواقعي والظاهري ، وفي الكفاية تمسّك بها على الحكم الواقعي والاستصحاب.

أمّا ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في حاشيته على الرسائل فهو قال : إنّ الشيء في «كلّ شيء» أو «الماء» يشمل جميع أفراده يطلق عليها ، ومنها مشكوك الحكم ، فكما أنّ للشيء فردا قصيرا أو طويلا أحمر وأصفر وهكذا من أفراد الشيء هو الشيء المشكوك الحكم ، فالصدر يشمل الفرد المشكوك الحكم ، لأنّ الحكم جاء على رأس الشيء ، فكل شيء حلال فالحلال الواقعي حلال واقعا ، والحلال الظاهري حلال ظاهرا ، فالصدر يثبت حلّية ما هو حلال ظاهرا وواقعا ، فثبت من الصدر الحكم الواقعي والظاهري. وأمّا الذيل فهو دالّ على استمرار هذا الحكم حتى تعلم ، فما دام مشكوكا هو باق على حلّيته أو طهارته ، فالحلال الواقعي حلال حتى تعلم ، والحلال الظاهري حلال حتى تعلم ، غاية الأمر أحدهما بالحلّية الواقعية وأحدهما بالحلّية الظاهرية ، فالذيل دليل على الاستصحاب ؛ لأنّه دالّ على استمرار الحكم حتى بلوغ العلم.

وفيه : أنّ هذا الكلام الذي صدر منه في الحاشية كلام فاسد ، كما عدل عنه في الكفاية ؛ لأنّه :

أمّا أولا فكما قلنا مفصّلا في العام والخاصّ في ردّ الآخوند الملّا عليّ

٣٤٦

النهاوندي رحمه‌الله : أنّ كلّ عامّ يشمل أفراده العرضية ولا يشمل أفراده الطولية ، مثلا : لو قال : «أكرم العلماء» فيشمل الفرد الفاسق والعادل ، وأمّا الفرد المشكوك العدالة والفسق فلا يشمله العام ؛ لأنّه ليس مشكوك العدالة والفسق فرد آخر في قبال الفرد الفاسق والعادل ، بل هو أيضا إمّا عادل أو فاسق ، فعلى هذا نقول في المقام بأنّ الشيء له فردان : حلال واقعي وحرام واقعي ، وأمّا الفرد المشكوك الحلّية والحرمة فليس فردا آخر في قبالهما ، بل هو داخل في أحدهما ، فعلى هذا لا يشمله عموم «كلّ شيء حلال».

وثانيا : هنا إشكال آخر لا يمكن معه الالتزام بدخول مشكوك الحكم تحت العام ؛ لأنّ مشكوك الحكم يأتي من قبل الحكم ، فلا بدّ أن يكون حكم فشك في هذا الفرد في أنّ ما يكون حكما كيف يمكن ذلك؟ وليس هذا إلّا الدور ؛ لأنّه لا بدّ وأن يكون الحكم ساريا على الموضوع فكيف يمكن أن يكون الموضوع مؤخّرا عن الحكم؟ ومشكوك الحكم الذي يأتي شكه من ناحية الحكم كيف يمكن أن يكون موضوعا لهذا الحكم؟ فلا يمكن الالتزام بهذا الكلام.

وأمّا ما قاله في الكفاية بأنّ من الرواية يستفاد الحكم الواقعي من صدرها والاستصحاب من ذيلها فنقول : إنّه يحتمل أنّ يكون مراده أنّ الصدر والذيل جملتان ، مثلا يكون «كلّ شيء طاهر» جملة ، و «حتى تعلم أنّه قذر» جملة اخرى ، وهذا الاحتمال هو الذي يظهر من كلامه ، فيكون غرضه أنّ الصدر يدلّ على الحكم الواقعي ، والذيل دليل على الاستصحاب ، ويكون معنى «حتى تعلم» أنّه يستمرّ هذا الحكم الواقعي الثابت في الصدر الى أن تعلم وبعد جعل العلم غاية له يدلّ على الاستصحاب.

وفيه : أنّه مع كون الروايات جملتين فكان صدرها جملة ، والذيل جملة مستقلّة خلاف الظاهر أنّه كيف يمكن الالتزام بأن «حتى» يكون مضمونه الاستمرار؟

٣٤٧

و «حتى» حرف فهو كيف يصير محكوما أو محكوما عليه في القضية وليس هو إلّا الربط؟ كما اعترف هو بأنّ الحرف اخذ آليا فكيف يستفاد منه جملة استمرار الحكم الى أن تعلم؟ فهذا الكلام واضح الفساد.

