المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

والطرق والكبرى التي تنطبق عليها الصغريات التعبدية من أي الأقسام هذه بعد بطلان التصويب مسلّما ، وهذا ما سيأتي التعرّض له في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري إن شاء الله.

فظهر لك ممّا مرّ أنّ العلم لا يصير وسطا لإثبات متعلّقه ، وإطلاق الحجة عليه مسامحة ، وأنّ الظنّ يصير وسطا لإثبات متعلّقه.

ولكن كلّ ما قلنا من عدم صيرورة العلم وسطا وعدم إطلاق الحجة عليه يكون في العلم الطريقي ، يعني ما هو طريق لكشف الواقع الذي ليس فيه إلّا جهة الإراءة.

وأمّا العلم الموضوعي فهو قابل لصيرورته وسطا لإثبات متعلّقه ، بمعنى أنّ العلم الموضوعي يعني العلم الذي جعله الشارع موضوعا لحكم يقبل لأن يصير وسطا ، وصيرورة العلم موضوعا لحكم آخر أمر ممكن ، فكما أنّ الشارع يمكن له أن يجعل الظنّ موضوعا لحكم ويقول : إذا ظننت بوجوب شيء وجب عليك كذا يمكن له أن يجعل العلم موضوعا لحكم ويقول : إذا علمت ـ مثلا ـ بالظهر وجب عليك التصدّق ، فصيرورة العلم موضوعا للحكم أمر ممكن.

٢١
٢٢

المقام الثاني

في تقسيم العلم

يقسّم العلم الى خمسة أقسام ، بأن يقال : إنّ العلم تارة يكون طريقيا ، وتارة يكون موضوعيا ، وإذا كان موضوعيا تارة يكون موضوعا على نحو الطريقية وبما هو طريق ، وتارة يكون موضوعا على نحو الصفتية وبما هو صفة خاصة ، فالأقسام ثلاثة :

الأول : العلم الطريقي.

الثاني : العلم الموضوعي على نحو الطريقية.

الثالث : العلم الموضوعي على نحو الصفتية.

وكل من الأخيرين إمّا أن يكون العلم تمام الموضوع ، وإمّا أن يكون جزء الموضوع ، فالأقسام خمسة :

الأول : العلم الطريقي.

الثاني : العلم الموضوعي بنحو الطريقية على أن يكون العلم تمام الموضوع.

الثالث : العلم الموضوعي على أن يكون العلم جزء الموضوع ، يعني يكون العلم مع الواقع موضوعا للحكم.

الرابع : العلم الموضوعي على نحو الصفتية ، ويكون هو تمام الموضوع ، يعني هو

٢٣

موضوع للحكم بنفسه مع قطع النظر عن الواقع.

الخامس : العلم الموضوعي على نحو الصفتية بنحو يكون جزء الموضوع ، يعني يكون هو الواقع موضوعا للحكم.

فتكون الأقسام خمسة على مذهب الشيخ رحمه‌الله الذي جعل القطع مقسما.

وكذلك تكون الأقسام خمسة على مختارنا من جعل العلم مقسما.

لا يقال : يلزم على مختاركم أن لا تكون الأقسام إلّا ثلاثة ؛ لعدم إمكان أخذ العلم في الحكم على أن يكون تمام الموضوع ، بل في صورة الموضوعية يكون العلم جزء الموضوع دائما ، لأنّ مع كون العلم كذلك هو الاعتقاد الموافق للواقع فدائما يكون العلم مع الواقع وغير منفكّ عنه ، فكلّ ما علم بشيء فالواقع يكون كذلك ؛ فلو علم بكون هذا خمرا ففي الواقع يكون خمرا ، فالمناط هو العلم والواقع ، لعدم التفكيك بينهما ، ولا يكون العلم في قبال الواقع بل كلّ حكم يكون للعلم يكون للواقع أيضا ، فعلى هذا لو صار العلم موضوعا لحكم آخر يكون أخذه بما هو جزء الموضوع ، فهو مع الواقع يكون موضوعا للحكم ، ولا يعقل فرض كون العلم تمام الموضوع ؛ لأنّ معنى كون العلم تمام الموضوع هو كون العلم ميزانا لا الواقع ، والحال أنّ العلم والواقع متلازمان.

نعم ، على مختار الشيخ رحمه‌الله من جعل العلم هو القطع يصحّ تصور أخذ القطع موضوعا لحكم آخر على أن يكون هو تمام الموضوع ؛ لأنّ القطع تارة لا يصادف الواقع مثل الجهل المركّب فالواقع غير ملازم مع القطع حتى لا يمكن التفكيك بينهما.

لأنّا نقول : إنّه على أيّ تقدير تكون الأقسام خمسة ، أمّا على مختار الشيخ رحمه‌الله فالأمر واضح. وأمّا على ما اخترنا فنقول كما قلنا في بعض المباحث : إنّ المتلازمين يكون أثرهما أنّه إذا وجد أحدهما وجد الآخر ولا يمكن وجود أحدهما مع عدم وجود الآخر ، والقدر اللازم أنّه لا يمكن أن يكون لهما حكمان مختلفان ، ولكن لا يلزم أن يكون لهما حكمان موافقان ، بمعنى أنّه لا يلزم أن يكون لكلّ منهما حكم ثبت

٢٤

للآخر ، مثلا : الاستقبال والاستدبار متلازمان ، فكلّما يحصل الاستقبال من طرف يحصل الاستدبار في مقابله ، ولكن لا يلزم أن يكون حكم لأحدهما هو نفسه للآخر ، بل ما يلزم هو أن لا يكون أحدهما محكوما بحكم مخالف للآخر ، ولذا ففي مثال الصلاة لو فرض كون الواجب هو الاستقبال للقبلة فلا يمكن أن يكون استدبار القبلة واجبا ، فلو أمر بوجوب الاستقبال ليس معناه حرمة الاستدبار ، بل القدر اللازم هو عدم إمكان وجوب استدبار القبلة ، فكلّ منهما لو كان مورد الحكم لا يلزم أن يكون الآخر موردا لهذا الحكم ومتحدا معه في الحكم ، ولهذا أيضا آثار في بعض الموارد ، ففي المثال المذكور لو حكم بحكم على أحدهما لا يلزم أن يكون الآخر محكوما به.