وأمّا لو كان مراده أنّ الروايات ليست جملتين بل الصدر والذيل جملة واحدة ، ولكن تدلّ هذه الجملة الواحدة على الحكم الواقعي واستمراره الى حين العلم فيستفاد منه الاستصحاب أيضا ، ففيه : أنّه لا إشكال في أنّ من هذه العبارة لا يمكن استفادة الحكم الواقعي والاستصحاب معا ، لأنّه ليس على هذا إلّا جملة واحدة ، ومن الجملة الواحدة لا يمكن استفادة الحكم الواقعي والاستصحاب ، بل لا بدّ من أن يكون الخبر إمّا في مقام بيان الحكم الواقعي وإما في مقام بيان الاستصحاب.

فمن هنا ظهر لك فساد كلامه رحمه‌الله ، وأنّه اذا بلغ الأمر الى هنا لا إشكال في أنّ الرواية ليست في مقام بيان الحكم الواقعي ؛ لأنّه ولو كان صدر الرواية ظاهرا في الحكم الواقعي لكنّ ذيله يدفع هذا الاحتمال ، إذ بعد ما جعله مغيّا بالغاية فلا يمكن حمله على الحكم الواقعي ؛ لأنّ الحكم الواقعي ليس مغيّا بالغاية ، بل الحكم الظاهري يكون كذلك ، فتكون الرواية متكفّلة لبيان الحكم الظاهري. فظهر لك ممّا قلنا أنّه لا يمكن جعل الحكم الواقعي والظاهري وإنشاءهما في عرض واحد ، فيكون الإشكال راجعا الى هذا.

اذا عرفت أنّ الرواية تكون في مقام بيان الحكم الظاهري فيقع الكلام في أنّه هل يمكن استفادة قاعدة الطهارة والاستصحاب كليهما من الرواية ، أو لا يمكن؟

فصاحب الفصول رحمه‌الله قال باستفادة كلّ منهما من الرواية ، لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه بعد ما يكون في قاعدة الطهارة الحكم على أصل الثبوت ، بمعنى أنّه في قاعدة الطهارة يكون الحكم بالطهارة هو الحكم بأصل ثبوته ، وأمّا في الاستصحاب فيكون

٣٤٨

الحكم على بقاء الأمر الثابت ، فيكون الإشكال في بقاء الحكم بعد الفراغ عن أصل ثبوته ، فعلى هذا لا يمكن جمعهما في لحاظ واحد وإنشاء واحد ، فلا وجه لقول صاحب الفصول رحمه‌الله أيضا ، فيبقى الكلام في أنّه بعد كون الرواية متكفّلة لبيان الحكم الظاهري فهل يكون هو الاستصحاب أو قاعدة الطهارة؟

فنقول بعونه تعالى : إنّه كما قلنا في قاعدة الطهارة يكون الحكم على ثبوت أصل الطهارة ، وأمّا في الاستصحاب فيكون الحكم على إبقاء ما ثبت ، فيكون الحكم على بقاء ما ثبت أصله ، فأصل ثبوته لا إشكال فيه ، فيدور الأمر بين أن يكون «كلّ شيء طاهر أو حلال» ظاهرا في الحكم على أصل ثبوت الطهارة أو الحلّية ، أو يكون ظاهرا في حكم ببقاء الطهارة الثابتة أو الحلية الثابتة.

واذا بلغ الكلام الى هذا المقام فلا إشكال في أنّ الرواية ظاهرة في الحكم بثبوت أصل الطهارة والحلّية ، فعلى هذا تكون الرواية منطبقة مع القاعدة ، لا الاستصحاب ، غاية الأمر يكون الكلام بعد إثبات كون الروايات ظاهرة في القاعدة أنّه هل هي ظاهرة في خصوص الشبهات الموضوعية ، أو دالّة عليها وعلى الشبهات الحكمية أيضا؟ أمّا «كلّ شيء طاهر» فلا إشكال في تعميمه للشبهة الموضوعية والحكمية كليهما ، وأمّا «كلّ شيء حلال» فإن كان بهذه العبارة فهو أيضا دالّ على كليهما ، لكن حيث تكون عبارته أنّ «كلّ شيء فيه حلال وحرام ... الى آخره» فلأجل لفظ «فيه» يدلّ على الشبهة الموضوعية فقط.

ثم اعلم : أنّ ما قلنا من الدليل على فساد كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لا يمكن الجعل والإنشاء في عرض واحد ، ولذا لا يمكن استفادة الحكم الواقعي والظاهري معا من الروايات هو غير ما قاله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته ، فإنّه يكون إشكاله من حيث الإرادة ، وأنّه لا يمكن إرادة كلّ منهما ، معا وإنّ موضوع كلّ من الحكم الواقعي والظاهري حيث يكون غير الآخر فلا بدّ أن يكون حكمهما أيضا

٣٤٩

كذلك ، فلو كان الموضوع هو الشيء المرسل الذي هو موضوع الحكم الواقعي فلا بدّ من أن يكون الحكم أيضا الحكم الواقعي ، ولو كان المراد من الشيء هو مشكوك الحكم الذي هو موضوع الحكم الظاهري فلا بدّ من أن يكون الحكم الحكم الظاهري.