إذا عرفت أنّ المتلازمين لا يلزم اتّحادهما في الحكم نرجع الى ما نحن فيه ، ونقول : بأنّ العلم والواقع ولو كان بينهما تلازم ولكن تارة يكون موضوع الحكم الواقع ، وتارة يكون العلم ، وتارة يكون كلّ منهما ، فلو كان موضوع الحكم العلم ـ مثلا ـ لا يلزم أن يكون الواقع أيضا محكوم بهذا الحكم ، بل يمكن أن لا يكون له حكم أصلا ، ففي الصّورة التي يكون فيها موضوع الحكم هو نفس العلم يكون تمام الموضوع هو العلم ، ولا نظر الى الواقع ولو كان الواقع أيضا موافقا وملازما للعلم ، ولكن ليس موضوع حكم الشارع ، بل يكون في هذه الصورة الواقع كالحجر في جنب الإنسان.

وبالعكس لو كان الواقع موضوع الحكم فيكون الموضوع الواقع بنفسه ، ولو كان كلّ منهما موضوع الحكم فكلّ منهما جزء الموضوع ، وفيما كان العلم موضوعا للحكم بنفسه لا الواقع له بعض الآثار في بعض الموارد ، فلو دلّ دليل على تنزيل شيء منزلة العلم فهو يصير منزلة العلم فقط على هذا لا العلم والواقع ؛ لعدم التلازم بين التنزيلين ، يعني لا يلزم أن يكون كلّ شيء ينزّل منزلة العلم ينزّل منزلة الواقع أيضا.

ثمّ إنّ للنائيني رحمه‌الله هنا كلاما ، وهو : أنّه قال بعدم إمكان فرض كون العلم

٢٥

مأخوذا على نحو الموضوعية ، ومع ذلك يكون بنحو الطريقية مأخوذا في الموضوع فيما إذا كان العلم موضوعا لإثبات الحكم ، فأنكر أحد الأقسام المتقدمة وهو العلم الموضوعي على وجه الطريقية إذا كان تمام العلم موضوعا لإثبات الحكم لأنّه لو كان العلم موضوعا ومأخوذا كذلك يلزم التّناقض ؛ لأنّ مقتضى كونه طريقا مناقض لكونه موضوعا ، لأنّه في الأول هو طريق والموضوع هو الواقع ، ولا نظر به أصلا ، ومقتضى كونه موضوعا هو كون النظر به بنفسه موضوعا فيلزم التناقض ، فلا يعقل كون العلم موضوعا بنحو تمام الموضوعية ومع ذلك كان أخذه على نحو الطريقية في الموضوع.

ولكن لا يخفى ما في كلامه من الفساد :

أمّا نقضا فبأنّ كلامه لو كان في محلّه فلا يختصّ الإشكال بصورة كون تمام العلم موضوعا ، بل كما يجري هذا الاشكال على تقدير تماميته في هذه الصورة يجري في كذلك صورة اخرى ، وهي : ما إذا كان العلم جزء موضوع لإثبات الحكم ؛ لأنّ في هذه الصورة يكون العلم طريقا وجزء موضوع لإثبات الحكم ، فعلى هذا لو كان هو جزء الموضوع فيكون النظر به تارة بالطريقية ، وتارة بالموضوعية ، بل لعلّه يكون الإشكال في هذه الصورة أزيد من الصّورة التي استشكل فيها ؛ لأنّ في الصّورة التي ذكرها يكون العلم فقط موضوعا ، ولكن في هذه الصورة يكون العلم مع الواقع موضوعا ، فيكون العلم طريقا الى ما هو جزء الموضوع وهو الواقع ، ويكون مع ذلك بنفسه جزء الموضوع ، ففي الصّورة الاولى ليس طريقا لما هو الموضوع ومع ذلك يكون الموضوع ، وأمّا في الصورة الثانية مع كونه طريقا الى جزء الموضوع وهو الواقع بنفسه جزء الموضوع فيرد عليه نقضا بما قلنا.

وأمّا جوابه حلّا فهو : أن يقال كما نقول من كون العلم تارة موضوعا لحكم ليس معناه أنّ العلم موضوع لنفس متعلّقه ، بل يكون معناه أنّ العلم يصير تارة موضوعا لحكم آخر غير متعلّقه ، مثلا إذا قال بأنّه إذا علمت بوجود الخمر يجب

٢٦

الاجتناب عنه ، فمتعلّق العلم يكون وجود الخمر فليس العلم مأخوذا موضوعا لهذا المتعلق وإثبات هذا المتعلق ، بل هذا العلم ـ أعني العلم بوجود الخمر ـ يكون موضوعا لحكم آخر وهو وجوب الاجتناب ، ومنشأ إشكال النائيني رحمه‌الله يكون هو تخيل أن في الصورة التي يكون فيها العلم موضوعا هو كونه موضوعا لإثبات نفس متعلّقه ، فقال : «إنّ ذلك موجب للتناقض» ، وإن كان الأمر كذلك صحّ ما قاله ، ولكن من الواضح فساد ذلك بل ومن أوضح الواضحات ، كما يظهر من كلام الشيخ رحمه‌الله بأنّ العلم في صورة الموضوعية يصير موضوعا لحكم آخر غير متعلّقه ، فعلى هذا لا يلزم إشكال أصلا ؛ لأنّ العلم ولو اخذ موضوعا بما هو طريق لكنّه طريق لاثبات متعلّقه وموضوع لإثبات حكم آخر ، فلا يكون طريقا وموضوعا بالنسبة الى موضوع واحد حتى يلزم التناقض ، فظهر لك فساد هذا الكلام.

وقال نظير هذا الإشكال في الاستصحاب أيضا في ردّ التمسّك ب «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» للحكم الواقعي والظاهري بعدم إمكان ذلك ، لأنّه لا بد من أخذ أحدهما طريقا الى الواقع والآخر موضوعا ، وهذا غير ممكن ؛ لأنّ بينهما الطولية حيث إنّ حلّية الظاهرية في طول حلّية الواقعية فلا يمكن لحاظهما عرضا ، وقد قلنا بفساد هذا الإشكال ؛ لأنّ العلّة والمعلول ولو أنّ بينهما الطولية بحسب الوجود ولكن لا مانع من أن يعرض بعد ذلك حكم لهما عرضا ، كما ترى أنّ الابن معلول الأب وجودا ولكن بعد الوجود قابلان لحكم عرضا ، ولا مانع من ذلك ، فكذلك ولو أنّ بين الحكم الواقعي والظاهري تكون الطولية ولكن بلحاظ آخر يمكن أن يعرض عليهما حكم واحد.

ثمّ بعد ما ظهر لك من أنّ أقسام العلم خمسة لا بدّ من فهم الفرق بين الأقسام وبيان المراد منها :

أمّا العلم الطريقي فمعناه واضح فليس فيه إلّا جهة الإراءة والكشف.

وأمّا العلم الموضوعي فلا بدّ من الفرق بين قسميه ، وهو ما إذا كان موضوعا

٢٧

على وجه الطريقية ، وما إذا كان موضوعا على نحو الصفتية ، وأمّا القسمان الآخران ـ يعني ما إذا كان العلم مأخوذا بنحو تمام الطريقية وبين العلم الموضوعي على نحو الصفتية ـ فنقول : إنّه قيل في مقام الفرق وجوه :

الوجه الأول : هو أنّه كما يكون الشيء تارة مركبا وموضوعا للحكم بما هو مصداق للكلّي لا بما هو فرد خاص ، مثلا يكون لزيد بما هو فرد ومصداق للعالم موضوعا لوجوب الإكرام ، وفي هذه الصورة لو دلّ دليل على أنّ فردا آخر مصداق للكلي ينزّل منزلته ، مثلا لو دلّ دليل على كون عمرو عالما ينزّل منزلته ويشمله حكم وجوب الإكرام ، لأنّ في هذه الصورة مركّب الحكم يكون هو الجامع بينهما وهو العلم ، ولا خصوصية لخصوص الفرد إلّا بما هو فرد للجامع.

وتارة لا يكون كذلك ، بل يكون المصداق الفرد بما له من الخصوصية المختصّة به مورد الحكم لا بما هو مصداق للكلي ، ففي هذه الصورة لو دلّ دليل على كون فرد آخر مصداقا لما هو مصداقه لا يسري حكم الأول اليه ؛ لعدم كون الحكم به بما هو مصداق للكلي ، بل يكون الحكم عليه بما هو فرد خاصّ متخصّص بالخصوصية الكذائية ، مثلا : لو صار زيد موضوعا لوجوب الإكرام لا بما هو مصداق للإنسان بل بما هو فرد خاص متخصص بخصوصيات ودل دليل على تنزيل عمرو منزلة زيد في الانسانية لا يسري وجوب إكرام المتعلّق بزيد به ؛ لأن زيدا لم يكن مركبا وموضوعا للحكم بما هو مصداق الإنسان.

اذا عرفت هذين القسمين نعود الى العلم ونقول : بأنّ العلم أيضا يأتي فيه هذان القسمان :

الأول : أن يكون أخذه في الموضوع بما هو مصداق من مصاديق الكاشف ، لا لأجل خصوصية في نفسه بل بما هو كاشف ، فلو اخذ كذلك لو دلّ الدليل على تنزيل الظنّ ـ مثلا ـ في الكاشفية وأنّ الظنّ كاشف واحد من مصاديق الكاشف فلا إشكال في قيامه مقام العلم المأخوذ كذلك ، لأنّ في الحقيقة ما هو موضوع الحكم هو جامع

٢٨

الكاشف ، والعلم أيضا كان موضوعا لأجل كونه مصداقا له ، فكلّ كاشف بعد ورود الدليل على كونه كاشفا يصير موضوعا لإثبات ما يكون العلم موضوعا لإثباته.

الثاني : أن يكون العلم موضوعا للحكم لا بما هو مصداق لجامع الكاشف ، بل بما هو صفة ولأجل خصوصية تكون فيه ، ففي هذه الصورة ولو دل دليل على كون الظنّ ـ مثلا ـ مصداقا لمصاديق الكاشف لا يقوم مقام هذا العلم ، لأن العلم صار موضوعا بما هو صفة خاصة وبما فيه من الخصوصية ، فالقسم الأول يكون علما موضوعيا على وجه الطريقية ، والقسم الثاني يكون علما موضوعيا على وجه الصفتية ، فبعض قال في مقام الفرق بين العلم الموضوعي على وجه الطريقية وبين ما اخذ على نحو الصفتية بهذا البيان.

ولكن قد يقال : إنّ هذا الفرق يظهر من بعض كلمات الشيخ رحمه‌الله مثل مثاله الذي قال بأنّ الشارع لو أخذ صفة القطع على هذا الوجه في عدد ركعات الثنائية والثلاثية والاولتين من الرباعية فالدّليل الدال على حجية مطلق الظنّ في الصلاة لا يكفي لكفاية قيام الظنّ بأحد طرفيه أو أصالة عدم الزائد مقام هذا العلم ، لأن العلم اخذ على وجه الصفتية ، وكذلك في المثال الذي مثّل به بعد ذلك فيمن نذر بتصدق درهم ما دام متيقنا بحياة ولده لا يجب عليه التصدّق مع الشك في الحياة لأجل الاستصحاب ، لأنّ القطع بما هو صفة اخذ في موضوع نذره ، فهذان المثالان يدلّان على أنّ مراده من القطع الموضوعي الطريقي ما قلنا ، ومن القطع الموضوعي الصفتي ما قلنا ، وحيث إنّ في المثالين صفتي لا تقوم الأمارات الآخر بدليل حجيتها مقامه إلّا بتنزيل آخر.