وفيه : أنّه لو كان الإشكال في مقام الإرادة فلا مانع من إرادة كلّ منهما عرضا اذا لم يلاحظ حيثية الطولية ، ولا مانع من ذلك أصلا ، فظهر لك أنّ الحقّ في الجواب هو ما قلنا ، وأنّ من الروايات لا يستفاد منها إلّا القاعدة بالبيان المتقدم.

اذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم : أنّ في حجّية الاستصحاب أقوالا مختلفة ذكرها الشيخ رحمه‌الله في الرسائل ، وما هو المهمّ هو : أنّ الاستصحاب هل هو حجة في خصوص الشك في الرافع كما ذهب اليه الشيخ رحمه‌الله ، أو هو حجة فيه وفي الشك في المقتضي؟

فنقول بعونه تعالى : إنّ الشيخ رحمه‌الله قال بكون الاستصحاب حجة في خصوص الشكّ في الرافع ، وليس حجة في الشك في المقتضي ، وأشكل إشكالا علميا ، وحاصل كلامه رحمه‌الله هو : أنّ أصل النقض عبارة عن رفع الهيئة الاتصالية ، كما تقول : «انتقض الحبل» أي رفع الهيئة الاتصالية وفي المقام الذي قال : «لا تنقض اليقين» ، فنقض اليقين بعد مفروضية عدم كون المراد نقض نفس اليقين ، لأنّ من المعلوم أنّ وصف اليقين انتقض بسبب كونه شاكّا فعلا فيكون المراد انتقاض المتيقّن أعني رفع الهيئة الاتصالية ، وحيث إنّه لم يكن في باب الاستصحاب استمرار واتصال حقيقة فلا بد من أن يكون المراد هو رفعه اعتبارا ، لأنّه بعد الحكم على الجري عليه يكون فيه الاستمرار اعتبارا ، فبعد عدم إمكان حمل النقض على معناه الحقيقي فلا بدّ إمّا من حمله على رفع الأمر الثابت ، وهو يصحّ فيما كان للمتيقن اقتضاء البقاء والاستمرار حتى يكون النقض نقض الأمر الثابت ، وإمّا من حمله على معنى

٣٥٠

آخر أوسع ، وهو رفع اليد عن الشيء ولو لم يكن له اقتضاء البقاء والاستمرار.

فعلى الأول ينطبق على الشك في الرافع فقط ، لأنّ له اقتضاء البقاء والاستمرار ، وهو مذهب الشيخ رحمه‌الله. وعلى الثاني ينطبق على الشك في المقتضي أيضا ؛ لأنّه على هذا كان معنى النقض هو رفع اليد ، فهو يصح ولو بالنسبة الى ما ليس فيه اقتضاء الاستمرار ، ولا إشكال في أنّه اذا لم يمكن حمل النقض على معناه الحقيقي فلا بدّ من حمله على ما قاله الشيخ رحمه‌الله من إسناده الى ما يكون فيه الاستمرار ، لأنّه أقرب المجازات ، ومسلّم أنّه اذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات يتعيّن. هذا حاصل كلام الشيخ رحمه‌الله.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : إنّه لا يلزم أن يكون إسناد النقض باليقين باعتبار المتيقن حتى يقال ما قاله الشيخ رحمه‌الله بل يصحّ إسناد النقض بنفس اليقين ، لأنّه لا يعتبر في صحة إسناد النقض على شيء إلّا أن يكون فيه جهة استحكام ، وفي اليقين حيث إنّ فيه جهة الاستحكام فصحّ إسناد النقض اليه ، فعلى هذا بعد كون الإسناد الى نفس اليقين فيكون الاستصحاب حجة في الشك في المقتضي أيضا ، ولا يصح إسناد النقض الى الظنّ والشك ؛ لعدم استحكام فيهما.