ولكن لا يخفى عليك أنّ مراد الشيخ رحمه‌الله لو كان هو هذا الفرق بين الطريقي الموضوعي وبين الصفتي الموضوعي لكان لازمه الالتزام بكون النسبة بين أدلة الأمارات والواقعيات هو الورود لا الحكومة ؛ لأنّ معنى الورود هو التصرّف في الموضوع ، ومعنى الحكومة هو التصرّف في الحكم لا في الموضوع مثل قوله : «الطّواف

٢٩

بالبيت صلاة» يعني حكما لا موضوعا ، وأمّا في الورود فيكون التصرف في الموضوع ، وفي المقام ما قلت في القسم الأول ، يعني القطع الطريقي الموضوعي كان معناه أنّ العلم موضوع للحكم بما هو مصداق للكاشف ، فلو دلّ الدليل على كون الظنّ كاشفا فيكون واردا على هذا الدليل وتكون النسبة الورود ، لأنّ بعد دليل التنزيل تصرف الشارع في الموضوع وهو الكاشف وجعل الظنّ مصداقا للكاشف بدليل التنزيل ، لا أن يكون التصرف في الحكم فتكون النسبة الورود لا الحكومة ، والحال أنّ الشيخ رحمه‌الله يقول بأنّ النسبة بين الطرق والأمارات وأدلة الأحكام الواقعية تكون الحكومة لا الورود ، فهذا خلاف مبناه ، فبعد ما نرى من أنّ في المثالين يكون القطع مسلّما مأخوذا على وجه الطريقية لا بد من الالتزام بأنّ الشيخ رحمه‌الله خلط في هذا المقام ، أو أن يكون بنظره القطع الصفتي غير هذا.

الوجه الثاني : هو أنّ صفات ذات الإضافة ولو كلما ترى ترى مع الإضافة ، ولكن مع ذلك تارة في مقام اللحاظ يلاحظ اللاحظ هذه الصفة ذات الإضافة من حيث نفسها بدون جهة إضافتها الى الغير ، بل يكون الملحوظ نفس هذه الصفة. وتارة يلاحظ هذه الصفة من حيث إضافتها الى الغير ، ففي هذا اللحاظ يكون الملحوظ الصفة مع خصوصية إضافتها الى الغير.

إذا عرفت ذلك نقول : بأنّ العلم حيث يكون كذلك يعني من صفات ذات الإضافة فإنه نور لنفسه ومنوّر لغيره فيمكن لحاظه بنحوين :

فتارة يلاحظ العلم بما هو نور ومرآة للغير ، وبهذا المعنى يكون طريقيا ، فلو لوحظ كذلك لو دلّ الدليل على تنزيل شيء في الكاشفية فيقوم مقام العلم ، لأنّه بما هو نور ومرآة وكاشف ونور لنفسه ومنور لغيره وباعتبار إضافة الى نفسه وغيره صار موضوعا للحكم ، فلو كان شيء له هذه الإضافة ولو بالتنزيل فينزّل منزلته.

وتارة يلاحظ حيث نفسه لا بإضافة الى نفسه وغيره بل بما هو من كيفيات نفسانية ، فعلى هذا لو دلّ دليل على كون شيء فيه هذه الإضافة لم يقم مقام هذا

٣٠

العلم ؛ لأنّ في هذه الصورة العلم صار موضوعا للحكم بما هو لا بما هو مضافا الى الغير.

فعلى الأول يكون العلم طريقيا موضوعيا. وعلى الثاني يكون صفتيا موضوعيا ، وبهذا النحو يمكن الفرق بين الصفتي الموضوعي وبين الطريقي الموضوعي ، وعليه يترتّب الأثر : فإن كان أخذ العلم على النحو الأول ـ أعني الصفتي ـ فلا تقوم الأمارات والطرق بدليل اعتبارها مقام هذا العلم.

وإن اخذ على النحو الثاني ـ أعني فيما أخذ طريقا في الموضوع ـ فتقوم مقامه الأمارات والطرق.

والنائيني رحمه‌الله جعل كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله موردا للإشكال ، فقال في هذا المقام : بأنّ العلم حيث يكون من الامور ذات الإضافة ففيه جهات ثلاثة : جهة كونه صفة قائمة بالنفس مضافا الى العالم ، وجهة كشفه عن الواقع وإضافته الى المعلوم ، وجهة الجري العملي على طبقه ، وما يقوم مقامه الأمارات والطرق هو في الجهة الثانية يعني حيث إضافته الى المعلوم ، فما يظهر من كلامه هو جعل اضافته الى العالم وكونه نورا له في مقابل كونه مرئيا للمعلوم وكاشفا عنه.

والحال أنّ هذا كلام فاسد ، حيث إنّه في ما اخذ على نحو الصفتية لم يلاحظ أصلا جهة كاشفيّته وكونه نورا للعالم وكاشفا للمعلوم ، بل بهذا الحيث يكون في مقابلهما ، وأمّا لو اخذ طريقا يلاحظ جهة اضافته الى العالم والمعلوم كليهما لأنّ بينهما التلازم ، فعلى هذا قيام الأمارات مقامه يكون في ما اخذ طريقا شاملا لاضافته الى العالم وإضافة الى المعلوم ، فلا يمكن أن تقوم الأمارات مقامه حيث إضافته الى المعلوم بدون أن يقوم مقام إضافته الى نفس العالم ، بل نوعا في الموارد يكون العلم الطريقي بلحاظ إضافته الى العالم تقوم الأمارات مقامه ، كما ترى في الرجوع الى المجتهد فإنّ علم المجتهد موضوع لحكم المقلّد وهذا العلم مسلما طريقي ، وهذا الحيث يعني حيث اضافته الى العالم يعني المجتهد موضوع للحكم وبهذا الحيث تقوم