اذا عرفت حاصل ما قاله الشيخ رحمه‌الله والمحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المقام فيظهر لك أنّه لا صلة لكلام المحقّق رحمه‌الله مع كلام الشيخ رحمه‌الله ، كما هو الحقّ يكون إشكاله من جهة اعتبار الدوام والاستمرار في صحة إسناد النقض ، وعليه فبعد اعتبار هذا لا وجه لما قاله المحقّق المذكور رحمه‌الله من أنّه في اليقين جهة الاستحكام فصحّ إسناد النقض اليه ، لأنّه على ما قاله الشيخ رحمه‌الله يعتبر في صحة إسناد النقض جهة الاستمرار والبقاء ، ولا يكفي صرف الاستحكام ، وما قال المحقّق رحمه‌الله من عدم صحة إسناد النقض الى الظن والشك لعدم الاستحكام فيهما ، فيكون خلافا لما ورد في الرواية من تعبير الإمام عليه‌السلام بأنّه «ولكن ينقض الشك باليقين». فظهر لك ممّا مرّ عدم تمامية ما

٣٥١

قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في ردّ كلام الشيخ رحمه‌الله.

اذا فهمت ذلك فنقول بعونه تعالى : إنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما كان ، كما قاله الشيخ رحمه‌الله في تعريفه للاستصحاب فلا إشكال في الاستصحاب هو عبارة عن إبقاء ما كان حادثا في السابق ، فبدون الإشكال يكون الاستصحاب هو وجود ما تيقّن حدوثه سابقا في الآن اللاحق. وبعبارة اخرى : هو عبارة عن جرّ المتيقّن الى زمان الشك ، فالمتيقّن يجرّ الى زمان الشك فيكون الاستصحاب هو بقاء ما ثبت وجوده ، لا وجود آخر في مقابل ما كان محفوظا في الحالة السابقة ، مثلا معنى استصحاب حياة زيد هو جرّ حياته من زمان اليقين الى زمان الشك ، لا إثبات حياة آخر غير السابق لزيد ، وكذلك في استصحاب الأحكام يكون مقتضى استصحاب بقاء وجوب الإكرام هو جرّ وجوب الثابت في حال اليقين الى زمان الشك ، فعلى هذا حقيقة الاستصحاب مع قطع النظر عن حجّيته هو إبقاء وجود السابق ، لا إيجاد وجود آخر ، فمن قال بحجّية الاستصحاب يقول حجّيته بهذا المعنى ، ومن يقول بعدم حجّية الاستصحاب مطلقا أو في بعض الموارد يقول بعدم حجّيته بهذا المعنى.

فاذا عرفت هذا فنقول : إنّه لا إشكال كما قال الشيخ رحمه‌الله بأنّه يعتبر في صحة إسناد النقض من جهة دوام واستمرار ، لكنّ الإشكال في أنّ هذا الدوام والاستمرار المعتبر لو يأتي من ناحية المتيقن فيصحّ كلام الشيخ رحمه‌الله من أنّ لازم ذلك حجية الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع ، وأمّا لو كان هذا الاستمرار والدوام من ناحية أصل الاستصحاب فلا مانع من حجّيته ولو في الشك في المقتضي ؛ لأنّه على ما قلنا من أنّ حقيقة الاستصحاب بعد كونه عبارة عن بقاء وجود المتيقن لا وجود آخر ففي حقيقته يكون الاستمرار والدوام مأخوذا ، فعلى هذا يصحّ إسناد النقض ، وليس حقيقة الاستصحاب إلّا عدم نقض اليقين بالشك.

٣٥٢

وإن قلت : إنّ هذا الاستمرار والبقاء يترتب على الاستصحاب بعد فرض حجّيته ، وإلّا فمع قطع النظر عن حجيته فليس له اقتضاء الدوام والاستمرار.

فنقول : إنّه قد قلنا بأنّ حقيقة الاستصحاب هو إبقاء ما كان ولو عند من لم يكن حجة عنده ، فالسيد المرتضى رحمه‌الله المنكر لحجية الاستصحاب لا يقول بأنّ هذا ليس استصحابا ، بل هو يقول بأنّه استصحاب ولكن ليس بحجة ، فمن المعلوم أنّ هذا مأخوذ في حقيقته مع قطع النظر عن حجّيته ، فبهذا البيان يظهر لك حجية الاستصحاب ولو في الشك في المقتضي ، وما قال النائيني رحمه‌الله من أنّ نقض اليقين وإضافة النقض اليه يكون باعتبار ما استتبعه من الجري على ما اقتضاه المتيقّن ، فلا بدّ على هذا من أن يكون في المتيقن مقتضى البقاء ، وإلّا فلا معنى للنقض ، وقال بأنّ شيوع استعمال إضافة النقض الى اليقين لا الى العلم والقطع أيضا يكون لأجل أنّ اليقين يكون إطلاقه غالبا باعتبار استتباعه لما يقتضيه المتيقّن ، بخلاف العلم والقطع فإنّ اطلاقهما غالبا يكون في مقابل الظن والشك ، بمعنى أنّهما مأخوذان غالبا بنحو الصفتية لا بنحو الطريقية ، ثم قال بعد ذلك : ما يظهر منه أنّ النقض اسند الى اليقين لا باعتبار الجري العملي على طبق المتيقن.