٣١

الأمارات والطرق مقامه ، فهو مع التزامه بأنّ في هذا المثال تقوم الأمارات مقام العلم مع كون حيث إضافته الى العالم ملحوظا كيف تفوّه بهذه المقالة؟

فالحقّ هو : أنّ حيث كاشفية العلم في مقابل حيث صفتيته ، فلو لوحظ صفة ـ يعني بما هو صفة ـ في مقابل سائر الصفات النفسانية كالظنّ والشكّ يكون هذا اللحاظ في قبال حيث كاشفيته ولحاظه كاشفا بكلا صورتيه ، يعني صورة إضافته الى العالم وصورة إضافته الى المعلوم يكون في قبال أخذه صفة ، وما يترتب الأثر في هذا يعني لو اخذ صفة لم تقم مقامه الطرق والأمارات ، ولو اخذ كاشفا تقوم مقامه الطرق والأمارات لو لوحظ بالإضافة الى المعلوم أو الى العالم لأنّ بينهما التلازم ، فظهر لك عدم تمامية كلامه رحمه‌الله.

ثمّ إنّه بعد ما ظهر لك أنّ العلم ينقسم الى أقسام خمسة ، وظهر لك الفرق بين الطريقي وبين الموضوعي ، وظهر لك الفرق بين الصفتي الموضوعي وبين الصفتي الطريقي يقع الكلام في مقام آخر ، وهو : أنّ الأمارات والطرق هل تقوم مقام العلم بدليل حجّيتها ، أو لا؟

فنقول : اعلم أنّ الكلام أولا يكون في الطرق والأمارات وبعض الأصول المحرزة للواقع كالاستصحاب ، فهو وان كان من الأصول إلّا أنّه مع ذلك يكون ناظرا الى الواقع ، ولذا قلنا بكونه برزخا بين الاصول والأمارات ، ولذا يقدم على سائر الاصول في مقام التعارض ، وأمّا سائر الاصول ممّا ليس فيه جهة الإحراز وغير ناظر الى الواقع فليس محلّ كلام ، لعدم قيامه مقام العلم.

إذا عرفت ذلك نقول : بأنّ الكلام يقع تارة في قيام هذه الطرق والأمارات وبعض الاصول المحرزة مقام العلم الطريقي ، وتارة يقع الكلام في قيامها مقام العلم الموضوعي :

أمّا الكلام في المقام الأول فنقول : بعد ما قلنا من أنّ العلم يكون كاشفا تاما وليس في إنارته نقص ، ولذلك مرأى للواقع ونور في نفسه منور لغيره ، وحيث

٣٢

تكون كاشفيته تامة يكشف الواقع به ولا يحتاج الى تعبد بالعمل به ، بل ولا يمكن ذلك ، ويكون تطبيق الكبرى على صغرياتها المعلومة قهريا وأنّ هذا أثره التكويني ، وبعد كون ذلك أثره التكويني فبمجرد حصول العلم يعلم بالصغرى وبعد العلم بها تنطبق هذه الصغرى على الكبريات الواقعية. وبعبارة اخرى : بعد حصول العلم يترتب على المعلوم كلّ ما هو أثره هذا حال العلم.

وإذا نظرنا الى الطرق والأمارات وبعض الاصول يعني ما فيها جهة الإحراز حيث إنّه بعد قيام الظنّ أو الطريق مثلا على شيء ـ كما قلنا سابقا ـ لم يكن للمظنون مثلا كبرى واقعية حتى يترتب على الصغرى المظنون فلا بدّ من حيث التعبد في الطرق والأمارات حتى بعد التعبد يمكن ترتّب كبريات الواقع عليها ، لأنّ فيها احتمال الخلاف ، فلأجل هذا محتاجة في الاعتبار الى الجعل ولذا تكون حججا تعبدية بعد وقوع التعبد بها من الشارع.

فحيث إنّا نقول بأنّ معنى أنّ الشارع جعلها حجة واعتبارها هو جعل حجية نفس الظنّ ونفس الطريق ، لا المظنون أو المؤدّى ، فمعنى جعلها حجة هو أنّ الكشف الناقص الذي كان فيها أتمّه الشارع ، ويكون مختارنا في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري هو تتميم الكشف ، فبعد جعل الشارع وحجيتها من قبله يكون معناه إلغاء احتمال الخلاف الذي كان فيها ، فبعد تتميم كشف الناقص يصير كشفه تاما وكاشفا تاما كالعلم.

غاية الأمر العلم كاشف تامّ بنفسه ، وهذه الطرق التعبدية بجعل الشارع وتعبد منه فبعد قيام الدليل على حجيتها تصير من حيث الكاشفية كالعلم.

فظهر لك من هذا البيان أنّ ما فعل الشارع هو تتميم الكشف الناقص الذي كان فيها لا غير ذلك ، ثم بعد ذلك يترتب على كاشفيتها كلّ ما يترتب على الكاشف الواقعي ، وليس من فعل الشارع ، بل الشارع جعلها كاشفا كالعلم ، فكما أنّ العلم بعد كشفه عن الواقع يترتب على المعلوم كلّ ما هو أثره كذلك هذه الطرق التعبدية ، فبعد

٣٣

صيرورتها كاشفة تامّة ولو بالتعبد فكما أنّ العلم الطريقي بمجرد إراءته الواقع يترتب على المعلوم كلّما هو أثره من حكم أو غيره كذلك هذه الطرق التعبدية بعد الكشف الناقص بها وتتميم كشفها الناقص بدليل الحجية واعتبارها يترتب على صغرياتها الكبريات الواقعية ، وما هو أثر الصغرى الواقعية ، لأنه على الفرض بعد ورود الدليل على حجيتها ومعناها كما قلنا هو إلغاء احتمال خلافها تصير كالعلم كاشفا للواقع فتقوم بدليل اعتبارها مقام العلم الطريقي ، فكما أنّه لو علم بكون هذا خمرا ترتب عليه أثره الواقعي هو وجوب الاجتناب كذلك لو قام خبر واحد على كون ذلك خمرا يترتب عليه أثره الواقعي والكبرى الواقعية وهي وجوب الاجتناب عنه ، فافهم.