وفيه : أمّا ما قاله رحمه‌الله من أنّ إسناد النقض الى اليقين كان باعتبار ما يستتبعه من الجري العملي على مقتضى المتيقن فنقول : إنّ صرف هذا لا يصحّح دعوى حجية الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع ؛ لأنّه لا يلازم هذا مع كون المتيقن ممّا فيه اقتضاء الاستمرار ، إذ كما قلنا يكفي في صحة إسناد النقض هو البقاء والاستمرار الذي يكون مأخوذا في حقيقة الاستصحاب ، سواء كان للمتيقن اقتضاء البقاء أو لا ، بل نقول بأنّ في الشك في المقتضي أيضا يكون إسناد النقض باعتبار هذا ، وإلّا فصرف المقتضي لا يكفي في كونه مستمرا فلا بد من كون الاستمرار من ناحية نفس الاستصحاب وحكم الشارع بحفظ هذا البقاء والاستمرار فالاستمرار جاء من ناحية نفس الاستصحاب وبهذا الاعتبار صح اسناد النقض الى اليقين.

٣٥٣

وأمّا ما قاله بعد ذلك من أنّ إطلاق اليقين غالبا ما يكون مرآة ففيه : أنّ كثيرا ما ورد كذلك ، وإطلاقه كان على نفس الموضوعية والصفتية ، كما أنّ العلم والقطع كثيرا ما يطلقان كمرآة ، بل على ما قالوا في باب القطع ، وهو أيضا قال : إنّ إطلاق العلم والقطع على نحو الصفتية لا يوجد له مورد في الشرع ، بل قال في باب الاستصحاب في ذيل صحيحة زرارة الاولى التي تمسّك بها على الاستصحاب بعد الإشكال فيها : إنّه لا يصحّ التعليل على عدم الإعادة بقوله عليه‌السلام : «لأنّك ... الى آخره» بأنّ العلم بالطهارة إمّا شرط ... الى آخر كلامه ، فقال بأنّ اعتبار العلم (من حيث الصفتية فهو ممّا لا يحتمل في المقام ، بل قد تقدم في مبحث القطع أنّ أخذ العلم على وجه الصفتية مجرد فرض لم نعثر على مورد له في الفقه) فكيف يقول هنا هذا الكلام؟ والحقيقة أنّ كلامه هنا ممّا فيه من الفساد بحيث يستبعد إسناده اليه ، ولعلّه كان من المقرر ، ثم قال بعد ذلك بأن إسناد النقض الى اليقين يكون باعتبار نفسه لا باعتبار المتيقن ، وهذا أيضا مخالف مع كلامه أولا من أنّ الاسناد كان باعتبار المتيقّن ، فافهم.

فظهر لك : أنّه يصحّ إسناد النقض الى اليقين ، وإشكال الشيخ رحمه‌الله بأنّ المتيقن لا بدّ أن يكون فيه اقتضاء البقاء حتى يحفظ استمرار المعتبر في صحة إسناد النقض ليس له وجه ، إذ الاستمرار المعتبر لا يلزم أن يكون باعتبار مقتضى البقاء في المتيقن ، بل حقيقة الاستصحاب فيه الاستمرار ؛ لما قلنا من أنّ الاستصحاب عبارة عن بقاء ما كان متيقنا.

ونقول زيادة لتوضيح المطلب : إنّ استعمال المجازي يحتاج الى علاقة مصحّحة للاستعمال ، فلا بدّ من أن ينظر الى أنّ استعماله في المعنى الحقيقي هو ما يصحّحه ، فكلّ جهة تكون فيها فلو كان في المعنى المجازي هذه الجهة يصحّ الاستعمال ، ففي ما نحن فيه إطلاق النقض في معناه الحقيقي يحتمل أن يكون لأجل استحكامه ، ويمكن أن يكون

٣٥٤

لأجل وحدته ، ويمكن أن يكون لأجل استمراره ، ويمكن أن يكون لأجل وحدته واستمراره كليهما ، فلو كان من جهة استحكامه فيصحّ كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وأمّا لو كان من جهة استمراره أو وحدته أو كليهما فنقول : إنّ الاستمرار والوحدة حتى في الشك في الرافع يأتي من قبل الاستصحاب وفرض الوحدة والاستمرار ، وإلّا ففي الشك في الرافع أيضا ليس وحدة واستمرار حقيقة ، فعلى هذا لا حاجة الى رفع اليد عن جهة الاستمرار والوحدة الكامنة في نفس حقيقة الاستصحاب.

هذا كلّه في بعض الأخبار التي ورد فيها لفظ «النقض» ، وأمّا البعض الآخر من الأخبار فشموله حتى للشك في المقتضي ممّا لا ترديد فيه.

وما قاله الشيخ رحمه‌الله من معلّلية مكاتبة عليّ بن محمد القاساني الذي كتب فيها : «اليقين لا يدخله الشك» حيث كتب في ذيلها «وأفطر للرؤية» يكون لأجل قاعدة الاشتغال.

وفيه : أنّه يكون الكلام في هذا المقام بعد الفراغ من أن المورد لا خصوصية له ، وأنّ المستفاد من الأخبار هو الحكم الكلي ، فإذا لا وجه لهذا الكلام ، فعلى هذا ليس مجال لأن يقال : إنّ موارد الأخبار غالبا هو الشك في الرافع.

وأمّا الرواية الوارد فيها لفظ «الدفع» فقال : «اليقين لا يدفع بالشك» فهو للشك في المقتضي ، وحجّيته دليل واضح ، حيث إنّ الدفع يستعمل في المورد الذي كان شيئا فدفع عنه ، سواء كان له مقتضى البقاء ، أو لا لهذا الشيء ، فلفظ «الدفع» شاهد على ما قلناه ، فظهر لك حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أيضا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ إسناد النقض الى اليقين ، هل هو باعتبار نفسه ، أو باعتبار المتيقن؟ بمعنى أنّ النقض بعد استناده باليقين هل يكون لليقين موضوعية ، أو لا يكون على هذا النحو؟ وبعبارة اخرى : بعد ما لا يكون الإشكال في عدم كون

٣٥٥

اليقين هنا مأخوذا على نحو الموضوعية أو الصفتية ، بل هو طريق لكن هل هو مرآة للمتيقن ، أو ليس مرآة للمتيقن ، وكونه مرآة سواء كان بنحو المجاز ـ يعني إرادة المتيقّن من اليقين ـ أو كان بنحو الكناية؟ مثل «زيد كثير الرماد» فجعل اليقين كناية عن المتيقن ، وعلى كلّ تقدير في كلا الصورتين مجازا كان أو كناية يكون اليقين على هذا الاحتمال مرآة للمتيقّن ، ولكن على الاحتمال الآخر لا يكون اليقين مرآة بل لوحظ استقلالا.

اذا عرفت مورد الكلام فنقول بعونه تعالى : إنّه لا إشكال بأنّه في التنزيل ـ يعني جعل شيء بمنزلة شيء آخر ـ لا بدّ وأن تكون جهة التنزيل بيد المنزّل ، وإلّا لا يمكن التنزيل في هذه الجهة ، إذ ليس أمرها راجعا اليه ، مثلا ما هو وظيفة العقل ولم يكن من وظائف الشرع فليس للشرع جعل التنزيل ، فعلى هذا في المورد نقول بأنّه لا يمكن أن يكون اليقين استقلالا مرادا في أخبار الباب ؛ لأنّه لا إشكال بأنّ اليقين لا أثر له إلّا تنجيز متعلقه ، وكما قلنا في بعض المقامات ولا شبهة فيه : إنّه ليس هذا بيد الشرع ، بل هو بحكم العقل ومن وظائفه ، فاذا كان الأمر كذلك فالشارع لو جعل نفس اليقين استقلالا موضوعا للتنزيل باعتبار أثره فلا بدّ من تنزيل الشك بمنزلة اليقين من حيث الأثر ، ومع فرض عدم أثر له إلّا التنجيز فتنزيل الشارع أيضا لا بدّ وأن يكون في التنجيز ، ومع عدم كون هذا بيد الشرع فليس للشارع تنزيله ، فلا بدّ وأن يكون الإسناد الى اليقين باعتبار كونه مرآة للمتيقن فإنّ له الأثر وأمره بيد الشارع ، وهذا هو السرّ في ذهابهم الى كون اليقين مرآة للمتيقن ، فتدبّر.

ولكنّ هذا كلّه يكون لأجل ذهابهم في الاستصحاب الى أنّ ما فعله الشارع هو جعل المماثل ، فلا يمكن لهم أن يقولوا بأنّ اليقين اخذ طريقا استقلالا لا مرآة.