وهذا واضح ، إنّما الإشكال في جهة اخرى ، وأنّه تارة يقع الكلام في قيام هذه الطرق التعبدية والاصول المحرزة مقام العلم الموضوعي.

اعلم : أنّ هذه الطرق التعبدية لا تقوم مقام العلم الموضوعي الصفتي مسلّما ؛ لأنّه كما قلنا ليس أثر المترتب على العلم الموضوعي الصفتي على مصداق الكاشف حتى يقال بعد حجية الامارة ـ مثلا ـ تكون الأمارة كاشفا مثله فيترتب عليه كلما هو أثر الكاشف ، بل أثر المترتب يترتب على هذه الصفة بالخصوص في قبال سائر الصفات فلا تقوم صفة اخرى مقام هذه الصفة.

إنّما الكلام يكون في أنّها هل تقوم مقام العلم الموضوعي الطريقي ، أم لا؟

والحقّ هو قيامها مقام العلم بهذا المعنى ، لما قلنا من أنّ دليل اعتبارها جعلها كالعلم في الكاشفية وتمّم الشارع نقص كشفها فهي كالعلم في الكاشفية ، وبعد صيرورتها كاشفة تقوم مقام العلم الموضوعي الطريقي أيضا ، لأنّ العلم صار موضوعا بما هو كاشف عن الواقع ، وهذه الطرق أيضا بعد دليل الاعتبار تكون كالعلم في الكاشفية.

وما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بيان عدم إمكان قيام هذه الطرق مقام العلم

٣٤

الموضوعي الطريقي من أنّ في هذه صورة اخذ العلم طريقا ليس نظرا بالعلم أصلا بل النظر يكون الى الواقع فقط ، لأنّ نسبة العلم الى المعلوم نسبة المرآة مع ما يرتسم فيه ، فكما أنّ من ينظر في المرآة يكون تمام نظره بالصورة المرتسمة فيه كذلك في العلم الطريقي بعد كونه طريقا يكون النظر بالمعلوم والواقع ولا نظر بالعلم أصلا ، وفي صورة أخذ العلم موضوعا بعد كونه موضوعا يكون تمام النظر به مستقلا اذا كان العلم تمام الموضوع ، وبه وبالواقع إذا كان جزء الموضوع.

وعلى أيّ حال ففي كلتا الصورتين يكون العلم مورد النظر ، ففي الصورة الطريقية آلي ، وفي الصورة الموضوعية استقلالي ، فدليل تنزيل الأمارات منزلة العلم إن كان تنزيله في كلتا الجهتين فيوجب اجتماع اللحاظين ، وهذا محال ، وإن كان متكفّلا لأحدهما فلا بدّ أن يكون متكفّلا لحيث الطريقية لا لحيث الموضوعية ، وأنتم أيضا لا تلتزمون بكون التنزيل في حيث موضوعية العلم لا لحيث الطريقية ، فدليل التنزيل متكفّل لتنزيل الأمارات منزلة العلم في حيث الطريقية ، فقيامها مقام العلم في حيث الموضوعية يحتاج الى تنزيل آخر ودليل آخر ، ولا يمكن تكفّل دليل واحد لكلّ من الجهتين ؛ لعدم إمكان اجتماع اللحاظين : لحاظ الآلية لحيث قيامها مقام العلم الطريقي ، ولحاظ الاستقلالية لحيث قيامها مقام العلم الموضوعي. وأضف الى ذلك أنّه لا بدّ في التنزيل أن يكون باعتبار الأثر ، بمعنى أن تنزيل الطرق منزلة العلم يكون باعتبار ترتب الآثار على ذلك ، فلا بدّ من أن يكون الأثر ملحوظا ، فبعد ذلك الأثر هو الواقع ، ففي العلم الطريقي يكون الأثر مترتبا على الواقع ، وفي الموضوعي على العلم إذا كان تمام الموضوع ، وعلى العلم والواقع اذا كان العلم جزء الموضوع ، ففي تنزيل الامارة منزلة العلم الطريقي الملحوظ هو الواقع ، وفي قيامها منزلة العلم الموضوعي يكون الملحوظ هو العلم ملازم ذلك اجتماع اللحاظين فدليل الواحد غير قابل لتنزيلين.

يظهر لك فساده مما قلنا ؛ لأنّا قلنا بأنّ المجعول في باب الطرق والأمارات ليس

٣٥

إلّا نفسها وتتميم كشفها ، وأمّا ما يترتب عليها فلا يكون مورد الجعل ، فالشارع تمّم نقص كشفها ، ثم بعد تتميم هذا النقص تصير كاشفة تامة ، فكل أثر يكون مترتبا على الكاشف يترتب عليها بدون أن يكون هذا الأمر مورد لحاظ الشارع في مقام الجعل والتنزيل ، فالشارع لا يكون نظره الى الأثر حتى يقال : إنّ الأثر في أحدهما على الواقع وفي أحدهما على العلم ، بل الشارع لم يفعل إلّا تتميم الكشف ، ثمّ بعد صيرورته كاشفة وكل أثر يكون للكاشف يترتّب عليه ، فالشارع لم ينزّله منزلة العلم في حيث الطريقية ، ولم يقع تنزيله في هذا الحيث حتى يقال مع لحاظ هذا الحيث لا يمكن لحاظ الموضوعية ، بل الشارع جعله كاشفا. ثمّ الكاشف تارة يصير طريقا فهي أيضا بعد كونها كاشفا تصير طريقا ، وتارة تصير موضوعا لحكم فهي أيضا بعد التنزيل في الكاشفية تصير موضوعا لحكم من غير أن يكون ملحوظ الشارع في مقام التنزيل هذين الحيثين.