وأمّا على ما قويناه في أول الاستصحاب من أنّ الشارع أمر بالمكلف بالبناء على اليقين وبأن تجعل الشك كاليقين فليس فعل الشارع إلّا الأمر بالبناء ، فالمكلف

٣٥٦

يبني على اليقين فهذا فعل المكلف ، فعلى هذا نقول : إنّه بعد كون البناء من ناحية المكلف فالمكلف لو كان اليقين له حاصلا وكان واجدا له ما يفعل فكلّ ما يفعله حال كونه واجدا لليقين فهو يفعله حال الشك ، فهو لو كان متيقنا ما كان له إلّا الجري العملي على طبق يقينه ، ففي حال الشك أيضا بعد البناء على كون الشك كاليقين يكون فعله هو الجري العملي على طبقه ، فعلى هذا ولو أنّ الشارع حكم عليه بالبناء لكن بعد كون البناء من المكلف فالمكلف بعد البناء يكون فعله الجري العملي ، فالمكلف لا فرق عنده في أن يكون جريه العملي وفقا للأثر العقلي أو العادي أو الشرعي ؛ لأنّه لمّا كان بناء وهو حال اليقين فكما أنّ جريه العملي يكون على كلّ ما له أثر فكذلك في حال الشك.

فعلى هذا المبنى يكون اليقين مأخوذا استقلالا ، لأنّ له الأثر وهو الجري العملي ، فالمكلف بعد البناء من ناحيته يكون فعله الجري العملي فلا يرد المحذور المتقدم من أنّ اليقين لا أثر له إلّا التنجز وهو ليس أمره بيد الشرع ، لأنّ هذا الكلام يجري على الالتزام بجعل المماثل وأنّ الشارع جعله فلا يمكن له جعل التنجز ، فلا بدّ من كون اليقين مرآة للمتيقن ، وأمّا على ما قلنا من كون البناء من المكلف فيكون الأثر لليقين وهو الجري العملي ، فافهم.

واعلم أنّ لهذا المبنى الذي اخترناه ثمرات مهمّة :

منها : ما فهمت من كلامنا المتقدم من أنّه لا نحتاج الى جعل المماثل كما قال بعض.

ومنها : أنّه على هذا المبنى يكون وجه حكومة الاستصحاب على سائر الاصول واضحا ، إذ بعد كونه بمنزلة اليقين فحيث سائر الاصول موضوعها الشك وغايتها اليقين والاستصحاب على هذا بعد أمر الشارع بالبناء على اليقين يكون يقينا فيكون حاكما على سائر الاصول ، وأمّا على القول بجعل المماثل فحيث يكون

٣٥٧

اليقين مرآة للمتيقن فليس الشك كاليقين ، بل ليس إلّا جعل حكم مماثل للمتيقّن في حال الشك ، فعلى هذا يتعارض مع الاصول ، غاية الأمر يمكن أن يقال بأنّه تخصيص لسائر الاصول ، وأمّا الحكومة فلا وجه له.

ومنها : أنّه على ما قلنا يقوم الاستصحاب مقام القطع الطريقي الصرف والقطع الطريقي الذي اخذ جزء الموضوع ، لأنّه على هذا يكون الاستصحاب قائما مقامه وأمر بالبناء على اليقين ، فكلّ أثر كان لليقين يترتب ، سواء كان طريقا محضا أو طريقا جزء الموضوع ، وأمّا على القول بجعل المماثل فلا يقوم الاستصحاب مقام القطع الطريقي المأخوذ جزء الموضوع ، لأنّه على هذا ليس الشك كاليقين حتى يقال ما قلنا ، بل هو منزّل مقام المتيقن.

ومنها : أنّه في الاستصحاب التعليقي في حال الزبيبية ـ مثلا ـ يصحّ الاستصحاب وهو الحكم التكليفي بخلاف ما عومل معاملة اليقين يعني الأمر بالبناء الّذي قلنا ؛ لأنّه في حال الزّبيبية لا أثر لليقين وهو جري العملي حتى يستصحب ، فافهم.

ومنها : أنّه لو التزمنا بأنّ المقدمة واجبة بحكم العقل ووجوب المقدمة أعمّ من أن يكون وجوب ذيها واجبا واقعا أو ظاهرا فعلى القول بجعل المماثل في الاستصحاب فاستصحاب وجوب ذي المقدمة حيث يثبت الوجوب الظاهري فلا يكون أثره ترك ضدّه الذي هو مقدمة له ؛ لأنّ هذا ليس مجعول الشارع كي يكون أمره راجعا اليه. وأمّا على ما قلنا فبعد استصحاب الوجوب حيث يكون البناء من المكلف ونتيجة البناء هو الجري العملي فهو حال اليقين ، فكما كان فعله الجري العملي فيترك الضدّ فكذلك بعد الاستصحاب ؛ لأنّه كاليقين بعد البناء فيكون نتيجته الجري العملي ، فهو لا بدّ وأن يترك ضده ولو كان وجوب ذي المقدمة وجوبا ظاهريا.