وما قال من أنّ التنزيل باعتبار الأثر فلا بدّ من لحاظ الأثر فيه أنّ التنزيل يكون كما قال باعتبار الأثر ، لكن تارة يكون الملحوظ في مقام التنزيل هو نفس الأثر ، وتارة يكون الشيء لو كان لحاظ الشيء وتنزيله باعتبار الأثر ، ففي الأوّل يكون الملحوظ هو الأثر ، وفي الثاني لا يكون الملحوظ هو الأثر ، بل الملحوظ نفس الشيء ، غاية الأمر لحاظه وجعله كان باعتبار الأثر ، وبينهما فرق واضح.

فلو كان المجعول في باب الأمارات المؤدّى يصحّ ما قال ، لأنّ الجعل تعلّق بالأثر والمؤدّى ، فهذا الجعل لا يكفي لجعل نفس الأمارة ، ولكن لو كان الجعل متعلقا بنفس الأمارة لا بالأثر ولو كان الجعل باعتبار الأثر فلا يلزم ما قاله أصلا.

فظهر لك فساد كلامه ، والعجب من هذا المحقق رحمه‌الله فهو مع التزامه في باب الأمارات بأن المجعول هو الحجية لا المؤدّى كيف يقول بهذه المقالة؟

ثمّ بعد ما عرفت من عدم الإشكال في قيام الأمارات مقام العلم الموضوعي على وجه الطريقية على القول بتعلّق الجعل بنفس الأمارة أو نفس الظنّ ، وكون

٣٦

المجعول التعبدي نفس الطرق لا المؤدّى نقول : بأنه يمكن الالتزام بذلك على القول بكون المجعول هو المؤدّى ، يعني مؤدّى الطريق.

بيانه : أنّ التنزيلات الواردة تارة تكون عرضية ، بمعنى أنّ شيئا يكون في عرض شيء آخر لا في طوله مثل أن يقال : التراب ماء فنزّل التراب منزلة الماء في الطهورية مثلا ويكون في عرضه لا في طوله ، فيكون لسان التنزيل جعله عرضا له.

وتارة لا يكون المجعول والمنزّل في عرضه ، بل يكون في طوله ، فنقول : إنّ فيما نحن فيه لا يمكن الالتزام بكون التنزيل عرضيا ، وإنّ مؤدّى الطريق منزّل منزلة الواقع ويكون في عرضه ، لأنّ هذا موجب للتصويب الذي هو محال ، أو مجمع على بطلانه ؛ لأنه على هذا يكون الواقع تارة الواقع الأولي ، وتارة الواقع الجعلي وهذا تصويب ، فما هو المعقول هو كون المؤدّى الذي تعلّق الجعل به في طول الواقع ، بمعنى أنّ مؤدّى الطريق من باب كشفه عن الواقع صار حجة ولازم الاتّباع ، فيكون المؤدى منزّلا منزلة الواقع في طوله وباعتبار كشفها عن الواقع ، فعلى هذا يكون المؤدى لازم الاتّباع والمجعول من باب كونها كاشفة عن الواقع وكون الطريق القائم عليه طريقا الى الواقع فلبّا يكون اعتبار المؤدى وتعلّق الجعل بها لأجل كشفها عن الواقع ، فحيث كشفها عن الواقع مأخوذ فيه قهرا ، لأنّ بهذا الحيث صار مجعولا ، فالمؤدى مع كشفها عن الواقع صار مورد الجعل والاعتبار ، وعلى هذا فالمؤدّى المنكشف مورد اعتبار الشارع ، يعني مؤدّى المتحيّثة بحيثية كشفها عن الواقع ولأجل كاشفيّتها للواقع صارت مورد الاعتبار.

فعلى هذا بعد كون المؤدّى بهذا الاعتبار مورد الجعل فحيث الكشف دخيل وملحوظ في مقام الاعتبار فبعد كون المؤدّى لكاشفيتها عن الواقع مورد الاعتبار فالجعل لا يتعلّق بنفس المؤدّى ، بل بها وبحيث كشفها.

ولهذا قال بعض في مقام بيان مراد الشيخ رحمه‌الله : إنّ المؤدّى المنكشف مورد الاعتبار ، ومعناه ما قلنا ، يعني أنّ المؤدّى مع حيث كشفها صار مورد الجعل ، فعلى

٣٧

القول بكون المجعول هو المؤدّى مع حيث كشفها لكون اعتبارها في طول الواقع وبعد كون حيث الكشف ملحوظا فباعتبار كشفها يقوم مقام كاشفية العلم ، ولا يلزم اجتماع اللحاظين على هذا ، لما قلنا من أنّ الملحوظ أمر واحد ، وهو المؤدّى لكن باعتبار كشفها عن الواقع ، فبعد شمول التنزيل بهذا الحيث يكون لكلّ أثر كشف يترتّب على المجعول.

نعم ، لو كان مورد الأثر مترتبا على نفس العلم الموضوعي لا الواقعي أو هو والواقع يكون هذا الكلام غير تام ، ولا يمكن الالتزام بكون المؤدّى المنكشف قائما مقام هذا العلم ، لأنّه قام مقام الواقع لا العلم فيصح هذا الكلام ، ولكن هذا قلّما يتفق في العلم الذي اخذ جزء الموضوع على وجه الطريقية.

وعلى أيّ حال على مختارنا من أنّ المجعول نفس الطريق لا إشكال في قيام الطرق مقام العلم الطريقي والموضوعي الطريقي ، سواء كان العلم جزء الموضوع أو تمام الموضوع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله تصدّى لتصحيح قيام الأمارات مقام العلم الموضوعي بدعوى الملازمة العرفية ، وأنّ العرف يحكمون بالملازمة ولو كان المجعول هو المؤدّى ، ولا يلزم اجتماع اللحاظين.

بيانه : أنّ بعد تعلّق الجعل بالمؤدّى وتنزيله منزلة الواقع فتأثيره لا يمكن إلّا باعتبار جزء آخر وهو حيث الكشف لأن يجعل المؤدّى يقوم مقام الواقع ، فيرتب عليها أثر الواقع ، وأمّا أثر جزء آخر ـ يعني أثر العلم ـ موقوف على تعلّق الجعل بالطريق أيضا فالعرف في هذا المقام يحكم بالملازمة بين جعل المؤدى وجعل الطريق حتى يترتب الأثر ، ولا يلزم اجتماع اللحاظين على هذا ؛ لأنّ أحد التنزيلين يعني تنزيل المؤدى منزلة الواقع ثبت بالمطابقة وبجعل مطابقي وهو دليل الجعل ، والآخر وهو تنزيل الطريق منزلة العلم ثبت بالملازمة وبتبع جعل الأول فلا يجتمع اللحاظين ؛ لأنّ اللازم ليس محتاجا بالجعل بل هو مجعول بالتبع وبدلالة الالتزام.

٣٨

واعلم أنّ هذا الكلام لو صحّ يصحّ في الصورة التي كانت هي الأثر للعلم والواقع ، يعني يكون العلم مأخوذا بعنوان جزء الموضوع.

وأما اذا كان العلم مأخوذا بعنوان تمام الموضوع فليس لهذا التوجيه مجال إلّا أن يكون أثرا آخر للواقع أيضا في هذه الصورة غير أثر العلم ، ولكن يكون هذا الكلام في غير محله ويكون موردا للإشكال.

فالذي أورده المحقق رحمه‌الله نفسه هذا الإيراد عليه هو لزوم الدور ؛ لأنّه بعد كون أثر المترتّب على المؤدّى موقوفا على أثر المترتب على الطريق فيكون عكسه أيضا كذلك ، فإنّ أثر المترتّب على الطريق أيضا موقوف على أثر المترتّب على المؤدى فيلزم الدور ؛ لأنّ التوقّف على هذا يكون من الطرفين.

ولكن يرد على هذا الكلام إيراد أيضا ، وهو : أنّه مع كونه دليلا على فساد أصل التوجيه كذلك يكون دليلا على فساد ما أورده على التوجيه من بيان الدور.

فنقول بعونه تعالى : الأثر الذي لا بد من كونه في كل شيء حتى يكون باعتباره قابلا للجعل والتنزيل ليس هو الأثر الفعلي ، بل يكفي قابلية ترتب الأثر ولو تعليقا ولو لم يكن فعليا كما ترى في اعتبار كل شيء ، فالسورة معتبرة في الصلاة ويترتب عليها أثر في حصول معراج المؤمن مثلا ، ولا إشكال في أنّ هذا الأثر ترتب على السورة اذا انضمّ اليها سائر الأجزاء والشرائط ، ولكن مع ذلك يترتب الأثر عليها ولو لم يجد سائر الأجزاء ، ويكفي في كونها ذات أثر بهذا المقدار.

وكذلك في كل شيء ذي أثر مثلا في هذه السورة لو شككت بعد الدخول في الركوع بأنّه هل أتيت به أم لا؟ فتجري قائدة التجاوز ، والحال أنّ السورة بنفسها لا أثر لها إلّا بعد الصلاة والإتيان بكلّ ما اعتبر في الصلاة ، ولكن أنت لا تصبر حتى تمض صلاتك ، ثمّ تجري قاعدة التجاوز ، بل تجري في حال الركوع الذي هو حال الشك هذه القاعدة.

والسرّ في ذلك : هو عدم لزوم أثره الفعلي في تنزيل شيء أو تعلق الجعل

٣٩

بشيء ، بل يكفي صرف كونه بحيث لو انضمّ اليه سائر الشرائط ورفع الموانع يؤثر أثره ، فعلى هذا نقول في المورد بأنّه يكفي في كون الأثر لجعل المؤدّى هو صرف قابلية الأثر ، يعني بحيث لو انضمّ اليه جزء الآخر يؤثر الأثر ويكون أثره هو ، مثلا أنّه لو تعلق جعل آخر بجزء الآخر يعني الطريق فهو ينضمّ اليه ويؤثّران في الأثر المترتب عليهما ، فلا يكون المراد الأثر الفعلي حتى يقال بأن الأثر الفعلي على المؤدى موقوف على تعلق الجعل بالطريق ، فنستفيد تعلق الجعل بالطريق بالملازمة لما قلنا ، فأصل التوجيه يظهر فساده من هذا البيان.

وكذا يظهر فساد إشكال الدور ؛ لأنّ بعد عدم كون المراد من الأثر هو الأثر الفعلي فلا يكون بينهما توقف حتى يلزم الدور. هذا تمام الكلام في العلم الطريقي الصرف والموضوعي الطريقي.

وأمّا الموضوعي الصفتي فكما قلنا لا يقوم الطريق مقامه ؛ لأنّ في هذه الصورة العلم بما هو صفة في قبال الصفات صار موضوعا للحكم ، فالطريق بدليل حجيته لا يقوم مقامه ، لأنّ الأثر ليس للكاشف بل يكون لصفة خاصّة وهو العلم.

ثمّ إنّ هنا إشكالا ، وهو : أنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر باعتبار الأثر لا بدّ وأن يكون الأثر المنزّل عليه رفعه ووصفه بيد المنزل ـ بالكسر ـ حتى ينزّل على آخر منزلته في هذا الأثر ، والمقام ليس كذلك ، لأنّ الأثر المترتّب على العلم ـ على ما قلنا ـ يكون مترتبا عليه قهرا وتكوينا لا بجعل جاعل ، فالشارع لم يجعل أثر العلم حتى ينزّل الطريق منزلته باعتبار هذا الأثر.

ولكنّ دفعه ظاهر ، وهو : أنّه لا يلزم في التنزيل أن يكون أثر المنزّل عليه أمر وضعه ورفعه بيد المنزّل ، بل لا بدّ وأن يكون في التنزيل أثر ، يعني لا بدّ وأن يكون في تنزيل شيء منزلة الآخر أثر حتى يكون التنزيل باعتبار هذا الأثر ويمكن للمنزّل تنزيل ذلك الشيء منزلته باعتبار الأثر وجعل الأثر فيه بتنزيله منزلته ، فافهم.

٤٠