ومنها : أنه لو نذر بأنّه لو ترك صلاة العيد ـ مثلا ـ في وقتها فعليه كذا ففي مقدار

٣٥٨

من الوقت تيقن بعدم الإتيان ثم بعد خروج الوقت شك في أنّه هل أتى بصلاة العيد في وقتها أو لا؟ والمفروض أنّ صلاة العيد لا قضاء لها فبعد الوقت على القول بجعل المماثل حيث لا أثر للاستصحاب ، يعني ليس له موضوع ، لأنّه ولو استصحب عدم إتيان الصلاة ولكن بعد عدم كون قضاء لها فلا معنى للاستصحاب ، فلا يجب الإتيان بالمنذور.

وأمّا على المختار فبعد كون البناء من المكلف فلو كان متيقنا بترك الصلاة ما يفعل فهو يأتي بالمنذور فكذلك بعد كون الجري العملي لهذا الاستصحاب ـ وهو أداء النذر ـ فيجري الاستصحاب ، وأثره لزوم الوفاء بالنذر ، فظهر لك أنّ الفرق بين جعل المماثل وما قلناه هو في موارد كثيرة ، والحق هو ما قلنا ، فلا حاجة الى جعل اليقين مرآة للمتيقن ، بل لا مانع من أخذه استقلالا كما قلنا ، فظهر لك أنّ الاستصحاب حجة مطلقا ولا حاجة الى ذكر سائر الأقوال.

نعم ، لا بأس بذكر قول من الفصل في حجية الاستصحاب بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وبيان ذلك يحتاج الى ذكر معنى الحكم الوضعي ، فنقول : إنّه قال القدماء بيانات في الحكم.

واعلم : أنّ ما ينبغي أن يقال هو : إنّ المحمولات التي تعرض وتحمل على الموضوعات إن كانت بحيث لو لم تكن خارجة في البين ولم تكن تكليفا لم تعرض هذه المحمولات على الموضوعات ، فهي أحكام ، مثلا الصلاة واجبة فلو لم تكن من قبل الشارع لا يحمل ولا يعرض الوجوب للصلاة.

وهذه المحمولات لو كان صرف التكليف بها وتكون من قبيل الأحكام الخمسة : الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة التي يعبّر عنها بالاقتضاء والتخيير لما في الأربعة الاولى من الاقتضاء ولما في الخامسة من التخيير فهي أحكام تكليفية ، وأمّا غير هذه الخمسة فكلّ شيء يكون من المحمولات التي

٣٥٩

لو لا جعل الشارع لم تحمل على الموضوعات حكم وضعي ، فعلى هذا لا اختصاص بالسببية والشرطية والمانعية ، أو بإضافة الرخصية والفرعية أو غيرها حتى بلغ التسعة ، بل على هذا فالحكم الوضعي أعمّ منها ومن غيرها ، فالميزان في الحكم الوضعي هو ما قلنا لك ، فتدبّر.

اذا عرفت ما قلنا فالتحقيق في المقام يتوقّف على رسم مقدمات :

المقدمة الاولى : في النزاع حول الأحكام الوضعية بأنّها هل هي مجعولة شرعا كما هي الأحكام التكليفية مجعولات شرعية ، أو لا تكون كذلك؟

لا يخفى أنّ المراد من الجعل الذي نقول به في المقام هو الإيجاد ، فكما ترى أنّ المجعولات التكوينية معنى جعلها هو إيجادها في الخارج ، كذلك المجعولات التشريعية فمعنى جعلها أحكاما تكليفية هو إيجادها في الخارج ، فكما أنّ جعله تعالى للسماوات والأرض معناه إيجادهما في الخارج ، فكذلك معنى جعله الوجوب إيجاده الوجوب في الخارج ، فيكون النزاع في أنّ الأحكام الوضعية هل هي مجعولات شرعية بالمعنى المتقدم كالأحكام التكليفية ، أو ليس كذلك بل المجعول هو الأحكام التكليفية؟

وأمّا الأحكام الوضعية فهي ليست إلا انتزاعية ، أعني انتزعها العقل من الخصوصية التي تكون في الأشياء ، مثلا كما أنّ العقل من اتّصال زيد وهند وحصول علقة شرعية بينهما ينتزع الزوجية ، أو ينتزع الكلّية من شيء لجهة كذلك بعد جعل الشارع وجوب الإكرام المعلق على مجيء زيد ينتزع من هذا التعليق السببية ، وهكذا ، فعلى هذا لا يكون ذلك بجعل الشارع ، بل يكون منجعلا ، ومعنى كونه منجعلا هو أنّ العقل ينتزع هذا من الشيء المجعول.

والجعل يكون على أقسام : فتارة يجعل الوجوب والسببية استقلالا لكن بجعل واحد ، مثل أن يقول : أكرم زيدا إن جاءك ، فجعل الحكم التكليفي وهو وجوب الاكرام عند مجيء زيد ، وجعل السببية أيضا لكنّ كلّا منهما يكون جعله بخصوصية ،

٣٦٠